صفيحة السوابق
يا داهية دقي … فضيحتنا ووكستنا يوم الاجتماع الجماهيري الحاشد لإعلان قيام حزبنا الحديدي الذي سيقود المسيرة من الجيزة إلى برج بيزا مرورًا بالإسكندرية والأندلس وطليطلة ومالطا وصقلية، وكل الجزر التي كانت تبعنا ومن أملاكنا يوم كنا خير أمة أُخرجت للناس، ثم ضاعت من أيدينا عندما صِرنا … أمة بين الناس!
جلس العبد لله في حجرة جانبية، في مكتب المحاسب الصديق بميدان الجيزة، وجلست جلسة «الخالق الناطق»، عمنا رفعة علي ماهر باشا يوم اجتماع حزبه الجماهيري الذي يشبه حزبنا الجماهيري أيضًا … على أساس أن جماهيري هو لقب أحزاب تلك الأيام، وهمس طوغان في أذني ونحن جلوس في انتظار الجماهير بكلمة جعلتني أرتعب من هول المفاجأة … قال طوغان: إحنا نسينا حاجة مهمة قوي.
– إيه؟
– نسينا نطلق اسمًا على حزبنا!
يا خبر أسود ومهبب ومزقت … صحيح لقد نسينا في غمرة انشغالنا بمستقبل حزبنا أن نطلق عليه اسمًا، ولكن بسيطة، واقترح علي كامل أن نتدارك الموقف ونطلق عليه اسم حزب الأهالي، تشبهًا بحزب الأهالي العراقي، ولكني رفضت لأن صلتنا بالعراق ليست على ما يرام؛ ولذلك من الأفضل أن نطلق عليه اسم حزب الشعب على اسم حزب الشعب السوري الذي كان من بين زعمائه السيد علي بوظو … وكان صديقًا للعبد لله، وهي الصداقة التي استمرت بيننا حوالي ربع ساعة هي المدة التي استغرقها لقائي به عند زيارته للقاهرة في فترة سابقة، وهتف طوغان صارخًا … أقترح تسمية حزبنا بحزب النجادة، على غرار حزب النجادة اللبناني. وقال طوغان … إنه حزب طيب ومواصفاته كلها طيبة، وهو حزب كشافة ومعسكرات خلوية، وأعضاؤه يعلقون المطاوي في أحزمة بنطلوناتهم، ورئيس الحزب له جولة كل عام في أنحاء العالم العربي المتيسر لجلب الإعانات والإكراميات.
المهم أننا بعد أن استعرضنا كل الأحزاب العربية من أول حزب الكتائب الى حزب الاستقلال إلى حزب وداد جلبي يا بوي لمعت في ذهن العبد لله فكرة جهنمية، لماذا لا نطلق على حزبنا اسم حزب الجماهير؟! يا لها من فكرة رائعة مثل فكرة واحد صاحبنا اسمه عبد الفتاح الجيزاوي.
كان يغني في الأفراح والليالي المِلاح في الجيزة، وكان يدَّعي كذبًا أنه على صلة قرابة بالمنولجست عمر الجيزاوي، وكان عبد الفتاح هو التجسيد الحي لمطرب الأخبار الذي ابتدعه خيال الكاتب أحمد رجب ونفخ فيه الروح على صفحات الأخبار.
وكان عبد الفتاح لا ينجو في كل فرح من علقة حتى تورم قفاه بالفعل، وبمرور الزمن وليأسه من أن يصبح مطربًا قام بتغيير اسمه من عبد الفتاح الجيزاوي إلى عبد الفتاح المطرب، ونشر إعلانًا رسميًّا يطالب المعترضين بالتقدم إلى الجهات الرسمية بأسباب الاعتراض، وبعد مرور المهلة المحددة صار اسمه الرسمي عبد الفتاح المطرب، ولكن اسمه الفعلي ظل على ألسنة الناس … عبد الفتاح الجيزاوي!
المهم أن الاسم الذي اقترحته لحزبنا نال استحسانًا وموافقة على الفور، وصار اسمه حزب الجماهير، بدأت الوفود تتوافد على مقر الحزب … وجاء في البداية وفد الكابتن أنور، وجاء معه عدد من أعضاء الفريق، بعضهم حمل كور أنبوبة، والجميع يرتدون زي الكورة. ولما كانت العين بصيرة واليد قصيرة، فقد جاء بعضهم وقد أخفوا الجلباب داخل اللباس، وكان معهم أيضًا عم بسيوني، وهو رجل عجوز كان يعمل فرَّاشًا في أحد البنوك، ويرتدي نظارة طبية، فلما اعتزل العمل في البنك عمل حكمًا بين فِرق الحواري، وكان يتقاضى خمسة قروش عن كل مباراة.
