بهلول هو المسئول
يقولون إن التعذيب يكون أحيانًا احتجاجًا على التعذيب. وهو قول صحيح؛ لأنني تعلمت المقالب من مقلب أكلته في فترة الصبا لا يزال يلسع في نافوخي حتى الآن. حدث هذا والعبد لله في العاشرة من العمر، وفي أول أيام عيد الأضحى المبارك. ولما كان العبد لله هو الولد الوحيد على أربع بنات. مات أخ شقيق أكبر مني لا أذكره؛ لأنه مات وعمري عامان، ومات أخ شقيق أصغر مني رأيته ولاعبته وأنا ابن تسع سنوات، وأصبح للعبد لله مكانة خاصة في الأسرة، فأنا الوحيد الذي نجا من مطحنة الموت، ولم يكن صلاح قد رأى الدنيا بعد، رآها بعد هذا الحادث الذي وقع للعبد لله أول أيام العيد الكبير بعشرة أعوام!
المهم أنني في ذلك اليوم قمت من النوم مبكرًا، وتناولت عيديتي ريال فضة كاملًا من بتوع السلطان حسين كامل، لو معك واحد منه الآن تستطيع بيعه للصائغ بمائة وخمسين جنيهًا على الأقل! وارتديت ملابس العيد الجديدة وخرجت من حارتنا، وإذا بي أفاجأ بعم بهلول واقفًا على ناصية الحارة ومعه قفص، وعلى القفص صينية، وفي الصينية أوراق مطوية … وبختك يابوبخيت، وحظك يا صاحب الحظ والنصيب!
وباعتباري رجل أعمال منذ مولودي ومبخت وحظي حديد، قررت أن أستثمر أموالي، ولا بد أنني من أصحاب النصيب. ولو لعبت البلية فسيتحول الريال إلى عشرة جنيهات … رأس مال يصلح بداية لرجل أعمال يبدأ الطريق.
وقفت أتابع في البداية ولا أشترك في اللعب، حول عم بهلول بعض الصبية من جيلي وثلاثة رجال في سن عم بهلول. كلما تناول طفل ورقةً مطوية طلعت على مفيش، أما إذا تناولها رجل خرج من أحشائها بعض الجنيهات. وببراءة الطفولة سألت أحد الكبار عن الورقة التي اختارها فأضمن الربح الوفير.
وكان الرجل طيبًا كما توقعت، فأشار نحو ورقة ونصحني بالتقاطها، ومددت يدي بالفعل والتقطت الورقة، ودفعت فيها قرش صاغ كان يكفي لشراء رغيفين من أرغفة زمان، ولكن الورقة طلعت فاضية. يا لَلهول! على رأي عمنا يوسف وهبي. وضرب شريك بهلول الذي تحول إلى مستشار للعبد لله جبهته براحة يده آسفًا على قلة البخت، واعتذر للعبد لله على سوء تقديره واختياره، وأشار نحو ورقة أخرى، وترددت بعض الوقت ثم مددت أصابعي وقبضت عليها في حرص شديد. وعندما تولى فتحها عم بهلول لم نجد فيها إلا الفراغ.
كان عم بهلول قد رأى الريال واستولى عليه بعد أن قام بفكه إلى قروش صاغ. وهمس الرجل المستشار في أذني بأن بهلول نصاب، ونصحني بألا أدعه يفتح الورقة وإنما أقوم بنفسي بفتحها، وسأجد فيها حتمًا ما يحقق أحلامي في الثراء. ودفعت القرش والتقطت الورقة التي نصح بها المستشار، وحاول عم بهلول فتحها ولكني رفضت، وقمت بفتحها بنفسي، ولكن عم بهلول عصلج بشدة وراح يلاعب الورقة بأصابعه ويخفيها في راحة يده، وأدركت أن المستشار صادق، وأن عم بهلول يحاول إفراغ الورقة من الكنز الذي تخفيه.
