خنجر في الظلام
وهكذا … أصبحت اللجنة المركزية في حالة انعقاد دائم للبحث عن وسيلة لتأدية الدور التاريخي الذي وضعته الأقدار على أكتافنا لقيادة مصر والعالم العربي … واجتمعت اللجنة المركزية بالفعل … علي كامل وطوغان وأنا لاتخاذ القرارات اللازمة والحازمة لتحقيق هذا الهدف الذي سيدخل التاريخ من بوابة المتولي … ولما كان الرسَّام طوغان هو مدير عام المشروعات، فقد طرح للمناقشة مشروعًا خطيرًا سرعان ما وافقنا عليه واعتمدناه، واتخذنا قرارًا فوريًّا بوضعه موضع التنفيذ.
كان الاقتراح هو تأليف حزب خاص بنا ودعوة الجماهير إلى حضور الهيئة التأسيسية لوضع الخطوط العريضة لبرنامج الحزب، وللبحث في إصدار جريدة أو مجلة للحزب حسب التساهيل، وباعتبار العبد لله مفكر الحزب وفيلسوفه الوحيد ومسئول مكتب الإعلام في اللجنة المركزية، فقد وضعوا في عنقي مهمة دعوة جماهير الحزب وعقد الاجتماع الذي تحدد له تاريخ بعد أسبوع، ولكن المشكلة التي واجهتني هي جماهير الحزب التي سندعوها للاجتماع. فقد كنا حتى هذه اللحظة لا علاقة لنا بأية جماهير من أي نوع، ولكن التجربة مفيدة في مثل هذه المواقف، والعبد لله صاحب تجربة في حزب رفعة الباشا، ولذلك قررت الاستفادة من تجربة رفعة الباشا، فندعو الجماهير إلى الاجتماع ولأسباب مختلفة تغري كل إنسان حسب أطماعه أو حسب تطلعاته على الحضور!
وبدأت الشغل على ودنه. خطفت رجلي إلى عبده بكر المكوجي لحضور الاجتماع مع شلته، ولم يكن عبده بكر إلا المكوجي الذي يقوم بكيِّ ملابسنا ويمتلك دكانًا بشارع عباس بالجيزة. وكان عبده قلقًا وطموحًا ومتطلعًا ونهمًا إلى الشهرة وتحقيق ذاته، وهداه طموحه في فترة الحرب العالمية الثانية إلى تكوين فرقة مسرحية ضم إليها بعض الخدم والطباخين وبعض الخادمات من المترددين على محله، وقام بالفعل بتأليف روايةٍ اسمها «خنجر في الظلام»، استأجر لتأليفها طرابيشي سابقًا أهمل عمله بعد أن أهمل الناس ارتداء الطربوش قبل أن تقوم الثورة بإلغائه بعد ذلك بعدة سنوات.
وكان السبب في إهمال الناس للطربوش هو ولع العساكر الإنجليز بخطف الطرابيش من على رءوس المصريين، وسجلت أقسام الشرطة في القاهرة محاضر بخطف خمسين أو ستين طربوشًا كل يوم. هذا بالطبع غير الطرابيش التي آثر أصحابها الصمت وترك عوضهم على الله.
المهم أن المؤلف الطرابيشي وكان اسمه أحمد شلبي، وكان حريصًا على أن يكتب اسمه أحمد جلبي، على أساس أن هذا هو الصواب؛ أقول … المهم أن المؤلف أحمد شلبي أو جلبي حضر إلى دكان عبده المكوجي ذات صباح وفي يده كشكول وعدة أقلام «كوبيا» لزوم تأليف المسرحية، وجلس على كرسي بالقرب من عبده، الذي كان يتولى عملية التأليف شفاهةً أثناء قيامه بعملية كي ملابس الزبائن، بينما يقوم عم شلبي أو جلبي بالتأليف الفوري أخذًا في الاعتبار وضع الأحداث التي يرويها عبده في الإطار المسرحي الملائم وحسب قواعد أرسطو ودريني خشبة وعبد الفتاح البارودي.