وكان في الملعب شديد العُنجهية والغرور، والكارت الأحمر حاضر دائمًا ومستعد لطرد كل من يرفع صوته بالاحتجاج … وعندما لمحني عم بسيوني أجلس منجعصًا وواضعًا ساقًا على ساق، أخرج صَفَّارته من جيبه وأطلقها تحيةً منه للعبد لله، وجلس أعضاء الفريق واحتلوا الصفوف الأمامية، ثم راحوا يهتفون: يا محني ديل العصفورة، فرقتنا هيه المنصورة!
وجاء فريق المعلم قطب ومعه بعض حرامية المعسكرات الذين كانوا يسطون على معسكرات الجيش الإنجليزي أيام الحرب، بعضهم دخل السجون، وبعضهم لا تزال قضاياهم معلقةً أمام المحاكم، ولكن الأمر الذي جعل قلبي يغوص في ركبتي هو ظهور الفتوة مصطفى لطفي في القاعة. فلما رآني أتصدَّر المكان، أدرك أنني الرئيس، فهتف على الفور بصوته الجاعورة … يا ميت مسا، أجدع ناس واللي خلق الخلق … أهو كده … لازم القواضي دي تنشطب، همه يعني عملوا إيه؟ سرقوا إنجليز، طيب وفيها إيه دي؟ ثم دي غنايم، والنبي ألف صلاة عليه خد الغنايم من الكفار! وصاح واحد آخر من أصحاب السوابق الذين ترددوا على السجن أكثر من مرة، طب واللي خلق الخلق الحكومة دي — يقصد حكومة إبراهيم عبد الهادي — كافرة، دول قعدوني في السجن ٥ سنين، عشان إيه يعني؟ شوية مواسير خدناهم من المعسكر، واللي خلق الخلق لازم نرفع قواضي ونأخذ التعويض!
وهبَّ بعده واحد من السوابق وأزاح جلبابه عن ظهره، فبدا أثر لجرح قديم، وقال بصوت غليظ: اللي انت شايفه ده ضربة سونكي من عسكري إنجليزي، ولولا لطف الله كنت زماني نايم في قرافة الإمام الشافعي من سنين، ودا غير الضرب والإهانات اللي شفناها في مكتب البيه ضابط المباحث، واللي زاد وعاد رمونا في السجن أربع سنين! ودعا المعلم قطب فرقته إلى الهدوء، وقال: الحمد لله ربنا وقَّفلنا البيه في سكتنا، وربنا يكافئه حسب نيته، والليلادي وإن شاء الله هتنشال كل القواضي من «صفيحة» السوابق، ونرجع أنضف من الصيني بعد غسيله! واقتحم مقر الحزب عبده بكر المكوجي على رأس فريقه، لمحت على رأسهم صابر الطباخ ومحمد شيف وهو طباخ هو الآخر، ولكنه اشتغل فترة في بيت أحد السفراء، فأطلقوا عليه في السفارة لقب «الشيف»؛ أي رئيس الطباخين. فلما ذهب إلى القهوة في المساء وأبلغهم نبأ تعيينه «شيف» في السفارة، سخروا منه وأطلقوا عليه اسم محمد شيف، وصار علَمًا عليه بعد ذلك، وبعد قليل دخل الاجتماع عم جلبي مؤلف «خنجر في الظلام»، ولاحظت في يده نسخة من الرواية، كما لاحظت وجود نفس النسخة في يد عبده بكر!
اكتملت الآن اللجنة التأسيسية لحزب الجماهير، وما على الزعيم الذي هو حضرتنا إلا بدء الاجتماع وإلقاء الخطبة النارية التي لا بد ستذيعها وكالات الأنباء في أنحاء المعمورة، وكان طوغان قد استدعى المصورين لالتقاط الصور التذكارية للاجتماع التاريخي، وقد حضر متأخرًا ووقف يعتذر عن التأخير حاملًا في يده كاميرا سوداء اللون تشبه الصندوق مركَّبة على حامل بثلاث أرجل ويتدلى منها قماش أسود طويل كالشوال، وفي اليد الأخرى جردل ماء، ومعه مساعد بلمبة كهربائية (فلاش) لزوم التصوير في الليل. وبعد أن نصب العدة أدخل المصور رأسه في الشوال الأسود وراح المساعد يفرقع الفلاشات، ثم يسحب أوراقًا من الكاميرا ويضعها في ماء الجردل، ثم مد حبلًا يشبه حبل الغسيل نشر عليه الورق الذي استخرجه من الكاميرا!
