حزب تايه … يا أولاد الحلال
أصبحنا فجاةً أعضاءً في اللجنة المركزية لحزب جبهة مصر الذي يقوده صاحب المقام الرفيع علي باشا ماهر. أما كيف قفزنا مرة واحدة من زبائن على رصيف قهوة إيزافتش إلى اللجنة المركزية لحزب رفعة الباشا، فقد تم الأمر ببساطة وبهدوء وطبقًا للمثل الشائع: تجري جري الوحوش وغير رزقك ما تحوش. وإذا كانت الخمسة قروش قد منعتنا من الوصول إلى مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، كما منعتنا لغة الحنجوري التي كان يتحدث بها تنظيم مشمش من الوصول إلى الكرملين، فقد وصلنا مباشرة إلى اللجنة المركزية لحزب جبهة مصر بسبب نيتنا الطيبة ودعاء الوالدين، وقد حدث الأمر دون إعداد أو تمهيد، التقينا بالصدفة بشارع سليمان باشا (طلعت حرب الآن) طوغان وأنا بصحفي كبير كان يعمل في دار الهلال، وبعد السلام والكلام، قال لنا الصحفي الكبير: إنتو وراكوا إيه بكرة؟
ولما لم يكن ورانا أي شيء بكرة أو بعد بكرة، فقد دعانا لحضور اجتماع اللجنة المركزية لحزب جبهة مصر. الذي سيعلن رفعة الباشا شخصيًّا عن قيامه في اجتماع الغد. وعندما استفسرنا من الصحفي الكبير عن كيفية حضورنا اجتماع اللجنة المركزية في الوقت الذي لم نلتحق فيه بالحزب بعد.
رد الصحفي على الفور: ستحضرون اجتماع اللجنة المركزية باعتباركم ممثلين عن شباب الحزب!
قال ذلك وانصرف دون أن يوضح لنا الطريقة التي تم بها اختيارنا ممثلين لشباب الحزب.
ولم ينسَ الصحفي الكبير أن يكتب لنا العنوان الذي ستجتمع فيه اللجنة المركزية بقيادة رفعة الباشا، المهم أنني عشت الوقت الفاصل بين التقائنا بالصحفي إياه وموعد الاجتماع في حلم اللجنة المركزية، وبالطبع عندما يؤلف صاحب المقام الرفيع حزبًا ﻟ «خوض الانتخابات القادمة». وعندما يختار رفعة الباشا طوغان وأنا ممثلين للشباب في اللجنة المركزية، فلا بد أن رفعة الباشا قد أحسن الاختيار، ولا بد أن في الجعبة وزارة أو مصلحة أو هيئة أو أي شيء من هذا القبيل يضمن لنا المكتب والسكرتيرة والعربية والسواق.
وسرح خيال العبد لله بعيدًا، ففكرت في التصريحات التي سأدلي بها للصحف عقب اجتماع اللجنة المركزية؛ لأن رفعة الباشا بالتأكيد سيختار العبد لله متحدثًا رسميًّا عن اللجنة المركزية لعدة أسباب؛ منها أنني أمثِّل الشباب في اللجنة المركزية، والشباب هو المستقبل، ومنها أيضًا أنني متحدث عام، على وزن نائب عام ومدير عام ومراقب عام، وأنا أتحدث عادة في الفاضي وفي المليان، وأتحدث بلا انقطاع، وأستطيع أن أتحدث وأنا جالس وأتحدث وأنا واقف وأتحدث وأنا نائم وأتحدث وأنا أتحدث! وسيكون أول حديث للعبد لله لمندوبي الصحف بمثابة قنبلة تُحدِث دويًّا في كل الأوساط.
سأؤكد للجميع أن حزبنا هو حزب المستقبل، وأن برنامجه هو الكفيل بحل مشاكل مصر من الألف إلى الياء. وعندما نتولى السلطة بإذن واحد أحد، فسنعمل بكل طاقاتنا ليكون لكل مواطن منزلٌ وسْط حديقة غنَّاء، وسيارة مع صرف بونات بنزين مجانية أول كل شهر مع المرتب، وسنوفِّر عملًا لكل عاطل، وملجأً لكل مُتشرد، وزنزانة لكل مسجون، ورطل لحم لكل جائع، ومُرضعة لكل طفل، وعريسًا لكل عانس، وطقم أسنان لكل أهتم عديم الأنياب والأضراس! ولا شك أن حديثي سيكون له وقع السحر في المعركة الانتخابية، وسيحملنا الناخبون على الأكتاف إلى مكاتب الحكومة في لاظوغلي.