وكان عبده بكر من ممثلي مسرح رمسيس ومن عشاق يوسف بك وهبي، أما اشتغاله بالتمثيل مع يوسف وهبي فقد جاء عن طريق مقاول أنفار استأجر عبده ضمن مجاميع كثيرة من البشر ليؤدي دور كومبارس صامت في رواية «أبناء الفقراء». وبعد انتهاء عرض الرواية ظل عبده ملازمًا للمسرح يبحث عن دور، وعندما أغلقت فرقة رمسيس أبوابها، تضخمت أحلام عبده إلى درجة أنه قرر تأليف فرقة مسرحية والقيام بأدوار يوسف بك وهبي شخصيًّا. ولذلك أيضًا جاءت مسرحية «خنجر في الظلام» خليطًا من مسرحيات يوسف بك وهبي من أول «أولاد الفقراء» إلى «عريس في علبة»، وتناثرت في أنحاء مشاهد «خنجر في الظلام» عبارات مشهورة ومحفوظة ليوسف وهبي، عبارات من أمثال: شرف البنت زي عود الكبريت ما يولعش غير مرة واحدة و… يا جوليا يا مرات الكل يا مزبلة، و… روح عليك اللعنة يا عدو الله. وكانت هذه العبارات تجري على ألسنة أبطال «خنجر في الظلام» بدون مناسبة وبغير سبب على الإطلاق.
كانت فاطمة في رواية «خنجر في الظلام»، تعتب على حبيبها تخلفه عن الحضور في الموعد المحدد، فصرخ فيها كامل بطل الرواية قائلًا: يا جوليا يا مرات الكل يا مزبلة! وكان الأجر الذي يحصل عليه المؤلف شلبي يُحسب باليومية؛ ولذلك استغرق تأليف المسرحية وقتًا طويلًا، وكان عبده لا يخفي تبرمه من هذا الوضع، وينفخ بشدة وهو يقول للمترددين على دكانه: دا بيلهف يومية خمسة قروش. دا غير الأكل اللي بيطفحه طول النهار، والسجاير اللي نازل شرب فيها زي الحريقة. وكان عبده بكر يبالغ في مسألة السجاير.
كان شلبي قنوعًا في مسألة التدخين، ويقوم بالتخميس مع عبده في كل سيجارة يشعلها، عبده يشفط نفسًا وشلبي يشفط نفسًا، وهكذا حتى تنتهي السيجارة، وغالبًا كانت تنتهي بين أصابع عبده، الذي تحول لون أصابعه إلى شيء أشبه بصفار البيض، وكانت «أفلة» المسرحية أو خاتمتها معقدة إلى درجة أن العم شلبي استغرق في كتابتها عدة أسابيع. وكان عبده يصرخ في وجه شلبي بين الحين والآخر مطالبًا بالإسراع في وضع الخاتمة بينما كان شلبي مُصرًّا على أن تأتي الأفلة «روعة … تعمل هزة في البلد»، ولكن عندما نفد صبر عبده، أصدر قرارًا عاجلًا بفصل عم شلبي وصرفه بمعروف بعد أن استولى منه على كشكول المسرحية. وعندئذٍ كتب عبده على غلاف الكشكول «رواية خنجر في الظلام»، تأليف عبده بكر … إخراج عبده بكر … بطولة عبده بكر … بالاشتراك مع أمينة رزق وفاطمة رشدي.
وبدأت بالفعل عملية البروفات على المسرحية، وفي المساء من كل يوم كان عبده يزيح الترابيزة على جنب ثم يبدأ في إجراء البروفات … وكان عبده هو البطل، والبطلة خادمة عند أحد القضاة وتُدعى أمينة. أما الأبطال الآخرون فكان أبرزهم صابر الطباخ ومحمد حشيف … وشدت الضجة المنبعثة من دكان عبده أنظار رجال المباحث فهجموا على دكانه، وألقوا القبض على الخادمات والطباخين والسفرجية. وغاب عبده وفرقته أيامًا في التخشيبة، ثم خرجوا جميعًا بعد عمل التحري اللازم وثبوت براءتهم من ارتكاب أعمال جنائية.
