البرنامج الخنفشاري
قررنا، طوغان وأنا، أن نختصر طريق المجد وأن نصنع المجد بأيدينا لا بيد عمرو أو زيد. قررنا إصدار جريدة نعرض فيها برنامجنا على الأمة وننتظر رأيها في الانتخابات التي سنفوز بها بلا شك. ولكن طموحنا لم يكن بقدر إمكانياتنا؛ فإصدار جريدة في ذلك الوقت كان يتكلف مائة ألف جنيه على الأقل. ولما كنا لا نملك أكثر من عشرة جنيهات، فقد اكتفينا باستئجار رخصة مجلة أسبوعية، وقررنا إصدارها مرتين في الشهر، واستعنا بالصديق علي كامل، فصار مديرًا للتحرير، وكتب العبد لله مقالًا سياسيًّا وقصة قصيرة، وتولى طوغان جميع الرسوم الكاريكاتورية ولوحات (وموتيفات) شخصيات سياسية ودينية وفنية ورياضية. وصدر العدد الأول بعد أن طبعناه في مطبعة بدائية اشتركنا نحن الثلاثة، علي كامل وطوغان وأنا، في إدارتها يدويًّا.
وعندما صدر العدد الأول، لم يكن في العدد أكثر من عشر صفحات مكتوبة، بينما الصفحات الأخرى بيضاء من غير سوء؛ لأن الرقابة شطبت جميع المواد التي كنا في طريقنا إلى نشرها على الشعب المصري لكي يقتنع ببرنامجنا السياسي الخطير ويحملنا على الأعناق في الانتخابات النيابية القادمة، ويقتحم بنا قصر رئاسة الوزارة في لاظوغلي لنصبح حكومة تحكم الشعب بالشعب للشعب! وأذكر أننا نحن الثلاثة خرجنا نطوف بالأسواق نسأل باعة الجرائد عن أرقام توزيع جريدتنا.
وجاءتنا الأنباء مُطَمئنة ومشجعة، أحدهم قال إنه باع مائة نسخة، وآخر أكَّد أنه باع أربعمائة نسخة، وثالث أكَّد لنا أنه باع كل النسخ التي وصلته ولم يحدد عددها، ولكنه طلب منا أن نضاعف له الكمية في الأعداد القادمة. وقمنا بإجراء عملية حسابية بسيطة بناءً على ما صرح به الباعة الذين توجهنا إليهم بالسؤال، وخرجنا منها بنتيجة، وهي أن كل النسخ التي نزلت السوق تم بيعها عن آخرها.
كنا قد طبعنا ثلاثة آلاف نسخة من مجلة الأسبوع، أخذنا منها مائتَي نسخة لزوم السادة المسئولين عن المجلة من أمثالنا، ولإرسال بعض النسخ إلى زملائنا من المحررين الكبار أمثال مصطفى أمين ومحمود أبو الفتح وشكري زيدان والسيدة روز اليوسف! وأمسكنا بورقة وقلم ورحنا نحسب على وجه الدقة المبلغَ الذي سيدخل جيوبنا من حصيلة توزيع مجلة الأسبوع. فلو افترضنا أن الكمية المبيعة هي ألفان وثمانمائة نسخة، وتُباع النسخة بقرشَي صاغ، فمعنى ذلك أن حصيلة البيع ستة وخمسون جنيهًا تأخذ شركة التوزيع منها الثلث … أي ثمانية عشر جنيهًا وعدة قروش، فيتبقى لنا سبعة وثلاثون جنيهًا وعدة قروش، كان في ذمتنا لتاجر الورق ثمانية عشر جنيهًا، وللمطبعة عشرة جنيهات، وكان في المجلة ثلاثة إعلانات تغطي حصيلتها كل الديون، ويتبقى لدينا ما ننفقه في الجلسات التاريخية التي سنعقدها في مطاعم شارع الألفي وفي مقاهي شارع عرابي، كان الإعلان الأول عن كينا لاييس، وهو مشروب يقول عنه أصحابه إنه يمنح شاربه الصحة والقوة، والشعور بالشباب يتدفق في عروقه حتى ولو كان في سن السبعين، وكان صاحب كينا لاييس شابًّا يونانيًّا يُدعى لوانيدا.
وعندما التقينا به وشرحنا له الهدف من إصدار المجلة وهو الوصول إلى السلطة لكي نحقق برنامجنا الذي سيحل مشاكل الشعب المصري، قرر على الفور نشر إعلان في كل عدد من المجلة على الغِلاف الخلفي بمبلغ عشرة جنيهات كاملة. أما الإعلان الثاني فقد كان من مصمم أزياء مصري، وقد ذكر في إعلانه أنه المصمم المصري الوحيد الذي نال الجائزة الأولى في المهرجانات العالمية. ولم نسأله طبعًا عن شكل هذه الجائزة الأولى أو عن طبيعتها، كما لم نسأله عن هذه المهرجانات العالمية التي حصل فيها على الجائزة الأولى ولا عن المكان الذي انعقدت فيه. أما الإعلان الثالث فكان عن أسماك الحرية إدارة الحاج محمد هريدي وشركاه.
