الدين والثقافة والسياسية
الشريعة والدستور١
كثُر الحديث في الصحف هذه الأيام عن الشريعة والدستور، وهل تُترك المادة الثانية في الدستور «الشريعة الإسلامية أحد المصادر الرئيسية للتشريع» كما هي دون تعديل كما تريد الدولة، أو تبقى وتُعدَّل في صيغةٍ أكثر تشددًا إلى المصدر الرئيسي للتشريع كما يريد التيَّار الإسلامي والجناح المُحافظ في الإخوان المسلمين، أو تُحذَف نهائيًّا كما يريد التيَّار العلماني والإخوة الأقباط.
وهي قضيةٌ مُفتعَلة، المقصود بها ملء مادة في الصحافة، وزيادة الفُرقة بين الناس، وإشعال حرب أهلية بين التيَّارات الفكرية والسياسية الأساسية في مصر، بين الإسلاميين والعلمانيين؛ كي يضعف جناحَا المعارضة الرئيسيان في مصر، وبين المعارضة والدولة؛ لإذكاء الخلاف حول موضوع فقهي نظري صِرف لإبعاد النظر عن سياسات الدولة؛ التبعية والتحالف في الخارج، والقهر والفساد في الداخل. تخرج فيها الدولة مُنتصرةً على خصومها السياسيين لتظهر أمام الناس كأنها الحامي للوحدة الوطنية، والتي تُمثل الاعتدال والتوسط ضد التطرف والعنف.
ليس المقصود هو الظاهر، الخلاف على مادة في الدستور، بل تكشف صراعًا مكبوتًا على السلطة بين الإسلاميين والعلمانيين، وإشعال الحرب بين الإخوة الأعداء. كل فريق يتصور أنه الوريث للدولة الأمنية والنظام السياسي الحالي الذي وصل إلى طريقٍ مسدود مُتوقفًا عن السير، تدبُّ فيه عناصر التفكُّك الاجتماعي والسياسي، وتتحول إلى شِللٍ مُتصارعة وجماعات ومصالح مُتضاربة. المقصود أيضًا كسب الدولة معركة تعديل الدستور ضد خصومها السياسيين. وكلها، المعارضة والدولة، تتملق أذواق الجماهير وقناعتها بالإسلام، عقيدة وشريعة، ويُزايد كل فريق على الآخر؛ يُزايد الإسلاميون على العلمانيين في المحافظة على التراث والدفاع عن الهُوية وتطبيق الشريعة الإسلامية وإيمان المجتمع، ويُزايد العلمانيون على الإسلاميين في الحداثة والمدنية والمواطنة. خطاب الفريق الأول موجَّه إلى الداخل لكسب الأصوات، وخطاب الفريق الثاني موجَّه إلى الخارج لكسب الدعم الخارجي. وتُزايد الدولة على خصومها السياسيين تعبيرًا عن الإجماع الوطني والرؤية الوسطية التي تلمُّ الشمل وتحمي الوحدة الوطنية.
وهي قضيةٌ نظرية خالصة لا ينتج عنها أي أثر عملي؛ فسواء بقيت هذه المادة في الدستور أم أُلغيت، وسواء ظلَّت على صياغتها التوافقية الحالية أم عُدِّلت نحو أحد التيَّارين المُتعارضين، فإن الدولة الأمنية باقية. والأمر كله مجرد ذر للرماد في العيون؛ فالدولة أول من يخرق بنود الدستور، بقانون الطوارئ والحبس الاحتياطي الذي يتجدد بمجرد إفراج النيابة عن المُعتقَلين لمدة أسبوعين، بحد أقصى ستة شهور؛ أي اثنتا عشرة مرة! ورجال الدولة، وهم رجال الأعمال، هم بؤرة الفساد. يجمعون بين السلطة والثروة، ويتعاملون مع الخارج قبل الداخل. كل ذلك إشعال للناس وللرأي العام بعيدًا عن سياسات الدولة الخارجية، وترك العراق يُذبَح على مدى أربع سنوات، وفلسطين يُصفَّى دم شعبها منذ الانتفاضة الأولى على مدى عشر سنوات، واحتلال الصومال، ومخاطر تفتيت السودان، وتهديد سورية وإيران وحزب الله والمقاومة في لبنان. كما أنه إبعاد لهم عن قضايا القهر والفساد وتزوير الانتخابات والمواجهة مع الإخوان والقضاء والجامعات والنقابات والاتحادات وأحزاب المعارضة وحركات المجتمع المدني.
إن الشريعة ليست كلًّا صامتًا جامدًا ثابتًا مُتحجرًا صلبًا عبر التاريخ، بل هي مُتجددةٌ مُتغيرة بتغيُّر الظروف والمصالح، وبتبدُّل الزمان والمكان. الشريعة تعبير عن واقع كما يتضح ذلك من «أسباب النزول». الواقع يسأل، والشريعة تجيب يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ (البقرة: ١٨٩)، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (البقرة: ٢٢٢)، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ (البقرة: ٢١٨)، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ (الأنفال: ١)، والإجابة قُلْ.
معظمها إجاباتٌ عملية تهدف إلى تحقيق مصالح الناس؛ الأهلَّة لمعرفة المواقيت، والمحيض أذًى يوجب الاعتزال عن النساء، والخمر بها مضارٌّ للصحة والعقل والمال، ولا جواب عن أسئلةٍ نظرية لا ينتج عنها أثرٌ عملي، مثل وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ (الإسراء: ٨٥). وهناك أسئلةٌ انتهى عصرها، مثل السؤال عن الأنفال والغنائم؛ فلا تُوزَّع غنائم الحرب، في حالة الانتصار اليوم، سلاحًا وعتادًا وإماءً على المُحاربين، بل تصبح ملكًا للدولة. والأسرى، نساءً ورجالًا، تحميهم المواثيق والمعاهدات الدولية. والشريعة مُتغيرة بتغيُّر الزمان بدليل «الناسخ والمنسوخ»؛ فالأحكام الشرعية مُتطورة بتطوُّر الزمان كما هو الحال في تحريم الخمر الذي تدرَّج كما هو معروف، من الضرر إلى عدم شربه وقت الصلاة إلى اجتنابه كليةً. وأحيانًا يتجاوز الواقع والزمان أحكام الشريعة، مثل أحكام الغنائم والإماء والصيد. وقد أوقف عمر العمل بحد السرقة عام المجاعة كما هو معروف، وأوقف سهم المؤلَّفة قلوبهم، وأفتى محمد عبده بجواز أخذ فوائد التوفير نظرًا لانخفاض العملة عبر الزمان، وأفتى آخرون بإيقاف تعدُّد الزوجات كحقٍّ مُطلَق استنادًا إلى تعليقه على شرطٍ مُستحيل، وهو العدل بينهن. ورأى آخرون إبقاءه بعد إخطار الزوجة الأولى. وشُكِّلت لجان لإعادة تقنين الشريعة طبقًا لأحوال العصر، وإعطاء صياغات جديدة لقانون الأحوال الشخصية بدلًا من توقُّف المطلَّقات والأرامل، واللاتي يُهاجر أزواجهن إلى مناطق جذب العمالة دون إخطار زوجاتهن. كلٌّ منهن تحمل على ذراعَيها وليدها، أو تجرُّ في أذيالها أبناءها وبناتها.
ولا الدساتير أيضًا ثابتة، ولا شريعة نابليون التي اعتبرها الطهطاوي مُتفقة في روحها مع الشريعة الإسلامية أيضًا ثابتة إلى يوم الدين؛ لذلك يدرس طلاب الحقوق تاريخ القانون لبيان تطوُّره عبر العصور. وتتغير القوانين الحديثة من عصر إلى عصر، ومن شعب إلى شعب، ومن ثقافة إلى ثقافة في القانون الجنائي والقانون المدني، وقانون المرافعات. والقانون التجاري يعكس موازين القوى الاجتماعية والتركيب الطبقي للمجتمع، والقانون الدولي العام والخاص تُسيطر عليه القوى الكبرى في صياغاته وأهدافه، ويعبِّر عن موازين القوى الدولية في كل عصر. وطالما أُدخلت تعديلات على كل الدساتير كملاحق لها، بل قد تتغير بتغير النظام السياسي من ملكي إلى جمهوري، والنظام الاقتصادي من رأسمالي إلى اشتراكي. والدستور المصري الحديث ليس ثابتًا، بل أُعيدت صياغته عدة مرَّات منذ دستور ١٩٢٣م إلى دستور ١٩٧١م.
تختلف مدارس القانون في فهم طبيعة القانون بين أكثرها محافظةً وأشدها تحررًا؛ فالمدرسة المحافظة تعتبر القانون تعبيرًا عن الإرادة الإلهية، وهو عامٌّ شامل مُطلَق مثلها لا يتغير بتغير الزمان والمكان. وتراه المدرسة العقلية تعبيرًا عن العقل الخالص. والعقل أيضًا ثابت لا يتغير، العقل البديهي البسيط. وتراه المدرسة الطبيعية تعبيرًا عن الطبيعة الإنسانية وبنيتها الفطرية. وهي أيضًا ثابتة لا تتغير. فالإنسان إنسان منذ الخلق حتى البعث.
يبدأ التصور الاجتماعي المُتغير للقانون ابتداءً من المدرسة الاجتماعية والتطورية التي تعتبر القانون تعبيرًا عن نظام المجتمع، يتطور بتطور المراحل التاريخية للمجتمعات، وتاريخ التشريع ونظام القرابة شاهد على ذلك. ومنها من يعتبر القانون انعكاسًا للصراع الطبقي في المجتمع وتوازُن القوى فيه كما هو الحال في مصر؛ لذلك تتغير التشريعات ونُظُم التعليم والاقتصاد في كل جيل عدة مرَّات، بل إن هذا القانون ذاته يخضع لتأويلات وتفسيرات مُتعددة طبقًا لفهم القانون عند المُدعي العام والدفاع والقاضي. وصراع التأويلات هو صراعٌ قوي ينعكس في طريقة فهم النصوص؛ لذلك نشأ صراع بين حرف القانون وروح القانون بين نفس المدرستَين المحافظة والتحرُّرية.
والشريعة ليست كلًّا واحدًا، ورأيًا واحدًا، واتجاهًا واحدًا، بل هي مُتعددة الآراء والاتجاهات بين المذاهب الفقهية الأربعة الشهيرة. ويختار كل شعب المذهب الذي يتَّفق مع خصوصيته. اختارت مصر الشافعية، الوسطية بين الحنفية والمالكية، وإن كانت جزءًا من المنظومة المالكية للمغرب العربي، وفي الأحوال الشخصية حنفية. وأصبحت اليوم في السلوك اليومي حنبلية تحت تأثير التيَّار المُحافظ في شبه الجزيرة العربية، وكردِّ فِعل على انهيار الدولة الحديثة في مرحلة ما بعد الاستعمار، واستبعاد الحركة الإسلامية من المشاركة السياسية بعد الثورات العربية الأخيرة على مدى أكثر من نصف قرن، وفشل الأيديولوجيات العلمانية للتحديث؛ الليبرالية والقومية والماركسية.
ولا يعني تطبيق الشريعة تطبيق الحدود؛ أي قانون العقوبات؛ فلا واجبات بلا حقوق. وإذا كان من الواجبات تطبيق الأحكام الشرعية أوامر ونواهي، فمن الحقوق إعطاء كل فرد حقَّه في بيت المال، في الغذاء والكساء والإسكان والعلاج والتعليم والعمل والمشاركة في ثروات البلاد قبل تطبيق حد السرقة أو حد الزنا؛ فلكل حكم سبب وشرط ومانع، فلا يُطبَّق حد السرقة بدافع الجوع والحرمان وبعموم البلوى إذا كان الكل سارقًا. وهناك فرق بين السرقة من أجل البقاء والسرقة لنهب الأموال وثروات البلاد. ولا تتعلق الشريعة فقط بالأحوال الشخصية، بل بالأحوال العامة، ليس من الباب الضيِّق، من غرفات النوم، بل من الباب العريض، من النظام السياسي والاجتماعي. نظامها السياسي شورى ضد الاستبداد بالرأي وفردية القرار. يقوم على البيعة، وليس على الانقلاب العسكري أو الوراثة والتوريث. ونظامها الاقتصادي يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وعلى التوزيع العادل للدخل القومي طبقًا لطبيعة العمل وحده. ونظامها القانوني يقوم على الحسبة والرقابة على الأسواق وجهاز الدولة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية حتى عند السلفيين. ونظامها القضائي يقوم على استقلال القضاء. مهمتها الذبُّ عن البيضة؛ أي الدفاع وتقوية الثغور والحفاظ على استقلال البلاد الوطني ووحدة الأمة وتنمية مواردها وإعمار الأرض. والخروج على الحاكم الظالم واجبٌ شرعي بعد استيفاء الشروط؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لأُولي الأمر، واللجوء إلى قاضي القضاة.
هناك فرق بين الجِد والهزل، بين تحقيق المصالح العامة وإثارة المشاكل المُفتعَلة لملء الفراغ السياسي، والإيهام بمشاركة الشعب في تعديل الدستور. إن المصدر الأول للتشريع هو المصالح العامة، تحقيق أكبر قدر من المصلحة لأكبر عدد ممكن من الناس؛ فالمصلحة أساس التشريع كما قرَّر بذلك كل الفقهاء، وعلى رأسهم الشاطبي والطوفي إمام الحنابلة. وما يحدث اليوم من تعديلات للدستور إضرار بالمصالح العامة، وهي أساس الشريعة والدستور في آنٍ واحد.
الإسلام والصراع على السلطة٢
يكثُر الحديث عن الإسلام في الصحف اليومية والمحلات الأسبوعية والشهرية. وليس المقصود منه عرض الإسلام في ذاته، أو بيان حلوله لبعض المشكلات والأزمات الطاحنة التي تمرُّ بها المجتمعات العربية والإسلامية، بل المقصود من كل خطاب، على الرغم من تنوُّع الخطابات، الصراع على السلطة؛ فالسلطة هدف الجميع، حكومةً ومعارضة.
والحسابات الفلكية أدقُّ وأضبط تستعمل الدولة، أي النظام الحاكم أو الحكومة بالتعبير الشعبي، الإسلام لصالح البقاء في الحكم والاستمرار في السلطة؛ فالإسلام في الصحف هو الإيمان ومضمونه العقائدي الغيبي أو الشعائري، السمعيات وليس العقليات، النظريات وليس العمليات. وهو الاعتدال ضد التطرف، والتسامح ضد العنف، والوحدة الوطنية ضد الفُرقة، وبناء المساجد والكنائس على حدٍّ سواء، دون تمييز لفريق على فريق، وعيد ميلاد السيد المسيح إجازةٌ رسمية مثل المولد النبوي سواءً بسواء، وتُقيم الدولة مسابقات تحفيظ القرآن، وتُساهم في إقامة الأعياد والموالد للأولياء، وتُحافظ على التراث، وتطبعه وزارة الثقافة، وتقوم الدولة من خلال وزارة الأوراق والشئون الدينية بذلك، ومشيخة الطرق الصوفية تابعة لرئاسة الجمهورية مثل جامعة الأزهر مكتبة الإسكندرية، وتُبقي على الإسلام دينًا رسميًّا للدولة بالرغم من اعتراضات العلمانيين بأن الدولة لا دين رسمي لها لأنها تُمثل جميع المُواطنين بصرف النظر عن إيمانهم، وتُبقي على المادة الثانية التي تنصُّ على أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع حتى لا تُزايد الحركات الإسلامية عليها. وهي تعلم أن كل ما يُسَن من قوانين في البلاد مثل قانون الطوارئ، والأحكام العُرفية، وقانون مكافحة الإرهاب، كلها معارضة للشريعة الإسلامية التي تؤكِّد حرمة المسلمين؛ أعراضهم وأموالهم. وهي تعلم أيضًا أن كل ما يحدث في البلاد من احتكار تجارة الحديد والأسمنت، وتلاعب بالأسعار، ومضاربات في العقارات، وبيع أصول مصر، مصانعها وجامعاتها وبنوكها، وربما قناتها، بدعوى الخصخصة والدخول في عصر العولمة والمنافسة واقتصاد السوق إنما هو ضد الشريعة الإسلامية التي تحرِّم الاحتكار لأن المُحتكر ملعون، والتلاعب بالأسواق، وبيع الركاز؛ أي كل ما هو في باطن الأرض كالمعادن، أو ثابت لا يتحرك لا يُنقَل في الأسواق. وهي تمنع تأسيس أحزاب مثل الإخوان أو الوسط لأنها تقوم على أساسٍ ديني؛ مما يؤدي إلى الفتنة الطائفية وقسمة أبناء الوطن الواحد إلى طائفتين. وهي تعلم أن الأحزاب «الدينية» أحزابٌ مدنية تقول بأن السلطة للشعب بناء على الاقتراع العام، وتقول بالتعدُّدية السياسية. وليس الإسلام إلا الإطار المرجعي العام كالأيديولوجيات السياسية، الليبرالية والاشتراكية والقومية. والمحك هو البرنامج الحزبي.
والإسلام في أيدي الإسلاميين ليس المقصود به الإسلام في ذاته، بل الإسلام من أجل الوصول إلى السلطة، الإسلام في معترك الصراع السياسي؛ فهم المُحافظون على تراث الأمة العريق من الاندثار والضياع، والداعون إلى التواصل معه. ولا يُصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. وهم المُدافعون عن تطبيق الشريعة الإسلامية ضد القانون الوضعي الذي يُلاقي تحته المُواطنون أشدَّ ألوان العذاب في المكاتب الحكومية وفي أجهزة الدولة، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة: ٤٤)، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (المائدة: ٤٥)، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (المائدة: ٤٧). وهم المُدافعون عن الهُوية ضد التغريب، والمُتمسكون بالأصالة دون الحداثة، والمُحافظون على روح الأمة الخالدة ضد إغراءات الدنيا. وهم استمرار للخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، وتابعي التابعين إلى يوم الدين. هم خلفاء الأمة. والعلماء ورثة الأنبياء. شعاراتها سلطويةٌ إقصائية أحادية الجانب. «الإسلام هو الحل» مع أنه لا يوجد حلٌّ واحد لأي قضية. «الإسلام هو البديل»، والبدائل مُتعددة. ولا يوجد بديلٌ واحد إلا في أوقات الهزيمة بحثًا عن الخلاص وتعلقًا بطوق النجاة. «تطبيق الشريعة الإسلامية» للثورة على القوانين الوضعية؛ وبالتالي الثورة على الدولة من أجل الحكم بما أنزل الله.