وانفضَّ مولد «خنجر في الظلام»، ولكنْ ظل عبده يبحث عن مكان لإجراء البروفات وعن مسرح لعرض الرواية؛ ولذلك كان يرقص طربًا والعبد لله يدعوه لحضور الاجتماع للبحث عن أنسب الطرق للقيام بعدة أنشطة فنية وللنظر في إجراء بروفات على مسرحية «خنجر في الظلام»، وفي فورة حماسه قرَّر تخفيض سعر الكوي للعبد لله، ليصبح قرش صاغ واحدًا لكل ثلاثة قمصان، وكانت بقرش ونصف قبل توجيه الدعوة إليه!
وانتقلت بعد ذلك إلى دكان الكابتن أنور، وهو سمكري سيارات وكابتن فرق السلاح الماضي لكرة القدم. وكان الفريق يضم بين أفراده نجم الكرة المصري الشهير في الأربعينيات والخمسينيات فؤاد صدقي. وكان من أحلام الكابتن أنور إنشاء اتحاد لكرة القدم في الجيزة للإشراف على دوري فريق الحواري من «الأسهم النارية» و«الأسد المرعب» إلى «السلاح الماضي» و«العفاريت الزرق»، وجلست مع الكابتن أنور وأقنعته بضرورة حضور الاجتماع التاريخ الذي سينظر في أمور كرة القدم في الجيزة تمهيدًا لتأسيس الاتحاد والإشراف على دوري فِرق الحواري والأحياء … وأقنعته بضرورة حضور أكبر عدد ممكن من الناس لكي نضمن التصويت لصالحنا أثناء عملية الانتخاب.
وفي اليوم الثالث خطفت رجلي إلى دكان المعلم قطب، وأقنعته بحضور الاجتماع وضرورة حضور عدد من أصدقائه لضمان التأثير على الحاضرين لكي نخرج في النهاية بقرار يضمن لنا العفو عن كل الجرائم التي ارتُكبت أثناء الحرب العالمية الثانية ضد قوات الحلفاء، وكان المعلم قطب صاحب دكان في الجيزة، وكان يستخدمه كمُسكِّن يقيم فيه مع زوجته وأطفاله الثلاثة، ولم يكن بالدكان أي شيء معروض للبيع، ومع ذلك كتب قطب على جدرانه حكمة «ملك الملوك إذا وهب … لا تسألن عن السبب … الله يعطي من يشاء فقف على حد الأدب».
وكان المعلم قطب لا يُخفي عداءه للإنجليز، ويتمنى لهم الهزيمة، ويعلن حبه الشديد للألمان، ويدعو «هتلر» بالنصر … وكان يحتقر كل من يتعامل مع الإنجليز، ولو بشراء السجاير منهم أو بخطف المحافظ من جيوبهم … وأحيانًا كثيرة كان قطب يسأل العبد لله: إلا لو روميل دخل مصر هيدوروا على الناس الجدعان اللي وقفوا ضد الإنجليز؟ وإلا برضه هترجع ريمة لعادتها القديمة!
ولكن لسوء حظ المعلم قطب أن روميل تراجع وتقدم مونتجمري، وتبددت أحلام قطب وأصيب بالإحباط؛ فقد كان يتصور أن حل جميع مشاكله يتوقف على انتصار روميل، الذي سيبحث عن الجدعان الذين قاطعوا الإنجليز ودعوا لهم بالهزيمة. وفي ظل تلك الظروف الكئيبة التي أحاطت بالمعلم قطب، هبط عليه ذات مساء أحدُ فتوات الجيزة، ويُدعى مصطفى لطفي، وعرض على المعلم قطب عرضًا سال له لُعابه، عرض الفتوة مصطفى لطفي استئجار دكان قطب لتخزين بعض البضائع … مجرد تخزين فقط، ومقابل عشرين جنيهًا كل شهر.