ووقف العبد لله وسط عاصفة من التصفيق، وانطلقت الهتافات من فريق الكابتن أنور السمكري: «يا محني ديل العصفورة …» وبعد أن ألقيت السلام على الحاضرين، وقبل أن أتفوَّه بأي كلمة، وقف عم جلبي وقال مُوجهًا الحديث لحضرتنا: أنا بس عندي كلمة قبل حضرتك ما تتكلم.
أشرت له بالجلوس ولكنه مضى قائلًا: أنا عارف! إنك عاوز تساعد عبده وربنا يسهله، أنا راجل بأحب الخير للناس، لكن أنت مايرضكش إن حقي يتاكل. «خنجر في الظلام» أنا اللي كاتبها، والنسخة بخطي أهه، والنسخة اللي مع سي عبده بخطي برضه … وأنت …
وقبل أن ينتهي من كلمته، نهض عبده كالمجنون ولعن سنسفيل اللي نسلوا عم جلبي، وقال: دا راجل مجنون، كل الحكاية أنا جيبته عشان خطه حلو، طيب … خليه يقول كده جملة في المسرحية … خليه يقول جوليا يا مرات الكل يا مزبلة. ثم نظر نحو جلبي وقال: تعرف معناها دي؟ تعرف تقول أنا لما كنت في سويسرا واشوف الثلج نازل كنت أتذكر عرق الفلاح اللي بيتصبب من الجباه بالشكل ده! تعرف يتصبب يعني إيه؟ وتعرف بقى إن ماكنتش هتخرج من هنا، أنا هابيتك في المستشفى الليلادي … عند هذا الحد هب مصطفى لطفي غاضبًا وصاح في صوتٍ سمعه بالتأكيد الذين في الميدان: إيه دي؟ إحنا في إيه والا في إيه؟ خنجر إيه اللي في الظلام ده … طب عليَّ الطلاق إن ماقعدتوا يا ولاد الهرمة لتكون ليلتكو مش فايتة … إحنا جايين هنا عشان سي عبده بكر ولا إيه؟
ملعون أبوكو كلكو!
ويبدو أن عم جلبي لم يكن يعرف من هو مصطفى لطفي، فنظر نحوه شذرًا بعد أن عوج الطربوش وقال له: إيه قلة الأدب دي والسفالة دي … أنت يا راجل أنت مش تشوف بتكلم مين؟ ولم ينتهِ من عبارته إلا ورفع مصطفى لطفي مقعدًا وضرب به عم جلبي، فوقع على الأرض والدماء تنزف من رأسه، وهبَّ صاحب المكتب كالمجنون وصرخ في وجه مصطفى لطفي، فهبده الأخير مقعدًا آخر. وظاطت القاعة، ودبت الفوضى بين الجماهير، وطاح مصطفى لطفي في الجميع، ونال العبد لله من الحب جانب، فأصابني مقعد شارد في وجهي، وسقط طوغان على الأرض وهو يحاول تهدئة الجماهير، وأطلق بسيوني صافرته لتهدئة المباراة، وحاولت الخطابة، ولكن جسمًا صلبًا ضرب جبهتي مرة أخرى … وساد الظلام القاعة فجأة، فلم يعد هناك إلا صوت ضرب الكراسي وصرخات الجرحى والمدهوسين تحت الأقدام، وتسللت في الظلام من بين أجسام الجماهير وخرجت إلى الميدان، ومن الميدان إلى الشارع، ومن الشارع إلى حي شبرا حيث كانت تقيم عمتي هناك.
وشهر كامل لم أستطع دخول الجيزة أو أهوب نحوها. وعندما اتصلت تليفونيًّا بقهوة محمد عبد الله للسؤال عن طوغان، أفهمني عم زكريا الحجاوي أنه مريض ومصاب بكسر في ضلوعه، وأن إحدى أسنانه تحطمت، وهو نائم في سريره لا يستطيع مغادرة الفراش. أما علي كامل فلم نرَه إلا ستة أشهر؛ فقد كان لحسن حظه يسكن في السيدة زينب، وجاءنا ومعه مشروع جديد على طريق المسيرة نحو عالم الغد السعيد، ومن أجل مجتمع الورود والخدود والشواشي العليا للأنكشارية.
والنحل ياهوه!