متن الكتاب
سقراط
:
ينبغي لي أن أقول وأنا مقود بمنوَّع موضوعات التفكُّر: أني أعتقد بأننا
كُنَّا مُصيبين في الخطط التي رسمناها لتنظيم الدولة، ويزداد هذا الاقتناع فيَّ
حينما أفكر بقوانيننا الشعرية.
غ
:
وما هي طبيعتها؟
س
:
أن لا يُباح فرع الشعر التقليدي في حالٍ من الأحوال، وقد صارت مسألة خطر
الشعر خطرًا تامًّا أوضح من ذي قبل، بعد أن حدَّدنا أقسام النفس.
غ
:
أوضِح ما تعني.
س
:
أؤكد أنك لن تشكوني لناظمي المآسي وكل جمهور المقلدين، فلا أخشى أن أقول إن
الشعر التقليدي قاطبةً مُضر بأفهام سامعيه، ولا سيما الذين ليس لهم علاج شاف
مبني على معرفة طبيعة الشعر معرفة حقيقية.
غ
:
وما هو مضمون كلامك؟
س
:
يجب أن أُصرِّح بفكري رغمًا عن احترامي هوميروس، الذي أحسبه منذ حداثتي أمير
ناظمي المآسي والمراثي الأعظم. على أنه من الخطأ تضحية الحقيقة إكرامًا
للإنسان؛ لذلك يجب أن أقول قولي.
غ
:
قُل من كل بد.
س
:
فاسمعني، بل أجبني.
غ
:
سَل ما تريد.
س
:
هل تقدر أن تقول لي ما هو التقليد بوجه الإجمال؟ فإني حائر في فهم معناه
الحقيقي.
غ
:
أوَتتوقع مني أن أفهمه أنا؟!
س
:
لا غرابة في ذلك، فقد يرى حسير البصر ما لا يراه حاد البصر.
غ
:
هذا حق، ولكني لا أجرؤ على القول في حضرتك حتى ولو تجلَّى الأمر لي، فلاحظه
أنت لذاتك.
س
:
أفتريد أن نستأنف بحثنا بالأسلوب الذي اتَّبعناه في افتتاح كلامنا؟ فقد
والينا عادةً أن نفرض وجود صورة تشمل خصائص عديدة نطلق عليها اسمًا واحدًا،
أتفهمني أم لا؟
غ
:
أفهمك.
س
:
فلنتخذ إذًا ما يلائم مسرتك. مثلًا: توجد فرش وخوانات عديدة.
غ
:
مؤكَّد.
س
:
على أنه بين كل الصور المتعلقة على هذه الأشياء توجد اثنتان، الواحدة رسم
فراش، والأخرى رسم خوان.
غ
:
نعم.
س
:
أوَلم نعتد القول إن صانع كل من هذه الأشياء ينظر فيما هو يصنع، إلى رسم
الفرش والخوانات التي نستعملها أو غيرها من الأشياء؟ إذ لا صانع يصنع الرسم
نفسه؛ لأن ذلك مُحال.
غ
:
حقًّا إنه مُحال.
س
:
فانظر كيف نصف الصانع التالي.
غ
:
إلى من تُشير؟
س
:
أُشير إلى الصانع الذي يصنع كل الأشياء التي تدخل مملكة العمال.
غ
:
إنك تذكر صانعًا ماهرًا.
س
:
مهلًا فتكون لك أسباب كافية لهذا القول؛ لأنه علاوة على كونه يخلق جميع
الأحياء وهو في جملتهم وسائر الناس، فإنه عدا ذلك يصنع كل ما تنبت الأرض، وكل
الأجرام السموية، وكل الخلائق في العالمين والسماء والآلهة.
غ
:
ما أمهر الصانع الذي تصنعه!
س
:
إنك لا تصدقني. فقل لي: أتظن أن وجود صانع كهذا مستحيل قطعًا؟ أو إنك تعتقد
أن وجوده ممكن باعتبارٍ ما، وباعتبارٍ آخر غير ممكن؟ أو تجهل أنك أنت نفسك
تستطيع أن تصنع هذه الأشياء المتعددة بطريقةٍ خاصة؟
غ
:
وما هي تلك الطريقة؟
س
:
لا شيء من الصعوبة فيها، فإنها وسيلة كثيرة التنويع، وربما كانت أسرع طريقة
أن تأخذ مرآة وتُديرها إلى كل الجهات، فإنك في الحال تصنع الشمس، وكل ما في
السموات، والكواكب والأرض، وتصنع نفسك وغيرك من الناس والحيوانات والنباتات
والأواني وكل ما ذُكر الآن، بأوفر سرعة.
غ
:
نعم، إننا نستطيع أن نصنع ظاهرات كثيرة، ولكنها ليست أشياء موجودة
حقيقةً.
س
:
أصبت، وإن ملاحظتك في محلها. وفي رأيي أن الرسَّام هو من هذه الطبقة. أليس هو
منها؟
غ
:
مُحقَّقٌ أنه منها.
س
:
ولكني أظنك تقول إن ما يصنعه ليس بحقيقي. مع ذلك فالرسام أيضًا بطريقةٍ من
الطرق يصنع فراشًا. أتراني مُخطئًا بذلك؟
غ
:
أجل. إن الرسام يصنع فراشًا ظاهريًّا.
س
:
وما قولك في المنجد؟ أفلم تقل الساعة إنه لم يصنع «الصورة» التي تعين حسب
بحثنا حقيقة الفراش، إنما صنع فراشًا خاصًّا؟
غ
:
بلى، قد قلتُ هكذا.
س
:
فإذا لم يصنع ما يوجه حقيقة أفلا نقول له إنه لم يصنع شيئًا حقيقيًّا؟ بل صنع
ما يُشبه الحقيقي ولكنه غير حقيقي؟ وإذا وصف أحد صنع صانع الفراش أو صنع غيره
من الصنَّاع بأنه حقيقي تام، كان بيانه في الأمر على الأرجح غير حقيقي، أليس
كذلك؟
غ
:
بلى، حسب رأي أرباب الخبرة في هذا البحث.
س
:
فلا نُدهشنَّ إذا وجدنا أن أشياء محسوسة كالفراش ليست إلَّا ظلالًا بإزاء الحقيقة.١
غ
:
حق.
س
:
أفتريد أن نستخدم هذا الإيضاح في بحثنا في طبيعة المقلد الحقيقية؟
غ
:
إذا كنت تريد.
س
:
حسنًا، هنالك ثلاثة أنواع من الفراش، واحد منها يوجد في طبيعة الأشياء، وهذا
إذا لم أكن مُخطِئًا ننسبه إلى صنع الله. وإلا فإلى من ننسبه؟
غ
:
لا نقدر أن ننسبه إلى غيره تعالى.
س
:
والثاني عمله المنجد.
غ
:
نعم.
س
:
والثالث هو صنع الرسام.
غ
:
ليكن كذلك.
س
:
فهنالك ثلاثة أنواع من الفرش، وثلاثة مسيطرين على صنعها: الرسام، والمنجد،
والله.
غ
:
نعم ثلاثة.
س
:
ولا يُعلم هل أن الله لم يُرد أن يصنع أكثر من فرش واحد، أو أن هنالك ضرورة
حالت دون صنعه أكثر من واحد في الكون؟ فهو على كلا الحالين، قد عمل تعالى
فراشًا واحدًا فقط، وهو الفراش الجوهري التام، ولكن اثنين أو أكثر من اثنين لم
يخلق الله ولن يخلق.
غ
:
وكيف ذلك؟
س
:
لأنه لو عمل الله اثنين فقط، فلا مندوحة عن ظهور فراش مفرد يدخل شكله في
الفراشين كلٌّ في دوره. «وهذا» يكون «الفراش» الجوهري التام، لا
الاثنان.
غ
:
إنك مُصيب.
س
:
فالله — وهو عالم بذلك — أراد على ما أظن أن يكون صانعًا حقيقيًّا للفراش
الحقيقي، لا صانعًا غير محدود لفراش غير محدود؛ لذلك خلق فراشًا
مُفردًا.
غ
:
هكذا يظهر.
س
:
أفتستحسن أن ندعوه مثلًا: خالق هذا الشيء؟
غ
:
نعم، إنما هو حقٌّ أن نفعل هكذا. حيث إنك ترى لعمل الخلق صنع هذا وكل شيء
آخر.
س
:
وماذا نقول في أمر المنجد؟ ألا نصفه كمستنبط الفراش؟
غ
:
بلى.
س
:
أفنتقدم إلى القول إن الرسام هو أيضًا مستنبط وصانع الأداة نفسها؟
غ
:
مؤكد لا.
س
:
فما هو في حسبانك بالنسبة إلى الفراش؟
غ
:
في رأيي أننا ندعوه مُقلِّدًا للشيء الذي صنعه الاثنان السابق ذكرهما.
س
:
حسنًا، أفتدعوه مقلدًا؛ لأنه صنع ما نقل عن أصله مرتين؟
غ
:
نعم، تمامًا هكذا.
س
:
ولمَّا كان ناظم المأساة مقلدًا، أمكننا أن نتكهَّن كذلك أنه مع كل المقلدين،
الثالث في انحداره من الملك ومن الحقيقة.
غ
:
هكذا يظهر.
س
:
فنحن إذًا متفقون في طبيعة المقلد، فأجب عن مسألة واحدة في الرسام: هل تظن
أنه يجرب أن يقلد الشيء الأصلي المخلوق؟ أو صنع الصانع؟
غ
:
يقلد الأخير.
س
:
أوَ يقلدها على ما هي في ذاتها؟ أو كما تظهر؟ حدِّد ذلك بالضبط.
غ
:
ماذا تعني؟
س
:
أعني هذا: أتختلف ذاتية الفرش سواء رئي من جانبه، أو من مقدمه، أو من جهةٍ
أخرى؟ أم يبقى على ما هو ولو اختلف ظاهرًا؟ وعلى هذا القياس بقية
الأشياء؟
غ
:
الأخير هو البيان الحقيقي، يختلف باختلاف النظر إليه، وهو لا يتغيَّر.
س
:
فهذه هي النقطة التي أود اعتبارها: إلى أي الأمرين يرمي الرسم؟ أإلى تقليد
الطبيعة الحقيقية للأشياء الحقيقية؟ أم الطبيعة الظاهرة للظاهرات؟ وبعبارةٍ
أخرى: أتقليد الخيال هو؟ أم تقليد الحقيقة؟
غ
:
تقليد الأول.
