مساء العندليب
كسَرَتنا عملية الرقيب فتفرَّقنا، انشغل علي كامل في وظيفته الحكومية، وتفرَّغ طوغان للرسم، وراح يوزع رسومه على عدة مطبوعات، والعبد لله عمل بمجلة يملكها أحد بشوات زمان، وكان الوفد قد جاء إلى الحكم في انتخابات جرت وفاز بالأغلبية الساحقة بالرغم من دسائس القصر وحملات الصحف الموالية للقصر ضده … وفجأةً — والعبد لله يعمل في قسم التحقيقات الصحفية — أعلن الزعيم النحاس وهو في مرحلة الشيخوخة إلغاءَ معاهدة ٣٦، ودعا الشعب المصري إلى الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي في منطقة القناة.
واشتعلت الحرب بالفعل، وهاجم المصريون معسكرات الجيش البريطاني، وأطلقوا النار على أفراده، وهجر الألوف من العمال المصريين أعمالهم داخل المعسكرات. وفقد الإنجليز أعصابهم فقطعوا الطريق الصحراوي على المسافرين من المصريين، وخطفوا بعضهم وأبقوهم داخل المعسكرات كرهائن، وتحولت منطقة القناة إلى ساحة حرب. وأوفدتني الجريدة إلى السويس لأكون مراسلًا لها في ميدان المعركة. وسافرت إلى السويس ذات مساء من أكتوبر عام ١٩٥١م. ووصلنا السويس والفجر على الأبواب بعد رحلة شاقَّة استغرقت ٦ ساعات.
كان قد سبقني إلى هناك العم حامد عبد العزيز مندوب الأهرام، فنزلت في الفندق الذي كان ينزل فيه، ثم وصل إلى السويس الزميل مصطفى البرادعي مراسل المصري، فقررنا أن نستأجر شقة في السويس للإقامة، واخترنا فندق بلير كمركز قيادة لكل المراسلين الذين حضروا من القاهرة.
وذات صباح والعبد لله جالس وحده في فندق بلير، تقدم مني مواطن يرتدي جلبابًا بلديًّا ويلفُّ جسمه بعباءة صوف إمبريال سوداء، ويضرب على رأسه عمامة بلدي، شال على طاقية شبيكة، ويخفي العمامة بتلفيحة صوف، ويعلق على كتفه بندقية لي أنفيلد. وبعد أن ألقى السلام على العبد لله سألني بغباء: أنت السعداوي بتاع الجرانين؟ فلما أجبت بالإيجاب قال: قوم معايا من غير مؤاخذة. سألته: إلى أين؟ لم يجب ولم ينتظر إذنًا بالجلوس، فجلس على مقعد أمامي وقال: أنا حمودة وحش الجبال من غير مؤاخذة، وأنا قائد كتيبة وحوش الجبال … سمعت عنها والا لأ؟
كنت قد قرأت اسم كتيبة وحوش الجبال في الجرائد، ولذلك هززت له رأسي بالإيجاب. عندئذٍ واصل حديثه مع العبد لله … أنا معايا عيال تأكل اللحمة نية من غير مؤاخذة مشيبين الإنجليز في الكنوبة (جمع كامب) بس عاوزين واحد بتاع جرانين ينصفهم. سألته: ينصفهم ازاي؟ أجاب: يكتب عن البطولات بتاعتهم … إحنا فينا أبطال كثير. نطق العبارة الأخيرة ثم نهض واقفًا وأشار للعبد لله بأن أتبعه. ووجدتها فرصة لكي أتعرف على كتيبة الأبطال التي تحارب الإنجليز في الكنوبة، فنهضت وأسرعت خلفه. وطوال الطريق في شارع النمسا، كان الرجال الجالسون على الأرصفة أمام الدكاكين ينهضون عند مرور حمودة ويدعونه لشرب الشاي، وكان هو يكتفي برفع يده بالتحية على طريقة القادة والزعماء.
