الرجل الحصان
قبل قيام ثورة يوليو، وفي عام ١٩٥٠م على وجه التحديد، عملت فترة من الوقت في مجلة «الستار» التي كان يصدرها الأستاذ شفيق مرشاق، وكان يرأس تحريرَها الأستاذ الكبير مأمون الشناوي، والكاتب الكبير المرحوم إبراهيم الورداني، أما هيئة التحرير فكانت مكونة من أربعة: فنان الكاريكاتير المرحوم رمزي، ويوسف فكري سكرتير تحرير للمطبعة، والكاتب الصحفي الذي فقدته مصر ومهنة الصحافة المرحوم صلاح حافظ والعبد لله.
وكان على العبد لله واجب تحرير عدة أبواب بالمجلة من بينها باب بعنوان «أغرب القضايا». وكان من عادتي أن أجلس على مكتبي في حضور رئيس التحرير مأمون الشناوي وأقوم بتأليف عدد من القضايا الغريبة التي تشد انتباه القارئ وتثير خياله، ولكنها في النهاية مجرد قصص ليس لها أصل في الواقع. وأستطيع أن أقول إن كل ما كتبته في الباب المذكور يصلح لتحويله إلى مسلسلات للتليفزيونات العربية، حيث إنها كانت تحتوي على ألوان التشويق من كر إلى فر إلى قتل بالجملة إلى رقص شرقي وهز بطن.
وذات يوم سرح خيالي إلى بعيد، كتبت تفاصيل قضية خيالية عن نزاع بين عائلتين من أكبر عائلات الصعيد وبينهما ثأر تمتد جذوره في بطن التاريخ إلى زمن طويل. ولكن الأمور تطورت بين العائلتين، عندما أحب فتًى من العائلة الأولى فتاة من العائلة الثانية، وعندما اكتشفت العائلتان هذه العلاقة الغرامية وقعت الواقعة وانطلق الرصاص وسال الدم أنهارًا وتطورت الأمور إلى أسوأ، فزحفت ميليشيات إحدى العائلتين على قرى العائلة الأخرى واحتلت أرضها وأسَرت عددًا من أفرادها، وحلَّق خيالي بعيدًا فقلت إن هناك وسيطًا من عائلة ثالثة يقوم بالمفاوضات بين العائلتين على طريقة برنادوت كوسيط بين العرب واليهود! وأطلعت مأمون الشناوي على السطور بسرعة، ثم قال بعصبية: أنت كاتب لي قصة روميو وجولييت؟!
فأجبته باسمًا: إيوه بس روميو وجولييت صعايدة.
ولم يضحك مأمون الشناوي للنكتة وقال: يا أخي شوف واحد محامي صاحبك هات منه قضايا حقيقية أو اتصل بيه في التليفون. ووعدت مأمون الشناوي خيرًا، على أن يبدأ هذا النشاط في الأسبوع المقبل. في الأسبوع التالي اتصلت بأحد المحامين الأصدقاء فأملاني عدة سطور عن قضية غريبة، بطلها أحد المطربين ويُدعى فايد محمد فايد، كانت شهرته محدودة في مصر، ولكنه كان ذائع الصيت في دول الشمال الأفريقي.
وفي رحلة قام بها إلى تونس أخيرًا، أحيا خلالها عدة حفلات في العاصمة وفي سوسة وصفاقص، بعدها تشرَّف بمقابلة باي تونس الذي أهداه نيشانًا رفيعًا مرصَّعًا بالذهب والماس. وعندما عاد المطرب إلى القاهرة التقى برجل كان يمد الصحف الأسبوعية الصغيرة ببعض الأخبار من هنا، وهناك مقابل مكافآت مالية صغيرة، بالإضافة إلى عمل آخر كان يقوم به إلى جانب هذا العمل، وهو بيع العطور لركاب الدرجة الثالثة في قطارات وجه بحري، وكان طويلًا عريضًا متين البنيان يمسك بين أصابعه بعصًا من الكريز كان يتوكأ عليها أحيانًا ويخوض بها المعارك في بعض الأحيان.
وأجرى الرجل إياه حديثًا مع المطرب ووعده بنشره في عدة صحف. وعندما وقع بصره على النيشان المرصَّع بالذهب والماس، أقنع المطرب بضرورة نشر النيشان مع الحديث، لكي يقتنع القراء بجدية الإنعام السامي من باي تونس تقديرًا لفن المطرب الموهوب! وعندما سأل المطرب صاحبنا إياه عن الطريقة التي يمكن نشر النيشان بها في الصحف، أجابه بأن الطريقة الوحيدة هي عمل إكليشيه للنيشان في ورشة حفر زنكوغراف، واقتنع المطرب فسلم الرجل النيشان وعشرين جنيهًا كمقدم لتغطية مصاريف الزنكوغراف والنشر، ووعده بمبلغ آخر بعد نشر الحديث في الصحف!