س
:
ففن التقليد في رأيي قد طلَّق الحقيقة بتاتًا، وظاهر أنه يؤثر كثيرًا؛ لأنه
يتناول قسمًا صغيرًا من امتداد الموضوع، وذلك القسم غير مهم، مثلًا: نقول إن
الرسام يرسم لنا إسكافًا، أو نجَّارًا، أو أي صانع آخر، دون أن يعرف شيئًا عن
صفتهم. ومع ذلك الجهل فلنفرض أنه رسَّام ماهر، فإذا رسم نجارًا وعرض رسمه عن
بعد، فإنه يخدع الأولاد والسُّذَّج، فيتوهَّمون أنهم يرون نجَّارًا
حقيقيًّا.
غ
:
لا شك في ذلك.
س
:
وليكن ذلك كيفما يكون، فإني أخبرك يا صديقي كيف يجب أن نشعر في كل الأحوال من
هذا القبيل، فحين يخبرنا أحد أنه التقى برجلٍ بارع في كل صنعة، وقد جمع في شخصه
كل المعارف التي يمتلكها آحاد الناس، إلى درجة لا يفوقه فيها رجلٌ آخر، فيجب أن
نُجيب مُخبرنا أنه إنسانٌ ساذج، وأنه ولا بد قد التقى بمشعوذٍ مُقَلِّد خدعه،
فصار يعتقد فيه العلم بكل شيء؛ لأنه لا يقدر أن يميز بين العلم والجهل
والتقليد.
غ
:
مُحقَّق أعظم تحقيق.
س
:
أفلا يجب أن نتقدم إلى النظر في المأساة وزعيمها هوميروس؟ لأننا سمعنا عن
الناس أن الشعراء الروائيِّين يعرفون كل شيء إنساني يتعلق بالفضيلة والرذيلة،
بل والأشياء الإلهية أيضًا، علاوة على معرفتهم كل الفنون؛ لأنهم يقولون: لكي
يُجيد الشاعر نظمه يجب عليه أن يُلِمَّ بموضوعه، وإلَّا كان عاجزًا في قرض
الشعر، فينبغي لنا أن نبحث لنرى: أمجرَّد مُقلدين كان الشعراء الذين التقوا
بهؤلاء الناس، الذين لدى وقوفهم على رواياتهم خُدعوا؛ لأنهم لمَّا رأوا تمثيلها
عجزوا عن أن يُدركوا أنها نسخة ثالثة عن الحقيقة، وأنها صُنعت بسهولة بأيدي
أُناس لا يعرفون الحقيقة؛ لأنها أشباح لا حقائق؟ أهذه هي الحالة مع القائلين؟
أم أنهم أصابوا المرمى في قولهم إن الشعراء المجيدين يعرفون حقيقة الموضوعات
التي يرى الجمهور أنهم أجادوها؟
غ
:
نعم، يجب أن نفحص الأمر من كل بد.
س
:
أفتظن أن الإنسان إذا استطاع أن يصنع الأصل وما نُسخ عنه، يقف نفسه على عمل
النُّسَخ باهتمام، ويجعل ذلك غرض حياته، بداعٍ أنه عالمٌ بأشرف الأغراض؟
غ
:
لا أظن.
س
:
بل لو أنه كان فاهمًا طبيعة الأشياء التي يقلدها لوجَّه نحو الأعمال الحقيقية
جهدًا أعظم جدًّا من جهده في تقليدها، ولسعى ليترك بعده آثارًا كثيرة جميلة؛
تخليدًا لذكره، مؤثرًا أن يكون ممدوحًا على أن يكون مادحًا.
غ
:
أوافقك؛ لأن المجد والنفع أكثر جدًّا في الحال الواحد منه في الآخر.
س
:
فلنضرب صفحًا عن إيضاح الأشياء العادية، ولا نسأل هوميروس أو غيره من
الشعراء، إذا كان أحد الشعراء الأقدمين أو المحدثين قد برع في الطب غير مُكتفٍ
بتقليد لهجة الأطبَّاء فقط، فنسألهم إيضاحًا: لماذا ليس لأحدهم شهرة أسكولابيوس
في شفاء الأمراض، ولم يُخلِّفوا مدرسة من الأطبَّاء كما خلَّف هو؟ ولا نسألهم
عن سائر الفنون، بل نحذفها من لائحة البحث. ولكنَّا نسألهم عن أعظم الأشياء
وأجملها، وهي التي حاول هوميروس أن يصفها: كالحروب، وتنظيم الحملات الحربية،
وإدارة المدن، وتهذيب الناس، فمن العدل أن نناقشه قائلين: يا عزيزي هوميروس، إن
كنتَ حقًّا في الدرجة الثانية من الحقيقة لا في الثالثة، باعتبار الفضيلة، وإذا
كنت صانع الحقيقة لا الخيال كما حدَّدنا المقلد، وإذا كنت قادرًا أن تجعل
الإنسان أفضل أو أردأ في الشئون الصحية والجمهورية، إذا كنت كذلك فأخبرنا: أيُّ
المدن مدينةٌ لك بحُسنِ نظامها، كما صارت لقدمونا بفضل ليكورغس، وكما صارت مدن
غيرها كبيرة وصغيرة أفضل ممَّا كانت بفضل غيره من الشارعين؟ فأيُّ المدن تنسب
إليك هذه الفوائد التي استخرجتها من مجموعة الشرائع الحسنة؟ فإن إيطاليا وصقلية
تُقِرَّان بفضل خارونداس، ونحن نقرُّ بفضل صولون، فأيَّة دولة تقرُّ بفضلك؟
أفيقدر أن يذكر دولة واحدة من هذا القبيل؟
غ
:
لا أظن. أقَلُّهُ أننا لم نسمع ذلك، حتى ولا من الشعراء الذين يفتخرون بأنهم
خُلفاؤه.
س
:
فهل ذكر التاريخ حربًا في عهد هوميروس انتهت نهاية سعيدة بقيادته أو
بمشورته؟
غ
:
كلَّا، ولا واحدة.
س
:
حسنًا، فهل قيل إنه استنبط طائفةً من الاختراعات الصحيحة، كطاليس المليطي،
وأناخرسيس السكيثي، تتعلَّق بالفنون المفيدة أو بأشياء عملية أخرى، تُثبت أنه
كان رجلًا حكيمًا في أعمال الحياة العملية؟
غ
:
لم يُروَ عنه شيء من هذا النوع.
س
:
حسنًا، فهل رُوي عن هوميروس — وإن لم يكن رجلًا عموميًّا — أنه قام في حياته
بتهذيب فئة خاصة من التلاميذ، كانوا يسرون بالاجتماع معه، وقد أورثوا الذراري
نسق حياة هوميريَّا، كما كان فيثاغورس محبوبًا حبًّا خارقًا كعشير وكرفيق، عدا
كون خلفائه الذين ما زالوا يُطلقون اسمه على نسق حياتهم، هم شخصيات بارزة في
الدنيا؟
غ
:
لا يا سقراط، لم يُروَ عنه شيء من هذا النوع. وإذا صحَّتِ الروايات عن
هوميروس فبالحقيقة أن تهذيب صديقه كريوفيلس كان أمرًا أكثر هزءًا من اسمه؛ لأنه
بلغنا أنه حتى كريوفيلس كان يجهل هوميروس٢ وهو في عصره.
س
:
لا شك في صحة الرواية. ولكن أتظن يا غلوكون أنه لو كان هوميروس قادرًا أن
يهذب الناس ويزيدهم فضلًا بمقدرته التقليدية، وبمعرفته الموضوعات المشار إليها،
أفكان يعجز عن جمع جمهورٍ من المعجبين به يلتفُّون حوله كما فعل بروتاغوراس
الأبديري، وبروديكس الخيوسي، وكثيرون غيرهما ممن استطاعوا كما رأينا أن يقنعوا
معاصريهم بالعلاقات الخاصة بهم، أنهم لم يتمكنوا من إدارة بيوتهم ومدينتهم لولا
أنهم «هم» ناظروا على تهذيبهم. وجريًا على الحكمة البادية في ذلك، ضُمنت لهؤلاء
الأساتذة محبة لا حدَّ لها، حتى حملهم رفقاؤهم على الأكتاف. أفيُعقل أنه لو كان
هوميروس وهسيودس قادرين أن يرقيا الناس في معارج الفضيلة، أن يسمح معاصروهما
لهما أن يجولا ينشدان أشعارهما؟ أفما كانوا يحرصون عليهما ولا حرصهم على الذهب!
ويحملونهما على الإقامة معهم؟ وإذا عجزوا عن إقناعهما أفما كانوا يتبعونهما في
كل مكانٍ كتلامذة ليحصلوا على التهذيب الكافي؟
غ
:
لا أشك في أنك مُصيب يا سقراط.
س
:
أفلا نستنتج ممَا تقدم: أن جميع الشعراء من هوميروس وصاعدًا مقلدون، نسخوا
صورًا خيالية في كل ما نظموا، ومن جملة تلك نظمهم في الفضيلة، فلم يلمسوا
الحقيقة؟ وكما قُلنا الساعة: ألا يرسم الرسام وهو لا يعرف شيئًا عن السكافة،
رسمًا يحمل الجهلاء أمثاله على الظن أنه إسكاف؛ لأنهم يحصرون نظرهم في الأشكال
والألوان؟
غ
:
مؤكد أنه يصنع ذلك.
س
:
فعلى الطريقة نفسها أرى الشاعر كالرسام، يضع طائفة من الألوان في شكل أفعال
وأسماء، ليمثل حِرَفًا لا يعرف منها إلا ما يُمَكِّنه من تقليدها، فإذا قرض
الشعر وزنًا وقافيةً واتِّساقًا، واصفًا به السكافة مثلًا أو القيادة أو أي
موضوعٍ كان، أُعجبَ الجاهلون أمثاله به لاعتمادهم في أحكامهم صورة البيان،
فتخلب ألبابهم التطبيقات الموسيقية المار ذكرها. والفتنة بهذه التطبيقات
الموسيقية فعَّالة جدًّا بطبيعتها، لأني أظن أنك تعرف المظهر الحقيقي الذي يظهر
به الشعر، إذا تجرَّد عن صبغته الموسيقية وكان عاريًا من كل ثوب. ولا شك في أنك
قد لاحظت ذلك.
غ
:
نعم لاحظته.
س
:
أفلا يذكِّر الإنسان حينذاك بالهيئة الذابلة الظاهرة في مُحيَّا من كانوا
فيما سبق ذوي رونق من غير أن يكونوا ذوي جمال، بعد ما فارقهم رونقهم؟
غ
:
حتمًا هكذا.
س
:
فدعني أسألك فحص النقطة التالية: إن صانع الرسم أو المقلد حسب رأينا، يدرك
الظاهر دون الحقيقة. أليس كذلك؟
غ
:
بلى.
س
:
فلا نترك الموضوع موضحًا بعض الإيضاح. بل علينا أن نفحصه فحصًا
وافيًا.