هدف هذه الشعارات هو تقويض ما هو قائم، وليس تغييره إلى ما هو أفضل والبناء عليه؛ فالهدم يأتي قبل البناء، والبناء يأتي بعد الهدم. الإسلام هنا وسيلة للوثوب إلى السلطة، وهو حقٌّ مشروع لكل القوى السياسية في البلاد؛ فليست السلطة حكرًا على أحد، بل يتم تداولها طبقًا لصناديق الاقتراع والانتخابات الحرة مهما تغيَّرت مواد الدستور إلى البقاء في السلطة أكثر من دورتَين ثم إلى مدى الحياة.
والدين في أيدي العلمانيين يقوم على تشويهٍ مُتعمد له من أجل إبعاد خصومهم الإسلاميين في الصراع معهم على السلطة عندما تضعف الدولة، ويصبح النظام السياسي تابعًا للخارج وقاهرًا للداخل، كي يكون أحد الجناحين، الإخوان أو الشيوعيون، هم السلطة البديلة القادمة بعد أن تتفتَّت السلطة القائمة؛ فالدولة الإسلامية دولةٌ دينية، وليست دولة مدنية. يحكمها رجال الدين باسم الله ونيابةً عنه. هي دولةٌ ثيوقراطية، إمامها خليفة الله في الأرض مثل ولاية الفقيه. قضى عليها الغرب في عصوره الحديثة، واستبدل بها الدولة المدنية، وفصل الدين عن الدولة، والسلطة الدينية عن السلطة السياسية، والكنيسة عن الدولة. ولما شاعت ثقافة الغرب، وعمَّ نموذجه، وتمَّ إسقاطه على باقي الثقافات والشعوب؛ كرِه الناس الإسلام وخافوا منه. فمن يريد العصر الوسيط، وتحالف الكنيسة مع الملكية كنظامٍ سياسي، ومع الإقطاع كنظامٍ اجتماعي؟ وهل يرضى الأقباط أن يعيشوا في كنف الدولة الإسلامية كأهل ذمة؟ وأهل الذمة في الاستشراق الغربي الذي ذاع وانتشر مُواطنون من الدرجة الثانية. أقلية وسط الأغلبية. تؤخَذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون. والرأي العام العالمي، وأقباط المهجر جزء منه، يروِّجون لمثل هذه الأحكام الخاطئة طلبًا لتأييد الغرب لحقوق الأقليات، واستعداءً للدول الكبرى والمنظمات الدولية، خاصةً الأمم المتحدة التي نصَّبت نفسها مُدافعةً عن الأقليات، وتُصدر القرارات الدولية بمعاقبة الدول التي تنتهك حقوقها باسم الإسلام. والإسلاميون لا يُسلمون بتداول السلطة، إذا وصلوا إليها فإنهم باقون فيها إلى الأبد، كما أعلن مرةً رئيس جبهة الإنقاذ في الجزائر بعد نجاح الإسلاميين في الانتخابات البلدية أن هذه آخر الانتخابات. وما بعد الحق إلا الباطل؛ فأخاف الناس، وأثار الجيش، فانقلب عليهم، انقلاب على انقلاب، وسلطة على سلطة. يخلط الإسلاميون بين الدين والسياسة، ويستعلمون الدين لصالح السياسة دون كشف ذلك أيضًا في منطق الدولة من أجل إقصاء الخصوم. والدين تجربةٌ شخصية، في حين أن السياسة فضاءٌ عام.
الدين علاقة الإنسان بينه وبين ربه، والسياسة علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. الدين لله، والوطن للجميع. والإسلام ضد حرية الفكر، لا يقبل الحوار مع الخصوم، يكفِّرهم ويستبعدهم ويُزيحهم ويُقصيهم، بل ويُصفيهم جسديًّا، ويستعمل كل وسائل العنف من أجل تخليص المجتمع من الفِرق الهالكة باسم الفِرقة الناجية. يحكمون بمفردهم، ولا يدخلون في جبهاتٍ وطنية مع باقي القوى السياسية، الليبراليين والماركسيين والقوميين؛ فقد اغتيل حسن البنا في العصر الليبرالي، وأُعدم سيد قطب في العصر القومي الاشتراكي لممارسة العنف وتكوين التنظيمات السرية لقلب نظام الحكم. وقد لا يُطيق فريقان إسلاميان بعضهما البعض، كل فريق يريد الحكم بمفرده كما هو الحال في السودان بين الإخوان في الحكم، والجبهة القومية في المعارضة. والشريعة الإسلامية هي فقط الحدود؛ قطع الأيدي والرقاب والجَلد والرجم والصلب والتعليق على جذوع الأشجار والحريم وتعدد الزوجات والطلاق وعدم مساواة المرأة بالرجل والتخلف ومعاداة العلم والمدنية إلى آخر ما يقوله الاستشراق التقليدي. ولا فرق بين ما تروِّجه الدولة ضد الإسلاميين، وما يروِّجه العلمانيون ضدهم؛ فالعدو واحد، وهم الإسلاميون، مع أن الدولة والعلمانيين باعتبارهم أحد أجنحة المعارضة الرئيسيين للمعارضة رفاق نضال.
إن تشويه الإسلام من أبنائه في أتُّون الصراع السياسي ضد العلم وضد الوطن؛ فليس من مصلحة الدولة ولا العلمانيين ولا الإسلاميين تشويه الإسلام وتسليمه لأعدائه لصالح الصراع السياسي على السلطة. السلطة زائلة، وثقافة الأمة باقية.
الأصلح للجميع حفاظًا على تراث الأمة الذي يكوِّن الرافد الرئيسي في ثقافتها السياسية، التعامل مع الإسلام في ذاته، وكيف أنه قادر على الدفاع عن مصالح الأمة واستمرارها في التاريخ والدخول في تحديات العصر، تحرير ما تبقَّى من الأراضي المُحتلة في فلسطين وكشمير وسبتة ومليلية، وما زاد عليها في العراق وأفغانستان والشيشان كما يريد الوطنيون جميعًا، وتحرير المُواطن من كل صنوف القهر السياسي والاجتماعي تحقيقًا لشعار «لا إله إلا الله»، والجهر بالحق، وقول كلمة حق في وجه سلطان جائر كما يريد الليبراليون، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، وجعل العمل المصدر الوحيد للقيمة بدلًا من هذا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء وتهريب الأموال والاتجار بالأرزاق كما يريد الماركسيون، والدفاع عن وحدة الأمة ضد مخاطر التجزئة والتفتيت العِرقي والطائفي، وتحقيق التنمية المستقلة في أمةٍ مُتكاملة في اقتصادها بين الثروات وعائدات النفط والعقول والسواعد كما يريد القوميون الوحدويون، والدفاع عن الهوية ضد التغريب والتميع كما يريد الإسلاميون، وتجنيد الجماهير وحشد الناس الذي تُعاني من غيابه جميع فِرق المعارضة. ليس من مصلحة أحد تشويهُ الإسلام من أجل الصراع على السلطة، بل من مصلحة الجميع إبراز قدرة تراث الأمة على تحقيق مصالحها الوطنية، وأن يكون وعاءً للوحدة الوطنية التي يجتمع فيها كل الفرقاء على الحد الأدنى من المصالح العامة على مستوى العمل، مع أكبر قدر ممكن من التعددية السياسية وحق الاختلاف على مستوى النظر.
مصر وتركية وإيران٣
في عصر التكتُّلات السياسية والاقتصادية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلنطي والاتحاد الأوروبي ومجموعة الثمانية، يقف الوطن العربي وحيدًا مجزَّءًا إلى أقطار، ومهدَّدًا بالتقسيم إلى دُوَيلاتٍ طائفية؛ شيعية وسُنية، وإسلامية وقبطية، أو عِرقية؛ عربية، كردية، بربرية، زنجية، ثم إشعال الحروب بينها حتى تتحول إلى فُتاتٍ تابع للتكتُّلات الكبرى. وحاولت دولٌ أخرى إقامة تكتُّلات مُماثلة في أمريكة اللاتينية، النافتا، وفي أفريقية، الاتحاد الأفريقي، وفي الوطن العربي، الجامعة العربية، وفي العالم الإسلامي، منظمة المؤتمر الإسلامي، وفي عالم النفط، منظمة الأوبك، وفي جنوب شرق آسيا، الآسيان، وأخيرًا مجموعة الدول الأفريقية الآسيوية الأربع وعشرين ومركزها أندونيسية، وماليزيا، وإيران، وتركية، ومصر، ونيجيريا؛ لتنشيط دول مؤتمر باندونج، وتحويله من مستوى الوجدان إلى مستوى الفعل بعد ما يزيد على نصف قرن. ومع ذلك ظلَّت ضعيفةً صورية خطابية، لا تستطيع الصمود أمام التكتلات الكبرى، وليس لها ثقلٌ سياسي لأنها خالية من الثقل الاقتصادي الذي تستطيع به منافسة التكتُّلات الكبرى في السوق طبقًا لحرية المنافسة وفي عصر العولمة.
فهل تستطيع مصر والوطن العربي مع دول الجوار، تركية وإيران، تكوين تكتُّل سياسي اقتصادي يحميها من التجزئة والتفتُّت والتقسيم، ويجعلها قادرة على الصمود أمام التكتُّلات الكبرى، وربما تكوين بؤرة لبداية قطب ثانٍ في أفريقية وآسيا قادرًا على أن يُواجه القطب الأول في عالمٍ مُتعدد الأقطاب؟
إن التاريخ المشترك بين مصر وتركية ظلَّ أكثر من خمسة قرون منذ فتح سليم الأول مصر عام ١٥١٧م، وظلَّت درَّة الخلافة العثمانية كما كانت الهند في عصر الاستعمار درَّة التاج البريطاني. وبسبب نظام السُّخرة ونظام الالتزام والتسلط التُّركي ومركزية الباب العالي والنظام الملِّي وقهر شعوب البلقان، بدأ ضعف الخلافة العثمانية. ومع ذلك حاول محمد علي إحياءها من مصر بتأسيس دولة قوية جديدة أكثر استنارة من دولة الخلافة. وظلَّت العلاقة بين مصر وتركية حتى القرن العشرين إبَّان حركة التحرُّر الوطني ضد الاستعمار البريطاني في الحكم والمصاهرة.
وظلَّت نفس العلاقة المتينة بين مصر وإيران، أقوى دولتين في العالمين السُّني والشيعي. بينهما صلات رحم بين الأسرتَين الحاكمتين، الشاه ومحمد علي، وأواصر صداقة بين الشعبَين. جمعهما التراث الإسلامي، خاصةً الشعر والتصوف، الفردوسي والرومي، والخيَّام وإقبال.
سبقت الثورة المصرية في ١٩٥٢م بقيادة الضباط الأحرار، الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الأئمة الأحرار. واستلهمت تأميم القناة في ١٩٥٦م من تأميم مصدق النفط في ١٩٥٤م، وهروب الشاه بعد مغادرة ملك مصر والسودان البلاد. وظلَّت الثورة المصرية تؤيد زعماء الثورة الإيرانية بالمال والسلاح بعد عودة الشاه عن طريق العراق ضد العدو المشترك؛ أمريكة وإسرائيل، ثم بدأت القطيعة بين البلدَين بعد انقلاب الثورة المصرية على نفسها، وتحوُّلها إلى ثورةٍ مضادَّة أثناء الجمهوريتين؛ الثانية في السبعينيات على مدى عقد من الزمان، والثالثة في الثمانينيات حتى الآن على مدى ثلاثة عقود من الزمان. وما زالت مستمرَّة بالبقاء في السلطة مدى الحياة، أو بمخطَّطات التوريث وتعديلات الدستور وتأييد الولايات المتحدة وإسرائيل، بل تحالفت الثورة المضادَّة مع الولايات المتحدة في سياساتها الأمنية في الوطن العربي، وفي غزوها للعراق، وعقدها معاهدة صلح مع إسرائيل، وهي ما زالت تحتل أراضي ثلاث دول عربية.
إن القومية العربية ليست أيديولوجيةً سياسية مغلقة، بل مفتوحة على دائرةٍ أوسع هي العالم الإسلامي. والعروبة ليست بأب أو أم؛ أي مفهومًا عرقيًّا، إنما العروبة هي اللسان؛ فكل من تكلَّم العربية فهو عربي. وقديمًا تمَّت التفرقة بين العرب العاربة والعرب المُستعربة. وربما كل العرب خارج شبه الجزيرة العربية وصحراء الشام الامتداد الطبيعي لها عربٌ مُستعربة؛ فإعادة صياغة حدود القومية العربية بحيث تشمل دول الجوار غير العربية التي أخذت الإسلام دون اللسان تفترضه طبيعة التكتُّلات الكبرى الحالية، وتتجاوز بعض أوجه النقص في ممارسات النُّظم السياسية التي حكمت باسم القومية العربية في مصر وسورية والعراق.
إن تكتلًا سياسيًّا اقتصاديًّا جديدًا بين مصر وتركية وإيران يضمُّ أكثر من مئتَي مليون نسمة في نفس حجم سكان أوروبة، وأمريكة، واليابان. وتستطيع مصر أن تستدعي الوطن العربي معها؛ فهي بؤرته. والعالم الأفريقي معها؛ فهي جزء منه. وتستطيع تركية وإيران أن تجلب معها أواسط آسيا بما في ذلك باكستان وأفغانستان، وجنوب شرق آسيا، أندونيسية وماليزيا؛ فيُعاد إحياء حركة تضامن شعوب آسيا وأفريقية من جديد، قلب باندونج بعد نصف قرن. الإمكانيات السكانية والصناعية بلا حدود. تعتمد على النفط والصناعات المدنية والعسكرية، والمنطقة الاستراتيجية والعمالة، السواعد والعقول، والأسواق، والاتصال البحري والبري، والإرث التاريخي المشترك، والثقافة الإسلامية الجامعة بين الشعوب. ومياه النيل ودجلة والفرات قادرة على جعل الزراعة مُكتفيةً بذاتها، بدلًا من الصراع حولها بين سورية والعراق من ناحية، وإيران من ناحيةٍ أخرى، وحول مياه النيل بين الدول المُطلَّة على حوضه. يستطيع هذا التكتُّل الجديد أن يُحافظ على عروبة فلسطين، واستقلال دولة فلسطين، واسترداد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كما يستطيع أن يُقدم كل وسائل العون والحماية لدول الخليج التي هي مُفترَق الطُّرق بين العرب وإيران، والجسر الثقافي بين السُّنة والشيعة، وإحياء إعلان دمشق بدلًا من المظلة الأمريكية الإسرائيلية؛ وبالتالي ينتهي التناقض بين السنة والشيعة، بين العرب وإيران. كما تبتعد تركية عن إسرائيل، وقد بدأ. وتستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية، وتُبدع نموذجًا جديدًا للتطور والتنمية بعد النموذج الغربي الذي اختارته الثورة الكمالية في ظروفها التاريخية الأولى أثناء ضعف الخلافة ونهايتها.
كما تجد مصر عونًا جديدًا لها بدلًا من الاعتماد الكلي على الغرب والولايات المتحدة في تنميتها وقضاياها الوطنية. كما يُساعد التكتُّل الجديد على تحرير العراق واسترداد استقلاله ووحدة شعبه وأرضه، وعلى الدفاع عن سورية ضد مخاطر التهديد الإسرائيلي الأمريكي، بل يُساعد على انصهار فرقاء النضال والخصوم السياسيين في إطارٍ وطني واحد، في لبنان والمغرب العربي، والسودان والصومال، ونزع فتيل التوتُّر في شبه الجزيرة العربية، وحماية الأمن القومي الخليجي من الإحساس بالخطر الإيراني النووي والمذهبي.
والصحوة الإسلامية الحالية عنصرٌ مشترك في مصر وتركية وإيران بأجنحتها المختلفة السلفية والإصلاحية، الليبرالية والاشتراكية. وليس فقط التاريخ المشترك على مدى آلاف السنين منذ ظهور الإسلام، بل أيضًا الثقافة المشتركة التي توحِّد بين الشعوب، وكلاهما يوفِّران الحد الأدنى من التضامن بينها. لقد منعت تركية مرور القوات الأمريكية فوق أراضيها لغزو العراق من الشمال، واستعمال القاعدة الأمريكية إنجرليك لضرب العراق. والآن تبتعد تدريجيًّا عن إسرائيل، والتعاون معها في الصناعات العسكرية، وتأييد سياساتها الاستيطانية التوسعية؛ فقد وجدت في العرب البديل عن الغرب، وفي مصر البديل عن إسرائيل.
يستطيع هذا الثلاثي الجديد أن يحلَّ باقي المشاكل العالقة بين تركية والعرب، مثل لواء الإسكندرونة على الحدود السورية التركية، وقضية الأكراد على الحدود العراقية التركية الإيرانية، وقضية التقسيم العادل لمياه دجلة والفرات بين العراق وسورية وتركية في عصرٍ تشتدُّ فيه أزمة المياه، وربما الحرب القادمة في المنطقة هي حرب المياه. كما يستطيع هذا التجمُّع حل مشاكل الجزر الإماراتية بما يُحقق حسن الجوار على ضفتَي الخليج في إطار من محافظات التكامل في مناطق النزاعات الحدودية التي تركها الاستعمار من أجل بث الفُرقة بين الدول العربية والإسلامية. وفي هذه الحالة لا تخاف مصر من المدِّ الإسلامي؛ إذ يصبح الإسلام أحد عناصر التعاون والترابط والحياة المشتركة، وينتهي الخوف من الخلاف السُّني الشيعي، أو المناطق الحدودية مثل عربستان، وحول تسمية الخليج العربي أو الفارسي؛ فالإسلام تجمعٌ حضاري وليس جغرافيًّا. كما يحلُّ النزاع بين سورية وتركية حول حزب العمال الكردستاني، وبين مصر وإيران حول التوجهات السياسية من أجل عودة العلاقات بين البلدين بعد انقطاعها على أكثر من ربع قرن، وهو ما لا يحدث في العلاقات الدولية، وكأن إيران تُمثل خطرًا على مصر أكثر من إسرائيل. كما ينتهي خوف إيران من ضربها من الولايات المتحدة الأمريكية عبر المنطقة العربية، وخوف الخليج من الخطر النووي المذهبي الإيراني.
إن تحقيق كومنولث بين مصر وتركية وإيران يُعيد التوازن إلى المنطقة بدلًا من ميل العرب نحو الغرب الأمريكي ومناهضة إيران له، وميل العرب إلى الصلح مع إسرائيل في مبادرة السلام العربية وخارطة الطريق وإنشاء دولة فلسطين في ١٩٦٧م، وميل إيران إلى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، فلسطين ١٩٤٨م، وفلسطين ١٩٦٧م. وهو الذي يحمي المنطقة من الصراع المذهبي والعِرقي، وإقامة تجمُّع سُني في آسيا وأفريقية لمحاصرة المد الشيعي في العراق.