ومرَّت شهور … ولم يظهر الحديث في الصحف، وفشلت كل محاولات المطرب للعثور على الرجل والنيشان، فسارَع إلى مكتب المحامي وتقدم ببلاغ إلى النيابة متهمًا الرجل بالنصب وسرقة الوسام، وأعجبت القضية مأمون الشناوي فأفسح لها مكانًا محترمًا بالمجلة، وكافأني على نشاطي الصحفي الكبير. وفي اليوم التالي لصدور المجلة كنت أجلس وحيدًا على مكتبي في الحجرة التي تضم صلاح حافظ ويوسف فكري أيضًا، عندما فوجئت برجل يقف أمامي طويل عريض المنكبين على رأي عادل إمام، وبيده عصًا منظرها يُجبر أي شخص على احترام الرجل الذي يمسك بها، وسألني الرجل بصوتٍ أجش يشبه صوت الأسد في السيرك: أنت محمود السعدني؟ وتلعثمت في البداية ثم تمالكت نفسي ونفيت بشدة أن أكون محمود السعدني، وعندما سألني من أكون، أجبته على الفور بأنني مدير التحرير، وضرب الرجل عصاه في الأرض بشدة وجلس على أقرب كرسي وأخرج من جيبه منديلًا من قماش الكاكي الذي يستعمله عساكر الجيش وعيناه تطلقان شرارًا، وقال: طيب ازاي يا أستاذ يا مدير تحرير تسمح بنشر كلام فارغ زي ده يسيء إلى صحفي زيك؟
ثم ضيَّق ما بين حاجبيه وقال للعبد لله: زيك ازاي؟ أنت بقالك كام سنة صحفي؟ ولما أجبته بأنني صحفي منذ ثلاث سنوات فقط نهض من فوق مقعده وراح يصرخ على طريقة شجيع المولد الذي يأكل النار والعو ويخلص نفسه بنفسه من القيود والأغلال.
– أنا كنت صحفي قبل أنت ما تتولد، وقبل رئيس التحرير بتاعك ما يتولد، أنا اشتغلت مع طه حسين في الوادي، واشتغلت مع توفيق دياب في الجهاد، واشتغلت مع عبد القادر باشا حمزة في البلاغ، واشتغلت مع الخواجة ماكريوس في اللطايف، وبعد ده كله تكتبوا إن أنا نصاب!
ورحت أطيب خاطر الرجل وطلبت له فنجان قهوة سادة حسب طلبه، ولكنه طلب زجاجة أسباتس قبل القهوة، وأعطيت النصف فرنك الذي كان في جيبي للفراش لإحضار زجاجة أسباتس «ساقعة» من الدكان المقابل للمجلة، والغريب أنه وضع الزجاجة في فمه ولم يُعدها إلا بعد أن أصبحت فارغة كفؤاد أم موسى، ثم تجشأ بصوت مسموع، ثم راح يرتشف من فنجان القهوة بمزاج وبشوق شديد، ثم قال بعد أن انتهى من رشف القهوة، ولم ينسَ أن يدق بالعصا على الأرض قبل أن يقول: ودلوقتي إيه العمل؟
وحاولت أن أبدو شجاعًا أمامه، في الوقت الذي كانت فيه كل فرائصي ترتعد.
– الحكاية دي بسيطة قوي وهنشوف لها حل، ثم مش دي المشكلة.
وقال الرجل الحصان وهو ينفخ من شدة الغيظ: أمال هي إيه المشكلة؟
– المشكلة يا سيدي إن خبرة طويلة زيك لازم تتعاون معانا.
أعجبه المدخل فاستند بذقنه على رأس العصا وقال: إزاي؟
قلت له وأنا أشرح له الصفقة: تزودنا بأخبار وطرائف وأحاديث وتبقى محرر في المجلة.
قال وقد اقترب أكثر من المكتب الذي كنت أجلس عليه: وبكام؟
قلت بدون تردد: بعشرة جنيه.
كان هذا هو مرتب العبد لله في ذلك الزمان، وكنت أعتقد أنني أغنى من عبود باشا، وأكثر ثراءً من عثمان حيدر أباد، ولكن الرجل الحصان انتفض فجأةً واقفًا رافعًا العصا إلى أعلى مما جعلني أرفع ذراعي فوق رأسي لأتلقى الضربة الأولى، وبالطبع الضربة العاشرة أيضًا! ولكن الرجل الحصان لم يضرب، ولكنه اكتفى بالكلام؛ قال صائحًا: أنا كنت باخد عشرة جنيه في الوادي مع طه حسين لما كانت العشرة جنيه تشتري بيت، كان أحسن فدان أرض في المنوفية بعشرين جنيه، يعني كنت أقدر أشتري فدان كل شهر، دلوقتي جاي تقول خد عشرة جنيه!
قلت له مستسلمًا: خليهم ١٥ و…
قاطعني قائلًا: خليهم ۲۰.
– مافيش مانع.