غ
:
تقدَّم.
س
:
يرسم الرسام حسب بياننا لجامًا وعنانًا، ألا يرسم؟
غ
:
بلى.
س
:
ولكن الزمام والعنان يصنعهما السروجي والحدَّاد. ألا يصنعانهما؟
غ
:
بالتأكيد.
س
:
أفيفهم الرسام كيف يجب أن يكون شكل العنان واللجام؟ أو أن صانعيهما أنفسهما —
السروجي والحداد — لا يفهمان أمرهما تمام الفهم كما يفهمه الفارس الذي يعرف كيف
يستعملهما؟
غ
:
إنه بيان حقيقي في هذا الموضوع.
س
:
أفلا يصدق هذا الحكم على شيء؟
غ
:
وماذا تعني؟
س
:
ألا يمكننا القول إن في كل شيء على حدة ثلاثة فنون خاصة؟ مجال الفن الأول:
استعماله، والفن الثاني: صنعه، والثالث: تقليده.
غ
:
بلى يمكننا.
س
:
أفليست فضيلة وجمال وكمال كل الأدوات المصنوعة، أو المخلوقات الحية، تُستعمل
طبقًا للغاية المقصودة من صنعها أو من تركيبها الطبيعي؟
غ
:
حقًّا هي كذلك.
س
:
ولذلك يكون من يستعمل شيئًا أعرف العارفين به، ويستطيع أن يُخبر صانعه بهذه
الواسطة هل أجاد صنعه أو أساء. مثلًا: إن النافخ في الناي يخبر صانعها عن
النايات التي يستعملها في فنه، ويرشده إلى كيف يصنعها، فيخضع لهذا الإرشاد في
صنعها.
غ
:
معلوم ذلك.
س
:
فللأول معرفة تامة بالناي الجيدة والرديَّة يعتمدها في طريقة صنعها، ويجود
على صانعها بإرشاده. أليس هذا هو الواقع؟
غ
:
بلى، هذا هو.
س
:
فصانع الآلة يستمد رأيه في حُسنها أو قُبحها ممن له دراية تامة في الموضوع،
وهو مُلزم بالإصغاء إلى إرشاده، وأمَّا من يستعملها فعنده العلم الصحيح في
الأمر.
غ
:
بالتمام هكذا.
س
:
فأيُّ الأمرين يمتلك المقلد؟ أيستطيع أن يعرف معرفة فنية ناشئة عن الاستعمال،
هل الأشياء التي يصنعها جيدة أو رديَّة أو لا؟ أم هل له رأي سديد ناتج عن
علاقته الضرورية بالخبير بها، ولإرشاده يخضع في الأسلوب اللازم لصنعها؟
غ
:
لا هذا ولا ذاك.
س
:
فلا يعرف المقلد علمًا ولا يمتلك رأيًا صحيحًا في ما يقلده باعتبار جماله أو
قبحه؟
غ
:
يظهر أنه لا يعرف ولا يمتلك.
س
:
فالشاعر المقلِّد حكيم جدًّا في ما يتعاطاه.
غ
:
ليس تمامًا.
س
:
فهو يسير في تقليده بالرغم من جهله ما يقوم به جمال الشيء أو قبحه جهلًا
تامًّا، ولكنه حسب الظاهر يقلد أوصاف الجمال المبهمة الرائجة عند جمهور
الأميِّين.
غ
:
نعم، وماذا يمكنه أن ينسخ أيضًا؟
س
:
فالظاهر أننا اتفقنا كل الاتفاق في أن المقلد لا يعرف شيئًا مهمًّا عمَّا
يقلِّده، فالتقليد عنده مجرد لهوٍ وتسلية لا عملًا جديًّا. وأن الذين نظموا
أشعار المآسي في الأراجيز والأدوار القصصيَّة على الأرجح كلهم بلا استثناء
مُقلِّدون.
غ
:
تمامًا هكذا.
س
:
فقُل بحقِّ السماء: أليس ما يتناوله فن التقليد هو منسوخ عن أصله مرتين؟
أجب.
غ
:
نعم منسوخ.
س
:
فكيف تصف قسم الطبيعة الإنسانية الذي تمارس به القوة التي تمتلكها؟
غ
:
أوضِح ما تعنيه.
س
:
سأوضِّح: أرى أن الأشياء من حجمٍ واحد تظهر لنا مختلفة حجمًا باعتبار بُعدها
عن عيوننا.
غ
:
إنها تظهر هكذا.
س
:
وأن الأشياء تظهر عوجاء في الماس، ومستقيمة إذا خرجت من الماء، وتظهر الأشياء
نفسها مُحدَّبة أو مقعرة بسبب الخطأ اللوني الذي تتعرَّض له العين. وواضح أن في
النفس اضطرابًا تامًّا من هذا النوع، فهذا هو نقصنا الطبيعي الذي يهاجمه فن
الرسم بكل نوعٍ من السحر، كما في الشعوذة وفي كثير من المخترعات من هذا
القبيل.
غ
:
حقيق.
س
:
أوَلا تظهر أعمال القياس والعد والوزن أعظم مساعد لنا في دفع هذه الأوهام،
لنتغلَّب على قوة الأوهام الغامضة في درجات الحجم والعد والوزن، وضبط المبدأ
الذي به نعدُّ ونقيس ونزِن؟
غ
:
بلا شك.
س
:
وهذا أيضًا عمل القسم الذهني.
غ
:
حقًّا إنه هكذا.
س
:
فحين يُخربنا هذا العنصر بعد القياس المتوالي أن هذا أعظم من ذلك، أو أنقص
منه، أو مساوٍ له، يظهر لنا في الوقت نفسه أن ذلك خلاف الواقع.
غ
:
نعم.
س
:
أفلم نقُل إنه لا يمكن الشخص الواحد أن يقبل آراء متناقضة في أشياء واحدة في
وقتٍ واحد؟
غ
:
بلى، وكنا مُصيبين في ذلك.
س
:
فيظهر لنا أن قسم النفس الذي يحكم ضد القياس لا يمكن أن يكون القسم الحاكم
حسب القياس نفسه.
غ
:
أكيد لا يمكن.
س
:
فعلم النفس الذي يعتمد القياس والعد هو أفضل أقسام النفس.
غ
:
أفضلها دون شك.
س
:
فما ضاد ذلك القسم فهو من العناصر الدُّنيا في طبيعتنا.
غ
:
بالضرورة.
س
:
هذه هي النقطة التي رُمتُ البت فيها لمَّا قلت إن الرسم وكل فن التقليد بوجهٍ
عام، يتناول ما بعد جدًّا عن الحقيقة، وهو يصحب بالأكثر القسم الأبعد فينا عن
الحكمة، فهي حظيَّته وصديقته لغرضٍ غير صحي ولا حقيقي.
غ
:
بلا شك.
س
:
ففن التقليد حظيَّة لا شأن لها، لصديق لا شأن له، والد جنين لا شأن
له.
غ
:
هكذا يظهر.
س
:
أفنحصر ذلك في التقليد الذي يتمثَّل للعين، أو نوسعه إلى ما يتمثَّل للأذن،
الذي نسميه شعرًا؟
غ
:
ربما نوسعه.
س
:
فلا نُعلِّق ثقتنا بالبينة الممكن استمدادها من فن الرسم، بل علينا أن نوسع
البحث إلى القسم العقلي، الذي يقارنه فن التقليد الشعري؛ لنرى: هل هو صالح أو
عديم القيمة؟
غ
:
نعم. يجب أن نفعل ذلك.
س
:
فلنبيِّن الأمر هكذا: إن فن التقليد إذا كُنَّا مُصيبين، يمثِّل الرجال،
يمارسون عملًا اختياريًّا أو اضطراريًّا، والذين يحسبون أنفسهم باعتبار نتائج
أعمالهم أغنياء أو فقراء، والذين هم في وسط هذه الأحوال كلها راغبون في الفرح
أو في الحزن، أيوجد ما يُضاف إلى ذلك؟
غ
:
لا، لا يوجد.
س
:
فهل حالة الإنسان في مختلف الأحوال مُتَّسقة؟ أو أنه في ضغينةٍ وحرب مع نفسه
في أعماله، كما كان في ضغينة وفيه آراء متضادة في الوقت الواحد في موضوعاتٍ
واحدة، ممَّا يتعلَّق ببصره؟ على أنني أتذكر أنه لا حاجة إلى اتفاقنا في هذا
الموضوع الآن؛ لأننا قد فصَّلنا في هذا الأمر فصلًا كافيًا في المحادثات
الماضية، التي فيها سلَّمنا بأن أنفسنا مملوءةً بما لا يُحصى من المتناقضات في
وقتٍ واحد.
غ
:
وكُنا مُصيبين.
س
:
نعم، كُنا مُصيبين. على أننا حذفنا شيئًا يجب أن نستأنف البحث فيه.
غ
:
وما هو؟
س
:
أعتقد أننا قلنا في ذلك الوقت إن الرجل الصالح إذا حلَّتْ به نائبة، كفقد ابن
أو غير ذلك مما يُحسَب كارثة عظيمة، كان أكثر احتمالًا لها من غيرها.
غ
:
مؤكد أنه يحتمل.
س
:
أما الآن فلنوسع دائرة الفحص. أفلا يشعر بحزنٍ قطعًا؟ أو أنه حال كون ذلك
مستحيلًا، إنما يراعي نوعًا ملطفًا للحزن؟
غ
:
الأخير هو البيان الأصح.
س
:
دعني أسألك سؤالًا واحدًا عنه: هل تظن أنه يحارب حزنه ويحاول إقصاءه عنه حين
نظر أقرانه إليه، أكثر منه حين يكون وحده في عُزلة؟
غ
:
أظن أنه يحارب حزنه حين يكون منظورًا.
س
:
وأظن أنه حين يكون وحده يجرؤ على قول كثير ممَّا يخجل أن يقوله على مسمعِ
شخصٍ آخر، ويعمل كثيرًا مما لا يريد أن يراه أي إنسان.
غ
:
تمامًا هكذا.
س
:
فالذي يستحثُّه على إقصاء حزنه هو العقل والشريعة، أليس كذلك؟ أما الدافع إلى
إظهاره فهو الحزن نفسه.
غ
:
حقيق.
س
:
ومتى كان في الإنسان جاذبان متناقضان فيما يتعلق بشيءٍ واحد في وقتٍ واحد،
فبالضرورة هو إنسان مزدوج (أيْ إنه اثنان).
غ
:
مؤكد أنه مزدوج.