وعندما جاء موعد اجتماع اللجنة المركزية ارتديت الحتة الزفرة، وقمت بتلميع الجزمة بعلبة ورنيش كاملة، وحرصت على أن أضع في جيب الجاكتة العلوي منديلًا أبيض على شكل الأهرامات، واشتريت علبة سجاير عشرين، ماركة واسب، ومعها مشط كبريت شغل بره. وخرجت في الصباح الباكر إلى بيت طوغان، ومن هناك زحفنا إلى ميدان الجيزة وركبنا الترام درجة أولى ودفع كلٌّ منا ثلاثة تعريفة كاملة، مع أنه في الماضي وقبل أن نصبح أعضاءً في اللجنة المركزية كنا نركب درجة ثانية بستة مليمات، وفي أحيان كثيرة ولدواعٍ أمنية كنا نتشعبط على السلم ونقفز من ترام إلى ترام.
ونزلنا في ميدان الإسماعيلية (التحرير الآن) وتوغلنا في شارع سليمان باشا، كان منظر الشارع هذه المرة يختلف عن منظره في المرات السابقة، ولفت نظرَ العبد لله وجودُ بعض الباعة السريحة على رصيف الشارع؛ البعض يبيع فاكهة المانجو، والبعض سارح بأمشاط … وقررت أن أضيف إلى برنامج الحزب العمل على إخلاء الشوارع الرئيسية من جميع الباعة السريحة، وإلحاقهم بوظائف حكومية بمرتبات مُجزية تضمن لهم العيش الكريم، وسنضمن تأييد أصحاب المحلات لحزبنا، وكذلك تأييد السادة المثقفين والأثرياء والصياع، الذين يقطعون شارع سليمان باشا أثناء النهار، وعندما وصلنا إلى مكان الاجتماع وجدنا الصحفي إياه واقفًا عند الباب، استقبلنا بشوق شديد، ثم قادنا بسرعة إلى الداخل قائلًا لنا في لهجة احتجاج: إنتو اتأخرتوا ليه؟ دا رفعة الباشا منتظركم.
انتفخت أوداجنا وانتعشت آمالنا ونحن ننقل خطواتنا وراءه، نخرج من دهليز إلى دهليز آخر، حتى انتهى بنا إلى صالة فسيحة. كان رفعة الباشا يجلس في صدر المكان، وعن يمينه واحد باشا آخر من أقربائه، وعن يساره رجل آخر يبدو عليه أنه باشا؛ فقد كانت ملابسه توحي بذلك. وكما توقعنا، هبَّ الباشا والبشوات الآخرون وقوفًا وصافحونا بحرارة، وانتفخت أوداجي أكثر، فكل أحلامي ستتحقق وعلى الفور، ولكن قلبي غاص في ركبتي عندما أخطأ الباشا في نطق أسمائنا، فنادى طوغان بطوقان، ونادى العبد لله بالسعداوي، ولكن طوغان طمأنني ونحن نسير خلف الباشا إلى مكان الاجتماع بأن طبقة البشوات لها لهجة خاصة تختلف عن لهجتنا نحن أبناء الناس اللي مش بشوات، واقتحم الباشا مكان الاجتماع، ولم يكن هناك سوى عشرين شخصًا، أغلب الظن أنهم مثلنا جاءوا صدفة وبلا ميعاد.
وجلسنا أنا وطوغان في الصف الأول بعد أن انتهت عاصفة التصفيق، ووقف الباشا خطيبًا، فهنَّأ مصر بحزبها الجديد، وهنَّأ الشعب المصري بقيادته الواعية التي ستقوده على طريق الخلاص إلى الغد السعيد، وقال رفعة الباشا وهو يضرب المنضدة بقبضة يده، ثم وهو يشير نحونا: لقد تعاهدت مع هؤلاء الرجال الشرفاء على أن نخوض المعركة مهما تكن الصعاب والعقبات، وسنخوض المعركة بإذن الله ونحن نضع رءوسنا على أكفنا مُضحِّين بكل غالٍ ورخيص وحتى بأرواحنا؛ حتى يتحقق للوطن ما يصبو إليه من عز وسؤدد.
ألقيت خلفي نظرةً لأرى الرجال الذين تعاهدوا مع رفعة الباشا، فهو بالقطع لا يقصدنا أنا وطوغان، ولكني رأيت الصفوف الخلفية تنظر خلفها أيضًا، فهم بالقطع مثلنا لم يلتقوا بالباشا إلا هذه اللحظة ولم يعاهدوه على أي شيء! المهم أن الخطبة انتهت وسط عاصفة من التصفيق، بينما عدسات المصورين تلتقط صورًا للباشا وهو يُلوح للجماهير، ثم انشغل المصورون بتصوير اللجنة المركزية، وانشغلت أنا الآخر بالمصورين، ففشخت بقي عن ابتسامة عريضة، وتحفزت للإدلاء بالتصريحات التي ستنفجر كالقنبلة في المحافل السياسية، ولكن المصورين ومندوبي الصحف انطلقوا خلف الباشا، وعندما انطلقت به السيارة تفرقوا وذهب كلٌّ منهم في اتجاه، وقلت لطوغان ونحن عائدان إلى الجيزة مشيًا على الأقدام: إنت ماخدتش بالك … الباشا ماسلمش علينا وهو ماشي.
