شبشب على ملوخية!
قال علي كامل وهو يرقص طربًا: حصل فرج الله يا أولاد، وسنودع أيام الشقاوة. وراح علي كامل يحكي لنا تفاصيل مشروعنا الجديد، فهناك مشروع مجلة جديدة وراءها تمويل ضخم ومستمر ولا ينقطع. وأصل الحكاية أن أحد بشوات الصعيد وقطبًا من أقطاب حزب الوفد ويمتلك ألف فدان من أجود الأراضي الزراعية، الباشا الكبير، اختلف مع شقيقه الأصغر ويُدعى إبراهيم بك، وتطوَّر الخلاف بين الشقيقين إلى درجة أن كلًّا منهما راح يشنع على الآخر ويهاجمه، وانضمت صحف الوفد إلى الشقيق الأكبر الباشا ضد الشقيق الأصغر. ولما كان الشقيق الأصغر يتصور أنه صاحب الشعبية الأكبر في الإقليم، وأنه أحق من أخيه بعضوية مجلس الشيوخ وعضوية اللجنة العليا، قرر الشقيق الأصغر أن يصدر مجلة للرد على مزاعم أخيه ولإجبار حزب الوفد على الاعتماد عليه بدلًا من شقيقه الباشا، الذي ليس له من المواهب إلا الألف فدان وحظائر الماشية التي اشتُهر الباشا بتربيتها في أحد أقاليم الصعيد.
وأكَّد لنا على أن سعادة البيه الشقيق الأصغر رصد للمجلة ميزانية ٣٠ ألف جنيه، وهو مبلغ كان يومئذٍ يكفي لبناء ناطحة سحاب على شاطئ النيل.
عندما بدأنا الانهماك في العمل سألنا علي كامل: هل وضع سعادة البيه أي مبلغ من المال تحت حساب المجلة؟ فأجاب بالنفي، وأكَّد أن البيه سيفعل ذلك عندما نجتمع معه في الأسبوع القادم لوضع اللمسات الأخيرة على مشروع المجلة، وجاء البيه في الموعد المحدد وأدهشني منظره؛ فقد كان أغلب البهوات الذين رأيتهم من قبلُ من النوع التركي الملظلظ الذين تستطيع أن تلحظ آثار النعمة عليهم من أول نظرة، بشرة بيضاء مخلوطة باللون الأحمر، ولغد سمين يخفي الرقبة، وصلعة نظيفة ولامعة كأنها مدهونة بالورنيش، ولكن منظر هذا البيه كان يختلف، شكله يقترب كثيرًا من شكلنا، نحيف ومتوسط الطول، ولونه الخالق الناطق مثل لون العبد لله، لون العسل المخلوط بالطحينة أو لون العجين المخمر، وبدلته رغم قماشها الفاخر تبدو عليه وكأنها بدلة رجل آخر.