س
:
أفلا يميل أحد قسميه لإطاعة إرشادات الشريعة؟
غ
:
وما هي تلك الإرشادات؟
س
:
أعتقد أن الشريعة تعلمه أن يلتزم السكينة في المصائب، وأن يُقصي عنه كل
تذمُّر؛ لأنه لا يمكننا أن نُقَدِّر ما في هذه الحادثات من الخير أو الشر، ولأن
عدم الصبر لا يفيدنا شيئًا، ولأن لا شيء في المصالح البشرية يستحق قلقًا
خطيرًا. على أن الحزن يحُول دون ذلك التصرف الذي يجب علينا اختياره في
ملمَّاتنا دون ما تأخُّر.
غ
:
إلى ماذا تشير؟
س
:
واجبنا أن نتداول الأمور الواقعة، ونرتب أعمالنا بإزاء الطارئ في أفضل طريقة
يقرها العقل، كلاعب النرد الذي ينقل حجارته طبقًا للزهر الذي رماه. وبدلًا من
أن يضمَّ الأحداث القسم المجروح من جسمهم لدى سقوطهم على الأرض والاشتغال
بالبكاء، يلزم أن نُعوِّد النفس أن تبادر إلى أسباب العلاج وشفاء القسم المريض،
ونضع حدًّا للندب بمساعدة الطب.
غ
:
حقًّا إن ذلك أفضل تصرُّف في النائبات.
س
:
فإذًا القسم الأفضل فينا يرتضي بأن يقوده حكم العقل.
غ
:
واضح أنه يرتضي.
س
:
ومن الناحية الأخرى: ألا نؤكد أن العنصر الذي يستنهضنا للافتكار في المصاب
والحزن لحلوله، والذي فيه جوع للندب والعويل لا يُسد هو قسم جهول كسول، حليف
الجبانة؟
غ
:
حقيق أننا نقول هكذا.
س
:
وإذا الحال كذلك، فالخلق الحزون يقدم للتقليد أدوات لا تحصى، أما الخلق
الحكيم الهادئ فهو في حالٍ واحدة غير متغيرة، فلا يهون تقليده، وإذا قُلِّدَ
فلا يسهل فهمه، ولا سيما حين يتجمع كل أنواع الناس في المسرح؛ لأن الناس إذا لم
أكن مخطئًا يرغبون في أن يشهدوا تمثيل حال غير حالهم.
غ
:
من كل بد.
س
:
فواضح أن الشاعر المقلد بطبيعة الحال لا دخل له في خلق النفس الهادئ، ولا
ترمي حكمته إلى إرضائه إذا رام إحراز الشهرة العالمية، إنما ينحصر عمله بالخلق
الحزون المتقلب؛ لأنه يسهل عليه تقليده.
غ
:
ذلك واضح.
س
:
فنحن أبرياء في وضعنا الشاعر مع الرسام، فإنه يشبهه بإيراده التافهات، إذا
قيست بمقياس الحقيقة. وهو يماثله في أنه يواصل قسم النفس الذي يشبهه دون القسم
الأفضل. وإذا الحال هكذا، فنحن أبرياء إذا حظرنا دخوله الدولة الراغبة أن
تتمتَّع بنظامٍ حسن؛ لأنه يثير قسم النفس الحقير ويُقيته ويشدده، فيهدم القسم
الأفضل، كإنسان يشدد سواعد أسافل الدولة ويقلدهم السلطة العليا، وفي الوقت نفسه
يقضي على الفئة المهذبة، فنقول جريًا على الطريقة نفسها حتمًا إن الشاعر المقلد
يغرس نظامًا شريرًا في نفس كل فرد، بإرضائه القسم العديم الحس، عوض تمييزه
العظيم من الحقير، فيُعتبر الشيء تارة عظيمًا، وتارة صغيرًا، ويلفق أوهامًا هي
على بُعد شاسع عن الحقيقة.
غ
:
تمامًا هكذا.
س
:
بقي أننا لم نورد أعظم حجة في شكايتنا؛ لأن ذلك الشعر يفسد أكثر الناس، حتى
الصالحين، وذلك في مذهبي جريمة كبرى.
غ
:
لا شك في ذلك إذا تبرهنت الدعوى.
س
:
فاصغَ ثم احكم: فإني أعتقد أن أفضلنا لدى سماعه أبيات هوميروس أو غيره من
ناظمي المآسي، يمثل بها بطلًا متألمًا، يفيض في الندب، أو يمثِّل بعض أشخاص
يقرعون صدورهم ويندبون شقاءهم بالأغاني نُسَرُّ، كما تعلم ونستسلم للعامل،
شاعرين مع المصاب، مطرئين الكاتب القادر أن يوافي عقولنا بذلك كشاعر
مجيد.
غ
:
أعرف ذلك.
س
:
ولكن حين يصيب الحزن أحدنا، فإنك عالم أننا نفتخر بسلوكنا غير هذا المسلك، أي
نفتخر بكوننا قادرين أن نتحمله بهدوء؛ لأن هذا التصرُّف في رأيي رجولة، أما
التصرف الذي مدحناه سابقًا فنسوي.
غ
:
إني على بينة من الأمر.
س
:
أفي محله ذلك المدح؟ أعني: أمن الصواب أن يسر المرء ويطرئ عوض الاستياء، حين
يرى إنسانًا يعمل ما يستوجب الخجل والملام؟
غ
:
كلَّا، إن ذلك لا يظهر معقولًا.
س
:
ليس معقولًا، إذا اعتبرته اعتبارًا آخر.
غ
:
أيُّ اعتبار؟
س
:
إذا اعتبرت أن القسم الذي نضبطه لدى حلول ملمةٍ بنا، والذي يتوق إلى
الاسترسال في النحيب والعويل؛ لأنه يميل إلى ذلك بطبيعته، هو القسم الذي يغذيه
الشعراء سدًّا لشوقه، فيطرب لهذه الأوصاف. بينما قسمنا الأفضل طبعًا يقصر في
ضبط القسم المتذمر؛ لأنه لم يحصل على التهذيب اللازم عقلًا وعادةً؛ لأنه شهد
آلام الآخرين، ولأنه يظن أنه لا يعيبه مدح من يحسبه صالحًا وإن كان حزنه في غير
وقته. والواقع أنه يرى السرور زائدًا إشراقًا، ولا يأذن أن يُسلَب ذلك السرور
بازدرائه الشعر إجمالًا؛ لأنه قد أُتيح لقليلين في ما أعلم أن يعلموا ان تصرُّف
الآخرين يؤثر في تصرفنا، فلا يهون علينا ضبط النفس في أحزاننا، وقد أطلقنا لها
العنان في التمتُّع بأحزان الآخرين.
غ
:
ذلك عين الصواب.
س
:
أوَلا يتطبَّق هذا الحكم على المزاح الذي تخجل منه؟ ولكنك تسرُّ به كثيرًا في
التمثيل وفي الحياة الخاصة ولا تحسبه غير أدبي، فتفعل هنا ما فعلت في أمر
الشفقة، لأنك في حادثٍ كهذا تسلم العنان إلى العنصر الذي تضبطه في ما يتعلق بك،
حين يميل إلى الاسترسال في الضحك، خوفًا من نسبة المجون إليك؟ وإذا قوَّيته
ونفخت فيه روحًا فإنك تُقاد غالبًا في ما يختصُّ بك بدون شعور وانتباه إلى
اختيار خلق شاعر المهزلة.
غ
:
غاية في الصحة.
س
:
وفي أمر الحب والغضب، وكل الانفعالات العقلية، ألا يفعل الشعر التقليدي الفعل
نفسه في الرغبة والحزن والسرور، إذا صحبناها في كل عمل؟ لأنه يروي العواطف التي
يجب أن تجفَّ عطشًا، وينعشها ويحكِّمها فينا، وكان يجب أن نتحكم فيها إذا رُمنا
أن نكون أسعد وأرقى بدل كوننا أدنى وأشقى.
غ
:
لا يمكنِّي الإنكار.
س
:
وحين تجتمع يا غلوكون بمادحي هوميروس كمهذب اليونان، وأنه يستحق أن يقرأ
كمرشد في إدارة المصالح الإنسانية، وأن على المرء أن يرتب مجرى حياته بتمامها
حسب إرشاد الشاعر، فعليها أن تحييهم تحية حب كأناس أفاضل بلغوا حدود استعدادهم
الفطري، وتُسلِّم معهم أن هوميروس أول شعراء المآسي وأعظمهم. ولكن لا تنسَ أن
الشعر لا يُباح في الدولة إلَّا في تسبيح الله ومدح الصلاح، أما إذا عزمت أن
تبيح تعظيم عرائس الشعر الغنائي والقصصي، تحكَّم الألم واللذة في دولتك عوض
تحكُّم الشريعة والمبادئ الأكثر انطباقًا على حكم الذهن، بإجماع الآراء في كل
العصور.
غ
:
ذلك حق صراح.
س
:
وإذا عُدنا إلى موضوع الشعر، فليكن هذا الدفاع مُبيِّنًا إصابة حكمنا السالف،
بإقصائنا عن دولتنا عملًا فيه ما ذكرناه من الميول، ولأننا بذلك نخضع للعقل.
ولئلَّا يرمينا الشعراء بالخشونة والسماجة؛ نبين أن هنالك نزاعًا طويل الأمد
بين الشعر وبين الفلسفة، كما ترى في الأبيات التالية:
كلبة تعوي على
صاحبها بلا
حيا
وهذا البيت:
فيا له من مصقع إذا خطب
شنشنة الأحمق فيه
تُجتَنب
وهذا:
مُتالِّه في حكمهِ
وهو سمير
السوقةِ
وهذا:
فيا لفقر القوم لـ
ـمَّا فكَّروا عن
فطنةِ
وألوف من هذه الأبيات تبين قديم العداء بين الفريقين. مع ذلك فلنسلِّم بأن
الشعر الذي يرمي إلى المسرَّة والتقليد إذا أمكن إيراد بينة على لزومه للدولة
الحسنة النظام، فإننا نُرحِّب بعودة الشعر إلى الوطن؛ لأننا نرغب في أن نُسرَّ
بالشعر، ولكن خيانة الحقيقة خطيَّة. ألستُ مُصيبًا يا صديقي في ظني أنك تُفتتن
بالشعر، ولا سيما إذا أمعنت النظر فيه بإرشاد هوميروس؟
غ
:
نعم، إني أُفتتن به افتتانًا شديدًا.
س
:
أفليس من العدالة إنفاذ القرار القاضي بنفي الشعر حتى يقدم دفاعًا مقبولًا،
إما بالشعر الغنائي أو بوسيلة أخرى؟
غ
:
مؤكد أنه عدل.
س
:
وأظن أنَّا نأذن لأنصاره وأحبَّائه من غير الشعراء بالتزام الدفاع عنه نثرًا،
فيثبتون أن الشعر مفيد علاوة على كونه سارًّا، باعتبار علاقته بالحكومة والحياة
الإنسانية. ونسمع دفاعهم عن طيبة خاطر؛ لأنه إذا ثبت أن الشعر نافع كما هو سار
كُنَّا رابحين.