وصلنا أخيرًا إلى عش النسر، خرابة فسيحة محاطة بسور يكشف ما وراءه، وباب واسع خشبُه متآكل، وعلى الباب يافطة عليها رسم ساذج رسمه مبيض محارة، والرسم عن شخص يرتدي ملابس كتلك التي يرتديها حمودة وهو يطعن بالسونكي أحد عساكر الإنجليز في عينه، ومع أن الطعنة في العين إلا أن الدماء كانت تسيل من بطن العسكري، وإلى جانب الرسم جملة مكتوبة بالزيت الأسود «كتيبة» وحوش الجبال لصاحبها المعلم «حمودة». هل هذه كتيبة أم دكان؟
المهم أننا دخلنا الخرابة من البوابة، ووقعت عيني على عدة حجرات مبنية بالطوب اللبن، ولم يكن في الخرابة شيء آخر. وفجأةً انشقَّت الأرض عن رجل عجوز يحجل نحونا، وعندما اقترب من حمودة وقف وقفة زنهار كعساكر الجيش، ثم ضرب تعظيم سلام للمعلم حمودة، ثم أمره حمودة بالكراسي وعدة الشاي. وجلسنا على مقعدين متقابلين، وعلى مقربة منا كان الشاي يغلي على النار، بينما الرجل العجوز منهمك في إعداد الجوزة، وأخرج منها قطعة حشيش راح يرصُّ منها على الجوزة. وبعد أن شفط أنفاسًا متلاحقة مد يده بالجوزة للعبد لله وقال: مساء العندليب. ثم استأنف حديثه قائلًا: تعميرة إكسرا من غير مؤاخذة، كانوا الأول — ولاد الهرمة — يبيعوها لنا بعشرين جنيه الوقية، دلوقت بناخدها بخمسة جنيه … حرامية ولاد كلب! وفات على العبد لله سؤال حمودة عن السبب في رخص الصنف هذه الأيام!
ودارت علينا الجوزة المغمسة حتى شعرت بالصهد في نافوخي، عندئذٍ نحى المعلم حمودة الجوزة جانبًا، وهبَّ واقفًا وصاح بصوت غليظ: اجمع.
وعلى الفور خرج من العشش المتناثرة على جانب الخرابة عدد من الشبان، جميعهم في صحة جيدة، يرتدون فانلات زرقاء مثل تلك التي يرتديها عساكر المطاف، فانلات برقبة طويلة وأكمام طويلة وكلها من الصوف الثقيل، وبنطلونات صفراء، أغلب الظن أنها مسروقة من معسكرات الجيش الإنجليزي.
واصطف الجميع في طابور طويل، ثم عملوا صفا وانتباه، ثم ضربوا تعظيم سلام للمعلم حمودة وردَّ لهم التحية بأحسن منها، ثم قال لهم والمدفع على كتفه بعد أن أشار بإصبعه على العبد لله وقال: الأفندي بتاع جرانين. ثم ضحك ضحكة قصيرة وقال: مش بياع جرانين، بيكتب فيها وهيكتب عن الكتيبة وبطولاتها وهيسمَّع صوتنا للعالم كله … عشان كده عاوزين نظهر قدامه بمظهر حلو … مفهوم؟ ورد الجميع في صوت واحد: مفهوم يا ريس! واستأنف حمودة حديثه لأفراد جيشه: دلوقت عاوزين نتغدى، وبعد الغدا هنعمل عرض عسكري بالسلاح والذخيرة. ثم قال في لهجة آمرة: انصراف.