وجلس البيه بيننا يشرح مشروعه «القومي» الكبير، فلا بد من حد للزعامات التقليدية، ولا بد من زحف الشباب الصاعد على مواقع القيادة، ونظر نحونا في حركة «قرعة» لإشعال الحماس فينا وقال: أنتم مثلًا ليه ماتمسكوش مكان التابعي وأحمد الصاوي محمد ومحمود أبو الفتح؟ وعندما طلبنا منه رصد مبلغ من المال لحساب العدد التجريبي … رد على الفور: الفلوس مش مشكلة … وهيكون معاكم اللي انتو محتاجينه وأكثر بس هو فيه اجتماع صغير بيني وبين الباشا … وأنا مسافر بكرة إن شاء الله وهغيب أسبوع في البلد وفي الاجتماع ده هيتقرر مصير حاجات كتير قوي، وإن شاء الله هديكم إشارة الانطلاق بعد ما أرجع من السفر على طول. وسافر سعادة البيه لحضور الاجتماع التاريخي، وانحشرنا نحن في دكان في شارع الخليج المصري نعمل بكل طاقتنا في انتظار حضور البيه الذي سيعطينا إشارة الانطلاق، وصمم علي كامل ماكيت المجلة، وأشهد أنه كان نموذجًا فريدًا بالنسبة لصحافة تلك الأيام، وكتب العبد لله قصة اسمها عودة الأسير، ورسم طوغان عدة نكت سياسية واجتماعية، وقام علي كامل بترجمة موضوع شائق عن جزيرة بالي، وجلسنا ننتظر عودة المخلص من رحلته، أخيرًا تكرَّم سعادة البيه واتصل بنا تليفونيًّا في الدكان الذي هو في نفس الوقت مطبعة لصف الحروف باليد، وأبلغنا بنبأ عودته، وحدَّد لنا القطار الذي سيحمله بسلامة الله إلى عاصمة الوطن حيث المجلة التي ستحمله بإذن واحد أحد إلى ما فوق السحب، وحملنا ماكيت المجلة وذهبنا بربطة المعلم إلى محطة سكة حديد الجيزة وقطعنا ثلاث تذاكر ﺑ ٤,٥ قرش صاغ، ولم يبقَ معنا سوى قرش تعريفة من الشلن الذي كنا نملكه، وجاء القطار أخيرًا وقفزنا إلى ديوان الدرجة الأولى، واستقبلنا سعادة البيه بترحاب ممزوج بالدهشة والقلق، ويبدو أنه لم يكن يتوقع حضورنا إلى محطة السكة الحديد.
وقطعنا المسافة من الجيزة إلى القاهرة نعرض على سعادة البيه ماكيت المجلة، وراح البيه يتابع شرح علي كامل وهو يهز رأسه هزات متتابعة وإن كان وجهه ظل جامدًا لا يُعبر عما يجيش في أعماقه من ردود أفعال. وأثناء العرض والشرح جاء الكمساري وفتح باب الديوان. وعندما اكتشف أن الركاب الجدد على علاقة مع سعادة البيه انحنى في أدب واعتذر بشدة، ولكنني صحت في الكمساري: إحنا معانا تذاكر. وأبرزت له التذاكر، ولكن الكمساري ابتسم في ود وقال في همس: أيوه بس تذاكر درجة ثالثة وانتو قاعدين في الأولى! ودس البيه يده في جيبه على الفور وأخرج المحفظة، ولكن الكمساري هتف بصوت عالٍ: مش المعنى يا سعادة البيه … وهو أنا حاخد فلوس برضه؟! دا لو القطر كله لحساب سعادتك مفيش مانع. ثم أغلق باب الديوان ومضى، وعاد علي كامل إلى شرح الخطوط العريضة للمجلة، وبعد أن انتهى كان القطار قد وصل بنا إلى منطقة إمبابة، وهنا سأل طوغان: سعادة البيه، هانسميها إيه يا سعادة البيه؟ وأجاب البيه على الفور وكأنه كان مستعدًّا للسؤال: الرقيب! ثم راح يعدد حسنات الاسم الذي اختاره، فالمجلة رقيب على الحكومة ورقيب على الأفراد ورقيب على المال العام، ورقيب أيضًا على أنفسنا. فلا نقول إلا الصدق، ولا نكشف إلا الزور والبهتان.
واضطُر البيه إلى قطع كلامه عندما دخل القطار إلى محطة مصر، وغادر البيه القطار وغادرنا معه، وخرجنا من المحطة لنجد سيارة بويك ضخمة في انتظار البيه، ومد يده مصافحًا، وحدَّد لنا موعدًا للاجتماع في منزله بكوبري القبة، ثم اختفى داخل العربة ومضت به في سلام.