س
:
وإلا يا صديقي العزيز، فيمكننا أن نكتسب درسًا من الأشخاص الذين وقد عشقوا
يكتمون أشواقهم مهما يكلفهم الأمر، إذا ظنوا أن الجهر بها ضار؛ لأنه مع أن
محبتنا شعرًا كهذا، وقد نمت فينا تحت ظل نظمنا المحترمة، تجعلنا نرغب رغبة
قلبية في أن يكون جميلًا وصادقًا، فما دام عاجزًا عن حُسن الدفاع وجب أن نقي
أنفسنا حين سمعه، بترديد الأدلة التي بسطناها كأنها رقية ساحر، ونسهر على
أنفسنا لئلَّا نقع ثانيةً في غرام صبياني عرف الأكثرون ما هو. وعلى كلٍّ قد
تعلمنا أنه يجب أن نتبع الشعر الذي نعتقد أن في اقتباسه اقتباس الحقيقة
والصلاح، وعلى الضد من ذلك أن السامع الذي عرف الخطر المحدق بالنظام في داخله
هو ملزم بالدفاع ضده، واقتناء الرأي الذي أوضحناه في الموضوع.
غ
:
أوافقك كل الموافقة.
س
:
حقًّا يا صديقي غلوكون أنه علي الاختيار بين كون المرء صالحًا وبين كونه
شريرًا يتوقف أمر خطير، نعم، هو أكثر خطورة ممَّا يُخيَّل إلى الناس؛ لذا كان
من الخطأ عدم الاكتراث للعدالة وسائر الفضائل بحكم الهياج، أو الفخر، أو
الثروة، أو القوة، أو الشعر حتى.
غ
:
أوافقك في ختام بحثنا. وأظن أن كل أحد يوافقك.
س
:
ولكنَّا لم نبحث بعد في جزاء الفضيلة الرئيسي، وأعظم الجوائز المعينة
لها.
غ
:
إذا كانت أعظم مما ذكر فيجب أن تكون عظيمة فوق العادة.
س
:
وكيف يمكن أن ينحصر العظيم في شقَّة ضيقة النطاق من الزمن؟ فالفترة من المهد
إلى اللحد بُرَيهة إذا قِيسَتْ بالأبديَّة.
غ
:
بل قُل إنها لا شيء.
س
:
فماذا إذًا؟ أتظن أن من واجب الخالد أن يزعج نفسه بهذه الفترة الحقيرة دون
الأبدية؟
غ
:
بل أرى أن يكترث للأبدية، ولكن ماذا تعني بذلك؟
س
:
ألا تدري أن نفسنا خالدة لا تموت؟
(فنظر غلوكون إليَّ دَهِشًا وقال: حقًّا إني لم أدرك ذلك،
أفتستطيع «أنت» إثبات هذا التعليم؟)
نعم وشرفي، أظن أنك أنت أيضًا تستطيعه، فإنه أمر سهل.
غ
:
ليس عليَّ. وفي الوقت نفسه أحب أن أسمع منك ما هو بيانك في سهولته؟
س
:
فتكرَّم عليَّ بالسمع.
غ
:
فتفضَّل من كل بد.
س
:
أتدعو شيئًا ما خيرًا، وشيئًا آخر شرًّا؟
غ
:
نعم أدعو.
س
:
وهل عندنا للَّفظين مدلولهما الثابت؟
غ
:
وأي مدلول تعني؟
س
:
أذهب إلى أن الشر هو ما يُفسد كل شيء ويدمره، والخير هو ما يفيد
ويصون.
غ
:
وهذا مذهبي.
س
:
وأيضًا لعل عندك لكل شيء خيره وشره؟ مثلًا: أتقول إن العيون مُعرَّضة للرمد،
والجسد للمرض، والذرة للتعفُّن، والخشب للتسوُّس، والحديد والنحاس للصدأ.
وبعبارةٍ أخرى: لكل شيءٍ آفة وداء.
غ
:
هكذا أقول.
س
:
فإذا حلَّ أحد هذه الأدواء بإحدى هذه المواد، أفلا يُفسدها أخيرًا ويحل
تركيبها ويُلاشيها؟
غ
:
الأمر كذلك دون شك.
س
:
فكل شيء يفسده ضده من آفة وشر، وإلَّا إذا لم يفسده ذلك فلا شيء آخر يُفسده؛
لأن الخير لا يفسد شيئًا، وكذلك ما ليس خيرًا ولا شرًّا.
غ
:
مؤكد أنهما لا يفسدان.
س
:
فإذا أمكننا أن نجد شيئًا مُعرَّضًا لداءٍ خاص، لكن داءه يعطله تعطيلًا دون
أن يُلاشيه، أفلا نعلم أن الشيء المكوَّن هكذا لا يفنى؟
غ
:
إنها نتيجة معقولة.
س
:
أفليست النفس مُعرَّضة لداءٍ يجعلها شريرة؟
غ
:
مؤكد، فإن كل ما ذكرناه من التعدي والفجور والجبانة والجهل يُحدث تلك
النتيجة.
س
:
وإذ ذاك، أفيحل شيء من هذه النفس ويفنيها؟ ردِّد المسألة في فكرك، لئلَّا نضل
ظانين أنه حين يُقبض على المتعدي الأحمق مُتلبِّسًا بجريمته، فإنه يهلك بشره
الذي ارتكبه، وهو سفالة النفس. بل اعتبر الأمر هكذا: أن انحطاط الجسد بالمرض
يُتلفه ويدمره، فيحوله إلى حالة لا يظل عندها جسدًا. وهكذا كل ما ذكرناه الساعة
من الأشياء التي تنتابها شرورها الخاصة، التي هي مُعرَّضة لها، والتي تفسدها
بالملاصقة أو بالحلول فيها، فتحوِّلها إلى حالة يزول معها وجودها. أمصيبٌ أنا
أم لا؟
غ
:
مُصيب.
س
:
فتقدَّم لفحص النفس بحسب هذا الأسلوب: أفصحيح أنه بإقامة التعدي وسائر
الرذائل في النفس، تفسد وتذبل بملاصقتها إياها أو سكنها فيها؟ حتى تؤدي بها إلى
الموت والانفصال عن الجسد؟
غ
:
مؤكد أنها لا تُحدث هذا التأثير.
س
:
ومن الناحية الأخرى: أنقول إن الشيء يتلف بانحطاط غيره مع أنه لا يتلف
بانحطاطه؟
غ
:
ذلك القول من اللغو.
س
:
نعم يا غلوكون، يجب أن تتذكر أننا لا نتصور أن الجسد يهلك بفساد الأطعمة،
تعفُّنًا كان ذلك الفساد أو عطنًا أو أي شيء آخر. ولكن إذا أثار ذلك الفساد علة
في الجسد، فحينذاك نقول إن الجسد هلك بعلَّته التي سبَّبتها الأطعمة. ولكنَّا
لا نقبل القول إن الجسد تلف بفساد الطعام؛ لأن الطعام شيء آخر مستقل عنه، أي
الفكرة أن الجسد يفسد بشر أجنبي عنه، دون أن يُحدث ذلك الشر علة جسدية غير
ممكن.
غ
:
بالصواب نطقت.
س
:
وعليه: فما لم يولِّد فساد الجسد علة في النفس لا نقبل القول إن النفس تهلك
بداءٍ أجنبي عنها؛ لأن ذلك يعني هلاك شيء بفساد غيره.
غ
:
يظهر أن ذلك معقول.
س
:
فإما أن ننبذ ذلك البحث، أو إذا لم ننبذه لا نقل أبدًا إن النفس تهلك بحمَّى
محرقة أو بأي مرض آخر، حتى ولو كان ذبح الجسد أو تمزيقه إربًا إربًا. إلَّا إذا
أثبت أحد أن تلك الآلام تفسد جوهر النفس، فتجعلها غير عادلة. على أنَّا ما دام
الشيء سليمًا من دائه الخاص، وقد فشا داء أجنبي عنه في غيره من الأجسام، فلا
نسمح بالقول إن هذا الشيء يهلك بفساد غيره، جسدًا كان ذلك الشيء أو
نفسًا.
غ
:
لا أحد يقول إن النفس تصير غير عادلة بموت جسد كانت تحله.
س
:
فإذا ضادَّ الحجة أحد، وادَّعى أن النفس تصير بموت الجسد أكثر انحطاطًا
وتعدِّيًا، لكي يتملَّص من التسليم بخلود النفس، فأرى أنَّا نستنتج أنه: إذا
كان الخصم مُصيبًا أن التعدي مميت كمرض يقتل من يصيبه، وأن الذين يُصابون بهذا
الداء الخَطِر هالكون لا محالة عاجلًا أو آجلًا، باعتبار مقدار قوة الصدمة، عوض
الاشتغال، كما نحن فاعلون الآن بأمر إعدام المتعدي بسبب شرِّه، بأيدي أُناس
أُنيط بهم إنفاذ حكم الإعدام فيه.
غ
:
فلا يُحسب التعدي إذًا شيئًا مُخيفًا إذا كان يقتل صاحبه؛ لأنه في تلك الحالة
يُريحه من شروره. على أني أرى أمره بالضد من ذلك، فإنه يُهلك الآخرين إذا أمكن،
ويمده صاحبه بحيوية خاصة مصحوبة بأرقٍ دائم، ويظهر أنه بعيد بُعدًا قصِيًّا
ثابتًا عن إهلاك صاحبه.
س
:
أحسنت، فإذا لم تهلك النفس أو تخرب بانحطاطها أو شرِّها الخاص بها، نَدُرَ أن
تخرب بشرٍّ آخر، يقتل نفسًا، أو شيئًا آخر خارج حدوده الخاصة.
غ
:
نعم يندر، فالاستنتاج طبيعي.
س
:
فلما كانت النفس لا يُخرِّبها شرٌّ على الإطلاق، أجنبيًّا كان ذلك الشر أو
خاصًّا، فواضح أنها دائمة الوجود، فهي إذًا خالدة.
غ
:
إنها خالدة.
س
:
حسنًا، فلنحسب هذه المسألة مثبتة، فتفهم بذلك أن النفوس تبقى على ما هي؛
لأنها إذا لم يفنَ منها شيء فعددها لا ينقص، وكذلك لا يزيد؛ لأنه إذا زاد عدد
ما هو خالد فالزيادة مستمدَّة مما هو غير خالد، وبهذا الشكل تصير كل النفوس
خالدة.
غ
:
حقيق.