وقال طوغان: مش مشكلة دي … إحنا نتصل بيه بالتليفون بكرة.
– وتليفونه عندك؟
– نجيبه من الصحفي بتاع دار الهلال.
وقضيت الليل أفكر في مستقبلي السياسي، سنتصل برفعة الباشا غدًا ونحدد موعدًا للاجتماع به لنخطط معًا لمستقبل الحزب، والباشا بالطبع مشغول بأشياء كثيرة؛ ولذلك سيترك لنا أمر الحزب نتصرف فيه كما نريد، وليس على الباشا إلا حضور الاجتماعات وإلقاء الخطب في الاجتماعات الشعبية، وفي الصباح جلسنا بجوار التليفون في قهوة محمد عبد الله نتصل بالصحفي إياه، ولكنه لم يكن موجودًا في كل مرة نسأل عنه.
وقال طوغان: طبيعي لازم يرتاح بعد المجهود اللي عمله في اللجنة المركزية.
واقترحت على طوغان أن يستفسر من الدليل عن رقم تليفون الباشا؛ فلا بد أن لديه تليفونًا للاتصال بجماهير الحزب التي عاهدته على السير وراءه حتى الموت من أجل تحقيق مصالح الوطن. ولكن موظف التليفونات ضحك من الأعماق على سذاجتنا؛ لأن تليفونات الباشا لا يعلمها إلا علام الغيوب والباشا، وتكررت محاولة الاتصال بالصحفي الذي قام بدور مقاول الأنفار لحزب الباشا، ولكن جميع محاولاتنا للاتصال به باءت بالفشل. فقررنا أن نذهب إليه في عقر مكتبه.
وفي اليوم الرابع قمنا بهجوم خاطف عليه، وفوجئ بنا ونحن ندخل عليه مكتبه، وأبدى دهشته الشديدة لأننا نريد مقابلة الباشا، وأخبرنا أن الباشا سافر إلى الإسكندرية للاستجمام بعد المجهود الرهيب الذي بذله في تكوين الحزب، وأن الأطباء نصحوه بالتزام الراحة وحرموه من تناول أي أطعمة إلا كوب عصير في الصباح وصدر فرخة في المساء، وأكَّد أن الباشا سيعقد اجتماعًا معنا بعد شفائه لتنظيم كل الأمور المتعلقة بالحزب، ثم ضحك ضحكة صافية وقال: على فكرة … الباشا بيكلمني النهارده في التليفون وبيسلم عليكم ومبسوط منكم قوي!
وبالرغم من كل شيء صدَّقْنا الأستاذ الصحفي وانبسطنا جدًّا لأن رفعة الباشا يسأل عنا، وانتهزنا الفرصة فسألناه عن رقم تليفون الباشا، ولكنه أكَّد لنا أنه لا يعرف رقم تليفون الباشا لسبب بسيط؛ هو أن الباشا لا يعطي رقم تليفونه لأحد، ولكن الباشا يتصل بالذين يريد أن يتصل بهم. ثم قال: وانتو كمان بعد ما تقعدوا مع الباشا إن شاء الله هيتصل بيكم.
والغريب أننا شعرنا بالراحة لأن رفعة الباشا سيتصل بنا في المستقبل ولم نكلف أنفسنا عناء الاستفسار عن كيفية اتصال الباشا بنا؛ لأننا لم نكن نملك تليفونًا، ولم يكن هناك احتمال أن يكون لدينا تليفون في المستقبل القريب.
على العموم … الباشا سيتصل بنا … وودعنا الصحفي وانصرفنا.
حدث هذا في عام ١٩٤٩م، وجرت الانتخابات وانتهت، وجاء الوفد واحترقت القاهرة وقامت الثورة، وجاء محمد نجيب ومضى، وجاء عبد الناصر وذهب إلى رحاب الله، وجاء أنور السادات وذهب إلى حال سبيله، ثم جاء حسني مبارك، واجتاح الأشاوس أرض الكويت، ثم نشبت أم المعارك، ثم لقيت حتفها وهي في عز الشباب، وحتى كتابة هذه السطور، لم يظهر لحزب نهضة مصر أي أثر، ولم يتصل بنا الباشا، ولم نتصل نحن بالباشا. ومع ذلك سيذكر التاريخ السياسي أن العبد لله كان عضو اللجنة المركزية لحزب رفعة الباشا، الذي سيتسلق الجبال والحبال لكي يحقق لمصر النصر والسؤدد!