والحقيقة أن منظر الدكان كان لا يسمح بوجود أي شركاء للحاج محمد هريدي، ثم علمنا بعد أن توطدت الصلة بيننا وبينه أن زوجته هي شركاه! أما مصمم الأزياء العالمي فقد دفع خمسة جنيهات نظير صفحة في الداخل، أما الحاج محمد هريدي وشركاه فلم يدفع شيئًا، بعد أن نشر ثلاثة إعلانات في صفحات متفرقة، كل إعلان على ربع صفحة، ولكننا أخذنا بحقنا أسماكًا وسلطات وخبزًا، فقد تناولنا طعام الغداء عند الحاج محمد هريدي، وكنا أربعة بعد أن انضم إلينا صاحب المطبعة الذي قام بطبع العدد الأول. المهم أن شركة التوزيع أرسلت إلينا كشف توزيع العدد الأول. لم تكن شركات التوزيع في ذلك الزمان على هذا النحو الذي عليه شركات التوزيع الآن، ولكن شركة التوزيع كانت مجرد حجرة بسيطة، وصاحب الشركة (معلم) يرتدي اللاسة والجلباب البلدي والحذاء أبو رقبة الذي يُصدر أنغامًا موسيقية أثناء السير به. جاءنا المعلم رئيس شركة التوزيع وأخبرنا بنبأ جعَل شعرنا الأسود يشيب، الخبر الذي حمله إلينا رئيس شركة التوزيع … أن أعداد المجلة المرتجعة بلغت ثلاثة آلاف وخمسمائة عدد، كيف يا معلم؟ هذا هو الذي حدث، نحن لم نطبع من المجلة إلا ثلاثة آلاف، وسلمنا شركة التوزيع ألفين وثمانمائة نسخة، ولكنها عادت إلينا ثلاثة آلاف وخمسمائة نسخة، فكيف وصلت هذه السبعمائة نسخة التي أضيفت إلى المرجوع؟
المهم أن هذه النتيجة السيئة لم تفت من عضدنا، ولم تمنعنا من المضي إلى نهاية الطريق فقررنا إصدار العدد الثاني، وقد صدر بعد ظهور العدد الأول، بخمسة وعشرين يومًا، وكان مصير العدد الثاني كالعدد الأول، مع اختلاف بسيط هو أن المعلم رئيس شركة التوزيع رفض أن يعيد إلينا الأعداد المرتجعة وقام ببيعها بالأقة لبعض محلات بيع اللب والفول السوداني، وقال في تبرير هذا العمل إنه باع الكمية ليأخذ عرقه … بفتح العين والراء، ولم يُفصح لنا عن حجم الأعداد المبيعة والأعداد المرتجعة، واكتفى بقوله عندما سألناه: أهو بخيتة زي بخيت!
العدد الثالث من مجلة الأسبوع كان نهاية الطريق، صدر العدد الثالث بافتتاحية كتبَها محامٍ بعنوان «يا أيها النمل»، ولم يظهر من المقال إلا العنوان فقط، أما المقال فقد أكلته الرقابة ضمن ما أكلت من العدد الثالث. وكان مقال العبد لله عن مصر المخترقة أرضها المستباحة بفضل وجود مطارات على أرضها ومَوانٍ في بحارها لا تخضع لسيادة الدولة المصرية، ولكنها تخضع لجيش الاحتلال، وقلت في المقال إن كل المواد المخدرة التي تصل إلينا تصل عن طريق هذه المطارات، وكل الأموال المهرَّبة من مصر تأخذ طريقها للخارج من خلال هذه المطارات.
ولكن مقال العبد لله لم يظهر منه إلا عدة أسطر متناثرة على مساحة ثلاث صفحات، ورسم طوغان صورة لجندي إنجليزي يفتح فمه، الذي بدا كأنه جراج عمومي وطابور من العربات يتدفق داخله، وكل سيارة مكتوب عليها كلمتان: أرز مصر، قمح مصر، قطن مصر. ولكن الرقيب وضع بقعة سوداء على وجه العسكري البريطاني، فبدت الصورة بعد الطبع وكأن فم العسكري الإنجليزي هو مجرد مخزن كبير، بينما السيارات تدخل إلى المخزن وهي تحمل كل هذه المواد الغذائية، والحمد لله لأنه لم يكن هناك قُراء للمجلة، وإلا لأبدى بعضهم رأيه في رسوم طوغان عمليًّا بضربات الأيدي وكعوب الأقدام.