نحن الآن في محطة مصر، وبيننا وبين الجيزة حوالي عشرة كيلومترات، وليس في جيوبنا إلا قرش تعريفة لا يكفي لكي يسقينا شربة ماء، ورحنا نزحف على الطريق مخترقين شارع إبراهيم باشا إلى ميدان الأوبرا إلى حي عابدين، ومن عابدين إلى شارع نوبار إلى السيدة زينب، وودعنا علي كامل وذهب إلى منزله، واخترقنا — طوغان وأنا — شارع السد إلى فم الخليج إلى دير النحاس إلى كوبري عباس إلى الجيزة … واستغرقت رحلتنا إلى الجيزة ثلاث ساعات كاملة، ومن السيدة زينب إلى كوبري عباس لم ينقطع طوغان عن رسم صورة وردية للمستقبل، المجلة دي هتنجح يابني وكل واحد فينا يجيب عربية، وهاطلع الكتاب اللي بحلم بيه، كتاب كاريكاتير يعمل هزة في مصر، هاطبع ٣٠ ألف نسخة … النسخة بجنيه، أبيع ٢٥ ألف نسخة والباقي أحتفظ به. «طوغان لم يصدر هذا الكتاب إلا بعد هذا التاريخ ﺑ ١٥ سنة.» المهم أننا عشنا في أحلام كثيرة حتى جاء موعد الاجتماع، ووصلنا بيت سعادة البيه قبل الموعد بنصف ساعة؛ ولذلك رحنا نلف وندور حول البيت حتى جاء الموعد فوقفنا عند الباب وضغطنا على الزر، وفتح لنا شخص نوبي متين البنيان كأنه محمد علي كلاي في زمانه، وقادنا النوبي إلى حجرة واسعة تتدلى من سقفها نجفة كبيرة في حجم كنبة بلدي عمولة، وجلسنا ننتظر أكثر من نصف ساعة حتى حضر إلينا سعادة البيه يرتدي بيجامة معتبرة وشبشب لو رأته خالتي بهانة لطبخته على شوية ملوخية، وفوق البيجاما روب من الحرير الطبيعي ٥٥٠ كانيبو. «طبعا اكتشفنا هذه الأسماء والماركات بعد سنوات طويلة.» وجلس البيه يعبث بحبات مسبحة من اليسر الطبيعي المطعَّمة بالفضة، وبعد أن شرح علي كامل خطته في العدد الأول بحيث يكون أشبه بقنبلة تنفجر في المجال الصحفي، قال البيه وهو يهز ساقه اليمنى الموضوعة على ساقه اليسرى: على العموم الكلام ده سابق لأوانه دلوقت … لأن فيه قدامنا شوية عقبات لازم نشيلها الأول، وطلب منا أن نكون على اتصال دائم به، وأن نحتفظ بحماسنا حتى يحين الوقت المناسب.
وخرجنا من بيت البيه في الواحدة والنصف ظهرًا، وقطعنا نفس الرحلة من جديد، ولكنها كانت أطول هذه المرة، واقترحت أن نواجه البيه بالمصروفات التي أنفقناها على المشروع … علي كامل الذي وضع الماكيت أنفق خمسة جنيهات ورقًا وصورًا وصمغًا لزوم اللزق، ومقصًّا لزوم القطع، ومجلات أجنبية لزوم الاطلاع على أحدث صيحة في عالم الماكيتات. أما طوغان والعبد لله فقد أنفقنا ما لا يقل عن جنيه في المواصلات، وجنيه سجاير لزوم عدل الدماغ، وجنيه قهوة لزوم تهدئة الأعصاب، هذا غير الدوخة التي دخناها خلال الشهر الأخير … واقترح العبد لله إرسال خطاب إلى سعادة البيه نطالبه بهرش جيبه، فالأحذية من كثرة المشاوير حدثت ثقوب في نعالها، والقمصان من كثرة الغسيل والكي حدثت خدوش في ياقاتها … وقلت لهم … اللي ينكسف من بنت عمه مايجيبش منها عيال.
