رئيس جاعورة
انتهى مؤتمر الشعوب الآسيوية-الأفريقية بخيره وشره، وخطب وزير إعلام غانا في نهاية المؤتمر مخاطبًا الحضور قائلًا:
لقد استقبلناكم بالترحاب، واستضفناكم وأطعمناكم أيضًا، والآن انتهى المؤتمر بسلام، وستغادرون ونيبا الليلة، وستقوم الوفود بالإنفاق على نفسها منذ الآن.
وتفرَّق المؤتمر بعد خطاب وزير الإعلام، وسافرت إلى أكرا برفقة الصديق عادل شريف مذيع مباريات التنس الشهير صاحب تعبيرات «ضربة ساحقة ماحقة لا تُرَد ولا تُصَد»، وزوج المذيعة اللامعة سامية صادق.
وعادل شريف لمعلوماتكم من أصول تركية أو ألبانية، أبيض على أحمر، سمين، ومن ذوي العيون الملونة، وكان خلال إقامتنا في غانا يرتدي «الشورت وقميص حرير نص كم وصندل»، من النوع الذي يستعمله المستعمرون الإنجليز في المستعمرات البريطانية.
ووصلنا أكرا في أمان الله، وعادل شريف يبدو عليه أنه إنجليزي من قلب لندن، والعبد لله في زيه التقليدي، الجلباب الأبيض والشبشب الزنوبة والطاقية الشبيكة والحزام هلا هالله … على رأي طاهر أبو فاشا يرحمه الله … ودخلنا على هذه الهيئة فندق الإمبسادور في أكرا، وهو أرقى وأغلى فندق في غرب أفريقيا، وأمام مكتب الاستقبال سألني الموظف الغاني: من أين؟ قلت له على سبيل الهزار: رئيس جاعورة. وعندما نطقت بهذه الكلمة انحنى كل الموظفين الذين كانوا في بهو الفندق، وأشرت إلى المرحوم عادل شريف وقلت لهم: أريد حجرة لسكرتيري بجوار جناحي مباشرةً.
حتى هذه اللحظة كان الموضوع كله مجرد مزاح لا أكثر ولا أقل، ولكن لأن المؤتمر كان يحضره أكثر من رئيس على شاكلة رئيس جاعورة، وكانت هناك تعليمات بنزول الرؤساء زملائي في أجنحة فاخرة، وتوفير كل سبل الراحة لهم، فقد وجدت نفسي فجأة في الجناح الملكي، وانحنى موظف الاستقبال للعبد لله وهو يسلمني جواز سفري المكتوب باللغة العربية، والذي لم يفهم منه الموظف شيئًا، ودخلت المصعد ومن خلفي عادل شريف في هيئة السكرتير المدرب على خدمة الرؤساء.
وخلال الأيام الثلاثة التي قضيتها في الفندق، تركت لعادل شريف مهمة التفاهم مع إدارة الفندق، مُكتفيًا أنا بالتفاهم مع السكرتير باللغة الجاعورية، وتصورت أن إدارة الفندق تعلم حقيقتنا ولكنها تحب الهزار؛ ولذلك كنت أرفض زجاجات الويسكي التي يصعد بها الجرسون إلى جناح رئيس جاعورة كل مساء، فلم تكن الميزانية تسمح بتغطية مثل هذه النفقات! ولكني تأكدت بعد ذلك بأن الأمر جد وليس به أي أثر للهزار؛ فقد طلبت من استعلامات الفندق أن تحجز لنا مقعدين في استاد أكرا لمشاهدة مباراة كرة قدم بين أكبر ناديَين في أكرا، ولم أكن قد شاهدت الكرة الغانية بعد، وذهبت بنا سيارة ليموزين أعدَّها الفندق، وانفتحت لنا البوابة الخارجية ودخلنا حتى المدرجات، وعندما نزلت من السيارة بالجلباب والشبشب الزنوبة خبط العساكر الأرض بأحذيتهم وضربوا تعظيم سلام لصاحب الفخامة رئيس جاعورة، واحتل فخامة الرئيس الذي هو العبد لله مقعدًا في الصدارة في مقصورة الاستاد، وجلس عادل شريف في مقعد خلف صاحب الفخامة الرئيس، وانهالت المشروبات من كل صنف يحملها جرسونات يرتدون الاسموكن والقفازات البيضاء، ونظرت في أنحاء المقصورة فلم أجد أحدًا سوانا.