وهو الذي يُعيد المعركة إلى جبهتها الأصلية في فلسطين، وحماية الأمة من الهيمنة الغربية الأمريكية بدلًا من تغييب المعركة والانحراف بها إلى الداخل بين المذاهب والطوائف والأعراق.
وكما أن العصر هو عصر التكتُّلات الكبيرة، فإنه أيضًا عصر الاستراتيجيات الكبرى التي يضعها الخيال السياسي ومسار الأمم في التاريخ.
الاستقطاب المصطنَع٤
بالرغم من حالة التميُّع السائدة في السياسة الخارجية العربية يشتدُّ الاستقطاب في السياسة الداخلية. الاستقطاب في الخارج شيءٌ طبيعي بين العرب من ناحية، وإسرائيل والولايات المتحدة من ناحيةٍ أخرى، أما الاستقطاب في الداخل في حياة المُواطنين فإنه مُصطنَع، يفرِّغ الطاقة، ويحيد عن الهدف. هو استقطابٌ مزيَّف لخلقِ معارك وهمية بدلًا من المعارك الطبيعية التي حيَّدتها نُظُم الحكم في السياسة الخارجية في قضايا الحرب والسلام بالنسبة للقضية الفلسطينية، والتبعية والاستقلال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
يصل حدُّ الاستقطاب في الداخل إلى حد الحروب الأهلية كما حدث في لبنان والجزائر بين الإخوة الأعداء. فريق يكفِّر فريقًا، وفريق يخوِّن فريقًا. فشُقَّ الصف الوطني، وضاعت وحدة الأوطان، واختفت ثقافة الحوار، وأصبحت الأوطان مهدَّدة ليس فقط بقُوى التفتيت الخارجية وإثارة النعرات الطائفية والعِرقية، بل أيضًا بقُوى التفتيت الداخلية صراعًا على السلطة بين فرقاء الوطن الواحد. الاستقطاب الخارجي استقطابٌ رئيسي تتحدد طبقًا لقوانين الصراع فيه حياة الأمم والشعوب، في حين أن الاستقطاب الداخلي لا نفع منه في قضايا مُفتعَلة. وبلغة الأيديولوجيا، الاستقطاب الخارجي تناقضٌ رئيسي، والاستقطاب الداخلي تناقضٌ ثانوي. والرئيسي له الأولوية على الثانوي. الأول استقطابٌ عملي يغيِّر مسار الشعوب، ويتحدد به مستقبل الأمم، في حين أن الثاني استقطابٌ نظري فقهي لا ينتج منه أي أثر عملي. ولا يُحقق تقدمًا لشعب، بل يُساهم في تأخُّره. ولا يحل مشكلة في حياة الناس، بل يزيد في تهميشها.
ومظاهر الاستقطاب كثيرة. أهمها الاستقطاب الديني: حجاب أم سفور؟ شريعةٌ إلهية أم اختيارٌ إنساني، جبرٌ شرعي أم حريةٌ شخصية؟ وبطبيعة الحال تنقسم الآراء بين فريقَين؛ مُحافظين وليبراليين، تقليديين وتجديديين، سلفيين وعلمانيين. ويتحزَّب الناس، وينتصرون لذا الفريق أو ذلك. يُزايد فريق في الدين والإيمان، ويُزايد الفريق الآخر في الحداثة والعصرية. ويدخل الإحراج الشخصي والخوف الاجتماعي كحُجَج وبراهين؛ فلا أحد يجرؤ على عِصيان الشريعة، ولا أحد يريد التنازل عن حرياته الشخصية. والله في القلب وليس وراء الأحجبة، في السرائر وليس في المظاهر. والفضيلة في السلوك وليست في الغطاء.
توحيد الأذان من مؤذِّنٍ حسن الصوت من خلال أجهزة الإعلام الحديثة أم الإبقاء على تعدُّديته بأصواتٍ كريهة، رجالًا وأطفالًا، تتداخل فيما بينها نظرًا لقرب المساجد بعضها من بعض، وعُلو مُكبرات الصوت والمنارات.
يختلف الناس بين الإبقاء على التعدد في الأذان حتى ولو أدَّى ذلك إلى صراخ وصخب وصمم للآذان؛ فلكل مسجد أذانُه، ولكل مؤذِّن صوتُه، وهي عامة الناس؛ وبين التوحيد المُتناغم إبقاءً على الغاية وهي اليقظة، مع حسن الوسيلة وهو الصوت الواحد المُتناغم، وهو رأي النخبة والدولة.
استعمال مُكبرات الصوت أم الصوت الطبيعي؟ يُصرُّ دُعاة الإيمان على استعمال مُكبرات الصوت؛ فلا فرق بين الإيمان والإعلام. ومُكبرات الصوت أكثر قدرةً على إيقاظ الوسنان وغفلة النائم. ولماذا لا تُستعمل التكنولوجيا في الدين؟ ويتبارى الأغنياء في شراء أحدث الأجهزة الإلكترونية من مضخَّات الصوت من المُحسنين والمُتصدقين وفعَلة الخير لنيل حسن الثواب في الآخرة بعد الثراء في الدنيا. ويرى دعاة الحياء والاطمئنان أن الصوت الطبيعي أقرب إلى القلب ومدعاة للخشوع من تضخيمه بالآلات الحديثة كما يتم في الأفراح والموالد وافتتاح المحلات التجارية. ويفترق الناس بين من يرى أن الإيمان إذاعة وانتشار ودعاية وإعلان وإعلام، وبين من يرى أن الإيمان أقرب إلى التقوى والقلب والصمت والاطمئنان الداخلي دون حاجة إلى صخبٍ خارجي.
توحيد خطب المساجد يوم الجمعة أم تركها مُتنوعةً طبقًا لاختيار الأئمة؟ من يرى التوحيد هم رجال الدين الرسميون ووزراء الأوقاف والشئون الدينية، الذين يودُّون الإبقاء على خطب المساجد تحت رقابة الدولة حمايةً للبلاد من التطرُّف والشطط، وإدخال الدين في السياسة، واتقاء شر معارضة الحكومة بما للمساجد من أثر في تكوين أذهان العامة. وكما أفرزت المساجد فقهاء السلطان والحيض والنفاس، فإنها أيضًا أفرزت فقهاء الأمة ومصالح الناس والثُّوار ضد الظلم والقهر والفساد والاحتلال. وينقسم الناس بين مؤيِّد لتوحيد الخطبة، وهم رجال الدولة مع بعض البسطاء من العامة، وبين المُبقين على تعدُّدها؛ فكل بيئة لها مصالحها، وأهل مكة أدرى بشعابها، وهي المعارضة.
كيف يُحدَّد أول يوم العيد؛ بالعين المجردة أم بالحسابات الفلكية؟ العين المجردة يؤيِّدها النص القرآني حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ (البقرة: ١٨٧)، والحسابات الفلكية أدقُّ وأضبط من العين التي تختلف قوةً وضعفًا، والتي قد يمنعها الغمام والضباب والأتربة من حسن الرؤية. كيف يتم تحديد أول الشهر القمري والعالم الإسلامي ممتدٌّ من أقصى مشارق الأرض ومغاربها، من المغرب إلى الصين، كما انتشر في نصف الكرة الغربي أيضًا. وقد تصل فروق التوقيت إلى أربع وعشرين ساعة؛ أي إلى يوم وليلة كاملَين. ويتحزب الناس إلى كلٍّ من الرأيين، ويدبُّ الخلاف بين المسلمين، وتبادل الاتهامات بالتخلف والتقليد أو بالجري وراء العلم الحديث، وتوحيد ما لا يُوحد، وإلا لتعدَّدت وقفة عرفات.
حلال أم حرام؟ في كل خطوة وفي كل فعل وأمام كل شيء حتى فقدت الأشياء براءتها الأصلية، وفقد المسلمون الثقة الطبيعية الخيِّرة، وتهيَّبوا العالم المملوء بالشرور والمحرَّمات حتى استولى عليه الأعداء وسيطروا عليه. الحلال والحرام معروف في الشرع، وما سكت عنه الشرع فهو في مرتبة المباح أو العفو. فلِمَ السؤال والتضييق عما سكت عنه الشرع وتركه فسحةً ورحمة؟ هذا ما فعله بنو إسرائيل بالسؤال، فيُحرمه الله تدريبًا لهم، فضاقت عليهم الشريعة فلفظوها، مثل السؤال عن لون البقرة ونوعها وشكلها وحجمها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (المائدة: ١٠١). ويفترق الناس فريقَين؛ الأول مع التشديد مزايدةً في الإيمان، والثاني مع التخفيف رحمةً بالناس.
وهكذا يتم تفرُّع الاستقطابات الدينية، وتتحول من الاستقطاب الديني إلى الاستقطاب الاجتماعي؛ فساد الرهبان، وعلاقاتهم الجنسية الحرة من أجل إثارة الشقاق بين المسلمين والأقباط، الزواج المختلط بينهما، التنصير أو الأسلمة، تحوُّل النصراني إلى الإسلام أو المسلم إلى النصرانية، إباحة الطلاق أو تحريمه في المسيحية حتى يختلف الناس بين الإباحة والتحريم، وتقع النزاعات الطائفية في الدول التي تخلو من النزاعات العِرقية والمذهبية.
وقد يتجاوز الاستقطاب المستوى الديني الاجتماعي إلى المستوى الديني السياسي في عدة موضوعات أخرى. الإبقاء على مادة الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور أم إلغاؤها؟ إبقاؤها يُرضي المؤمنين حتى ولو كانت صوريةً فارغة من أي مضمون؛ فما يقع في البلاد من فساد وقهر في الداخل وتبعية وتحالف مع أعداء الأمة في الخارج ضد الشريعة. وإلغاؤها يُرضي العلمانيين؛ فالدستور للجميع وليس للمسلمين فقط، وبالبلاد أقباط لا تُطبَّق الشريعة الإسلامية عليهم طبقًا للشريعة ذاتها. ويحتدم الخلاف، وتنقسم الأمة على موضوعٍ شكلي وإن كانت له دلالةٌ رمزية، وتُخاطر بوحدة عنصرَي الأمة المسلمين والأقباط، وينفر الناس من الشريعة إذا كان المقصود منها تطبيق الحدود دون إعطاء الحقوق. والشريعة واجبات وحقوق؛ فلا رجم إلا إذا توفَّرت للشباب إمكانيات الزواج المُبكر، ولا قطع ليد إلا إذا توفَّرت له أسباب الحياة الكريمة من عمل وكسب ومسكن وتعليم وعلاج؛ أي الحاجات الأساسية للمُواطن.
دولةٌ دينية أم دولةٌ مدنية؟ وهو استقطابٌ مُقنَّع يُخفي صراعًا سياسيًّا بين الحكومة والإخوان. الحكومة تتَّهم الإخوان بالقول بالدولة الدينية، وهو مُضادٌّ للدستور الذي يمنع من تأسيس أحزاب سياسية على أسسٍ دينية حمايةً للوحدة الوطنية. والإخوان يتَّهمون الحكومة بالدولة المدنية التي تطبِّق القانون الوضعي الذي قد يتعارض أحيانًا مع الشريعة الإسلامية. والإخوان يقولون بالدولة المدنية، وتدخل في معترك الحياة السياسية كحزبٍ مدني، الانتخابات والبرلمان. وتُطالب بتعديل الدستور حفاظًا على الحريات العامة وقواعد الديمقراطية وتداول السلطة كما تفعل باقي أحزاب المعارضة. والحكومة تُمارس دور الدولة الدينية باستعمال الرموز الدينية في أجهزة الإعلام وجهاز الدولة وصفات الرئيس المؤمن.
سُنِّي شيعي؟ كلما اشتدَّت المقاومة العراقية في العراق، وغرقت القوات الأمريكية في رماله، كما غرقت من قبلُ في أوحال فيتنام، تحوَّل الصراع بين المقاومة والاحتلال إلى الصراع بين السنة والشيعة. وبدلًا من الحديث عن مآسي الاحتلال، يتم الحديث عن الخطر الشيعي على العراق والخليج وعلى أهل السنة بالإجماع. وكما تتزعم إيران المذهب الشيعي، تتزعم السعودية أو باكستان المذهب السني. وتُقام أحلافٌ جديدة على أساسٍ مذهبي سُنِّي شيعي، وليس على أساسٍ وطني؛ استقلال وتبعية. ومع الخطر الشيعي الإيراني يأتي الخطر النووي الإيراني، وكأنَّ الخطر الإسرائيلي لم يعد هو الخطر الأول.
ويزيد الاستقطاب الديني والاجتماعي والسياسي الاستقطاب الرياضي بين الأندية الرياضية، خاصةً فِرق كرة القدم. وتخرج المظاهرات في الشوارع تحمل الأعلام الحمراء ليس دفاعًا عن الاشتراكية، والأعلام البيضاء ليس من أجل السلام. وتملأ أخبار النجوم والرياضة الصحف والمجلات أكثر من صور الشهداء وأبطال المقاومة.
وإن كان لا بد من الاستقطاب في الداخل فلا أحد يتحدَّث عن الاستقطاب بين القاهر والمقهور، بين الظالم والمظلوم، بين الأغنياء والفقراء، بين دعاة التوريث وأنصار تداول السلطة.
إن الاستقطاب ضد الحوار، كما أن التوحيد ضد الخلاف. وبدلًا عن الاستقطاب الحوار بين وجهات النظر المتعددة. الاختلاف حقٌّ شرعي، وحله بالحوار الوطني، والاجتماع على حدٍّ أدنى من المصالح الوطنية ضد مخطَّطات التجزئة والتقسيم. ولماذا تقع الأوطان بين المطرقة والسندان؛ مطرقة عوامل التفتيت العِرقي والمذهبي والطائفي من قِبل القوى الخارجية، وعوامل الاستقطاب الداخلي بفعل القوى الداخلية؟ ولماذا تصبح الثقافة الوطنية ضحيةً بين عجز أبنائه وجهل علمائه؟
العلمانية والسلفية
بعد تخلِّي مصر عن دَورها الإقليمي في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وانكماشها وانكفائها على ذاتها، والسعي وراء لُقمة العيش، وضُمور الخيال السياسي، ونسيان الدوائر الثلاث، العربية، والأفريقية الآسيوية، والإسلامية، التي تُطبقها إسرائيل الآن باحتلالها مركز مصر في أفريقية وآسيا. أصبحت تركية وإيران أهمَّ دولتَين إقليميتَين حول مصر، شمالًا وشرقًا. تتفاوض معها قُوى الهيمنة الجديدة، الولايات المتحدة الأمريكية، على قضايا الوطن العربي في فلسطين والعراق، بل والعالم الإسلامي في أفغانستان.
وكما تحتاج مصر إلى ثِقتها بنفسها وبقدرتها على التأثير في محيطها وفي مجالها الحيوي، تحتاج تركية وإيران أيضًا إلى إعادة بنائهما من الداخل. تحتاج تركية إلى إعادة النظر في تاريخها الحديث منذ إلغاء الخلافة في ١٩٢٣م وتبنِّي النموذج الغربي. كما تحتاج إيران منذ ثورتها المعاصرة في ١٩٧٩م إلى إعادة تكوين جبهتها الداخلية حتى تكون ركيزة تحدِّيها لقُوى الهيمنة الخارجية.
كان الضابط مصطفى كمال على حق أولًا في القيام بثورته ضد نظام الخلافة الذي أدَّى في رأيه إلى احتلال اليونان لتركية حتى أبواب أنقرة، وقد كانت تركية من قبلُ باسم الخلافة على أبواب فيينا.
وكان على حق ثانيًا في رؤيته مظاهر القهر الداخلي في تركية للمُعارضين القوميين العرب والأرمن وباقي الأقليات، بعد أن كان نظام «الملة» من قبلُ قادرًا على لمِّ شمل أقطار الخلافة، كما فعل ميثاق المدينة من قبلُ في جمعِ العرب حول الدين الجديد. وكان على حق ثالثًا في القضاء على مظاهر التخلُّف من شعوذة وخُرافة وسِحر وجهل وسيطرة رجال الدين، وتبنِّي النموذج الغربي القائم على العقلانية والإنسانية والتقدُّم والمجتمع المدني والمؤسَّسات الديمقراطية والحداثة. وقد كانت هذه قِيم الإسلام في عصره الذهبي، والتي أقام على أساسها العمران كما يشهد بذلك إبداع المسلمين في العلوم الرياضية والطبيعية، وآثارهم في الأندلس؛ غرناطة وأشبيلية وقرطبة وطليطلة. وإستانبول مدينة الألف مِئذنة مِثل القاهرة.
وبعد انقضاء أكثر من ثمانية عقود من الزمان على الثورة التُّركية بدأت المراجعة في الاختيار العلماني التركي؛ فلا هي بقِيت ضِمن العالم الإسلامي، ولا هي انضمَّت إلى الاتحاد الأوروبي. تعثَّر الاقتصاد التركي، وأصبحت تركية عضوًا بحِلف شمال الأطلنطي. وعلى أرضها القاعدة العسكرية الأمريكية «إنجرليك»، والتي تُمثل قاعدةً للعُدوان على الوطني العربي كما حدث في العراق، وربما يتكرَّر في إيران. وظهرت حركاتٌ إسلامية أصولية أو تحديثية تبيِّن أن ارتباط تركية بالإسلام لم يتوقف، وكما بدا ذلك في ظاهرة أربكان وحزب «رفاه»، ثم حزب «الفضيلة»، ثم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم الآن.
ومع ذلك ما زالت العلمانية اختيارًا مقدَّسًا بنصِّ الدستور، والجيش هو المُدافع عنها. وأجيالٌ جديدة تربَّت على هذا الاختيار ما زالت قادرةً على النزول إلى الشوارع والتجمهر والتحزُّب دفاعًا عنها ضد أي مساس بها، أو حتى قراءة جديدة لها بعد مرور أكثر من ثمانية عقود من الزمان على الاختيار الأول. أصبحت العلمانية الآن تُهدد نفسها، وتهدم قِيمها بنفسها، وتتخلى عن مبادئها. تحوَّلت إلى علمانيةٍ سلفية تُدافع عن الماضي أكثر مما ترنو إلى المستقبل.
أصبحت علمانيةً مُتوحشةً شرِسة، تتوعد وتُهدد، وتُنذِر بالانتقام من الإسلاميين كما كان الحال في نهاية عصر الخلافة. صارت علمانيةً مُطلَقة مع أن العلمانية اتجاهٌ نِسبي، لا يمتلك الحقيقة المطلقة. صارت علمانيةً إقصائية، تستبعد الاتجاهات الأخرى حتى ولو كانت علمانيةً نِسبية، إنسانية، ثقافية، إصلاحية، أو حتى تراثية؛ أي البحث عن جذور العلمانية في الثقافة والتراث والتاريخ. والدليل على ذلك قضية الحجاب الذي تحجر عليه العلمانية وتُقصيه، مع أن العلمانية تقوم على الحرية والاختيار الشخصي واحترام الرأي الآخر؛ فالحجاب أو السفور كلاهما جزء من الحرية الشخصية.