ورفعت صوتي أهدد عم بهلول باللجوء إلى الشرطة، وارتعد عم بهلول لتهديدي فسلَّمني الورقة مرعوبا. وعندما قمت بفتح الورقة كانت دهشتي كبيرة عندما وجدت بالورقة حتة بخمسة فضة عوَّضت خسارتي البالغة التي أصابتني في الصميم.
انفتحت شهيتي بشدة، لقد بدأ العد التنازلي للوصول إلى الثراء. وهذه الحتة بخمسة هي أول الغيث ثم تنهال الجنيهات على رأس العبد لله، وانتابني جنون حقيقي، وبدأت ألتقط الورق الذي ينصح به المستشار، ولكن الأوراق كلها كانت فارغة، إنه حظ سيئ هذا الذي حط على دماغ محسوبكم، ولكن لا بد أن ينجلي الليل وينكسر القيد، وأحصل على فوائد استثماراتي كرجل أعمال، لم أفطن إلى أن عم بهلول هو الذي دس الحتة بخمسة في الورقة ليجرَّ رجلي إلى حتفي!
وتحولت إلى مقامر وأنا في العاشرة، ولم يعد يهمني الربح، ولكن كل ما أسعى إليه هو التعويض. وفي دنيا المقامرين مثل يقول: ما تبكيش على اللي خسر، ابكي ع اللي عايز يعوض! وورقة فارغة وراء ورقة فارغة حتى فرغت جيوبي تمامًا من صنف العملة.
شعرت بحزن شديد وكأنني فقدت أعز شيء في الحياة. جفَّ حلقي، وسَرَت برودة في جسدي مع أن الجو كان يميل للحرارة. إلى أين أذهب الآن وفلوس العيد تبخرت؟! تبددت أحلامي في المراجيح وحديقة الحيوان والتهام الكنافة بالقشطة من دكان الحاج صبحي، والفرجة على السيرك ومشاهدة الرجل الوحش وهو يصارع الأسود. إنها أول وأكبر صدمة في حياتي، ولا بد من الانتقام الرهيب، سأذهب إلى الشرطة وأقودهم إلى عم بهلول وأنتزع الريال الفضة من جيبه بالعافية. ولكن أين عم بهلول؟ لقد حمل القفص والصينية ورحل، ثم إنه لا يخشى الشرطة، وهو معتاد بين الحين والآخر على النوم في الحجز داخل قسم الشرطة، كما أنه معتادُ إجرام وتردُّد على السجون عدة مرات. أين ذهب عم بهلول؟ ليته يعود بقفصه وصينيته ليتني أعثر على ريال آخر أُمارس به اللعبة إلى آخر النهار.
لم يعد يعنيني المكسب أو الخسارة، ممارسة اللعبة هي الأهم. المقامر الحقيقي هو الذي لا يسعى إلى مكسب ولا يهتز لخسارة، المهم أن يلعب ويواصل اللعب؛ ولذلك فأخطر آفة في الوجود هي القمار؛ لأنك لو سكيرًا — لا مؤاخذة — ستشرب زجاجة ثم تترنح، ولو شمامًا — لا مؤاخذة برضه — ستشم تذكرة أو تذكرتين ثم تكف، ولو رجلًا خلبوص سيقضي ساعة أو ساعتين ثم يغيب في رحلة نوم أشبه بالموت. ولكن القمار يختلف، لن يمنعك من مواصلة اللعب إلا أن تسقط مغشيًّا عليك أو تموت!
والغريب أن القمار كان داء بعض عظماء التاريخ المصري؛ الزعيم سعد زغلول كان مقامرًا من الطراز الأول، كان القمار هو تسليته الوحيدة، واضطربت أحواله المالية كثيرًا بسبب المقامرة، واضطُر إلى بيع أطيانه في فترة من الفترات ليقامر بثمنها على الموائد الخضراء. والزعيم مصطفى كامل كان مقامرًا لا يُشَق له غبار، وكان لا تهدأ نفسه إلا على موائد القمار … والفنان الكبير كامل الشناوي كان مقامرًا كبيرًا، ومع ذلك ضبطته ذات مرة وهو نائم على مائدة قمار. والفنان الكبير يوسف وهبي كان مقامرًا بطبعه، قامَر بأسرته وبسمعته واشتغل بالتمثيل في مطلع القرن، وهي مهنة لم تكن تشرف صاحبها في ذلك الزمان! وكل أطباء العالم الكبار في المهنة يلعبون القمار.