إذَن كل هذه الاستعدادات كانت لحضرة صاحب الفخامة وبطانته، يبدو أن الفندق اتصل بإدارة الاستاد ليكون جاهزًا لاستقبال صاحب الفخامة، وشعرت بالفزع أثناء المباراة؛ فقد أدركت أن مستقبل الكورة سيكون في تلك البلاد، واستبد بي الحماس فصفقت بشدة، وهتفت لحارس المرمى الذي كان مستواه لا يقل عن مستوى يانكس الإنجليزي، وبعد المباراة التفَّت حولي جماهير النادي الذي نال تشجيع فخامتي استحسانًا، وهتفت جماهير النادي الآخر بسقوط صاحب الفخامة، وتدخلت قوات الشرطة لتأديب المشجعين الذين لا يعرفون العيب ولا يتمسكون بأخلاق الاستاد، وأحاطني البوليس الغاني بحزام من العساكر المدجَّجة بالسلاح، وجاءت السيارة الليموزين وأخذت العبد لله وخرجت بصاحب الفخامة من الباب الخلفي!
وفي اليوم التالي خرجت في نفس السيارة إلى السوق، وطلبت من السائق أن يذهب بنا إلى محل يبيع المصنوعات المحلية، وإذا بي أجد نفسي في محل فشر محلات باريس، كان المحل يبيع بعض التماثيل الأفريقية المصنوعة من العاج إلى جانب المشغولات الجلدية، مع بعض الأحجار شبه الكريمة الموجودة في التربة الغانية، وعندما وضعت قدمي في المحل انحنى صاحب المحل ومعه عماله تحية لصاحب الفخامة، ووضعوا جميع المعروضات أمامي، وإذا بالأسعار نار تليق بمقام حضرة صاحب الفخامة، وعندما وجدت نفسي في ورطة اعتذرت عن عدم الشراء، ووعدت صاحب المحل بإرسال رجال الحاشية لاختيار ما يليق بفخامتي، وزيادةً في التمويه سألت صاحب المحل سؤالًا على الماشي … إذا كان يقبل شيكات صادرة عن البنك الجاعوري، ورحَّب صاحب المحل مؤكدًا لفخامتي ثقته الشديدة بالاقتصاد الجاعوري!
وانتهت زيارة صاحب الفخامة، وجاءت لحظة الحساب، وأمام موظف الاستعلامات قدموا الفاتورة لسكرتير صاحب الفخامة، ووقَّع عليها عادل شريف، الحساب خالص وصاحب الفخامة على العين وعلى الرأس! وضربت إيد في جيبي وأخرجت كبشة جنيهات غانية «١٥٠» جنيهًا تساوي جنيهًا إسترلينيًّا، وبالتأكيد كسروا دستة قلل وراء العبد لله.
وفي المطار حاولت بشتى الطرق إبعاد السائق والمرافق حتى يتسنى لسكرتير فخامتي حجز المقاعد لصاحب الفخامة في الدرجة السياحية! وربنا ستر لأن الحيلة انطلت على المرافق، فقد طلبت منه أن يصحبني إلى السوق الحرة، وذهب الرجل الطيب معي، وداخ دوخة الأرملة وأنا معه بحثًا عن سجائر فاخرة أبحث عنها منذ فترة، اسمها سمسون أرضي! وسترها الله معنا حتى ركبنا الطائرة وانطلقت بنا في الجو، ولكن بعد عشر دقائق من الطيران والعبد لله الذي هو فخامة رئيس جاعورة يستعد للنوم، فوجئنا بالطيار يذيع علينا أنه مضطر للعودة إلى أكرا لأمر هام لم يشأ أن يكشف سره للركاب، فقلت لسكرتير فخامتي: لا بد أنهم اكتشفوا اللعبة، ولا بد أننا سنقضي الشهور الستة القادمة في سجن أكرا، وهو سجن أجارك الله سجن في غابة وأشغال شاقة مع ثعابين الكوبرا وأسراب العقارب السوداء، وبدأت أستعد نفسيًّا لهذه النهاية التعيسة، وهممت بالخروج من الطائرة وتسليم نفسي للبوليس عندما توقفت المحركات واستقرت بنا الطائرة على أرض المطار، وراح سكرتير فخامتنا يبحث في جيوبه عن نقود لعله يجد ما يكفي لتسديد فاتورة الفندق ودفع التعويض إذا لزم الأمر مقابل عدم حشرنا في سجن غانا الرهيب، ولكن الطائرة ظلت جاثمة على الأرض، ونحن مرابطون في مقاعدنا دون أن يقتحم أبوابها طابور من المخبرين، وبعد ساعة من الانتظار القلق القاتل أعلن الطيار أن العطل الفني في الطائرة قد تم إصلاحه، وأن الطائرة في طريقها إلى الجزائر العاصمة عن طريق داكار.
وفي الجو … وعلى ارتفاع ٣٠ ألف قدم استراحت أعصاب رئيس جاعورة، وسكرتيره الفخيم، فقد مر الأمر بهدوء وبدون مشاكل، وأصبح رئيس جاعورة حرًّا وبعيدًا عن أكرا وبوليسها النشيط، وأغمضت عيوني وأسلمت نفسي للنوم، في نفس الوقت الذي كان فيه شخير سكرتيري الفخيم يتصاعد في الفضاء!