المهم أننا بعد طبع العدد الثالث، وكنا جلوسًا في المطبعة والساعة تدق الخامسة صباحًا، جلسنا نتناقش في مستقبل الجريدة ومستقبلنا السياسي أيضًا. اقترحت على علي كامل وطوغان اختصار الطريق، وبدلًا من تسليم النسخ للموزِّع ثم يقوم الموزِّع بتوزيعها في السوق، ثم يقوم بجمعها من السوق، ثم يكتشف في العدد الأول أن المرجوع أكبر من المطبوع. ويبيع الموزع العدد الثاني لباعة اللب والفول السوداني ولا يكلف خاطره بإبلاغنا عن حجم البيع، سواء للقارئ أو لمحلات الفول السوداني. معللًا بيع العدد بالأقة للحصول على عرقه الذي بددناه.
فاقترحت على زميلي علي كامل وطوغان أن نقوم نحن ببيع العدد الثالث من المطبعة رأسًا إلى بتوع اللب والفول السوداني دون المرور بهذه اللفة الطويلة التي ليس لها مبرر على الإطلاق. ولم يستغرق النقاش بيننا أكثر من دقائق حتى اقتنع الصديقان علي كامل وطوغان بأن بيع المجلة لباعة الفول السوداني الآن وعلى الفور هو أحسن حل لمشاكلنا كأفراد ولمستقبلنا كسياسيين ولبرنامجنا السياسي الاجتماعي الخنفشاري الذي من أجله سيرفعنا الناخبون على الأعناق، وسيذهبون بنا إلى كراسي الأحكام والسلطان والهيلمان.
وبالفعل خطفت رجلي إلى أحد تجار الورق بشارع كلوت بك، وتصور العبد لله أنه بعد السلام عليكم وعليكم السلام فإن الأمر لن يستغرق أكثر من دقائق معدودة وينتهي كل شيء على ما يرام، ولكني أدركت في ذلك اليوم أن السوق له قوانين وأنه لا بد من احترام قوانين السوق، حتى في عملية هايفة كتلك العملية التي كنت مُكلَّفًا بإتمامها في ذلك الصباح، وعلى رأس قوانين السوق التي تعلمتها أن الأمر يختلف اختلافًا رهيبًا بين أن تسعى أنت إلى التاجر أو يسعى التاجر إليك. ويبدو أيضًا أنه كان يبدو على العبد لله أنني أتعجل إتمام الصفقة وكأنني حرامي وأرغب في التخلص من جريمتي بأي ثمن وفي أقصر وقت، وظهر على التاجر المدرَّب أنه لا يريد الصفقة، فلديه كميات ضخمة من الورق، وقال وهو يتثاءب … السوق ميت الأيام دي، ولو خليتهم عندك شهرين ثلاثة يمكن العجلة تتحرك.
وكادت أعصابي أن تفلت مني، وهممت بشتيمة التاجر، إلا أن طريقته في الاستفزاز لم تكن من النوع الذي يبرر رد الفعل العنيف الذي كنت أفكر فيه، وسيطرت على أعصابي وقلت له بنفس الغتاتة والغلاسة التي كان يتكلم بها … طيب إن شاء الله أفوت عليك بعد شهرين، فردَّ بنفس الصوت النحاسي الرديء … ولو بعد ثلاثة أشهر يبقى أحسن!
ودخت دوخة الأرملة وأنا أسعى بين شارع كلوت بك إلى شارع عبد العزيز وبين الفوالة والعشماوي، باحثًا عن تاجر يرضى الحضور معي إلى المطبعة لشراء المجلة. وعندما أعيَتني الحيل رحت أجرُّ رجلي جرًّا نحو المطبعة، وكم كانت دهشتي عندما شاهدت على باب المطبعة رجلًا بجلباب ومعه عربة وميزان ضخم بينما راح بعض العمال يحملون نسخ المجلة إليه، ويُجري وزنها بإشراف طوغان. وكان البائع يُبدي تذمُّره بين الحين والآخر؛ لأن أعداد المجلة المجلة وزنها أكبر من حجمها الحقيقي؛ لأنها سخنة وخارجة لتوها من المطبعة. المهم أننا اختلفنا بعض الوقت ثم اتفقنا في النهاية، وحصلنا من البائع السريح على أربعة وثلاثين جنيهًا ثمنًا لأعداد المجلة، وكان هذا المبلغ هو أول أرباح تحققها من العمل الصحفي؛ وبهذا المبلغ قضينا أربعة أيام على شاطئ البحر في الإسكندرية، وقضيناها في تفكير هادئ، وقمنا برسم خطوط مستقبلنا السياسي في الفترة القادمة، وتجنبنا في الخطة الجديدة كل الكمائن والشراك التي نُصبت لنا من قبل، واتفقنا على الخطة الجديدة وتعاهدنا على تنفيذها على أكمل وجه، وعدنا إلى القاهرة وبدأنا في تنفيذ الخطة. ولكن … ما هي الخطة؟ وما هو الهدف؟ هذا ما سوف نكشف عنه وعن تأثيره الخطير، ليس بالنسبة لنا فقط ولكن بالنسبة لمصر وللعالم العربي وللعالم الثالث عشر!