أمه اسمها الاتحاد السوفيتي
مضى اليوم التالي في أمان الله، سافرت مع فليب جلاب إلى أكرا في سيارة صديقي الخليجي الاشتراكي. وعدت في المساء، وجلست تحت شجرة المانجو أستقبل ثمارها الناضجة التي تسقط علينا بين الحين والآخر، ونشرب شاي الحاج موسى الغاني، ونستمتع بليل غانا الهادئ الذي يعكر هدوءَه أصواتٌ غربية صادرة من الغابة القريبة، ثم أويت إلى فراشي مع رفيق حجرتي فيليب جلاب. واستيقظت في الصباح على يد تهزُّني بعنف، وعندما فتحت عيني أبصرت وجه يوسف السباعي، ومن خلفه عدة وجوه تبيَّنت بعد فترة أنها للسادة أعضاء وفد الصين الشعبية. وتصورت أنهم جاءوا بالدعوة لرئيس وفد الجيزة، ولكن اكتشفت أنني متهم، وتهمتي أنني نسفت مؤتمر الشعوب الآسيوية-الأفريقية! وقف يوسف السباعي وهو يشير نحوي، وقال بلهجة أشبه بلهجة رئيس نيابة أمن الدولة وسأل الصينيين:
هل هذا هو الشخص الذي قدَّم لكم نفسه على أنه رئيس وفد الجيزة؟
وهزَّ الصينيون رءوسهم بالإيجاب، وقال يوسف السباعي: اذَنِ اسمعوا، هذا الرجل عضو في وفد مصر، واسمه محمود السعدني، وهو صحفي وكاتب ساخر معروف! وليس أمامكم إلا أن تعتذروا عن كل كلمة نطقتم بها أثناء جلسة الأمس، ولا بد من تسجيل اعتذاركم في محضر الجلسة، وإلا فإني مضطر لعرض الأمر على سكرتارية المؤتمر لاتخاذ القرار المناسب.
ونظر الصينيون نحوي وكأنهم يلتمسون عند العبد لله الجواب الشافي الذي يخرجهم من هذا المأزق الخطير، وقلت لهم وأنا مضطجع على السرير أحاول طرد النعاس من عيني: ما يقوله يوسف السباعي صحيح، والأمر كان مجرد مزاح لا أكثر ولا أقل!
ورطن الوفد الصيني بلغة كونفشيوس. وفهمت دون معرفة باللغة الصينية بأنهم يلعنون خاش العبد الله ويلعنون سنسفيل جدودي، ولكن لم أعبأ بشتائمهم وتركتهم يرغون ويزبدون، وانتهزت فرصة مغادرة يوسف السباعي للمكان فعدت لمواصلة النوم من جديد. ولكن «فيليب جلاب» جعل النوم يفر من عيني عندما جذبني بشدة من يدي، وحثني على النهوض لمعرفة حقيقة الأمر. وفي الحديقة التي تفصل بين قاعة المؤتمر ومكان الإقامة، التقيت بسيدة فاضلة تعمل بالجامعة الأمريكية وتقوم بالترجمة الفورية أثناء الجلسات، وما إن رأتني حتى أطلقت ضحكة صافية من أعماقها، وقالت للعبد الله: كنت هتدخل التاريخ امبارح؛ لأن الحرب العالمية الثالثة كانت هتقوم من وراء مقالبك.
وجلس فيليب جلاب وأنا أستمع إليها وهي تردد لنا ما حدث بالأمس: انعقدت الجلسة كالمعتاد، ووقف مندوب الكونغو «زائير» وراح يلقي خطابه عن الأحوال في أفريقيا، وعن التدخل الاستعماري الإمبريالي، وعن دور عملائه وأعوانه في نهب ثروات أفريقيا وقتل أحلامها. وفجأةً … وقف رئيس الوفد الصيني وصرخ من أعماقه، وقال وكأنه عنتر بن شداد على أُهبة دخول الحرب: أيها السادة، دعونا من هذه الخطب الجوفاء التي ملت الآذان سماعها، لقد اكتشفنا خيانة داخل هذا المؤتمر، ولا بد من كشفها علنًا وعلى رءوس الأشهاد، ولقد كنا دائمًا تُساورنا الشكوك حول سكرتارية المؤتمر وانحيازها بالكامل للنظام الذي يحكم الاتحاد السوفيتي، وكانت تُساورنا الشكوك في أمر السيد يوسف السباعي، والتزامه بالتعليمات التي تُصدرها موسكو. ولكن جاء اليوم الذي تبددت فيه هذه الشكوك وحل محلها يقينٌ ثابت، ولدينا الدليل القاطع.