وأمسكت بورقة بيضاء أجريت القلم عليها وحررت عقدًا بين مدير التحرير سمير نيقولا والأستاذ حسن الشابوري المحرر الصحفي، مقابل مكافأة شاملة قدرها عشرون جنيهًا شهريًّا لقاء تقديم أخبار وأحاديث وطرائف لمجلة الستار. ووقَّعت على العقد ووقَّع وهو الآخر، وسلمت الصفحة للأستاذ الشابوري، على أن يحضر بها في الغد ليقدمها للإدارة لاعتمادها، حيث إن اليوم إجازة، وطوى الرجل الورقة ودسَّها في جيبه وانصرف يدق الأرض بعصاه.
في اليوم التالي وصل الأستاذ الشابوري فوجد صاحب المجلة في مكتبه، وأراد أن يقابله فمنعه السكرتير، فراح يصرخ كالمجنون فسمحوا له بالدخول، ولم يفهم الرجل صاحب الجريدة شيئًا مما رواه الأستاذ الشابوري وتصوَّر أنه مجنون، فأمهله حتى يأتي أحد رؤساء التحرير، فجلس الأستاذ الشابوري في مكتب السكرتير حتى حضر الأستاذ إبراهيم الورداني، وكان إبراهيم الورداني فنانًا رقيقًا ومسالمًا، فما إن استمع إلى القصة حتى استغرق في الضحك وقال للشابوري: إن الذي كتب معك العقد هو السعدني، وهو الذي نشر الخبر. وقام الرجل وثار وهدد بسحق رأس السعدني وأكبر رأس في المجلة إذا لزم الأمر، ومن حسن الحظ أن الورداني كان يعرف الرجل من قبل، وكان يلتقي به في مكاتب بعض الصحف وفي نادي الصحفيين قبل أن يتحول النادي إلى نقابة، وكان الورداني يعلم أن الرجل فرض نفسه على عدة صحف بالتهديد والتلويح باستخدام القوة، وأنه كان يختار الصحف التي يصدرها شوام ولبنانيون ويونانيون وطلاينة، وكان هؤلاء يُضطرون إلى إسكاته مقابل خمسة جنيهات، وتركه الورداني في مكتبه ودخل إلى شفيق مرشاق صاحب المجلة، وأقنعه باستخدام الرجل مقابل مكافأة قدرها ١٠ جنيهات شهرية، نظير سكوته وعدم رفع قضية على المجلة، ووافق صاحب المجلة وانتهى الإشكال؛ أقصد الإشكال مع المجلة وليس مع العبد لله.
المهم أن الأستاذ الشابوري أو الرجل الحصان، كان يحضر كل يوم إلى المجلة في العاشرة صباحًا، يشرب الشاي والقهوة على حساب من يوجد من المحررين ثم ينصرف في الثانية عشرة ظهرًا. وكان العبد لله يذهب إلى المجلة من الواحدة ظهرًا وحتى المغرب، وأول مرة رآني فيها مأمون الشناوي بعد هذه الحادثة صاح في وجهي: أنت ما تخرجش أبدًا من المجلة، وما ترحش للمحامين تتصل بيهم، اقعد على المكتب وفبرك قضايا وبس، كفاية المصيبة اللي انت جبتها لنا. المهم أنني واظبت على المواعيد التي حددتها بنفسي … أذهب إلى المجلة في الواحدة ظهرًا، وأغادر في السادسة مساءً، ولكن لأن الجرة ماتسلمش في كل مرة، فقد أخطأت في الحساب وذهبت إلى المجلة في الواحدة كالعادة، ودخلت إلى المكتبة فوجدت صلاح حافظ هناك، ورحت أمزح معه كالعادة، ولكن، لاحظت اضطرابًا على وجه صلاح حافظ، فنظرت خلفي فوجدت الرجل الحصان واقفًا كالفيل ورائي، وقبل أن يبدأ أي سلام أو كلام أطلقت ساقي للريح خارجًا من المجلة في سرعة الوعل ورشاقة الغزال، وانطلق هو الآخر خلفي، ولكن هيهات!
كانت المجلة تشغل شقة في عمارة بشارع دوبريه وسط القاهرة، وهو من الشوارع المزدحمة خصوصًا في فترة الظهيرة. قفزت من الرصيف إلى الرصيف المقابل كأنني رامبو متفاديًا عشرات السيارات التي كانت تمرق كالسهام على جانبَي الشارع. ولشدة غيظ الأستاذ الشابوري، ولرغبته الشديدة في الانتقام مني، تعقَّبني في وسط الشارع، ولكن لحسن الحظ لطشته سيارة فألقت به على الأرض وكسرت ساقه، ولكني ذهبت إليه في المستشفى في صحبة صلاح حافظ وأخذت له علبة شوكلاتة، وكانت ساقه في الجبس ومربوطة أعلى السرير، وصالحت عمنا الشابوري ومنحني عفوه ثم رضاه، ولم يخرج من المستشفى إلا بعد ثلاثة شهور، وكان يتوكأ على العصا التي كان يخيف بها الناس، وبعد خروجه من المستشفى بشهرين أغلقت مجلة الستار أبوابها، وانقطعت مكافآته منها، وانقطعت أخباره عني فلم تقع عيني عليه بعد ذلك في أي مكان!