انتقلت تركية في ١٩٢٣م من خلافةٍ إسلامية إلى خلافةٍ علمانية دون المرور بمرحلةٍ ليبراليةٍ مُتوسطة تتحول فيها تركية من المُطلَق إلى النِّسبي. وهو أكثر اتفاقًا مع روح العلمانية.
كان الاختيار العلماني لجمعية الاتحاد والترقِّي والقومية الطورانية مُطلقًا مُضادًّا للعثمانية دولة الخلافة، فانتقلت تركية من مُطلَق إلى مُطلَق دون الأخذ بالاختيار الثالث، وهو الإصلاح الذي دافَع عنه الأفغاني، التغيُّر من خلال التواصل، التجديد دون التقليد، سواءٌ كان التقليد للقدماء أو للغربيين المُحدَثين. وهو ما حدث أيضًا في روسية في نفس الفترة أو قبلها بستِّ سنوات في الثورة الاشتراكية في ١٩١٧م، عندما تحوَّلت روسية من مطلق القيصرية إلى مطلق الاشتراكية، من نسقٍ مُغلَق إلى نسقٍ مُغلَق مُضاد، دون المرور بمرحلةٍ ليبراليةٍ نقدية لتتحرَّر من ذهنية المطلق؛ فانهار الاختيار الثاني في ١٩٩٠م كي تمرَّ بمرحلةٍ ليبرالية ديمقراطية جديدة تكون أساسًا لأي اختيار آخر رأسمالي أو اشتراكي. وهو ما حدث في أوروبة الشرقية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عندما تحوَّلت من المُطلَق الكاثوليكي إلى المطلق الماركسي مباشرةً دون المرور بمرحلةٍ مُتوسطة هي النسبية الليبرالية والعلمانية المُتعددة. كان يحمي الخلافةَ في تركية جندُ السلطان، والآن يحمي العلمانيةَ الجيشُ الوطني، وفي كلتا الحالتين سيطرة العسكر.
وبرز حزب العدالة والتنمية ليشقَّ طريقًا وسطًا بين حزب الرفاه و«الأربكانية» والرومانسية الإسلامية التي قرأها البعض عودًا إلى نظام الخلافة، وبين العلمانية القُحَّة التي ترفض الحوار، وتتمسك بالاختيار القديم مهما تغيَّرت الظروف، وكأنَّ الزمن لم يعُد له حساب. يُناضل من أجل تعدُّدية سياسية وهي روح العلمانية، ومن أجل العودة إلى الشعب وسؤاله عن الاختيارات الرئيسية للبلاد، مثل انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام وليس من خلال البرلمان. والديمقراطية روح العلمانية. ويُحاول الاستقلال عن الهيمنة الأمريكية كما حدث في رفض مرور القوَّات الأمريكية على أراضيه لغزو العراق من الشمال، في حين قرَّر بعض الحكام العرب كقرارٍ فرديٍّ الاشتراكَ مع أمريكة بأشكالٍ مُتعددة في غزو العراق. ويبتعد عن إسرائيل، ويُلغي اتفاقيات التسليح معها، ويتقارب إلى العرب خاصةً مصر وسورية، ويُساهم في عمليات التنمية والبناء في عديد من الأقطار العربية بما في ذلك مصر.
وتشهد تركية بفضل حزب العدالة والتنمية أكبر معدَّل في خُطَط التنمية والتصنيع والتحديث؛ فقد كانت سبَّاقة في ذلك منذ «التنظيمات» التي كانت سائدة في القرن التاسع لتحديث المجتمع والدولة والمؤسسات. تصدِّر أكثر مما تستورد، وتصنِّع أكثر مما تزرع.
وهي الآن تعي موقعها الجغرافي السياسي كجسرٍ بين الشرق والغرب، بين آسيا وأوروبة كما وعَتْه مصر قديمًا بالإضافة إلى أفريقية؛ فتركية مُلتقى قارَّتَين، ومصر مُلتقى ثلاث قارَّات. وفتح السلطان سليم الأول مصر في ١٥١٧م وامتدادها إلى المغرب العربي حتى الجزائر. كان يضمُّ أفريقية إلى آسيا وأوروبة، وتقوم بدور تركية ومصر في آنٍ واحد. وهو ما حاوَله محمد علي من جديد انطلاقًا من مصر لتجديد المشروع العثماني. وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي إضافة لها وليس خصمًا منها لتوسيع حضورها في أوروبة، ولتخفيف التوتُّر بين الإسلام والغرب، والتخوُّف من هجرات العرب والمسلمين إلى أوروبة، وانتقال العمالة من جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى شماله، وتغيُّر الهُوية الأوروبية إلى هُويةٍ إسلامية، أو على الأقل إسلامية أوروبية بعد أن أصبح الإسلام هو الدين الثاني في أوروبة بعد المسيحية، ووجود ما يقرُب من أربعة عشر مليونًا من المسلمين، الأتراك والعرب في أوروبة، ووجود جيلَين من الأبناء والأحفاد من مواليد أوروبة وليسوا من المهاجرين كما كان في الآباء والأجداد.
إن بين العرب والأتراك تاريخًا مشتركًا منذ أكثر من ألف عام منذ دخول الإسلام إلى تركية، والشعب التركي إلى الإسلام. فُتحت القسطنطينية، واستمرَّت دولة الخلافة أكثر من خمسة قرون. لها جوارٌ مشترك مع سورية والعراق.
ينقصها حلُّ المشكلة الكردية ليس فقط في تركية، بل حلها أيضًا في شمال العراق وسورية وروسية وأرمينيا في إطار من الاستقلال الذاتي، وحدودٍ مفتوحة، وهُويةٍ ثقافية وقومية في إطار الدول الوطنية القائمة. وهو نفس النموذج المطروح لقضية الصحراء في المغرب وجنوب السودان ودارفون، وهو النموذج السويسري الذي يضمُّ ثلاث قوميات وثقافات ولُغات، إيطالية وألمانية وفرنسية، في إطار من نظامٍ سياسي موحَّد ودولةٍ واحدة. وهو نموذج ميثاق المدينة في أول الرسالة. وبقيت قضية لواء الإسكندرونة التي يمكن حلُّها في إطار محافظات التكامل بين تركية وسورية، مثل حلايب وشلاتين بين مصر والسودان، وكل مناطق النزاعات الحدودية من مخلَّفات الاستعمار بين الأقطار العربية؛ حتى تتآكل فكرة الحدود السياسية لصالح وحدة الشعوب على طرفَي الحدود؛ فالهوية من التاريخ والثقافة والحضارة قبل أن تكون من الجغرافية؛ السهول والأنهار والمياه.
أما المياه، مياه دجلة والفرات، فهي مصادر طبيعية للتنمية المشتركة بين تركية وسورية والعراق لإقامة السدود وزراعة الأراضي، أُسوةً بالدول المُطلَّة على وادي النيل، وتجنبًا لمدِّها إلى إسرائيل.
والأهمُّ من ذلك تغيير صورة التركي في الذهن العربي؛ تلك الصورة التي رسمها الاستشراق وأجهزة الإعلام الغربية والأعمال الأدبية والفنية، حتى أصبح تعبير «رأس تركي» يُعادل المُتعصب الجاهل. وهي صورة الحريم والإماء والسبايا وتعدُّد الزوجات والسراي التي تثور عليها الحركات النسائية. وهي صورة السيطرة والقهر واستغلال الفلاحين، صورة الباشا والأغا، «أهلًا يا بكوات».
إنها مسئولية العلماء لإعادة كتابة التاريخ العثماني لتركية بعيدًا عن تصوُّرات المُستشرقين وأجهزة الاستعمار الغربي، التي كان الهدف منها القضاء على «الرجل المريض» من أجل تقطيع جثَّته وتوزيعها كأسلابٍ بين دول أوروبة الناهضة. إنها مسئولية القوميين والمؤرخين العرب لتجاوُز الخلافات الأيديولوجية إلى البحث التاريخي الموضوعي، مساعدةً للعرب والأتراك؛ فليست مشانق دمشق للقوميين العرب في ١٩١٣م هي كل التاريخ، ولا المُلتزم التركي الذي يضرب الفلاحين بالسِّياط هي كل العلاقات بين تركية والعرب. وما الفرق بين مآذن الجامع الأزرق في إستانبول ومآذن القلعة في القاهرة؟
تدنيس المقدس
عُرِفت الثقافة العربية، إسلامية أو مسيحية أو يهودية، بتقديس المقدس وليس بتدنيسه، وإلا كان الجزاء القتل وهدر الدم، دم الكافر المُرتد، وإنكار ما عُلِم من الدين بالضرورة، وتمزيق القرآن ودهسه بالأقدام.
وفي لغتنا الكتاب المقدس، والروح القدس، والوادي المقدس؛ فالمقدَّس هو الكريم والطاهر والشريف. والقدُّوس اسمٌ من أسماء الله الحسنى. والروح القدس، والملك القُدوس، والوادي المقدَّس، والأراضي المقدَّسة. والتقديس فعلٌ إنساني، يُحافظ على القيمة مثل التسبيح وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (البقرة: ٣٠).
ومع المقدس ألفاظ لها نفس الدلالات مثل القرآن الكريم، والسنة المطهَّرة، والكعبة المشرَّفة، ورمضان المعظَّم، والدين الحنيف. وعند الأصوليين، النفس أو الحياة المقصد الأول من مقاصد الشريعة. الحياة والموت أفعالٌ إلهية وليست بشرية؛ فالله هو الذي يهبُ الحياة، وهو الذي يقرِّر لكل أجل كتابًا. والقصاص حياة، وحياة الطفل والمرأة والشيخ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (التكوير: ٨-٩).
وقد يكون الاقتتال بين حماس وفتح نهاية القاع التي لم تظهر بعد، إزهاق الروح، والكفر بالمقدَّسات، وتجاوُز الخطوط الحمراء، إراقة الدم الفلسطيني بيدِ الفلسطيني. وقد ضحَّى عبد الناصر بالوحدة المصرية السورية، أول تجربة وحدوية عربية في التاريخ الحديث لأن العربي لا يُريق دم العربي، وأمر بإرجاع الطائرة المحمَّلة بالجنود المصريين لمساندة اللاذقية التي كانت ما زالت تهتف بالوحدة ضد الانفصاليين الانقلابيين المُتآمرين في دمشق.
فكيف يتعارض الرمح الذي تُمثله حماس، والدرع الذي تُمثله فتح؟ كيف تتناقض المقاومة والسلطة، الداخل والخارج، القتال والتفاوض، الثورة والدولة؟ يدٌ تُقاتل ويدٌ تُصافح كما فعلت الثورة الفيتنامية، وهي تُقاتل على الأرض وتُفاوض في باريس مع العُدوان الأمريكي على مدى خمس سنوات على نهاية الاحتلال. ليست فتح بيتان، وليست السلطة حكومة فيشي، حتى إذا كانت حماس تُمثل ديغول والمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي لفرنسة. وماذا لو اقتتلت فصائل المقاومة في العراق فيما بينهما ضد الاحتلال الأمريكي، سواءٌ قبل الانسحاب أو بعده، وسال الدم العراقي بيدِ العراقي؟
إنه تدنيس المقدَّس مرةً أخرى، والكفر بالمقاومة بعد الإيمان بها، وتمنِّي عودة قوَّات الاحتلال للفصل بين المُتقاتلين. وهي الذريعة التي يحتجُّ بها الاحتلال للبقاء في العراق. وماذا لو تم الاقتتال بين فصائل المقاومة في الصومال قبل انسحاب قوَّات الاحتلال الأثيوبي أو بعدها؛ مما يُعطي ذريعة للاحتلال ومُمثليه في الداخل لإضفاء الشرعية عليه حمايةً للسكان الآمنين، ودفاعًا عن وحدة الأوطان؟ وهي نفس المأساة في السودان عندما يُريق السوداني دم السوداني باسم الصراع بين الشمال والجنوب، أو بين الخرطوم ودارفور. وهي نفس الجريمة في لبنان عندما يفجِّر لبناني أو عربي ليقتل رئيسًا للوزراء أو نائبًا في البرلمان أو مصنعًا أو متجرًا أو منزلًا فوق رءوس قاطنيه.
إن الثورة لا تكون في الحكم إلا بعد النصر طبقًا لشعار المقاومة «ثورة حتى النصر». هذه هي تَجارِب الثورات المُنتصرة في الصين وفيتنام وجنوب أفريقية ومصر. أتى هوشي منه إلى الرئاسة بعد انتصار الثورة الفيتنامية، وأصبح نيلسون مانديلَّا رئيسًا لجمهورية جنوب أفريقية بعد هزيمة الحكم العنصري، وأصبح سعد زغلول رئيسًا لوزراء مصر بعد ثورة ١٩١٩م، وعبد الناصر رئيسًا لجمهورية مصر بعد ثورة ١٩٥٢م. ثم يتمُّ التحوُّل من فورة الثورة إلى عقل الدولة. وقد أطلق بن جوريون النار على الهجرات اليهودية غير الشرعية إلى إسرائيل بعد إعلان تأسيس الدولة في ١٥ مايو ١٩٤٨م؛ لأن الدولة هي التي تقوم الآن بتنظيم الدخول والخروج من البلاد.
إن السلطة في الدولة المُحتلة، مثل فلسطين والعراق وأفغانستان، لا تكون إلا في الوحدة الوطنية بين فصائل المقاومة وفرقاء النضال، والاجتماع على الحد الأدنى في برنامج العمل الوطني، وفي مقدمته انسحاب المُحتل.
أما السلطة تحت الاحتلال فهي سلطةٌ دون سلطة، النصر قبل الثورة، القصر قبل القبر، العربة أمام الحصان.
إن تدنيس المقدَّس، وعبور الخط الأحمر وهو إراقة دم الفلسطيني بيدِ الفلسطيني، يجعل الفلسطيني يكفُر بكل شيء؛ بمقاومته وبدولته، بفتح وحماس، وبالسلطة الوطنية؛ فلا فرق بين الوطني الفلسطيني والعدو الصهيوني في استباحة الدم الفلسطيني. وقد يكون المُقاتل الفلسطيني الذي يحكم على مُقاتلٍ فلسطيني آخر بالإعدام، وينفِّذ فيه الحكم، ويسحله بالطُّرقات، أشدَّ عداوةً للفلسطيني من قتل العدو الإسرائيلي للفلسطينيين الأبرياء بهدم المنازل وقصف الأحياء بالصواريخ، أو التصفية الجسدية لنشطاء المقاومة وقياداتها.
وقد يكفر العرب بكل شيء، بالوطن؛ فالولاء للخارج والتعاون مع الأجنبي أكثر أمنًا. ويكفُّون عن تأييد المقاومة باليد وباللسان، وحتى بالقلب. وقد يكفُرون بالقومية لحساب الهُويات البديلة، الطائفية المذهبية والعِرقية لحماية نفسه من خلال الانتماء إلى الجماعة الصغرى بعد أن انقضت الجماعة الكبرى. ويكفرون بالإسلام وبالدين وبالإيمان وبالمسلمين. ففتح جُذورها إسلاميةٌ إخوانية، وحماس انتماءاتها إسلاميةٌ إخوانية، والإسلام قد حرَّم الاقتتال بين المسلمين، وجعل دم المسلم وعِرضه وماله حرامًا. ويكفرون بكل تاريخهم وماضيهم وحركاتهم الوطنية السابقة، وبتكاتفهم مع كل حركات الاستقلال الوطني في العالم الثالث، وبكل إنجازاتهم في الخمسينيات والستينيات ورموزها؛ فرانز فاتون، أميه سيزيه، نكروما، سيكوتوري، جيفارا، كنياتا، موجابي … إلخ. ولماذا لا يعترفون بالصهيونية ويُفاوضونها ويُصالحونها، ولماذا لا يتحالفون مع قُوى الاستعمار القديم والجديد ما دامت النهاية واحدة؛ إراقة الدم الفلسطيني الذي أصبح بلا ثمن؟
إن تدنيس المقدَّس هو الذي أدَّى بإلقاء صور ياسر عرفات رمز الثورة الفلسطينية على الأرض ودهسها بالأقدام، وهو ما لم تفعله إسرائيل، وهو الذي أدَّى إلى سيطرة حماس على غزة، وفتح على الضفة الغربية، وإسرائيل تُسيطر عليهما معًا بما في ذلك القدس.
إن الاقتتال بين فصائل المقاومة يحدُث عادةً بعد انتصار الثورة كما حدث في الجزائر، وفي تونس، وفي الثورة الاشتراكية في ١٩١٧م في روسية وليس قبلها. وكيف يقع الاقتتال على قسمة الغنائم والنصرُ لم يحدُث بعد؟ حينئذٍ يكون نصرًا في الهواء، وتكون السلطة وهمية، والاقتتال على وهم.
انقسمت الدولة قبل أن تقوم. حماس في غزة، وفتح في الضفة. ووقعت حربٌ أهلية قبل الاستقلال. ويتحقق التقسيم مُبكرًا للدولة الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس؛ تطبيقًا لمخطَّط التقسيم للوطن العربي كله. حماس تتَّهم فتح بالعمالة والخيانة، وفتح تتَّهم حماس بالانقلاب على السلطة الشرعية والخروج على القانون. والجامعة العربية تؤيد فتح، ولا تُدين حماس؛ حرصًا على وحدة الشعب الفلسطيني وسلامة أراضيه تحت الاحتلال. والعرب وإسرائيل والغرب يؤيدون السلطة، ويَعِدون بفكِّ الحصار، وبوجود الشريك الفلسطيني أخيرًا للتفاوض على مشاريع التسوية، خارطة الطريق أو مبادرة السلام العربية؛ تمهيدًا لضرب حماس في غزة واستئصال المقاومة؛ العقبة الكئود أمام التسوية. وتُعيد إسرائيل احتلال غزة، وتسقط فتح في الضفة؛ لأن الأخ لم يأتِ لمساعدة أخيه، وسلَّمه إلى الجلَّاد ما دام قد نال الاعتراف الدولي بشرعيته، حتى ولو كان تحت الاحتلال. اغتالت إسرائيل الشيخ ياسين وهي الآن تُصفي أنصاره، ثم تدور الدائرة على فتح عندما يُعرَض عليها ما رفضته من قبلُ عندما كانت تُمثل كل فلسطين. وينتهي مَثلُ العرب: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.»
ويعود تاريخ العرب من جديدٍ أيام الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية، ويتساءل الفقهاء: هل تجوز إمامة المفضول وهو معاوية، مع وجود الأفضل وهو عليٌّ؟ هل تجوز إمامة فتح وهي المفضول، مع وجود حماس وهي الأفضل؟ ويُفتي مالك بالجواز حقنًا لدماء المسلمين. القلوب مع علي، والمصالح مع معاوية.