س
:
والعقل لا يسلم بهذا الرأي ولذلك نرفضه. ومن الناحية الأخرى لسنا نتصور أن
النفس في حالها الطبيعية الجوهرية، وكما ترى في ذاتها، يمكن أن تمتلئ بكثرة
التبايُن والاختلاف.
غ
:
ماذا تعني؟
س
:
لا يمكن أن يكون شيء خالدًا إذا كان مركبًا من أجزاءٍ عديدة، وإذا لم تكن
عناصر ذلك التركيب من أفضل نوع، كما برهنَّا على أن ذلك شأن النفس.
غ
:
ربما لا يمكن.
س
:
فقد ثبت خلود النفس رغم كل شيء، وذلك بحُجتنا الحالية، وقد تُضاف إليها أدلة
أخرى، ولكن لكي نتمكَّن من فهم طبيعتها الحقيقية يلزم أن ننظر فيها، ليس كما
نظرنا الساعة، أعني بعد أن فسدت بامتزاجها بالجسد وبشرورٍ أخرى، بل يجب أن
نتأمل فيها بمساعدة التعقُّل، فتتجلَّى لنا طهارتها الكاملة، فنرى جمالها
الفائق، ونرى طبيعة العدالة والتعدِّي مع كل القضايا التي بحثنا فيها، فتظهر
لنا أتمَّ ظهور، وقد قدَّمنا بيانًا حقيقيًّا في النفس في مظهرها الحالي، غير
أننا رأيناها كما يُرى غلوكوس إله البحر، الذي يتعذر تمييز طبيعته الأصلية
بالعين؛ لأن أعضاء جسمه قد تهشَّمَتْ أو تشوَّهَتْ بتأثير الأمواج التي عطبتها
كل معطب، فالتصقت به مواد خارجية كالأصداف وعشب البحر والحجارة، فصار أقرب
شبهًا بالوحش منه بصورته الأصلية، فالنفس في الحالة التي نراها فيها قد هبطت
إلى حالة تشبه حالته بسبب الشرور الكثيرة، فيجب حصر النظر في جزء خاص منها يا
غلوكون.
غ
:
أي جزء تعني؟
س
:
نحصر نظرنا في محبتها الحكمة، ليمكننا أن نعرف بماذا تلوذ، وبماذا تود
الاقتران باعتبار علاقتها المكينة بما هو إلهي وخالد وأزلي. وماذا يكون منها
إذا لاذت بالإلهيَّات، ونجت من البحر الذي هي فيه الآن، بالعامل السموي، ونُزع
منها ما التصق بها من الأصداف والمواد الترابية والحجرية، التي تغذَّت النفس
بها فكبرت بواسطة الولائم التي يدعونها سعيدة. وحينذاك نفهم حقيقة طبيعتها، وهل
هي واحدة أو أكثر، أو أنها غير ذلك، وكيف. وإذا لم أكن مُخطِئًا فقد استوفينا
البحث في محبتها وفي ظاهراتها في الحياة الإنسانية.
غ
:
لا شك في أننا قد استوفينا البحث.
س
:
أوَ لم نأتِ على كل الموضوعات الثانوية في سياق البحث؟ ومع أننا لم نذكر ما
تمنحه العدالة من جزاء وشهرة، كما تزعم أن هوميروس وهسيودوس قد فعلا. أفلا نرَ
أن العدالة هي في ذاتها أفضل جزاء للنفس في ذاتها؟ وأن النفس مُلزمة بأن تفعل
أفعالًا عادلة، سواء كان لها خاتم جيجس وخوذة هادز٣ أو لم يكن؟
غ
:
الأرجح أننا قد فعلنا ذلك بأكثر تأكيد.
س
:
أفنتقدم الآن يا غلوكون دون ما إساءة، إلى البحث في أنواع المكافأة العظيمة
الوافرة، التي تربحها العدالة وشقيقاتها فضائل النفس الأخرى من الآلهة والناس،
في حالتَي الإنسان الحاضرة والأبدية؟
غ
:
ذلك ممكن بلا شك.
س
:
أفترد لي ما اقترضته مني في سياق البحث؟
غ
:
وماذا اقترضت منك؟
س
:
قد سلمت معك بأنه تكون للعادل شهرة مُتعَدٍّ، وللمتعدِّي شهرة عادل. لأنك
ارتأيت ذلك، مع أن إخفاء حقيقة الإنسان عن الآلهة والناس غير ممكن، فسلَّمت معك
بذلك جدلًا لأجل إقامة الدليل، ولأجل المقابلة بين العدالة الخالصة والتعدِّي
الصرف. ألا تتذكر؟
غ
:
مؤكد أني أتذكر، وإلَّا كنت مُخطئًا.
س
:
فالآن وقد أبرم الحكم فيهما، فأنا في دوري أطلب بالنيابة عن العدالة رد
العارية، فنسلم للعدالة بقدرها الحقيقي بين الآلهة والناس، لتفوز بالجعالات
الناجحة عن اشتهارها بالعدالة، وهي تسبغها على مالكها. فقد ثبت الآن أن هذه
الهبات الحِسان تنتج عن كون المرء عادلًا حقًّا، دون خديعة للذين
ينالونا.
غ
:
طلبك حق.
س
:
أفلا تُرِد لي أولًا هذا التسليم؟ فنسلم أن الآلهة على الأقل لا تغلط في
سجيَّة العادل والمتعدي الحقيقية؟
غ
:
نسلم بذلك.
س
:
وإذا الحال كذلك فأحدهما محبوب لدى الآلهة، والآخر مبغض في عينيها، كما
اتفقنا أولًا.
غ
:
حق.
س
:
أوَلا نتفق في أن كل الأشياء تعمل معًا للخير الذي تحبه الآلهة، إلَّا إذا
جرَّت عليه الآلام خطية سالفة؟
غ
:
ذلك أكيد.
س
:
فيلزم أن تقبل ذلك في أمر الإنسان العادل، فإذا أصابه مرض أو فقر أو أي مصاب
أليم، كانت عاقبة ذلك خيره، إمَّا في هذه الحياة أو في الآتية؛ لأنه لا شك في
أن الآلهة لا تنسى من جاهد جهادًا حسنًا في اعتناق البر والفضيلة والتمثُّل
بالله، على قدر ما أُتيح للإنسان بلوغه.
غ
:
كلَّا، إن إنسانًا كهذا لا يهمله من تمثَّل هو به.
س
:
أوَلا نُسلم بنقيض ذلك في أمر المتعدي؟
غ
:
مؤكد أننا نسلم.
س
:
فهذه هي الجعالات التي تسبغها الآلهة على الإنسان العادل.
غ
:
هكذا يظهر لي في كل الأحوال.
س
:
فماذا يسبغ عليه الناس؟ أليس الأمر كما يأتي إذا كُنَّا نروم الحقيقة؟ ألا
يعمل المتعدُّون عمل رجال السباق، فيركضون سِراعًا من أول الميدان إلى نقطة
الرجوع، ومن ثمَّ ترتخي عزيمتهم إلى الهدف؟
فقد قفزوا سِراعًا ولكنهم انتهوا بكونهم أُضحوكة، وعادوا بالخزي، ولم ينالوا
الإكليل. أما المحاضرون (المسابقون) الحقيقيُّون، فينالون الجعالة في آخر
الميدان ويُكَلَّلون. أفليس هذا هو حال العادلين؟ فإنهم في نهاية الأعمال وختام
الحياة وانقطاع العلاقات الاجتماعية، يربحون السمعة الحسنة، ويُحرزون الجعالات
من أيدي مواطنيهم؟
غ
:
مؤكد أنهم يفوزون.
س
:
أفتسمح لي أن أقول فيهم ما قلته أنت في المتعدين؟ فإني لا أتردد في القول إن
العادلين متى تقدموا في السن، تبوَّءوا المناصب في مدينتهم إذا شاءوا،
وتزوَّجوا من أرادوا، وزوَّجوا بناتهم من يختارونهم لهنَّ. وبالاختصار أقول في
العادلين ما سبقت أنت فقلته في المتعدين. ومن الناحية الأخرى: أرى أن الجانب
الأكبر من المتعدين وإن خفي أمرهم في شبابهم، فلا بد من انكشافهم في آخر
الميدان، وكلما تقدموا في السن أهانهم الغريب والقريب في شقائهم، ثم يُجلدون
بالسياط، ويُعذَّبون بآلات التعذيب، وبالحديد المحمى بالنار، ويذوقون صنوف
العذاب التي دعوتها أنت بربرية مخيفة، فتصوَّر أني تلوت على سمعك كل هذه
الأشياء، وانظر، وأنا أتكلم، هل تأذن لي أن أقول ذلك أو لا؟
غ
:
مؤكد أني آذن؛ لأن بيانك حق.
س
:
هذه هي أنواع المكافأة والجعالة والهبة التي تسبغها الآلهة والناس على
الإنسان العادل في هذه الحياة، علاوة على ما في امتلاك العدالة نفسها من
الخير.
غ
:
نعم، وهي عظيمة ويقينيَّة.
س
:
على أنها كل شيء إذا قيسَتْ بما ينتظر كلًّا من العادل والمتعدي بعد الموت،
ويجب أن نأتي على وصف ذلك؛ لكي نحكم لكلٍّ منهما بتمام الجزاء الذي يجب أن
تبينه المحاورة.
غ
:
واصل كلامك، فإنه يندُر أن يسرُّني شيء آخر كهذا.
س
:
حسنًا، فسأخبرك قصة ليست كقصة أودسيوس لأوكينوس، بل هي رواية حدثت فعلًا
لرجلٍ شجاع، هو «آر» بن أرمينيوس البمفيلي، الذي تقول القصة إنه قُتل في إحدى
المعارك، فلما رُفعت الجثث عن الأرض في اليوم العاشر لإجراء مراسم الدفن، وقد
دبَّ فيها الفساد، كانت جثة «آر» لا تزال طريَّة، فحملوها إلى البيت ليدفنوها.