يا إله السموات والأرض، عشرون جنيهًا مرة واحدة لم تدخل جيب المعلم قطب طوال حياته، يا لها من صفقة العمر، ومع من؟ مع مصطفى لطفي الفتوة الذي تنحني له كل الرقاب، وفي الصباح جاء الفتوة ومعه عربة لوري وأنزل الشحنة … صناديق مغلقة وفرد كاوتش وبطاريات سيارات جديدة وأدوات أخرى لم يُدقق المعلم قطب كثيرًا في حقيقتها.
وانقلبت أحوال المعلم قطب رأسًا على عقب. استأجر شقة جديدة بثلاثة جنيهات على مقربة من الدكان، نقل إليها الزوجة والأطفال، وجلس هو على باب الدكان يحرس بضائع لا يعرف منها شيئًا … ومرت ستة أشهر كاملة وهو يرتع في هذا النعيم، حتى جاء صباح أسود من قرون الخروب، حين هجم على دكان قطب عددٌ من الضباط والمخبرين وفتشوا الدكان ولينقلوا كل شيء إلى سيارة كانت معهم، وساقوا المعلم قطب أمامهم مقبوضًا عليه إلى سجن مصر، وفي التحقيق اكتشف المعلم قطب أن دكانه عامر بأشياء مسروقة من معسكرات الجيش الإنجليزي. وأنكر قطب معرفته بأي شيء، وادَّعى أن أشخاصًا مجهولين حملوها إليه نظير إيجار شهري هو في أشد الحاجة إليه.
ولم يجرؤ المعلم قطب أن يكشف للمباحث عن شخصية مالك الأشياء هذه، ووجد قطب نفسه بين نارين، إذا كشف عن حقيقة مصطفى لطفي فقد يَلقى حتفه تحت الضربات الساحقة لقبضة مصطفى لطفي القوية، وإذا سكت فسيدخل السجن ويضيع في الكازوزة. ومرت سنوات طويلة بين تحقيق ومحاكمة وتأجيل، وخرج بكفالة مائة جنيه دفعوها له، وعاد من جديد يجلس أمام الدكان الذي تحول إلى مسكن لأسرته مرة أخرى، ثم صدر حكم غيابي ضد قطب بالحبس لمدة سنة، ثم استأنف الحكم، ثم تاهت القضية ولا أحد يعرف السبب، ثم عادت القضية فجأة وأعلنوا قطب بضرورة الحضور، ولكن قطب صمَّم على الاختفاء، ولكن أحد المحامين طمأنه بأنه ومجموعة من كبار المحامين يعملون بكل جهدهم لإصدار قانون يقضي بإسقاط جميع الجرائم التي ارتكبها مصريون ضد قوات الاحتلال أيام الحرب.
وكان مدخل العبد لله إلى المعلم قطب هو ضرورة حضور الاجتماع مع أكبر عدد ممكن من الناس للضغط على الحكومة لإصدار قانون العفو عن جميع المصريين وعلى رأسهم المعلم قطب، وعندما سمع المعلم قطب من العبد لله هذه الأسطوانة، وقف ورقص بالفعل وطبع على رأس العبد لله قُبلة، ودعا للعبد لله بالنصر.
وهكذا … أصبحت الجماهير مستعدةً لحضور اجتماع أول جمعية تأسيسية لحزبنا الجديد الذي سيقود المسيرة ويرفع العلم المصري على منابع النيل … فقد كانت هذه النقاط من أهداف حزبنا!
ويوم الاجتماع جلست كما علي ماهر باشا في حجرة جانبية بمكتب محاسب صديقي يقع في ميدان الجيزة … ولكن يا للهول … على رأي يوسف بك وهبي على الذي جرى لنا في هذا الاجتماع، الذي شابت لهول أحداثه الغربان والفئران ورأس العبد لله أيضًا، مع أنني كنت في الثانية والعشرين من العمر!