الشرعية مع علي، والقوة مع معاوية. الثورة مع علي في الحجاز، والدولة مع معاوية في دمشق.
هل تدنيس المقدَّس إرهاصات لفلسطين الجديدة؛ حكومةٌ يقودها المُستقلون الوطنيون، وتبقى فتح وحماس في المعارضة، تُمثل الرقابة الشعبية والثورة حتى النصر؟ أين حيدر عبد الشافي ليُعِيد سيرة سوار الذهب ورئيس المجلس العسكري الثوري في موريتانيا؟ فالسلطة ليست في القصر، بل في التاريخ.
الثورة الإسلامية في إيران: بين التحدِّيات الخارجية والمخاطر الداخلية
فاجأت الثورة الإسلامية في إيران العالم كله باندلاعها في فبراير ١٩٧٩م بعد أن ظنَّها الغرب، وعلى رأسها الشاه التابع لأمريكة والغرب، واحة أمان. تراكمت فيها محاولات الثورات السابقة، وتعذيب الثُّوار في السجون على أيدي السافاك، وتأميم مصدق البترول في ١٩٥٤م الذي كان المُلهم لتأميم ناصر لقناة السويس في ١٩٥٦م، وهروب الشاه وعودته بعد الانقلاب الذي دبَّرته الولايات المتحدة الأمريكية ضد مصدق.
وكان «أول عناصر قوَّتها» زعامةً قوية لا تُساوم ممثَّلةً في الخميني، الذي كان ناصر يُساعده وهو في مَلجئه في النجف في العراق، يُساعد مجاهدي خلق، عصب الثورة وقوتها الضارية، ضد نظام الشاه، ثم في منفاه في باريس من خلال شرائط التسجيل التي يُخاطب بها شعب إيران.
«والإسلام الثوري هو عنصرها الثاني»، أيديولوجية شعبية نابعة من تاريخ إيران، تحمل آمالها في الحرية والاستقلال والدفاع عن الهُوية الوطنية، لا خلاف عليها بين الطبقات الاجتماعية. وحَّدت الأيديولوجيات الثورية الأخرى داخلها، مثل الماركسية وحركة تحرير إيران ومجاهدي خلق، وفدائي خلق، طلبة وعمالًا ومثقَّفين وجنودًا، كما كان الشيخ إمام يغنِّي: «عمال وفلاحين وطلبة.»
«والعنصر الثالث» جماهير شعبية بالملايين في الشوارع تستولي على الكلية الحربية رمز نظام الشاه. تسدُّ الطُّرقات، وتملأ الملايين.
ثم طعنها العرب في الخلف. غزاها النظام العراقي السابق بعد عامها الأول وهي تتحدى الولايات المتحدة بوازع منها وتشجيع على الغزو لإضعاف القوتَين العسكريتين الإيرانية والعراقية؛ حمايةً لإسرائيل من الجبهة الشرقية بعد أن اتَّسع عمقها الاستراتيجي من سورية إلى العراق إلى إيران، بعد عزل الجبهة الجنوبية في مصر بعد كامب ديفيد في ١٩٧٨م، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في ١٩٧٩م، والإعلان المستمر على أن حرب ١٩٧٣م هي آخر الحروب، وأن السلام اختيارٌ استراتيجي للعرب. وقطعت مصر العلاقات السياسية معها إلى الآن ما يقرُب من ثلاثين عامًا، وكأنها أخطر على العرب من إسرائيل التي عقدت الصلح معها، واعترفت بها، وتبادلت السفراء معها تحت وهم تشجيع الحركات الإسلامية في مصر والوطن العربي، وأن يتكرر النموذج الإيراني في الثورة الإسلامية في باقي أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي بإيحاء من الولايات المتحدة وإسرائيل. والثورة الإسلامية هي الناصرية مركَّبةً على الإسلام؛ الحُلم الذي راوَد الثورة المصرية في بدايتها، التعاون بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين. وقد كان بعض الضباط الأحرار منهم، بما في ذلك الوصي على العرش، لولا الشِّقاق الذي وقع بين الفريقَين في أزمة مارس ١٩٥٤م، والذي تُعاني منه الثورة حتى الآن عبر الجمهوريات الثلاث. وظلَّت الولايات المتحدة وإسرائيل تضعان العقبات، وتُوحي بالتناقضات بين الثورة الإسلامية في إيران والقومية العربية، مرةً باسم الجزر الثلاث في مدخل الخليج، وقد كانت مناطق للتكامل على ضفَّتَي الخليج، ورمزًا لحسن الجوار كما فعل عبد الناصر في محافظة وادي حلفا كمحافظة تكامُل بين مصر والسودان، وكما يمكن استمراره في محافظة حلايب وشلاتين حتى تُبتلع الحدود المُصطنَعة التي وضعها الاستعمار بين كل دولتَين عربيتين قبل الرحيل بين مصر وليبيا في واحة جعبوب، وبين مصر وفلسطين في مثلَّث العوجة، وبين الجزائر والمغرب في واحة تندوف، وبين اليمن والسعودية في عسير ونجران، وبين الإمارات وعمان في واحة البريمي، وبين سورية وفلسطين في وادي الحمة، وبين سورية ولبنان في مزارع شبعا، وبين الكويت والسعودية في مثلَّث تحت وصاية الأمم المتحدة، وبين الكويت والعراق على آبار النفط على الحدود، والتي كانت سبب غزو العراق للكويت في حرب الخليج الثانية.
ومشروع الثورة الإسلامية في إيران لفلسطين يتجاوز المشروع العربي في إزالة آثار العُدوان، لا فرق بين نكبة ١٩٤٨م ونكسة ١٩٦٧م. وما زالت تتحدى الهيمنة الأمريكية دفاعًا عن حقها في تخصيب اليورانيوم في منطقةٍ تزخر بالسلاح النووي في إسرائيل وفي باكستان، وإسرائيل تهدِّد بضرب إيران بمفردها أو بالتعاون مع الولايات المتحدة، وحق الدفاع عن النفس حقٌّ مشروع. وهو ما يكشف المِعيار المُزدوج للغرب في التعامل مع إسرائيل التي لم توقِّع على معاهدة منع انتشار السلاح النووي، ولا تسمح أن يُفتَّش على مفاعلها النووي.
النووي الإيراني قوة للعرب في مواجهة النووي الإسرائيلي. والثورة الإسلامية في إيران ظهير للثورة العربية، وهي الآن تُعيد سيرة ناصر وهو يتحدى الاستعمار الغربي قبل العُدوان الثلاثي في ١٩٥٦م. وتقف الشعوب العربية والإسلامية مع الثورة الإسلامية في إيران في دفاعها عن استقلالها الوطني، وتحدِّيها قُوى الهيمنة والاستعمار الجديد الذي تُمثله الولايات المتحدة الأمريكية.
والخطورة الآن على الثورة الإسلامية في إيران هي الجبهة الداخلية؛ إذ لا تستطيع الولايات المتحدة بالتعاون مع إسرائيل العُدوان العسكري على إيران؛ إذ تستطيع إيران الرد العسكري على الأسطول الأمريكي القابع في الخليج. كما أن صواريخها تطول القوات الأمريكية في العراق والقواعد العسكرية ومطارات إسرائيل. وقد تنهار النُّظم العربية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية لاحتمال ثورة الشعوب ضدها، كما هبَّت الشعوب العربية مع ناصر أثناء العُدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم القناة في ١٩٥٦م، وتفجير أنابيب النفط في سورية، واندلاع الثورات العربية بعد ذلك في العراق في ١٩٥٨م، واليمن في ١٩٦٤م، وليبيا في ١٩٦٩م. وقد تتغير الأوضاع في الخليج نظرًا لتركيبته السكانية والطائفية والمذهبية.
تستطيع الولايات المتحدة اللعب في الجبهة الداخلية، والتآمر على الثورة الإسلامية من الداخل، وليس العُدوان عليها من الخارج. تستطيع اللعب على القلق الاجتماعي كما ظهر في توزيع البنزين بالبطاقات في دولة من أكبر الدول المصدِّرة للنفط. تستطيع اللعب على التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء والمشاكل الاجتماعية كالبطالة والإسكان. وقد خسر التيَّار الليبرالي الانتخابات الأخيرة لأن الحرية لم تشفعها العدالة الاجتماعية، وحوار الحضارات لم يُقرَن بتحدِّي قُوى الهيمنة.
والأخطر من القلائل الاجتماعية الحريات العامة، وضِيق الناس بالمحافظة الدينية، والتشدُّد في السلوك اليومي، والتدخُّل في حياة الناس الشخصية.
فما زال التناقض الرئيسي في الثورة الإسلامية هو قيامها على أساسٍ مُحافظ، ديني إشراقي. يُمثله صدر الدين الشيرازي الذي ينتسب الإمام الخميني إليه ويتتلمذ عليه، وليس على شريعتي مُمثل اليسار الإسلامي قبل اندلاع الثورة، الإسلام الاشتراكي التقدمي. ويتضمن ذلك اللعب على القوميات الفارسية والأذرية وغيرها التي تكوِّن شعب إيران، والمذاهب والطائفية، سُنة وشيعة، المُمتدة في الجبهة الشرقية في الوطن العربي وفي الإسلام الآسيوي، إيران وباكستان.
لقد قُضِي على الثورة المصرية ليس بالعُدوان الخارجي عام ١٩٦٧م؛ فقد تم تدمير المدمِّرة إيلات في نفس العام، وأُعيدَ بناء الجيش، وقامت حرب الاستنزاف في ١٩٦٨م، ثم قامت حرب التحرير في أكتوبر ١٩٧٣م، بل قُضِي عليها بسبب الانقلاب الداخلي في ١٥ مايو ١٩٧١م من الجبهة الداخلية وبنفس الرجال، وتحوَّلت الثورة إلى ثورةٍ مضادَّة، من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن التعاون مع الاتحاد السوفيتي إلى التبعية للولايات المتحدة، ومن القطاع العام إلى الخصخصة، ومن مجانية التعليم إلى الحاجات الخاصة، ومن القومية العربية إلى القطرية.
إن التعاون الإقليمي بين مصر وإيران وتركية يحمي النُّظم الثلاثة من العُدوان الخارجي عليها، ويُقلل المخاطر الداخلية فيها؛ فالديمقراطية والتعددية الحزبية مشهود لها في إيران وتركية دون مصر.
والدفاع عن الاستقلال الوطني والإرادة الوطنية مشهود له في إيران وتركية دون مصر. والطريق الثالث، الإسلام المُستنير، مشهود له في تركية دون إيران ومصر. ومصر ما زالت الدولة القاعدة في محيطها العربي، ما يحدث فيها له ردود فِعل في مائتَين وخمسين مليون عربي دون إيران وتركية. وإن مجموع سكان الدول الثلاث ما يُقارب من مائتَي مليون. مواردها الطبيعية وإنتاجها الصناعي وتراثها الإسلامي المشترك يجعلها تجمعًا إقليميًّا مركزيًّا قادرًا على تجميع دول الجوار العربية والإسلامية توسيعًا لمفهوم القومية العربية.
من السهل مواجهة التحديات الخارجية وتجميع الشعوب حوله كما حدث إبَّان حركات التحرُّر الوطني، ومن الصعب الوقوف أمام المخاطر الداخلية كما حدث بعد حركات التحرُّر الوطني والنزاع على السلطة بين رُفقاء النضال بالأمس القريب. ويُروى أن جهاد النفس أصعب من جهاد العدو لو صحَّت الرواية. لقد أتت الثروة والثورة للعرب والمسلمين، ولم يستعدُّوا لها بعد؛ فبدَّدوا الثروة، وانقلبوا على الثورة. وفي التاريخ ضحَّى يهوذا بالسيد المسيح في مواجهة اليهود والرومان.
الدين ورجال الأعمال
العلاقة بين الدين والنشاط الاقتصادي عامةً، والتجارة خاصةً، معروفة عند علماء الاجتماع، كما فعل ماكس فيبر في دراسته الرائدة منذ حوالَي قرن من الزمان «البروتستانتية وروح الرأسمالية»، مؤكِّدًا على وجود علاقة بين القيم والأخلاق البروتستانتية من ناحية، وازدهار النشاط التجاري في البُلدان والمناطق البروتستانتية في ألمانية وفرنسة من ناحيةٍ أخرى، الصلة بين القدر والرزق، بين الإيمان والنجاح، بين التقوى والكسب.
ولا يحتاج العربي إلى هذا التنظير وهو يُلاحظ هذه العلاقة في الحياة اليومية في مجتمعه. وقد ضُربت النماذج من قبلُ بشركات توظيف الأموال، واستعمال آيات مثل وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (البقرة: ٢٧٥)؛ من أجل تجميع أموال الناس، أغنياء لمزيد من الكسب، وفقراء من أجل عائد سنوي أو شهري صغير بدافع الإيمان، وبدعوى المشاركة في الربح والخسارة، وليس في الربح فقط كما هو الحال في البنوك الربوية، وللاطمئنان على دخلٍ شهري حلال ثابت ضد البطالة والجوع. وتضارب هذه الشركات وتستثمر رءوس أموال المسلمين في البنوك الربوية للحصول على ربحٍ سريع، وفي الغالب دون زيادة في الإنتاج، أو إتاحة فرص للعمل ضد البطالة، أو تنمية اقتصادية، أو بشرية في مشاريع كبرى.
وازداد الأمر في العقود الأخيرة باستعمال الإسلام كوسيلةٍ ناجحة للربح، والنجاح التجاري باستعمال اسم الإسلام أو مشتقاته العقائدية أو التشريعية، كأسماء لمحلَّاتٍ تجارية كبرى مثل «التوحيد والنور»، «الإيمان»، أو «الإخلاص». ولما كان الهدف هو التجارة الداخلية والخارجية للاستفادة من العولمة يصبح اسم الشركة «إسلامكو». وتنتشر محلات الملابس الأنيقة بأزيائها وألوانها وجواهرها البرَّاقة باسم «الحجاب» أو «الزِّي الإسلامي» أو «المايوه الشرعي» الذي يُبرز قسمات الجسم مثل باقي «المايوهات» غير الإسلامية التي تُبرز مفاتنه. وتكثُر إذاعة الشرائط الدينية في المحلات العامة، إما القرآن الكريم، أو الحديث، أو شرائط الوعظ والإرشاد من مشايخ الفضاء أو الدعاة الجُدد لإضفاء جو إسلامي على الأسعار، ومحو الشك في غُلوها والمُغالاة فيها؛ فالمسلم لا يغشُّ ولا يحتكر ولا يستغل. ونافست شركات المحمول في وضع أغانٍ إسلامية والأذان كألحانٍ مُميزة، مثل أغاني وألحان مشاهير المُطربين والمُطربات، قدماء ومُحدَثين. كما تُخصَّص قاعات للصلاة للنساء والرجال في أحد الأدوار؛ فالحفاظ على الشريعة تُرضي الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب. ويُخصِّص أصحاب العمارات الشامخة البدروم كمُصلًّى حتى يُعفى من العوائد، ويشرع بيع الشقة بالمليون أو أكثر. ويلبس معظم الباعة، اقتداءً بصاحب المتجر، اللبس الإسلامي، الجلباب الأبيض.
ويتَّبع السنة العادية بإطالة الذقن وقصِّ الشارب. وتأخذ بعض المُنتَجات أسماءً إسلامية مثل بلح مكة، وعِطر الرسول، والتين والزيتون، ورمَّان الجنة. وتُخصَّص محلات العطارة قسمًا للعلاج بالأعشاب طبقًا لتعاليم الطب النبوي. والعسل فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ (النحل: ٦٩). وتوضع بعض الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية كيافطات للمحلات لجذب الزبائن باستعمال الوازع الديني. وتوضع المصاحف بالقطيفة الحمراء في السيارات، وتُعلَّق المصاحف الذهبية الصفراء لتزيين جِيد النساء البيضاء. وتُحمَل المصاحف بين يدَي الأطفال بالملابس الأفرنجية السوداء، والبابيون حول العنق أمام الزفَّة مع الشمعدان، وتُرَش عليه الورود وحبَّات الملح، والرقص الشرقي في المقدمة؛ فيتحوَّل المصحف إلى وثن وديكور. وتُذكَر أسماء الله الحسنى في بداية حفل الزفاف وعزاء الموتى وعيد ميلاد الأطفال كوصلةٍ غنائية حتى تحلَّ البَركة على الجميع. ويختلط ذلك كله بالأمثال العامية على ظهر عربات النقل مع الصلاة على النبي، مثل: «العين صابتني ورب العرش نجَّاني»، والبسملة والحوقلة، والسائق يسير مخدرًا ليلًا، وسائق الأجرة يُغالي في الأسعار بعد أن توقَّف العمل بالعدَّاد.
وفي أوقات الصلاة تُوضع على أبواب المحلات، بما في ذلك الصيدليات والمكتبات العامة: «مُغلَق لأداء الصلاة.»
ويضع المُرتشون من الموظَّفين العموميين فوق رءوسهم يافطاتٍ يختلط فيها الديني بالشعبي، مثل: «القناعة كَنزٌ لا يفنى»، «الرزق على الله». ويوضع لفظ «إسلامي» لوصف كل ما يُراد ترويجه وتسويقه، مثل الزراعة الإسلامية، التجارة الإسلامية، الصناعة الإسلامية، التعليم الإسلامي في المدارس الخاصة، المواصلات الإسلامية لفصل الرجال عن النساء بصرف النظر عن أسعارها ومستوى خدمتها. ويخرج الحاجُّ من منزله مُحرِمًا ويعود مُحرِمًا بعد الحج، ويأخذ لقبَ حاجٍّ يُنادى به في الأسواق. وعلى متجره «حجٌّ مبرور، وذنبٌ مغفور»؛ فتكون له الأولوية في المعاملات التجارية، وتقوى ثقة العملاء به.
وتمتلئ القنوات الإعلامية بمشايخ الفضاء بأرديتهم البيضاء، وذقونهم السوداء، للحديث عن الإسلام الشرعي والعبادات، وضرورة التمسُّك بحرفيتها دون التعرُّض لمصالح الأمة ومآسيها في العُدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان، والاحتلال الإسرائيلي لكل فلسطين أو حتى القدس برؤيةٍ إسلامية، والاحتلال السوفيتي للشيشان، والهندي لكشمير.