وفي اليوم الثاني عشر وضعوها على دكَّة الجنازة، فانتعشَتْ وفتح الميت عينيه،
وجعل يقصُّ على السامعين ما رآه في العالم الآخر، وقصته هي ما يأتي: لمَّا برحت
نفسه جسده، رافقت كثيرات من أمثالها، فانتهت إلى موضعٍ سرى فيه فجوتان في
الأرض، تقابلهما طاقتان في السماء، فجلس القُضاة بين هاتين الفجوتين للحكم،
وبعد ما أصدروا قرارهم أمروا بإرسال البار (العادل) في طريق السماء — إلى
اليمين — وألصقوا بجبهته رموز الحكم الذي أصدروه. أما الظالمين (المتعدين)
فأرسلوهم في الطريق المنجدرة — إلى اليسار — ووراءهم بينات شرورهم. ولمَّا بلغ
آر ذلك الموضع قيل له إنه سيحمل إلى البشر تقرير ما في العالم الآخر، وأُمر أن
ينتبه إلى كل ما هو جارٍ هناك، فتطلَّع فرأى النفوس تنصرف في إحدى الفجوتين،
وفي الطاقة السموية التي تقابلها، وذلك بعد صدور الحكم عليها، وكانت قد أتت من
الطاقة الثانية والفجوة التي تحتها. وكانت النفوس ترد إلى ميدان القضاء إمَّا
بالنواح والرماد إذا كانت قادمة من تحت الأرض، أو بالسرور والبهاء إذا كانت
قادمة من السماء، وكانت كل نفس حال وصولها تتلبَّس بمظاهر السياحة، وتسير
مسرورة إلى المرج، وتمكث هناك كما يعمل الناس في الحفلات، فيتبادل المعارف
التحيات. وكان القادمون من السماء يُسألون عمَّا في السماء، والقادمون من الأرض
يسألهم السمويُّون عمَّا هنالك، فقصَّ القادمون من الأرض حكايتهم بالأنين
والدموع، لتذكرهم الحوادث المرعبة التي رأوها وعانوها في سفرهم في السرداب
السفلي، الذين قضوا في رحلته مدة ألف عام على ما قالوا. أما القادمون من السماء
فكانوا يصفون المسرات ومناظر الجمال المدهش، وإن شرح كل ما بلغنا من أخبارهم
يشغل وقتًا طويلًا يا غلوكون، ولكن إفادة «آر» فيما يلي تتناول النقاط
الرئيسية، قال:
عوقبت كل نفس في دورها عمَّا جنت أو أساءت إلى الآخرين عشرة أضعاف، وكانت
العقوبات تتكرر في كل قرن؛ لأن طول الحياة الإنسانية حسب عندهم قرن كامل من
السنين، فكان المقصد من ذلك الاستيفاء عن الذنوب التي اقترفوها عشرة أضعاف.
وعليه: فكل من كان مجرمًا باغتيال أحد، أو خيانة مدينة واستعبادها، أو خيانة
جيش، أو اشتراك في شرٍّ آخر، عوقب عشرة أضعاف عمَّا فعل. ومن الناحية الأخرى:
الذين فعلوا الصالحات وكانوا بررة أطهارًا نالوا جزاءهم على القياس نفسه. أما
الذين ماتوا أطفالًا قلَّما روى عنهم شيئًا يستحق الذكر. ولكن قصاص عصيان
الوالدين، وعدم التقوى، واغتيال الأقارب، كان حسب روايته صارمًا فوق الحد. وكان
جزاء التقوى والطاعة عظيمًا جدًّا؛ لأنه كان على مسمعٍ لمَّا سألت إحدى الأرواح
رفيقتها: «أين أردياوس العظيم؟»، وكان «أردياوس» هذا ملكًا في مدينة بمفيلية
قبل ذلك الحين بمدة ألف سنة، وروي عنه أنه أعدم والده الشيخ وأخاه الأكبر، عدا
كثيرًا من الشرور التي اقترفها، فأجابت النفس المسئولة قائلة: «لم يأتِ
أردياوس، والأرجح أنه لن يأتي؛ لأن ذلك كان كما يجب أن تعرف، من أشد المشاهد
رعبًا، فلما دنونا من البراح وكنا على وشك الصعود بعد ما تحملنا كل آلامنا،
رأينا أردياوس بغتة أمامنا، صحبة أقوام أظن أن أكثرهم من الطغاة، وكان هنالك
أفراد قلائل ممتازون بالتوغل في موبقات الآثام، فلما ظن أولئك أن نوبتهم حانت
للصعود ردَّتهم الفجوة التي كانت تصرخ على الخطاة الذين لم يُستوفَ عقابهم إذا
هم حاولوا الصعود، صرخة فهمها أقوام أشدَّاء جهنَّميُّون في صورة البشر كانوا
هنالك، فقبضوا على متون أولئك الخطاة وأقصوهم. أما أردياوس ورفقاؤه فغلُّوهم
بالأصفاد يدًا ورجلًا وعنقًا، وطرحوهم على الأرض وسلخوهم بالمقارع، ودحرجوهم
إلى جانب الطريق، فنُشروا هنالك نشر الصوف على العوسج. وكانوا يقصُّون على
المارَّة سبب هذه الآلام، وأن هؤلاء مُعَدُّون للانحدار إلى جهنم النار.
وقد اجتزنا بمخاوف ومروِّعات منوعة، على أن لا روع يعدل ما شعرنا به لمَّا
دنونا من الفجوة مخافة أن تصرخ علينا فيصيبنا ما أصاب أردياوس ورفاقه، ولمَّا
لم تصرخ كان سرورنا عظيمًا في اجتيازها الفجوة إلى فوق.
هذا يعطينا صورة الذنوب والعذابات، أما الجزاء فكان على الضد من ذلك تمامًا،
فإنه بعد وصول الأرواح (الصالحة) إلى المرج بسبعة أيام أُمرت بإخلائه، وفي
اليوم الثامن سارت مسيرة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع بلغت مكانًا أطلَّتْ منه
على عمود النور العظيم الذي يخترق السموات والأرض، وهو أشبه الأشياء بقوس قزح،
إلَّا أنه أصفى وأبهى، فوصلته النفوس بعد مسيرة يوم آخر.
ولمَّا بلغت مركز النور رأت طرفيه مُثبَّتَين في السماء بسلاسل، فإن ذلك
النور يمنطق الجو كما تمنطق الحبال السفينة، فيضم الكون الدوار بأجمعه.
وفي طرفَي العمود مغزل «الضرورة» الذي به يتم الدوران في كل الكون. قبضة
المغزل وصنَّارته مصنوعان من الصلب، أما قرصه (إطاره) فمزيج من الصلب ومواد
أخرى، وهذا هو وصف الإطار:
إنه كالدائرة العادية شكلًا، ولكن وصف «آر» يُمكِّنَّا من تصوُّره في شكل
دائرة كبيرة مجوَّفة، وفي جوفها دائرة مثلها شكلًا ولكنها أصغر منها حجمًا، وقد
رُكِّزت ضمنها بمهارةٍ تامة، كالصناديق التي يوضع بعضها ضمن البعض الآخر. وفي
الصورة نفسها دائرة ثالثة موضوعة في الثانية، ورابعة في الثالثة، وهكذا أربع
دوائر أُخَر؛ لأن الدوائر كلها ثمانٍ الواحدة في جوف الأخرى، وحاشية كل دائرة
من الدوائر متراكزة، وهي أعلى من حاشية الدائرة المحيطة بها. والدوائر كلها
تؤلف معًا إطارًا كبيرًا يُحيط بمقبض الغزل الذي ينفذ — يخترق — مركز الدوائر
الثماني. وكان للدائرة الأولى الخارجية أعرض حاشية، وللسادسة ثاني حاشية عرضًا،
تَلَتْها الرابعة، فالثامنة، فالسابعة، فالخامسة، فالثالثة، والثانية أضيق الكل
حاشيةً.
وكانت حواشي الدوائر الثمان تُشِعُّ ألوانًا مُنَوَّعة، فالسابعة أبهاها
سطوعًا، والثامنة تستمد نورها مما انعكس من أنوار السابعة.
وكانت الدائرة الثانية والخامسة من قدر واحد، ولكنها أضعف نورًا من
البقية.
والثالثة أشدها صفرةً وشحوبًا، أما الرابعة فأميلها إلى الحُمرة، والسادسة
كالثالثة شحوبًا.
وكان المغزل يدور بمجموعه دورانًا قياسيًّا، وفي أثناء دوران الكل كانت
الدوائر السبع الداخلية تسير سيرًا دورانيًّا بطيئًا، في عكس جهة الكل.
فالثامنة أسرع الدوائر، تليها السابعة، فالسادسة، فالخامسة، وهاتان تدوران
معًا، وظهر أن الرابعة تدور بسرعة أبطأ قليلًا من هاتين، والثالثة رابعتها
سرعة، والثانية خامستها.
وكان المغزل العظيم يدور على ركبتَي «الضرورة»، وعند كل دائرة من دوائره
الثمان إحدى عرائس الجن الفاتنات تصحب الدائرة في كل دورانها، وتُخرج صوتًا
واحدًا، طبق علامة موسيقية واحدة، فينتج عن أصوات العرائس الثمان لحنٌ موسيقيٌّ
واحدٌ.
وعلى بُعد واحد حول هذه تجلس شخصيات أُخَر، كلٌّ على عرش هؤلاء، هُنَّ بنات
«الضرورة» الثلاث، وهن:
«القضاء والقدر»، وأسماؤهن: «لاخيسس»، و«كلوثو»، و«أتروبوس»، وكُنَّ يرفلن
بالثياب الناصعة البياض وعلى رءوسهن الأكاليل، وهن يصدحن على لحن العرائس،
فتغني «لاخيسس» حوادث الماضي، و«كلوثو» حوادث الحاضر، و«أتروبوس» حوادث
المستقبل. وكانت كلوثو تلمس بيمناها حاشية الإطار الخارجية وتفتله من حينٍ إلى
حين، وتفتل أتروبوس بيُسراها الدوائر الداخلية كذلك، أما لاخيسس فتلمس تارة
الخارجية بيمناها وتارة الداخلية بيسراها، فلما وصلت النفوس إلى هناك دُعيَتْ
إلى حضرة لاخيسس، فرتبها الترجمان بنظامٍ خاص، ثم تناول عن حضن لاخيسس قدرًا من
سهام القرعة وطرائق الحياة، وتبوَّأ المنبر العالي ونطق بما نصه: «هكذا تقول
العذراء لاخيسس، ابنة الضرورة: أيتها النفوس القصيرة الأجل، أنتِ بدء خلق جديد
يبدأ دورته هنا، ووجوده زائل. لا تطرح حظوظكنَّ عليكنَّ لزامًا، بل تخترنها
أنتنَّ لأنفسكنَّ، فمن أصاب السهم الأول يختار أولًا حظ الحياة الذي هو نصيبه
الثابت. الفضيلة لا تُساء، فمن أكرمها أكثر نال منها أكثر، ومن ازدراها نال
أقل، فالذي يختار هو المسئول، وليست السماء بملومة.»
ولمَّا قال ذلك نثر السهام على النفوس، فأخذت كل نفس السهم الذي وقع إلى
جانبها، إلا «آر»، فإنه مُنع من الاقتراع. وقرأ كلٌّ العدد الذي على سهمه،
وحينذاك وُضعت على الأرض أمامهم طرائق الحياة، وهي أكثر من النفوس عددًا، وفيها
كل نوع من حياة كل مخلوق حي، أي كل نوع من أحوال الحياة الإنسانية، بما فيه
الحياة الملوكية، بعضها دائمة وبعضها موقتة، تليها الفاقة والنفي والتسوُّل.