ورحنا نتصل بالبيه كل يوم صباح مساء … وحكمة الله أن البيه في الصبح نايم وفي المساء خارج البيت، وترددنا على مقهى يوديجا بشارع عماد الدين حيث كان البيه يقيم أغلب وقته ولكننا لم نعثر له على أثر، حتى ماكيت المجلة اختفى مع البيه؛ فقد حرص في آخر لقاء على الاحتفاظ به لدراسته دراسةً مستفيضة … على حد تعبير سعادة البيه … واقترح طوغان أن نعسكر أمام البيت حتى يخرج فنكبس عليه ونحرجه ونلقنه درسًا في احترام الناس واحترام مواعيدهم.
اقتراحات كثيرة ولكننا لم ننفذ منها شيئًا … واكتفينا بطلبه في التليفون، ولكننا أبدًا لم نعثر عليه، وحكمت الأقدار على مجلة الرقيب أن تبقى في الظل، وضاع شقانا على مفيش.
ولكن ما هو السبب في سعي البيه لإصدار مجلة؟ وما هو السبب في عدوله عن إصدارها؟ هل كان يعبث بنا؟ هل هي حركة تهويش قصد بها تهديد بعض الجهات؟ لا بد من حل هذا اللغز الذي غمض علينا … ولماذا اختارنا نحن الثلاثة للقيام بالدور الرئيسي في هذه اللعبة التي ليس لها معنًى؟ المهم أن حيرتنا لم تستمر، والسر الذي فشلنا في حله ذاع وانتشر؛ فقد قرأنا في جريدة وفدية نبأ رحلة مسئول وفدي كبير إلى إقليم سعادة الباشا وشقيقه سعادة البيه، وبعد أن خطب المسئول الكبير في اجتماع جماهيري حافل تناول طعام العشاء على مائدة سعادة الباشا، ثم عقد اجتماعًا مع الباشا وشقيقه البيه وانتهت مساعي المسئول بالنجاح، وصفت النفوس وعادت العلاقات بين الشقيقين إلى ما كانت عليه … إذن … تم الصلح بين الباشا والبيه وعادت المياه إلى مجاريها، أما نحن … فإيش دخلك بين الملوك يا صعلوك؟!
الغريب أننا لم نصادف سعادة البيه بعد ذلك في أي مكان، ومرَّت الأيام والشهور والسنون، ثم رأيت البيه في احتفال كبير أقامته هيئة التحرير بعد قيام الثورة، وأسرع بالانضمام إلى هيئة التحرير، وصار مندوبها في إقليمه، ووافق على مشروع قانون الإصلاح الزراعي مع أنه كان يمتلك مع شقيقه ۱۰۰ فدان من أجود الأطيان، وعندما صافحته في الحفل ظهر على وجهه أنه لا يتذكر شيئًا على الإطلاق … وسألني باهتمام: أنت معانا في الهيئة والا لا؟ فلما أجبته بالنفي قال: ليه؟ دا احنا عندنا مشاريع كتير قوي … سنصدر مجلة لازم تشاركنا … ثم سألني عن طوغان وعلي كامل، وقال قبل أن نفترق: أنا بتابع نجاحكم … وسعيد قوي.
وكانت هذه المقابلة هي الأولى بعد مشروع الرقيب، أما المقابلة الأخيرة فكانت في المحكمة، وسعادة البيه في قفص الاتهام، والعبد لله في مقاعد الصحفيين، والتهمة الموجَّهة لسعادة البيه أنه أتى أفعالًا من شأنها الحض على مقاومة النظام ومحاولة الإطاحة به لصالح الرجعية العميلة والقوى الأجنبية المتآمرة، وحكموا عليه بالمؤبد، ولكنهم أطلقوا سراحه بعد عدة أشهر، ولم يحتمل سعادة البيه فمات بعد شهور، ومات شقيقه الباشا بعد ذلك بسنوات … دنيا!