سألت أحدهم مرة عن سر هذه الظاهرة، فأجاب: لأن مائدة القمار هي المكان الوحيد الذي ينسى فيه الناس أن الجالس معهم طبيب. هناك ظاهرة تستطيع أن تلمسها بنفسك، اجلس مع شلة بينهم طبيب، لن تمر دقائق حتى يتحسس أحدهم جسده طالبًا منه أن يشرح سر الألم الذي يشعر به في رقبته أو كتفه أو أصابع قدميه؟ ولكن على مائدة القمار ينسى الناس مهنة الطبيب، ويتعاملون معه كمقامر. وهي مسألة تسعد الطبيب الذي يريد الناس أن ينسوا مهنته.
والكاتب الروسي العظيم دستوفسكي كان من المقامرين العظام، وكتب رواية عن أحدهم أنتجتها السينما الأمريكية بعنوان «المذنب العظيم». وفتى الفتيان صخر شقيق الشاعرة الخنساء كان مقامرًا عظيمًا، وخسر كل قطيع الإبل الذي يملكه في لعبة القداح، وهي عبارة عن رماح قصيرة وصغيرة الحجم توضع في جراب، وكل مقامر يسحب رمحًا منها يجد عليه رقمًا فيكسب من الآخر عددًا من الإبل يساوي الرقم المكتوب على الرمح. وكانت هذه اللعبة هي المفضَّلة عند شيوخ العرب قبل ظهور الإسلام. وابن الأيهم ملك العرب الذي أسلم في عهد عمر ورفض أن يصفعه الأعرابي كما صفعه أثناء الطواف بالكعبة، ثم هرب ليلًا من المدينة ولجأ إلى القسطنطينية واعتنق المسيحية، لم يكن السر في هروبه هو رفضه لتنفيذ أمر عمر بأن يصفعه الأعرابي، ولكن سبب هروبه الحقيقي هو اكتشافه بعد إسلامه أن الاسلام يُحرم الميسر ويعاقب عليه، وعاش في القسطنطينية يقامر حتى باع هدومه ومات فقيرًا لا يملك من حطام الدنيا شيئًا.
والحمد لله لأنني تعلمت الدرس في العاشرة من العمر، واكتفيت من المعركة التي خسرتها بالانسحاب من الشارع والعودة إلى البيت بعد ساعة واحدة من مغادرتي له، ودخلت إلى غرفة النوم وخلعت ملابسي الجديدة ونمت، واندهشت المرحومة أمي كثيرًا لهذا التصرف الذي كان غريبًا على ولد شقي مِثلي يعبد الشارع ويكره البقاء في البيت، ولكنني بررت تصرفي بأنني مريض أشعر بدوخة لا أعرف سببها، وبررتها أمي بأنها عين شريرة أصابت المحروس، وأطلقت البخور في البيت ودَعَت الأسياد إلى التدخل لإنقاذ الولد الحيلة من مصير أخويه اللذين سبقاه إلى دار النعيم.
والحق أقول لحضراتكم: إن حجم الكارثة التي أصابتني في ذلك اليوم، تتضاءل إلى جانبها كارثة أوناسيس إذا خسر مائة مليون في ساعة زمان؛ لأنه إذا ضاع مائة مليون من أوناسيس فسيَبقى خمسمائة مليون، أما هذا الريال الفضة عيدية العبد لله في عام ١٩٣٧م، هذا الريال الفضة بتاع السلطان حسين كامل … فكان كل رأسمالي في الحياة.
ولذلك … فكل المقالب التي عملتها في الآخرين، السبب فيها هو المقلب الذي دبَّره للعبد لله عم بهلول، الذي هو بالتأكيد الآن في نار جهنم، جزاء الصدمة الشديدة التي أحدثها في نفس صبي صغير كان يخطو أولى خطواته على الطريق!