وكان هنالك حياة مشاهير الرجال الذين ذاع صيتهم، إمَّا بجمال الشخصية وبهاء
الطلعة، أو بالقوة البدنية والمهارة بالألعاب، أو بشرف المحتد ونبالة السيف.
وكان هنالك أنواع حياة الرجال الذين لم يشتهروا بشيء. وكذلك أنواع حياة النساء
من شهيرات وغير شهيرات. ولكن لم يكن فيهنَّ سجية ثابتة؛ لأن تغيُّر السجية
مقرون بتغيُّر الحياة فتغيُّر النفس حتمًا. على أن المواد كانت كثيرة التنوُّع،
هنا تظهر الثروة، وإلى جانبها الفاقة، هنا المرض، وهنالك الصحة، وهنالك وسط بين
الطرفين.
هذه الدقيقة يا عزيزي غلوكون أشد مواقف الإنسان خطورة؛ ولهذا السبب وجب على
كلٍّ منا فوق كل سبب أن يدرس باجتهاد — دون كل شيءٍ آخر — علمًا يُمكِّنه من
التحصيل والاكتشاف، فيهذبه ويمكنه من التمييز بين الحياة الصالحة والرديَّة،
فيختار بما له من الوسائل الحياة الفُضلى في كل مكان وزمان، مُتقَصِّيًا بوافر
التدقيق التأثير الذي للأشياء التي ذكرناها، في جمال الحياة الحقيقي في الأفراد
وفي الجماعات. ويفهمه ما يخلقه الجمال الممتزج بالثروة أو بالفاقة من خيرٍ أو
شر. ويُفهمه أيضًا كيف تتأثَّر النتيجة بحالة النفس التي تدخل في ذلك المزيج،
وما هي نتيجة مزج عناصر كهذه:
شرف المحتد أو وضاعته، الحياة الخاصة أو الجمهورية، قوة الجسم أو ضعفه، سرعة
الفهم أو بطؤه، وكل ما هو من هذا النوع، سواء أكان مُختصًّا بالنفس طبعًا أم
أنها طلبته عرضًا، ليتمكن بكل هذه المواد من تأليف الحكم، وطرفنا غير ساهٍ عن
ملاحظة طبيعة النفس، ليختار بين الحياة الصالحة والردية، فيدعو الحياة التي
تقوده إلى التوغُّل في التعدي: ردية، والتي تئول إلى زيادة العدالة: صالحة،
مُعرضًا عن كل اعتبارٍ آخر؛ لأننا رأينا أن هذا الاختبار هو الأصلح في الحياة
وفي الموت. ويجب التشبُّث بهذا الرأي بإرادة قوية حين دخول العالم الآتي،
لئلَّا تبهره الثروة أو ما ماثلها من الشرور في هذا العالم أو في العالم الآتي،
ولا يعول على الاغتصاب، أو يعمل عملًا من هذا النوع ينتهي به إلى دماره أو دمار
الآخرين دمارًا كُليًّا، فيزيد كربه.
بل يُحسن اختيار الحياة التي تلتزم منهجًا متوسطًا بين هذه الأطراف،
مُتحاشيًا بكل قوته الميل إلى أحد الجانبين، ليس في هذه الحياة فقط، بل أيضًا
في الحياة الآتية؛ لأنه بهذا التصرُّف يمكنه أن يؤكد صيرورته أسعد
إنسان.
ولنستأنف موضوعنا: روى رسول العالم الآخر أن الترجمان قال في الموقف ذاته:
«إن هنالك حياة مذخورة غير رديَّة، حتى لآخر قادم، إذا لزم القانون وأحسن
الاختيار، فيكون راضيًا بها فلا يستهترنَّ من سبق، ولا يقنطنَّ من تأخر.»
ولمَّا فاه بهذه الكلمات تقدَّم صاحب السهم الأول، واختار حياة أعظم استبداد
يمكن إدراكه حظًّا له، ولجهله وطمعه لم يفحص الأمر فحصًا تامًّا قبل أن يختار،
ففاته أنه «قُضي» عليه بأن يلتهم ابنه في جملة الشرور التي سيقترفها، فلما درس
الأمر في وقت فراغه شرع يقرع صدره ويندب سوء حظه، وأغفل إنذار الترجمان، فلم
يلُم نفسه على بَلِيَّته، بل لام «القضاء والقدر» ولام كل أحد آخر، وهو أحد
القادمين من السماء، وكان قد عاش في حياته السالفة بنظامٍ حسن، فتطرَّقَتْ إليه
الفضيلة بحكم العادة دون مساعدة الفلسفة.
وكان أكثر من نصف المخدوعين حسب رواية آر من القادمين من السماء، وذلك يتضح
من أنهم لم يتدربوا على تحمُّل المشاق. أما أكثر القادمين من الأرض فلم يختاروا
بدون تبصُّر؛ لأنهم خبروا النائبات بأنفسهم، ورأوا فعلها في غيرهم، فبناء على
ما سبق بيانه وبحكم القرعة، تبادلت النفوس حظوظها صالحًا برديء، أو رديئًا
بصالحٍ. ولو أن المرء واظب على درس الحكمة درسًا صحيحًا في دخوله مُعترك الحياة
وأصابته القُرعة للاختيار مع غير الأخيرَين، لكان من أرجح الممكنات — بناء على
الإفادات الواردة إلينا من العالم الآخر — أن يكون سعيدًا في هذه الأرض، وأن
يسير منه إلى العالم الآخر ويعود راجعًا من ذاك، ليس في سردابٍ مُظلم وعر، بل
في طريقٍ سهل سموي. قال:
ومن أغرب المشاهد منظر النفوس تختار نوع حياتها، فإنه مشهد غريب، مُضحكٌ
مُبكٍ، وكان رائدها في اختيارها اختبارها السالف في الحياة، فرأى آر النفس التي
كانت فيما سلف نفس أورفيوس تختار حياة إوزَّة؛ كراهية منها للجنس البشري؛ لأنها
قد قُتلت بسبب إحداهن، فأبت أن تولد منهن ثانيةً. ورأى نفس ثاميراس تختار حياة
بُلبل. ورأى أوزة تطلب تغيير طبيعتها وتختار حياة إنسان، وقد قفَّى على مثالها
خلائق كثيرة من الطيور الغرِّيدة. واختارت النفس التي سهمها نمرة ٢٠ حياة أسد،
وهي نفس أجاكس بن تلامون، الذي أبى أن يعود إنسانًا ذاكرًا القضاء الصارم عليه
بسبب أسلحة أخلَّس. تَلَتْها نفس أغممنون، فاختارت حياة نسر؛ لأن آلامه شرَّبته
بُغض الجنس البشري. ورأى نفس أغلانتا في عداد المختارين، ولمَّا رأت الشرف الذي
أحرزه لاعب الألعاب الرياضية لم يمكنها إغفال ذلك، فاختارت تلك الحياة. بعدها
رأى أبيوس بن بنوبيوس يطلب طبيعة امرأة حاذقة في عملها. ورأى عن بعدٍ نفس
المهرج ثرسيس تتقمَّص جسد قرد بشري. وبالصدفة رأي نفس أولسيس — وهي آخر من
اقترع — فلمَّا تذكَّرَتْ متاعبها السالفة، وأثقال وطأة المطامع على النفس،
وبعد التجوال مليًّا اختارت حياة رجل عادي لا عمل له، وبصعوبة كلية وجدت تلك
الحياة منزوية جانبًا مُهملة من الآخرين، فلمَا رأتها اختارتها مسرورة، وقالت
إنها لو كانت أول من اختار لما اختارت غيرها.
وعلى هذا النحو مضت نفوس الحيوانات إلى أجساد الناس وإلى أجساد غيرها من
الخلائق، ونفوس الناس إلى الحيوانات، فتقمَّصَتْ نفوس المتعدين حيوانات
وحشيَّة، والعادلين حياة أليفة، واختلطَت النفوس بالأجساد اختلاط الحابل
بالنابل.
ولمَّا اختارت النفوس حياتها حسب قرعها، ذهبت بالترتيب إلى «لاخيسس»، فمنحت
كل نفس حظها، وأصحبتها به ليكون خفير حياتها ومتمم اختيارها، فقادها الحظ نفسه
إلى «كلوثو»، فمرَّت بين يديها تحت دوران مغزلها، فصادقَتْ على النصيب الذي
اختارته كل نفس بالترتيب المذكور آنفًا. بعد ذلك قادها إلى «أتروبوس»، فأبرمت
هذه حكم «كلوثو»، ثم تقدمت النفوس رأسًا إلى عرش «الضرورة» ومرَّتْ من تحته.
ولمَّا مرت كل النفوس مرَّ «آر» أيضًا، وسار الجميع إلى سهل «ليث» — النسيان —
في حرٍّ شديد، والمحيط خالٍ من الشجر ومن كل نبت.
ولمَّا جنَّ الظلام حلُّوا وراء نهر «ماليت» — عدم الاكتراث — الذي لا تحمل
مياهه سفينة على الإطلاق، وكان حتمًا على كل نفس أن تشرب من مائه قدرًا
مُعيَّنًا، فالذين فاتتهم الفطنة فشربوا أكثر من القدر المتاح نسوا كل شيء.
ولمَّا ذهبوا للنوم في منتصف الليل حدث رعد قاصف وزلزلة، فحملت النفوس إلى
مواليدها في مختلف الجهات، كالنيازك في عرض الفضاء وأدركت مولدها، وقد مُنع آر
من رشف ماء النهر، ولكنه يجهل كيف، ومتى، وأين، عادت نفسه إلى جسده، إنما بغتة
فتح عينيه فإذا هو على دكة الجنازة.
وهكذا حُفظت القصة يا غلوكون، فلم تُفقَد، وقد تكون وسيلة حفظنا إذا نحن
أصغينا إلى إنذارها، فتفيدنا كيف نفوز بعبور نهر ليث ولا تتدنَّس نفوسنا. ولا
ريب عندي في أننا إذا تبعنا مشورتي، فآمنَّا بخلود النفس، وامتلاكها الحرية على
فعل الخير والشر، فإننا نظل في طريق العلاء، ونحرص حرصًا عظيمًا على استغلال
العدالة مقرونةً بالحكمة، لكي نحب بعضنا بعضًا وتحبنا الآلهة، ليس فقط في
حياتنا الأرضية، بل أيضًا حينما نتقدم — كالفائزين في الألعاب الذين يجمعون
هدايا المعجبين بهم — لنيل جزاء الفضيلة، فلا ننفك مفلحين في هذه الحياة، وفي
سياحتنا في الألف سنة التي أتينا على وصفها.