لا فرق بين مشايخ الفضاء وأساطين الغناء وفتيات الإعلانات وراقصات «الفيديو كليب»، والتكسُّب بالدين والوعظ والإرشاد تخديرًا للناس، وإبعادهم عن قضاياهم الاجتماعية والسياسية. وتُطعَّم إعلانات التهنئة ببعض الآيات والأحاديث حتى تلقى الحظوة لدى الرئيس أو الوزير أو المدير؛ فالتهنئة من القلب، ومعها اسمَا المُهنِّي والمُهنَّى، وأسماء شركاتهما ومناصبهما، وكيفية الاتصال بهما، وما تُقدمه من منافع وفرصٍ عظيمة. وتتوالى التهنئة بقدوم الشهر الكريم، واسم المهنِّي وشركته وبضاعته، ونصب موائد الرحمن على أبواب المتاجر، فيُطعم الجائع والفقير من ناحية، وتكثُر الزبائن من ناحيةٍ أخرى.
في الظاهر التدين، وفي الباطن الربح والتجارة والمكسب دون الخسارة. ولا فرق في هذه الممارسات بين الطبقات الاجتماعية الدنيا والمتوسطة والعليا. الدنيا لأن الدين غذاؤها، عزاؤها وأملها، والوسطى لأن الدين هو القانون والنظام، وهو ما ترعاه الطبقة الوسطى باعتبارها القائمة على الأمن والاستقرار. والعليا كغطاءٍ شرعي للثروة والفساد والاحتكار والاستغلال، والأرزاق مقدَّرة من قبل، وليست من كسب الفقراء بالحلال، أو من احتكار رجال الأعمال وفسادهم بالحرام.
ولا فرق في ذلك بين الاقتصاد والسياسة، بين المحكوم والحاكم؛ فإذا ما سقطت شرعية الحاكم لتبعيته للخارج، وصلحه وتطبيعه مع المُحتل، وقهره في الداخل، وسلبيته أمام الفساد ابتداءً من الحاشية حتى المجتمع الكبير، فإنه يستعمل شرعية الدين. يحضر احتفالات توزيع الجوائز على الفائزين في مسابقات تحفيظ القرآن الكريم، ويتصدر الاحتفالات بالأعياد والموالد الدينية. يلبس ملابس الإحرام، والزبيبة على الرأس، والعصا في اليد، والدعاء على اللسان، وتسبيل العينَين تقوًى وخشوعًا. وبعضهم يأخذ لقب «أمير المؤمنين»، «خادم الحرمَين»، «الرئيس المؤمن»، «خامس الخلفاء الراشدين»، أو «آخر فراعنة مصر»، كما تأخذ حرمه لقب «ملكة مصر» بدلًا من «السيدة الأولى». يختلط الديني بالدنيوي، وتتداخل السلفية مع العلمانية. والغاية إيجاد شرعية للرئيس ولنظامٍ غير شرعي.
والعجيب أنه في مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي يزدهر القطاع الخاص على حساب القطاع العام بدعوى العولمة، وفي نفس الوقت تزداد الحمية الدينية والتمسك بالمحافظة الإسلامية. كلٌّ منهما يُغذي الآخر ويدعمه. الدين كغطاءٍ شرعي للربح، والربح كغطاءٍ شرعي للدين. كلاهما من عند الله؛ فالله هو الهادي والموفِّق، وهو الرازق والعاطي. وما من مولود يُولَد إلا ورزقه معه. وفي الأمثال العامية: «المتعوس متعوس ولو علَّقوا على راسه فانوس»، «يا متعوس غير رزقك ما تحوش».
وفي مصر أيضًا عديد من الأمثال العامية التي تدحض هذا التداخل بين الدين والتجارة: «اللي عايزه البيت يحرم على الجامع.» فالحياة لها الأولوية المطلقة على الدين، «خذ من كلام الشيخ ولا تأخذ من أفعاله.» لأن كلامه مجرد غطاء شرعي لأفعالٍ مُناقضة للأقوال. الدين والمصلحة الشخصية مُتداخلان؛ فإذا بال الكلب على حائط الجار عليه أن يهدمه ويبنيَه سبع مرَّات، وإذا كان الحائط هو حائط الشيخ فقليل من الماء يُطهره.
نقد الوعظ الديني
يبلُغ الوعظ الديني ذروته في شهر رمضان. وقد مرَّ نِصفه الأول، وبدأ نِصفه الثاني. وهو وقت مراجعة النفس والفكر وتقديم الحساب. ما الذي جنَيناه على مستوى الوعي الديني، وهو أساسًا الوعي بالحياة وبالواقع وبالتاريخ؟ ما الجديد بالنسبة لما قيل في الأعوام الماضية، وربما ما سيُقال في الأعوام القادمة؟ أليست مجرد خُطَب ووصايا ومواعظ نمطية «رمضانية» عن فائدة الصيام وأركانه، والتي تمتلئ بها أيضًا صفحات الفكر الديني وأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، والتي يعرفها الأطفال والتلاميذ في المدارس والأبناء في المنازل؟ هل يؤدِّي الوعظ الديني وظيفته أم إنه أصبح حِرفةً يتكسَّب بها الوُعَّاظ والدُّعاة كما يُتكسب بقراءة القرآن على المقابر بدعوى طلب الرحمة على الموتى؟
الوعظ الديني نشاطٌ ذهني ونفسي على مستوى الكلام وليس الفعل، باللسان وليس باليد. في حين أن الفعل يتطلب السكوت، «واستعينوا على قضاء حاجتكم بالكتمان». وكتب الفقهاء مثل ابن أبي الدنيا عن آفة الكلام وفضيلة الصمت. والصمت عند الصوفية لغةٌ أبلغ من الكلام، غايته التأثير في السامعين، واستجداء استحسانهم وتصفيقهم وتهليلهم وتكبيرهم. يقوم الخطاب الوعظي على جماليات اللغة وفنون الإلقاء وكل صنوف المحسِّنات البديعية، خاصةً التشبيهات والمجازات والاستعارات وضرب الأمثال. هو عالمٌ مستقلٌّ بذاته لا يُشير إلى عالمٍ آخر خارج نطاق اللغة وسحرها وبلاغتها في ثقافة الشعر قلبها، والقرآن مركزها لدرجة اتهام بعض المستشرقين لها بأنها ثقافةٌ صوتية، مع أنه فنون السمع أقرب إلى القلب وأعمق وأكثر قدرةً على التعبير عند هيجل من فنون الصورة والشكل.
وهو خطاب مناسبات في الأعياد والموالد، وفي المآتم والأفراح على المقابر وأمام العروسين في عقد القران. وقد استمعنا إلى كثير منه على موائد الإفطار الرسمية في رمضان التي تُقيمها المؤسَّسات والهيئات من كبار الدعاة ورؤساء الطوائف بملابسهم وألوانها الزاهية، وكأننا في سوق عكاظ ومهرجانات الشعر والخطابة.
أصبح الوعظ الديني حِرفةً لها رجالها وخطباؤها ومدارسها ومعاهدها الرسمية والأهلية. الوعظ صناعة بتعبير القدماء، تخصَّص فيها مشايخ الفضاء بملابسهم الفضفاضة البيضاء، وذقونهم الطويلة السوداء، وملامح الوجه المليح، والعيون التي يشعُّ منها بريق الإيمان، والشباب الصبوح القادر على سحر النساء، والدخول إلى القلب مباشرةً عن طريق الإيمان الذي يحتاج إليه الناس بعد أن تم بيع كل شيء والتجارة بكل شيء. وأصبحت القلوب فارغةً من أي ولاء، والنفوس شاغرة من أي مبدأ أو قضية. وفي ذلك يتنافس مشايخ الفضاء نجوم الفن وأساطين الغناء. كلاهما طرب، طرب القلوب في الوعظ الدين، وطرب النفوس في الفن والغناء. وتحوَّلت شخصية الواعظ إلى شخصيةٍ رئيسية في الأعمال الدرامية، في الرواية والقصة والمسرح والسينما مثل مشاهير النجوم وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (المطففين: ٢٦).
والوعظ المرئي جزء من فن التمثيل والإلقاء بالإضافة إلى الأزياء والماكياج. هناك الأضواء والأصوات والأثاث وكل عناصر الإخراج في العمل الفني؛ حتى يصبح الوعظ فنًّا مُتكاملًا من المقدمة الموسيقية أو التلاوة القرآنية الأولى حتى الابتهالات والدعوات والصلوات والبكائيات الأخيرة. وتُضاف إلى فنون الإخراج فنون التمثيل ولغة الجسد والحركة، وهز الكتفين، ورفع الحاجبين، وطريقة الجلوس على كرسي الوعظ المرتفع، والمستمعون أمامه يستحسنون الإلقاء، لا فرق بين المغنِّي والواعظ، كلاهما مُنشِد، أو بالتعبير الشعبي «صييت».
وحضور حلقات الاستماع شرفٌ كبير للمُستمعين. يتهافت عليها الصغار والكبار، الرجال والنساء؛ ليستمعوا إلى الوعظ الجديد، ويظهرون في التليفزيون. يبحث الناس عن بطلٍ بعد أن عزَّ الأبطال بانقضاء الستينيات. يبحون لا شعوريًّا عن شجيع وفتوة، ويتُوقون إلى مخلِّص ولو بالنبُّوت كما صوَّر نجيب محفوظ في «ملحمة الحرافيش».
الناس في حاجة إلى زعيم وقائد لا يجدونه في الواقع فيُوجدونه في الخيال. يغيب في الحياة فيُحضرونه في الوعظ الديني. تتوق الأمة إلى من يأخذ بيدها، يهديها ويُرشدها إلى الطريق المستقيم، ويُنقذها مما هي فيه من آلام ومآسٍ وأحزان، ويحميها مما تنتظره من كوارث ومصائب تمسُّ لُقمة العيش.
والمُستمع ابن وقته مِثل الصوفي، يعيش لحظته لينسى الزمان المُمتد العريض قبل لحظة الوعظ وبعدها. أتى إلى الوعظ ليفرِّج همه، ويُخفف كربه، ويستريح نفسيًّا، ثم يُغادر الوعظ ليُشحَن من جديد بمنغِّصات الحياة، والصراع من أجل البقاء، وإشباع الحاجات الأساسية وتوفيرها للزوجة والأولاد، وللآباء والأمهات، وللإخوة والأخوات الذين يعُولهم. يجد في الوعظ خلاصًا وقتيًّا، وسعادةً لحظية، وراحةً مؤقَّتة عن الهمِّ الدائم والشقاء المستمر. لا يهمُّه موضوع الوعظ، بل الوعظ نفسه؛ جماله ولغته وأسلوبه وصوته وخيالاته وأوهامه. يهمُّه الشكل دون المضمون. يُعجَب بالواعظ بشخصه بصرف النظر عن وعظه؛ جماله وصوته وملامح وجهه وإشراقه، يكفيه حتى ولو نطق كفرًا. المُستمع يتُوق إلى مهارة وسحر وإبداع وتفوُّق وعبقرية وخيالٍ يجده في الواعظ الذي يُشبع فيه حاجاته النفسية التي لم يُشبعها فيه المجتمع، ولم تُوفرها له الدولة.
أصبح الوعظ أقوى مؤسَّسة دينية تُنافس جميع مؤسَّسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان والطفل والشيخ والمريض والمُعتقَل السياسي.
الوعظ أقرب إلى الخداع منه إلى الصدق، يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف: ٢-٣). يسحر الناس بالكلام مِثل الحقنة المخدِّرة دون أن يُساهم في يقظة الوعي بالذات وبالعالم. يجتزئ الآية عن سياقها وعن مجموع الآيات كلها. يدعو إلى الإيمان دون العقل، وإلى الرضا دون الغضب. يذكر أن الله يُحب المُتقين والمُقسطين، ويكتم أن الله لا يُحب المُعتدين والظالمين والخائنين والمُختالين. يتناول العدل دون الظلم، والغنى دون الفقر، والسعادة دون الشقاء. يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر. يستعمل الآية خارج أسباب النزول حتى يعلم الناس كيف غيَّرت الآية واقع الناس، وأن وظيفتها في التغيير الاجتماعي وليس فقط مجرد السماع. يستعملها خارج الناسخ والمنسوخ، وهو ما يُبين تغيُّر الأحكام الشرعية بتغير الزمان. لا يختار إلا الكلام الآمن عن المحبة والسلام، دون الكلام الخطر عن الكراهية والحرب، مع أن الله يُحب ويكره، والأمة تُسالم من يُسالمها، وتُعادي من يُعاديها وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (الأنفال: ٦١)، والعدو يعتدي كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير.
والقرآن يتحدَّث عن الوسط وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (البقرة: ١٤٣)، كما يتحدث عن الصراع وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ (البقرة: ٢٥١).
الوعظ من أخطر أنواع الخطاب الديني على حياة الناس. يُساهم في الاغتراب عن العالم، والخروج خارجه، والوقوع في دائرة الوهم، خاصةً لو كان الموضوع المعاد والأُخرويات، وما يحدث للإنسان بعد الموت، ابتداءً من عذاب القبر ونعيمه حتى عذاب النار ونعيم الجنة، مرورًا بالحشر والصراط والميزان والحوض والشفاعة. يُساهم الوعظ في تزييف الوعي، ويقوم بنفس الدور الذي يقوم به الخطاب السياسي للحزب الحاكم في إعطاء الوعود والإيهام بالحلول. يُوهم الوعظ بأن المشكلة في النفس وليست في الواقع، في تربية المواطن وليست في الأوضاع الاجتماعية، في الأخلاق وليست في السياسة. والحل في الكلام وليس في الفعل، في الفرد وليس في المجتمع، في الإعلام وليس في الشارع، بكثرة الدُّعاة والوُعاظ وليس بالطلائع الثورية للعمال والفلاحين والمثقَّفين. هناك فرق بين التخدير واليقظة، بين المسرح والحياة، بين الجلوس أمام الشاشة الضوئية والمشاركة في إضراب العمال في المصانع، بين الرضا عن النفس والغضب من الزمان.
(قدرٌ أحمق الخُطى سحقت قامتي خُطاه.)
الفتنة بين السلفيين والعلمانيين٥
وهل يحتاج الوطن العربي إلى فتنةٍ جديدة تزيده تقسيمًا وتفتيتًا وتجزئة؟ وكيف يتم ذلك بأيدينا وليس بأيدٍ أجنبية؛ أمريكية صهيونية؟ وفي نفس الوقت نقرأ تاريخنا ونعيب على أنفسنا وقوعنا في الفتنة الكبرى الأولى بين علي ومعاوية، وننعى لأنفسنا ضياع الأندلس للحروب بين ملوك الطوائف وسقوط الإمبراطورية العثمانية للفتنة العِرقية فيها بين الأتراك والأرمن والعرب ومختلف القوميات في أوروبة الشرقية.
إن الخصومة الدائرة الآن بين السلفيين والعلمانيين إنما تُساهم في تفتيت الأوطان من الداخل، وهي في أشد الحاجة إلى التمسُّك بالوحدة ضد مخاطر التفتيت من الخارج، والوقوف أمام المخطَّط الأمريكي الصهيوني لتفتيت الأوطان بدايةً بالعراق، وكما قرَّر الكونجرس الأمريكي بجلسته أخيرًا إلى مناطق ثلاث؛ كردية في الشمال، وسُنية في الوسط، وشيعية في الجنوب. والصراع بين عشائر وقاعدة، وليس بين المقاومة والاحتلال. وهو ما يجري الحال الآن بالنسبة إلى السودان وتقسيمه إلى شمالٍ عربي إسلامي، وجنوبٍ زنجي مسيحي، وغربٍ عِرقي، وشرقٍ قبَلي. والخطر ما زال قائمًا على الخليج كله، وتقسيمه طائفيًّا ومذهبيًّا إلى سُنة وشيعة، أو عِرقيًّا بين عرب وآسيويين، والأمم المتحدة بالمِرصاد تتلقى توجيهات الدول الكبرى باسم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات. والخطر يُهدد المغرب العربي كله وتقسيمه إلى عرب وبربر، والمغرب إلى مغاربة وصحراويين، وتشاد ومالي ونيجيريا إلى شمالٍ عربي مسلم وجنوبٍ زنجي مسيحي. بل ويُهدد شِبه الجزيرة العربية كلها إلى نجديين في الوسط، وحجازيين في الغرب، ورافضة وسنة في عمان، وزيدية وشوافع في اليمن. ويُهدد التقسيم لبنان إلى مسلمين وموارنة كما حدث في الحرب الأهلية، أو إلى موالاة ومعارضة كما يحدث الآن. والخطر يُهدد الأردن وتقسيمه إلى بدو وحضر. ويُهدد سورية بتقسيمها إلى عَلويين في الحكم، وسُنة في المعارضة. وقد تقع حروبٌ أهلية بين السلفيين والعلمانيين لتُهدد وحدة الأوطان كما يحدث في الجزائر دائمًا، وفي المغرب أحيانًا. وقد يقع الشِّقاق بين السلفيين والإصلاحيين كما يحدث في الكويت. وهو ما يُهدد الأمن القومي في مصر في الفتنة النائمة بين المسلمين والأقباط، بالرغم من ادعاءات الوحدة الوطنية، ومظاهرها المُفتعَلة، وقضايا التنصير والطلاق والزواج المشترك، والسلوك المَعيب لبعض الرهبان، والفتاوى الرنَّانة لبعض المشايخ بالنسبة لإرضاع الكبار، أو التبرُّك ببول الرسول، أو التوتُّر داخل الحزب الحاكم بين الرعيل الأول والرعيل الثاني، أو بين الحكومة والمعارضة على كل المستويات، الحكم والتوريث والخصخصة والفساد، وآخرها حبس رؤساء تحرير الصحف المستقلَّة.
وأخيرًا برزت في مصر فتنةٌ جديدة بين أبناء الوطن الواحد بين السلفيين والعلمانيين. العلمانيون يُهاجمون السلفيين آراءً ومواقف وشخصيات وكأنه لا يوجد خطر في البلاد إلا منهم، ولا يُهاجمون المطبِّعين مع إسرائيل والمُتأمرِكين باسم الليبراليين الجُدد، ولا الأغنياء الجُدد في مارينا وسواحل البحر الأحمر والأبيض، ولا احتكار الحديد والأسمنت، ولا بيع القطاع العام والمؤسَّسات والشركات والبنوك باسم الخصخصة، ولا تزوير الانتخابات، ولا قوانين الطوارئ أو قانون مكافحة الإرهاب، ولا حبس الصحفيين، ولا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، ولا مظاهر الفساد الاقتصادي والسياسي، ولا الشِّللية في الحكم وجماعات الضغط؛ ومن ثَم يضع العلمانيون أنفسهم في نفس الخندق مع الحكومة التي تعتبر الإسلاميين مُمثَّلين في الإخوان المسلمين عدوَّهم الأول، وخندق الأمريكيين في اعتبار الحركات السلفية الجهادية في العراق وأفغانستان وفلسطين، وفي أمريكة وأوروبة عدوها الأول، والذي بمواجهته يجد المُحافظون الجُدد شرعيةً لوجودهم، وتبريرًا لسياساتهم العُدوانية على الشعوب، وذريعة لتكوين الإمبراطورية الأمريكية الجديدة.