هنا حاول مندوب زائير أن يواصل إلقاء خطابه، ولكن رئيس الوفد الصيني نهره بشدة، وقال له بصوت صارخ: اسكت أيها العميل الصغير، فأنت أيضًا واحد منهم لأنك لا تتلقى التعليمات فقط، ولكنك تتلقى النقود أيضًا.
وانفعل المندوب الزائيري، ولكن رئيس وفد الصين قاطعه قائلًا: هل تستطيع أن تدلنا على الطريقة التي جئت بها إلى هنا؟
ورد المندوب الزائيري قائلًا في لهجة ساخرة: لقد جئت إلى هنا بالطائرة.
وردَّ مندوب الصين قائلًا له: ولكن من الذي دفع لك ثمن التذكرة؟
وقال المندوب الزائيري في هدوء: أمي هي التي دفعت ثمن التذكرة.
وسأله المندوب الصيني: وهل أمك اسمها الاتحاد السوفيتي؟
ورد المندوب الزائيري ببرود شديد: أمي اسمها لاشيكا شابلا، هل ترغب في رؤية صورتها؟
وتدخَّل يوسف السباعي فقطع هذا الحوار الساخر بين المندوب الزائيري ورئيس الوفد الصيني، وقال يوسف مُوجهًا خطابه لمندوب الصين: هل تستطيع أن تكشف لنا هذه المؤامرة الآن، وأن تحيطنا علمًا بتفاصيلها؟
ورد المندوب الصيني: سأُطلعكم على كل شيء إذا استطعت أنت أن تجبر هذا الببغاء على التزام الصمت.
وهنا ثارت ضجة كبيرة في القاعة، ونهض مندوب الاتحاد السوفيتي وهو عضو باللجنة المركزية وعضو بالمكتب السياسي، ولوَّح بقبضة يده في وجه المندوب الصيني، وقال وهو يضرب بيده على المائدة: إن المندوب الصيني أهان الوفود جميعًا، هو يحاول عرقلة أعمال مؤتمر الشعوب الآسيوية-الأفريقية، لمصلحة من يعمل لحسابهم في أجهزة مخابرات الغرب.
وانتفض المندوب الصيني وقال متهكمًا: مؤتمر الشعوب … وأين هي هذه الشعوب؟ إن أغلب الموجودين هنا حثالة … وأغلبهم يعمل في أجهزة مخابرات الاتحاد السوفيتي ويعيش على حسابها، إنهم مجرد عرائس خشبية تُحركها أيدٍ مدربة على أعمال السيرك السياسي.
وتدخل يوسف السباعي مرة أخرى، وقال للمندوب الصيني: نحن في انتظار أن نسمع منكم تفاصيل المؤامرة التي تحدثتم عنها، والاطلاع على الدليل القاطع الذي تحت أيديكم.
وخيَّم السكون على القاعة، وقال المندوب الصيني: إن في هذه القاعة وفدًا يُمثل دولة أفريقية حديثة العهد بالاستقلال، ولكن هذا الوفد لم يُدرَج في قائمة الوفود المشاركة، وهي القائمة التي وضعتها سكرتارية المؤتمر ووزعتها علينا في جلسة الافتتاح.