وحدثت فركشة في الطابور؛ بعضهم اقترب منا، والبعض الآخر عاد إلى العشش، وقلة قليلة راحت تتجول في الخرابة الواسعة. ثم جلس حمودة على مقربة مني، ودسَّ يده في جيبه وأخرج حفنة من عملات النقد من فئة العشرة قروش والخمسة قروش: وراح ينادي: يا عيسوي … روح هاتلنا سمك حفار واشويه … وخد معاك المدفع … يا رمضان، روح هاتلنا طرشي وفجل ولمون … وخد معاك مدفع … يا فتحي … روح هاتلنا عيش مفقع حلو … وخد معاك مدفع … يا سليمان … روح هاتلنا شاي وسكر … وخد معاك مدفع … وتناول كلٌّ منهم القروش القليلة التي أعطاها له المعلم حمودة وحمل مدفعه على كتفه وانصرف في اتجاه السوق. وقلت للمعلم حمودة: هوه السوق جنب معسكرات الإنجليز؟ وردَّ المعلم حمودة في هدوء: لأ … المعسكرات فين والسوق فين … السوق جنبنا هنا … عدت أسأله من جديد: أمال هياخدوا المدافع ليه؟ رد حمودة في صوت خفيض: أصل دي عالم تخاف ما تختشيش.
كانت الأصناف والكميات التي عاد بها عساكر المعلم حمودة من السوق تثبت نظرية حمودة في الناس التي تخاف ما تختشيش … فلم تكن الكميات التي أحضروها تناسب الفلوس التي أخذوها من حمودة … المهم أن الجميع انشغلوا في إعداد المائدة وإحضار الماء المثلج. ونزل الجميع على المائدة كالمجانين. وبعد أن انتهى الجميع من الغداء، جلسنا نشرب الشاي … شاي أسود محلًّى بكميات هائلة من السكر … وبعد أن انتهينا من الشاي صرخ حمودة في جيشه … اجمع بالسلاح! كان العبد لله قد شعر برغبة شديدة في النوم، فقلت للمعلم حمودة: بلاش الاستعراض النهارده … خليه بكرة أحسن … سألني حمودة: ليه؟ أجبته: أنا عاوز أروح اللوكاندة أنام. رد على العبد لله قائلًا في استنكار: نوم إيه وبتاع إيه … هو دا وقت نوم؟! نهضت من مقعدي على الفور وقلت للمعلم حمودة: أنا مش هحارب الإنجليز … أنا هكتب بس.
عندما رأى المعلم حمودة إصراري على مغادرة المكان، أمر جنوده بالانصراف، ونهض حاملًا مدفعه على كتفه وراح يحجل ورائي حتى تقدمني بخطوات، وقطعنا الطريق إلى الفندق في صمتٍ أول الأمر، ثم قطعه حمودة قائلًا: من غير مؤاخذة هتكتبت عنا إمتى؟ قلت له: بس لما أشوف حاجة الأول يا معلم حمودة. قال وهو ينظر نحوي بعيون كعيون السمكة: ما انت شفت. قلت له: لا أنا قصدي لما أشوف شغل … أشوف حرب ضد الإنجليز. هتف واثقًا من نفسه: دا انت يا ما هتشوف … بس لما القمر يغطس. وعندما بدا على وجهي عدم الفهم، استأنف حديثه قائلًا: أنا تشوفني هنا لما القمر يكون بدر … لما القمر يغطس تلقاني في الجبل، واللي خلق الخلق محسوبك اللي انت شايفه قدامك لازم يشعللها حريقة بإذن الله. ثم فجأةً نفخ نفخة حارَّة وطويلة وهتف: بس آه يا ناري!
سألته عما يعنيه قال: الحكومة بتاعتنا دي … أنا يا أستاذ اللي زيي بياخد الشيء الفلاني في الجيش … أنا قائد فرقة مش حاجة هينة … تعرف تقوللي الحكومة بتساعدني بإيه؟ حتى السلاح اللي معانا أنا اللي بشتريه … والأكل اللي كلناه أنا اللي دافع حقه قدامك … مش أصول الحكومة تقول تعالَ يا حمودة، أنت تحارب ومالكش دعوة، فلوس إحنا حاضرين، أكل إحنا حاضرين، لبس إحنا حاضرين. ثم ضرب جبهته بكف يده وقال: بذمتك يا أستاذ يخلصك أمشي على رجلي بالشكل دا. طب يدونا حتة عربية أستعملها وعربية أتوبيس للعيال «الفداويين» … والا خسارة فينا؟
ما تكتب يا أستاذ ع الحاجات الوحشة دي!