والصراع بين السلفيين والعلمانيين في حقيقته ليس صراعًا فكريًّا؛ فهناك سلفيةٌ علمانية، وهناك علمانيةٌ سلفية. هو صراع على السلطة! ونيل الحظوة لدى الحاكم، والتسرُّب إلى أجهزة الدولة ومواطن السلطة فيها، اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية، بل وقضائية. وقد استثمر الحكام هذا الصراع على السلطة والتسابق إليها بالاعتماد على العلمانيين مرةً لاستبعاد السلفيين، أو بالاعتماد على السلفيين مرةً أخرى لإقصاء العلمانيين حتى يضعف الجناحان، ويقوى القلب، ولا يكون هناك بديلٌ آخر، لا «الإسلام هو الحل» ولا «العلمانية هي الحل»، بل «الحكومة هي الحل».
والحقيقة أن الاستقطاب الحالي بين السلفيين والعلمانيين هو استقطابٌ مُفتعَل نظرًا لوجود تيَّارات علمانية داخل الحركة السلفية مثل حزب الوسط، بل والإخوان المسلمين أنفسهم في مصر وسورية ولبنان واليمن والمغرب. تقول بالدولة المدنية، وبأن السلطة للشعب، وتُدافع عن التعددية السياسية، وتلجأ إلى صناديق الاقتراع؛ فالمسافة بينها وبين العلمانيين ليست كبيرة. والإطار المرجعي العام الإسلامي أو الغربي يلتقيان في المصالح العامة؛ فالمصلحة أساس التشريع، والشريعة وضعية كما قرَّر الشاطبي مثل القانون الوضعي. ومن العلمانيين من يُسلِّم بأن الإسلام هو التراث القومي للأمة وثقافتها الوطنية.
هناك إذن جسور التقاء بين السلفيين والعلمانيين تسمح بالحوار الفكري والوطني بينهما من أجل مواجهة العدو المشترك؛ والقهر والفساد في الداخل، والتبعية للخارج والاعتماد عليه. وحركة النهضة التي يعتزُّ بها العلمانيون، الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين والطهطاوي وطه حسين والعقاد، جذورها ومُنطلَقاتها وأُطُرها المرجعية سلفية.
وليست كل الحركات السلفية تُمارس العنف ضد الأبرياء؛ فالسلفيون يُجاهدون في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير، ويُقاومون حكم الفرد المطلق والنظام العسكري القهري في باكستان. السلفية في النهاية ردُّ فِعل طبيعي على الحركات العلمانية للتحديث التي تمَّت تجربتها في حياتنا المعاصرة، ليبرالية وقومية وماركسية، وكانت النتيجة مزيدًا من الاحتلال؛ فقد ضاع نِصف فلسطين في ١٩٤٨م في العصر الليبرالي، وضاع النصف الثاني في ١٩٦٧م في العصر القومي، وازدادت المسافة بين الأغنياء الجدد والفقراء الجُدد، واشتدَّ القهر، وضاعت قيم الحرية والعدالة معًا. السلفية صرخة احتجاج ضد مآسي العصر؛ تبعية النُّظم وعجز الشعوب.
تشتعل الفتنة بالهجوم المستمر للعلمانيين على السلفيين وملء الصحف بالسخرية منهم، فيلجأ السلفيون إلى القضاء للثأر منهم، ويستصرخ العلمانيون حرية الرأي والتعبير دون الدعوة إلى الحوار الوطني بين فرقاء الأمة، ويستنجدون بالرأي العام بل وبالدولة لحمايتهم من أحكام القضاء ضدهم بالتعويض. وهو ما تتَّخذه القُوى الأجنبية ذريعةً للدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الرأي والتبشير بالديمقراطية وبقِيم العالم الحر، وينشغل الناس بالفتنة بين مؤيِّد لهذا الفريق ومُناصر للفريق الآخر؛ فتنقسم الأوطان إلى فريقَين مُتصارعين تاركين الصراع الحقيقي بين الداخل والخارج، بين الاستقلال الوطني والتبعية الخارجية. وتُفتَح جبهةٌ جديدة تُشتت الجهود، وتُبعد الناس عن الجبهات الحقيقية في الداخل؛ حرية الصحافة والرأي ضد قانون حبس الصحفيين، مواجهة الفساد والقهر والتزوير والتوريث وحكم الفرد المطلق، ومعارك العمال وإضراباتهم لنيل حقوقهم، والمخاطر التي تُواجه سورية ولبنان والسودان وإيران. وبدلًا من الهجوم في الصحف من العلمانيين، واللجوء إلى القضاء من السلفيين، هناك الحوار الوطني بين اتجاهات الأمة المختلفة؛ فالكل رادٌّ والكل مردود عليه. كلا الفريقين ضحايا الفِرقة الناجية؛ فالسلفيون يعتبرون أنفسهم الفِرقة الناجية، والعلمانيون الفِرق الضالة. والعلمانيون يعتبرون أنفسهم الفِرقة الناجية، والسلفيون الفِرق الضالة. والحكومة تعتبر نفسها الفِرقة الناجية، والمعارضة الإسلامية ممثَّلةً في الإخوان، واليسارية ممثَّلةً في كفاية والناصريين ومؤسسات المجتمع المدني، هي الفِرق الضالة. البنية واحدة في تكفير المُخالفين في الرأي، وهو ضد الإسلام الذي يُقرُّ بحق الاختلاف، وضد التعدُّدية التي تُقرُّها العلمانية باسم حرية الرأي والتعبير.
إن الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها. التناقض بين السلفيين والعلمانيين تناقضٌ فرعي في الداخل، والتناقض بين الوطن وأعدائه في الخارج، أمريكة والصهيونية، وفي الداخل، القهر والفساد، تناقضٌ رئيسي. إن الحرص على وحدة الأوطان مشروط بوحدة الداخل في مواجهة الخارج أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (الفتح: ٢٩)، والسلطة ليست للحكومة أو للمعارضة، بل للشعب والتاريخ.
العدالة والتنمية في تركية والمغرب٦
العدالة والتنمية ليسا اسمَين لحزبَين سياسيين في تركية والمغرب نجحَا في الانتخابات الأخيرة في المرتبة الأولى في تركية، وفي المرتبة الثانية في المغرب، بل هما تجربتان حضاريتان تاريخيتان نهضويتان حديثتان استَرْعتا انتباه العرب والمسلمين، الخاصة والعامة، في الداخل والخارج. أسعدتَا أصحاب الحوار ومد الجسور والاعتدال، وأشقَيَتا أصحاب المواقف الحدِّية الأيديولوجية؛ إسلامية سلفية، أو علمانية غربية.
هما تجربتان رائدتان ليس فقط سياسيًّا، ممارسةً للديمقراطية، بل أيضًا حضاريًّا، كيفية التعامل مع التاريخ والتراث الوطني للشعوب. التعددية السياسية بلا حدود، وحرية الاقتراع بلا قيود أو تدخُّل من الحاكم أمام سمع وبصر الجميع. تشهد على أن العرب والمسلمين يعرفون كيف يُمارسون الديمقراطية دونما حاجة إلى فرضها من الخارج على أسنَّة الرماح وبالغزو العسكري المباشر.
لم تعُد نتيجة الاقتراع ٩٩٫٩٪ في المائة لصالح المرشَّح الأوحد، بل تكفي الأغلبية النسبية التي تقلُّ عن ٥٠٪ من مجموع الأصوات؛ مما لا يسمح بالانفراد بالحكم إلا عن طريق تحالُف عريض وجبهة وطنية تجمع باقي التيَّارات السياسية، أو على الأقل التالي في الأغلبية، بحيث يكون الحكم بمجموع الثُّلثَين، أكثر أو أقل.
وبالرغم من أنهما تجربتان سياسيتان مُنفصلتان إلا أنهما تدلَّان على واقعٍ واحد، وهو إمكانية تجاوُز الاستقطاب الحاد بين السلفيين والعلمانيين، والحفاظ على الوحدة الوطنية، وحماية الوطن من جماعات العنف والتهميش السياسي والكَبت النفسي والفكري للحركات السِّرية. تركية دولةٌ إسلاميةٌ غير عربية، والمغرب دولةٌ إسلاميةٌ عربية، يتشابهان في التجربة السياسية الحضارية كما أفرزتها الانتخابات الأخيرة.
لقد خضع تاريخ تركية الحديث لقانون الفعل ورد الفعل، فكانت الثورة الكمالية رد فِعل طبيعيًّا على انهيار نظام الخلافة التي أدَّت إلى احتلال اليونان لتركية حتى مشارف أنقرة، ووصف الغرب للدولة العثمانية أنها الرجل المريض.
فكان من الطبيعي أن ينهض الضابط الشابُّ بروحٍ وطنية والاستقلال للقضاء على رمز التخلُّف الداخلي وتحرير الوطن من الاحتلال الخارجي. ونظرًا لأن نظام الخلافة العثمانية بما يُمثله من تخلُّف وقهرٍ كان يحكم باسم الإسلام، وكان الغرب يتقدم باسم العلمانية والتحديث، كان من الطبيعي أن يصبح الغرب نموذجًا للتحديث، وتُلغى الخلافة، وتتبنَّى تركية القيم العثمانية؛ العقل، والعلم، والتقدُّم، والحرية، والديمقراطية، والمساواة، والعدالة، وهي قِيمٌ إسلامية في جوهرها؛ عند المعتزلة أنصار التحسين والتقبيح العقليين، وعند المالكية أنصار أن ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وعند ابن رشد في النظر العقلي والانفتاح على الأخرين والتأسيس الأخلاقي للشريعة، بل وعند الصوفية الذين كانوا يُجاهدون الاستعمار في الزوايا والرباط مثل السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان.
وعلى مدى نصف قرن خفَّ ردُّ الفعل، واسترجع الوعي التركي تاريخه الطويل وتراثه الممتد في أعماق الشعور؛ فحدَث رد فِعل آخر على الكمالية الأولى ممثَّلًا في حزب الرفاه، والعودة إلى الحمية الإسلامية، وربما إحياء الخلافة. وامتدَّت سياسة تركية الخارجية إلى الوطن العربي من جديد وإلى أواسط آسيا لتُثير الخيال القديم والحلم المستقبلي عن وحدة الأمة في عالمٍ مُتعدد الأقطاب، «الإسلام هو الحل»؛ فحدَث ردُّ فِعل آخر من العلمانيين، ويُمثلهم الجيش، ضد التيَّار الإسلامي الأُمَمي؛ فقُضي على التجربة، وحُرِّم على رئيس الحزب العمل السياسي، ثم أصبحت الحركة الإسلامية أكثر وعيًا في حزب الفضيلة، ثم حزب العدالة والتنمية جمعًا بين الفعل ورد الفعل. واستطاع تهدئة مخاوف العلمانيين من الإسلام السلطاني، وتهدئة مخاوف الإسلاميين من العلمانية الجذرية التي هي في الحقيقة سلفيةٌ مضادَّة؛ فكلاهما يعتقد بأنه الفِرقة الناجية، والآخر هو الفِرقة الضالة.
الإسلاميون يكفِّرون العلمانيين، والعلمانيون يخوِّنون السلفيين. استطاع حزب العدالة والتنمية بما لديه من خبرة في العمل السياسي ووعيٍ حضاري تحييدَ الجيش والحوار معه، وإقناعه بأن الإسلام الحضاري يقوم على القيم العلمانية، وأن القيم العلمانية في حقيقتها قِيمٌ إسلاميةٌ احتكرها الغرب وجعلها ضد الدين، وهي في الإسلام نابعة منه. كما استطاع التخفيف من حدَّة الإسلاميين السلفيين، وإقناعهم بالإسلام الحضاري القادر على الدخول في العالم أكثر من الإسلام الحَرفي النصي العقائدي الشرعي المؤسَّسي.
وفي نفس الوقت تمَّ الحوار مع دول الجوار العربي والإيراني والآسيوي، والابتعاد عن المِحور الإسرائيلي بالرغم من قضية الأكراد. وما زال يُصرُّ على الانضمام للاتحاد الأوروبي، والاستجابة إلى مطالبه فيما يتعلق بمِلفِّ حقوق الإنسان، وبعض أحكام الشريعة الخاصة بالقصاص، دون التفريط في الرموز الحضارية كغطاء الرأس. وهي رموزٌ موجودة في كل ملة ودين، وتُميز كل ثقافة وحضارة. وكذلك الإبقاء على المدارس الدينية أسوةً بالمدارس الخاصة الأجنبية الفرنسية والإنجليزية والألمانية. لم تضع لفظ الإسلام كاسم للحزب أو علامة عليه، بل «العدالة والتنمية»، وهما قيمتان إسلاميتان؛ العدل الذي قامت على أساسه السموات والأرض ونُظُم الحكم، وإمامٌ كافرٌ عادل خيرٌ عند الله من إمامٍ مسلمٍ ظالم، والعدل هو الشرط الأول للإمامة قبل القوة عند بعض الفقهاء.
والتنمية إعمار الأرض، وتحويلها من صحراء قاحلة صفراء، هشيمٍ تذروه الرياح، إلى أرضٍ زراعية خضراء، أصلها ثابت وفرعها في السماء كما يُصور القرآن. والتنمية الصناعية أيضًا؛ تليين الحديد واستعمال النار؛ أي الطاقة، جعل تركية قلعةً صناعية وعمرانية يشهد لها الجميع. وعلى الصعيد الداخلي، وبما لها من رصيدٍ شعبي، تُحاول تغيير الدستور حتى يكون انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر. وتُحاور الأكراد اعترافًا بحقوقهم في إطار من وحدة الأراضي التركية والعراقية والسورية والروسية؛ فليست الدولة الوطنية ذات العِرق الواحد هو النموذج الوحيد للكِيان السياسي. ومعظم الدول تحتوي مللًا وأعراقًا مختلفة مثل سويسرا، وكما قرَّر ذلك دستور المدينة.
وبدأ المغرب العربي حياته السياسية بحزب الاستقلال الذي يجمع بين الوطن والعروبة والإسلام. وهو القاسم المشترك في المغرب العربي الكبير كله دون أن تتدخل القومية كحاجز أو مانع أو نقيض للوطن والإسلام، كما حدث في الشام كردِّ فِعل على الخلافة العثمانية أولًا، والقومية الطورانية ثانيًا في تركية. وبفضل حزب الاستقلال نال المغرب استقلاله السياسي من فرنسة بفضل علال الفاسي ورفاقه، ثم تكوَّن في رحم حزب الاستقلال اتحاد القوى الشعبية، ثم الاتحاد الاشتراكي كجناحٍ يساري يُضيف إلى الوطن والعروبة والإسلام التقدم والعدالة والتنمية.
وحدث تداول للسلطة من حزب الاستقلال أولًا إلى الاتحاد الاشتراكي ثانيًا. والفقر والبطالة ما زالا مُستمرَّين، ثم نشأت الحركة الإسلامية السلفية لتُنافس الاثنين، وتُمارس بعض أجنحتها السِّرية العنف السياسي، ودون حوار وطني بين الحزبَين، ثم نشأ حزب العدالة والتنمية كجسر بينهما باسم الإسلام المُستنير، أو الإسلام الاجتماعي، أو الإسلام الحضاري، أسوةً بالتجربة التركية. ولما كانت التجربة ما زالت وليدة، ونقصها الحوار الخصب الجاد مع الحزبَين السابقين، لم تستطع الحصول على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات الأخيرة. وراوَد الناسَ الحنينُ لحزب الاستقلال الذي قاد حركة التحرُّر الوطني دون الحصول على الأغلبية إلا بالتحالف مع الجبهة الشعبية، أو الاتحاد الاشتراكي، أو كليهما معًا. وهو القادر على الدخول في حوار مع الحركة الأمازيغية كما فعل حزب العدالة والتنمية في تركية مع الأكراد. لم يجعل الإسلام عنوانًا له، بل العدالة والتنمية، قيمتان إسلاميتان علمانيتان في نفس الوقت مثل مقاصد الشريعة، وهي الضروريات الخمس؛ الحياة والعقل والدين أي القيمة، والعِرض أي الكرامة، والمال أي الثروة الوطنية. وقد تم هذا بفضل الملكية المُستنيرة والحكم الدستوري والتعددية السياسية الذي كان حلم الحركة الإصلاحية منذ الأفغاني حفاظًا على الوحدة الوطنية، أرضًا وشعبًا.
ولقد استطاعت ماليزيا خوض نفس التجربة التركية المغربية دون مدخل أيديولوجي، سلفي أو علماني، بل بالتوحيد بين الإسلام والوطن. والبداية ببناء الدولة الوطنية الحديثة، وصياغة مشاريع تنموية زراعية وصناعية جعلتها في معدَّلات التنمية الثانية بعد الصين. التكنولوجيا قبل الأيديولوجيا، ونحن في الوطن العربي ما زِلنا في الأيديولوجيا قبل التكنولوجيا. ما زلنا في حالة استقطاب شديد بين السلفية والعلمانية، مع غياب حوار جادٍّ بين الجناحَين، وغياب الحوار شِبه التام مع الدولة. وكل محاولة لإقامة الجسور، مثل حزب «الوسط» في مصر، وحزب «النهضة» في تونس، بل والصياغات الأخيرة لبرامج الإخوان في مصر والأردن ولبنان واليمن، وتأكيدها على الدولة المدنية، والتعددية السياسية، والحرية والديمقراطية، مُتجاوزةً الحاكمية وتطبيق الشريعة، تلقى آذانًا صمَّاء من نُظُم الحكم باعتبارها مُنافسًا خطيرًا لها في حالة انتخابات حرة يخسر فيها الحزب الحاكم. ما زال الصراع على السلطة هو المُحرك الأول، وليس جبهة الإنقاذ الوطني التي يُشارك فيها الجميع. وشتَّان ما بين حزبَي العدالة والتنمية في تركية والمغرب، وحزب التنمية والعدالة في دارفور غرب السودان؛ بين نظرة توحيدية للوطن، ونظرة تجزيئية له.
تستطيع التجربة التركية والمغربية أن تُساعد مصر وليبيا والجزائر وتونس والسودان وسورية وشبه الجزيرة العربية في الوسط والأطراف على خوضها تحديثًا للإسلاميين، وإخراج النخبة العلمانية من عزلتها، وإيجاد مَخرج لأزمة الحكم. ومصر حلقة اتصال بين تركية شمالًا، والمغرب غربًا، وشبه الجزيرة العربية وماليزيا شرقًا، والسودان جنوبًا. ولها لدى شعوبها رصيد من الحضارة والتاريخ.