ونظر يوسف السباعي في القائمة التي أمامه، وقال لأعضاء المؤتمر: إن القائمة تحوي ٤٣ دولة مشتركة عدا ثلاث دول اشتركت بصفتها مستمعة، وأسماء الدول في هذه القائمة، ويستطيع المندوب الصيني أن يراجع القائمة على المندوبين الموجودين الآن في القاعة، وهزَّ المندوب رأسه عدة مرات، وقال ليوسف السباعي: عفوًا يا سيادة السكرتير العام، هناك وفد خلَت القائمة من اسمه، وقد تشرَّفت بلقاء رئيس الوفد، وأجريت معه حوارًا، ووجهت له دعوة لزيارة الصين وأعلن قبوله لها على الفور، وهو دليل على أنه وفدٌ محايد بالفعل، وأنه جاء إلى هنا على حسابه ومن حر ماله وليس عالة على الآخرين. وتساءل يوسف السباعي: وهل هذا الوفد موجود الآن في القاعة؟
ومسح المندوب الصيني القاعة ببصره ثم قال: للأسف الشديد لم أعثر له على أثر في الصباح، ويبدو أنه لم يحضر حتى الآن.
والوفد المحترم الذي أعنيه هو وفد الجيزة، وهو مكوَّن من خمسة أعضاء غير الرئيس، وهو صاحب السعادة محمود برعي. والأعضاء هم: سعد برعي وأحمد برعي وسيد برعي إلى آخره … وسعادة رئيس الوفد يستقل سيارة من النوع المخصص لرؤساء الوفود، وقد أعلن قبوله لدعوتنا له لزيارة الصين الشعبية، ووعدنا بتقديم دعوة لنا لزيارة جمهورية الجيزة المناضلة التي تخلصت أخيرًا من الاستعمار، وفي نيَّتها مقاومة كل أشكال الاستعمار أيًّا كان لونه!
ولم يفطن يوسف السباعي — رغم ذكائه — إلى أن المندوب الصيني كان ضحية هزار من النوع الثقيل، وكان ينبغي أن يفطن إلى ذلك بسبب أسماء أعضاء الوفد التي تنتمي كلها إلى عائلة برعي الشهيرة!
ولكنه قال لرئيس الوفد الصيني: على العموم … كل الوفود موجودة الآن في القاعة، وهذه الجلسة بالذات لا بد أن تحضرها كل الوفود، فإذا كان هناك وفد لم يحضر حتى الآن فهو في طريقه إلينا على أية حال.
ورد المندوب الصيني في عصبية شديدة: وإذا كان هناك مؤامرة لإبعاد هذا الوفد بالذات عن هذه الجلسة بالذات؟
ورد يوسف السباعي في هدوء: عندئذٍ سيكون هناك حل لكشف هذه المؤامرة، ولكي نكتشف من هو المتآمر؛ هل هو سكرتارية المؤتمر، أم هو رئيس الوفد الصيني؟ ومضت الجلسة كما كان مرسومًا لها من قبل، وبعدها اجتمع رئيس الوفد الصيني بيوسف السباعي، واتفقا على تفتيش غرف أعضاء المؤتمر في الصباح الباكر للعثور على أعضاء هذا الوفد المزعوم.
وبالفعل قام رئيس الوفد الصيني مع يوسف السباعي في الصباح الباكر بتفتيش كل الحجرات، حتى كان الدور على حجرة العبد لله، ليتم العثور على رئيس وفد الجيزة.
وصرت بعدها منبوذًا من الوفد الصيني والوفود التي تسير في مداره، وقابَل هذا النفور الصيني حفاوة بالغة من الوفد الروسي … الشيء الوحيد الذي لم يفهمه رئيس الوفد الصيني هو ركوبي لسيارة رئيس أحد الوفود، لم يفهم الصيني أن في بلادنا ظروفًا مختلفة وأوضاعًا غريبة، رئيس وفد خليجي من أغنى دول الخليج والجزيرة العربية يرفع راية الاشتراكية، وكانت حركة كاذبة؛ لأن صاحبنا هذا رئيس الوفد صار فيما بعدُ مليونيرًا وبنكيرًا يُشار إليه بالشيكات! طائرات خاصة وقصور في لندن وكان ومارابيا، ولكنه أيام النضال الخنفشاري اضطُر إلى اقتراض عدة «أزواز» من الجنيهات الإسترلينية اضطرته إلى التنازل عن جلبابه وسيارته.
وهكذا وصلت السيارة إلى سعادة محمود برعي الشهير بمحمود السعدني رئيس وفد الجيزة، إحدى الدول المناضلة التي تخلصت من الاستعمار حديثًا، وفي نيتها أن تقاوم كل أشكال الاستعمار أيًّا كان لونه، ومهما تكن شعاراته!