قلت للمعلم حمودة: أنت راجل فدائي، والفدائي ده بيشتغل الله. نظر نحوي نظرةً تحمل كثيرًا من المعاني وقال: أنت هتعمل زي الأفندية اللي لابسين نظارات، أنت راجل ابن بلد زينا وبتفهم، فداوي إيه اللي بيشتغل ببلاش؟ ثم أنا طالب إيه؟ أنا طالب سلاح وعربية وشوية فلوس يسندوا ظهري ضد الإنجليز، ينشروا صورتنا واحنا ماشيين دلوقت ويقولوا أهو دا القائد بتاع وحوش الجبال … وماشي على رجله. يخلصك يا أستاذ؟ وعدت حمودة خيرًا، وتخلصت من صحبته بصعوبة، ودخلت غرفتي في اللوكاندة ونِمت نومًا عميقًا، واستيقظت على صوت طلقات رصاص راحت تمزق السكون والفضاء بين الحين والحين. ارتديت ملابسي وأسرعت بالنزول إلى الشارع. ولكن الرصاص كان قد توقف وساد الهدوء من جديد، ثم علمت بعد ذلك أن معركة قصيرة نشبت بين عساكر الشرطة وعساكر الاحتلال، وأن جنديًّا واحدًا من الشرطة استُشهد عند مدخل السويس، وفي اليوم التالي فوجئت وأنا على مائدة الإفطار في فندق بلير بالمعلم حمودة والمدفع على كتفه. ودعوته لتناول الإفطار فجلس، ثم سألته عما يقصده. وردَّ في غيظٍ خيبة تقيلة: قوى عربية إنجليزي فيها ٤ عساكر إنجليز عاوزين يعدوا فوق الهويس، راحوا ضاربين العسكري بالنار، مات، وراحوا ماشيين، دا اسمه كلام؟ الذخيرة اللي طقطقوها في الهوا مش احنا أولى بيها، لو كانوا بعتولي عربية ساعة ما قتلوا العسكري كنت خدت الرجالة بتوعنا وطلعت جري على هناك، تصدق بالله، ما يكفيني عشر عساكر إنجليز في العسكري بتاعنا، أنا عاوز تكتب كده، لازم نكتب كده، أنا هاشتري الجورنال بكرة، وعاوز تقول كده.
وفي اليوم التالي عاتبنى المعلم حمودة لأنه اشترى الجورنال ولم يجد فيه الكلام الذي أملاه، وثار ثورة عارمة عندما أفهمته بالعربي الفصيح أنني لن أكتب شيئًا إلا عن العمليات التي تقوم بها الكتيبة ضد معسكرات الجيش الإنجليزي. وصرخت في وجه حمودة قائلًا: يا حمودة اطلع روح عند المعسكرات واضرب العساكر الإنجليز وأنا هاكتب اسمك مانشيت في الصفحة الأولى. رد حمودة ببرود: إيوه يا حدق، أنا أروح أحارب الإنجليز وأموت وانت تكتب وتسترزق، فاكرني خشني أنا، إيه رأيك بقى أنا مش طالع الجبل ومش هاموت إنجليز، روح هاتلي أجدع إنجليزي هنا وأنا أدبحه قدامك! قلت لحمودة ونظراتي إليه تحمل كثيرًا من المعاني: أنا اللي هاروح أجيبلك أجدع إنجليزي عشان تدبحه هنا؟ طب ما تشتغل انت صحفي وأنا أبقى فدائي، أنت بتقول كلام فارغ يا حمودة، سلام عليكو. وعبثًا حاول حمودة أن يحول بيني وبين الانصراف، فقد ذهبت مسرعًا وغاضبًا. ولعل ذلك هو الذي دفعه للحضور إلى حجرتي في الفندق في الصباح الباكر. جاء لكي يودعني قبل أن يزحف برجاله نحو الجبل!