الدين والثقافة والسياسة في رمضان: عِتاب على الإعلام العربي٧
انقضى شهر رمضان. واسترجاع حوادث الشهر الكريم وسلوكياته جزء من مراجعة النفس والنقد الذاتي وتحسين الأداء عامًا وراء عام، وعدم تكرار الأخطاء أو الاستسلام للعادات.
وما يدعو للتأمُّل والعجب وضعُ الدين والثقافة والسياسية في الإعلام العربي، خاصةً في مصر، في شهر رمضان، في الصحافة والإعلام، المسموع والمرئي، المدوَّن والشفاهي؛ ففي الصحافة تُلغى صفحات التحليل السياسي وصفحات الثقافة، وتتحول إلى صفحاتٍ دينية يُفتي فيها المشايخ والأطبَّاء؛ فيتحول العام إلى خاص، وقضايا الأمة الكبرى وما تعمُّ به البلوى إلى قضايا جزئيةٍ خاصة بالطعام والشراب وأنواع الغذاء والاختيار بين أفضله، والفقير يُصارع كل يوم في طوابير الخبز للحصول على الرغيف المدعَّم الذي يشتريه الغنيُّ لإطعام مواشيه ولإقامة موائد الرحمن. بعُد الدين عن الهمِّ اليومي ومناظر دماء المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والسودان، واقتصر على الغذاء كالحيوان. ابتعد الدين عن أزمة العصر الكبرى، احتلال أراضي المسلمين، والذي كان السبب الأول في الحركات الإصلاحية، وقيام حركات التحرُّر الوطني باسم الإسلام والعروبة والوطن. وفي نفس الوقت تزرع إسرائيل المستوطنات وتتوسَّع فيها، وتُقام القواعد العسكرية الدائمة في العراق، ويزداد تدخُّل القُوى الأجنبية في السودان والصومال. والإذاعة تغنِّي «أهلًا رمضان»، «رمضان جانا وفرحنا له»، وإذا قارب على الانتهاء «والله لسه بدري يا شهر الصيام» حزنًا على فراقه. واستعدُّوا لأغانٍ نمطيةٍ أخرى «أهلًا، أهلًا بالعيد» مع أطفال الشهداء والثكالى. والبعض يقول في سِرِّه مع المتنبي: «عيدٌ بأية حال عُدت يا عيدُ؟»
وانقسمت الأمة إلى قسمَين؛ قِسم يُجاهد ويُقاوم ويُستشهد ويُحاصَر ويتظاهر من أجل يوم القدس العالمي في فلطسين ولبنان وإيران، وقِسم يقف في طوابير الخبز واللحم والكنافة والقطايف، أو يُشاهد بالساعات المسلسلات الرمضانية التي يستعدُّ لها التليفزيون شهورًا قبله مع إعلان حالة الطوارئ. ويتأسَّف المُشاهدون لغياب الفوازير نقصًا في النجوم وليس نقصًا في المال والرجال. يتمُّ التخلِّي عن قضايا الأمة وما يُهددها من مخاطر خارجية لصالح فتاوى رمضان على مدى شهر كامل، مع أن غزوة بدر كانت في رمضان، وحرب أكتوبر كانت في رمضان، وأجَّلت أمريكة عُدوانها على العراق حتى مارس احترامًا لشهر الصيام؛ فإراقة دماء المسلمين حرام في رمضان، حلال قبل شهر الصيام أو بعده.
ولا تتناول صفحات الفكر الديني خلال شهر رمضان قضايا السياسة الداخلية من هموم المُواطن اليومية؛ الفقر والقهر والفساد وضنك العيش.
ورمضان أساسًا والحكمة من الصيام هو الإحساس بجوع الفقراء. لم تتعرض ليالي رمضان إلى مظاهر الغنى الفاحش ومظاهر الفقر المُدقع في الأمة، أغنى أغنياء العالم منها، وأفقر فقراء العالم فيها. لم تتعرض لمظاهر الفساد والاحتكار والاستغلال لقطاعات الحديد والأسمنت، ولتهريب الأموال من خلال البنوك والتهرب الضريبي. لم تتعرض لقضايا الحريات العامة وحبس الصحفيين، والرقابة على المصنَّفات الفكرية والأدبية والفنية، وتكفير المُفكرين والكُتاب والفنَّانين. لم تتعرض لقوانين الطوارئ، أو قانون مكافحة الإرهاب، أو تزوير الانتخابات، أو إعداد المسرح السياسي للتوريث، وهو ما يُناقض الشريعة الإسلامية التي تقول بالانتخاب الحر: «الإمامة عقد وبيعة واختيار.» بتعبير الفقهاء. لم تتعرض لقضايا التعددية السياسية، وسيطرة الحزب الحاكم، وتشتُّت المعارضة وضعفها، ورفض شرعية الحركة الإسلامية، سواء حزب الوسط أو الإخوان المسلمين، بالرغم من تأكيدهما على الدولة المدنية وليس الدينية، وعلى الدستور والقانون والمؤسسات وليس الحاكمية. وترفض الترخيص لحزب الكرامة الذي يُمثل جيلًا جديدًا من الناصريين لإنقاذ البلاد، بينما تسمح بإقامة حزب الخُضر في بلدٍ ٩٤٪ من مساحته صحراء قاحلة. والأولى بها حزب الصُّفر لوضع خطة لكيفية التعامل مع الرمال. لم تتعرض صفحات الفكر الدين إلى أن الدين النصيحة، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة للرقابة على الأسواق والميزانية العامة، واقتراح إلغاء ديوان المحاسبة وخصخصته لإفساد شركات المحاسبة الخاصة بالرشاوي للتغطية على الفساد والاختلاس والرشاوي في جهاز الدولة. غابت القضايا العامة التي تعمُّ بها البلوى من البرامج الدينية في رمضان؛ الفقر والجهل والمرض قضايا أجيال مضت، وقضايا الفقر والقهر والفساد والبطالة والهجرة لهذا الجيل.
يكفيها فتاوى فقهاء السلطان عن التبرُّك ببول الرسول أو إرضاع الكبير أو التنصير أو الزواج المشترك أو طلاق النصارى لإشعال الفتنة الطائفية؛ فأُصيبَ المُواطن بالازدواجية بين الدين والحياة. الدين لا يتعرض لشئون الحياة فضمر، والحياة لا يتناولها الدين فضاعت.
والأخطر هو إلغاء الصفحات الثقافية في بعض الصحف القومية، وتحويلها إلى صفحات للفكر الديني، وكأن الدين بديل عن الثقافة، في حين أن الدين هو تراث الأمة، ثقافة وحضارةً وعلمًا وعمرانًا. كانت الثقافة طريق النهضة في تاريخ العرب الحديث، وكانت تيَّاراتها الرئيسية الإصلاح الديني، والفكر العلمي والعلماني، والتيَّار الليبرالي السياسي. وهي تياراتٌ فكرية أساسًا قبل أن تتولد منها حركاتٌ سياسية وطنية تحرُّرية من الإصلاح الديني عند الأفغاني، ولا مركزية ديمقراطية من التيَّار العلمي العلماني عند شلبي شميل، وتأسيس دولة مركزية عماد التحديث عند الطهطاوي، ثم ليبرالية عند أحمد لطفي السيد.
وما زالت قوة الوطن العربي ورصيده الأول في ثقافته وأدبه وفنه قبل زراعته وصناعته. لم تتناول صفحات الفكر الدين التي حلَّت محل الصفحات الثقافية لأزمة الثقافة العربية، وحالة الاستقطاب الشديد بين السلفية والعلمانية، بين أنصار القديم وأنصار الجديد، وغلبة النقل من القدماء ومن المُحدَثين على الإبداع، وأولوية المشروع القومي للترجمة وغياب المشروع القومي للنشر، والمشروع القومي للتأليف.
فالإبداع الثقافي مشروط بتفاعل الوافد أي الترجمة، مع الموروث أي النشر. وقد كان هذا هو هدف «اللجنة المصرية للتأليف والترجمة والنشر». وقد نزل القرآن في شهر رمضان، والقرآن هو اقْرَأْ؛ أي الثقافة والعلم والمعرفة. وقد تذهب الأمة، ويُقضى على نظام الخلافة، ولكن تبقى ثقافتها وعلمها وحضارتها محفوظةً في مئات من مكتبات العالم ومحفوظات ومعاهد مخطوطاته.
ونتيجةً لإبعاد الدين عن السياسة والثقافة في رمضان، يبتعد الدين عن الحياة، ويتحول إلى عبادات وشعائر ورسوم، وينزوي في ركنٍ خاص؛ الطعام والشراب؛ فيغترب الناس عن العالم، ويخلق الدين لهم عالمًا وهميًّا بديلًا؛ فمن الناس من لم ينالوا من رمضان إلا الجوع والعطش. الدين المعاملة، ويغيب الوعي بالمجتمع وبالعالم.
وبعد رمضان يعود الناس إلى همومهم اليومية كما كانوا قبل رمضان؛ ففيه نُسيت الهموم، وكبرت الكروش، وزاد الاستهلاك. وبمزيد من الصلاة، وإقامة السنن مع الفرائض، والحرص على صلاة التراويح وختم القرآن، يتطهَّر المُواطن، ويخرج من رمضان خاليًا من الذنوب كما ولدته أمه، والاستعدادات على أشدها لضرب سورية وإيران وحزب الله.
وعلى هذا النحو يتحول الدين إلى كهنوت، ويصبح دين المناسبات والأفراح والأعياد والجوائز والمكافآت في الأرض لتحفيظ القرآن، وفي السماء جزءًا للوعد. مع أن الإسلام نشأ ضد الكهنوت اليهودي وسيطرة الأحبار، وضد الكهنوت المسيحي الذي أصبح واسطة بين العبد والرب. وارتبط تقدُّم الغرب بالثورة على رجال الدين والكنيسة من أجل العودة إلى العالم بلا سلطةٍ دينية، واكتشاف قوانين الطبيعة دون اللجوء إلى الكتاب المقدَّس، وإعمال العقل دون استبدال الإيمان به.
ونحن نزيد على رجال الدين رجال الأعمال ورجال الدولة ورجال الحزب الحاكم؛ حتى يتأصل الكهنوت الديني في الكهنوت الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
إن استبدال صفحات الفكر الديني بصفحات الثقافة والسياسة في رمضان جريمةٌ لا تُغتفر في حق الدين والثقافة والسياسة؛ فالدين ليس عالمًا مُنفصلًا عن الحياة، خاصةً ونحن نُعاني من الحركات السلفية التي تجعل الدين غاية في ذاته، وجريمة في حق الثقافة؛ فالعقل أساس النقل، والنظر أساس الإيمان، والاستدلال طريق التصديق. وجريمة في حق السياسة؛ فالإسلام عمل والتزام، ومن لم يهتم بشئون المسلمين فليس منهم، حتى لو اتَّسعت عمامته، وطالت ذقنه، واسودَّ قفطانه.
الخليج بين إيران ومصر٨
عاش العرب طموحات الوحدة منذ الحرب العالمية الأولى، وبلغت ذروتها في الخمسينيات والستينيات إبَّان حركات التحرُّر الوطني والحقبة الناصرية، وقامت تجارب عديدة بعد إنشاء جامعة الدول العربية كمنظمةٍ إقليمية للدول، جمهورية مصر العربية المتحدة ١٩٥٨–١٩٦١م، ثم الوحدة الرباعية بين مصر والعراق والأردن واليمن. وبعد حربَي الخليج الأولى والثانية انفكَّ العقد، واستُبدل بذلك كله لجان التنسيق بين كل دولتَين جارتين، مصر وليبيا، مصر والسودان، مصر والأردن، أو جارتَين عربيتين بينهما تواصلٌ تاريخي وثقافي واقتصادي بصرف النظر عن التواصل الجغرافي مثل مصر وتونس، مصر والجزائر، مصر والمغرب.
ومن أنجح تجارب طموحات الوحدة، تجربة مجلس التعاون الخليجي بفضل التواصل الجغرافي والتاريخي والثقافي واللغوي، وبمبادرة من قادة دول الخليج، وبنوع من الاستمرارية والتدرُّج، وفي عصر التجمُّعات الإقليمية والتكتُّلات الكبرى. لا حدود بين دولها، ولا تأشيرات دخول، ولا مواطنة مجزئة. والعملة الموحَّدة في الطريق، وأخيرًا تم إنشاء السوق الخليجية المشتركة.
فالاقتصاد عصب السياسة كردِّ فِعل على التجارب الوحدوية الأولى التي كانت سياسة بلا اقتصاد، ودولًا بلا شعوب، ونُظمًا سياسيةً مُتباينة دون رؤية قومية واحدة. ورءوس الأموال مُتوافرة من زيادة عوائد النفط المُتتالية منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣م، والتي بلغت أكثر من ثلاثين ضعفًا، ومرشَّحة للازدياد إلى سِتين ضعفًا في السنوات القادمة، خاصةً إذا اندلعت الحرب لأي سبب في المنطقة بسبب عُدوان إسرائيلي أمريكي على إيران بحجة تخصيب اليورانيوم، وإمكانية تحويله إلى أسلحةٍ نووية، أو من طامع في عوائده وأصوله في الآبار حتى لا تبقى للعرب قوةٌ عسكرية بعد تدمير العراق، أو اقتصادية بعد تغيير موازين القُوى في الخليج. وإذا كان العرب قد أضاعوا الثورة فما زال الأمل موجودًا في عدم ضياع الثروة، واستثمار عوائد النفط المُتراكمة في التنمية الشاملة للوطن العربي الذي يمتلك المال والأرض والمياه والعمالة والخبرة الكافية؛ كي يتحولوا من دولٍ نامية إلى دولٍ مُتقدمة. وتجارب ماليزيا وأندونيسية وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وإيران وتركية خيرُ شاهدٍ على ذلك.
وللخليج موضعٌ جغرافي فريد؛ فهو على الضفَّتَين العربية والآسيوية في الغرب والشرق، تمنحه قدرة على أن يكون مركز اتصالات عالمية بين الشرق والغرب. وهو ما يحدث الآن في دبي. وهو نقطة التقاء بين الشمال العربي في العراق والشام الكبرى والجنوب الأفريقي، كما فعلت الهجرات الهندية إلى أفريقية، والتي منها خرج غاندي مُدافعًا عنها.
ويكون للخليج نفس المركز الذي لقناة السويس في ربط الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب. وهو المركز الذي تطمح له إسرائيل بشقِّ قناة مائية جديدة بين البحر الميت والبحر المتوسط لخلق مركزية إسرائيلية جديدة، بدلًا من المركزية العربية في الخليج ومصر.
يحتاج الخليج إلى سياسة توازُن بين شرقه الآسيوي وغربه العربي، بين سكانه الآسيويين وسكانه العرب الأصليين أو المهاجرة من الشام ومصر، وليس توازنًا بين شيعة وسُنة؛ فهذه أسطورةٌ خلقها الغرب لبثِّ الفُرقة بين أبناء الأمة الواحدة، وزرع الشِّقاق بين دول الجوار، إيران والخليج، أو إيران ومصر، أو إيران والعراق، وحتى لا يميل الميزان نحو إحدى الضفتَين بفعل القرب الجغرافي أو الثقل السكاني أو المصالح المشتركة.
لقد كان من التوفيق وحسن السداد دعوة إيران لحضور اجتماع مجلس التعاون الخليجي الأخير لإنشاء السوق الخليجية المشتركة؛ فإيران دولةٌ خليجية مثل دول الخليج، والمصالح الاقتصادية معها أكبر من المصالح مع الغرب الأوروبي والأمريكي والشرق الأقصى الآسيوي. الخلاف المذهبي هو نوع من التعددية الفكرية داخل المذاهب، وداخل كل مذهب هناك تعدديات وفروع لا تنتهي. والتعارض النووي والتهديد العسكري أسطورةٌ خلقها الغرب بوجهٍ عام، وأمريكة بوجهٍ خاص، لإزاحة التعارض بين العرب وإسرائيل، أو العرب وأمريكة.
وهو تعارضٌ فِعلي بعد غزو أمريكة للعراق، واحتلال إسرائيل لكل فلسطين، وخلق تعارُض وهْمي بين إيران والعرب. وإيران تقف مع الحق العربي في فلسطين لأبعد الحدود. والتعاون الاقتصادي كفيل بالتعاون السياسي، وحل قضية الجزر بما يُحقق مصالح الطرفَين. فعل ذلك عبد الناصر في محافظات التكامل بين مصر والسودان في وادي حلفا، ويمكن أن تتكرر في حلايب وشلاتين. وجود الشعوب على أرض مشتركة خير وسيلة لحل قضية الحدود التي زرعها الاستعمار بعد نشأة الدول الوطنية لمنع التعاون الإقليمي، وخلق بؤر توتُّر دائم قد تنتهي إلى حد الصراع المسلَّح، وتغليب التناقض الفرعي بين العرب والعرب مثل المغرب والجزائر في قضية الصحراء، أو العرب والمسلمين مثل قضية الجزر، على التناقض الرئيسي؛ الصراع العربي الإسرائيلي وحقوق شعب فلسطين.
ومن أجل الحفاظ على أمن الخليج بالحفاظ على توازُنه بين جناحه الشرقي الآسيوي، وجناحه الغربي العربي، فإنه يمكن دعوة مصر أيضًا لحضور مجلس التعاون الخليجي والانضمام إلى السوق الخليجية المشتركة؛ فمصر وإيران هما ميزان الثقل في المنطقة، يجمعهما الجوار المشترك، والتاريخ المشترك، والحضارة المشتركة، والمصالح المشتركة، والمخاطر المشتركة. يستطيع ميزان التعادل هذا المحافظة على عروبة الخليج سكانيًّا ولغويًّا وثقافيًّا في الحياة اليومية، وسياسيًّا واقتصاديًّا في الحياة العامة. وقد كان هذا هو الهدف من إعلان دمشق. ويمكن إعادة تفعيله لمصلحة الأمن القومي في الخليج على الأمد الطويل.
وعلى هذا النحو تصبح العمالة العربية في الخليج عنصرًا إيجابيًّا لا سلبيًّا لإيجاد التوازن قدر الإمكان مع العمالة الآسيوية التي هي الآن العنصر الغالب. وإذا كانت القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، قادرةً على توجيه قرارات الأمم المتحدة لصالحها، وإملاء إرادتها عليها، فإنه يمكن في لحظةِ غضبٍ على الخليج، ورفضه التطبيع مع إسرائيل قبل إحلال السلام وقبول مبادراته التي تنصُّ على «الأرض مُقابل السلام»، إصدار قرار بتحويل العمالة الآسيوية إلى مُواطنين كاملين، لهم حقُّ الاقتراع العامة؛ وبالتالي تنتهي عروبة النخبة الحاكمة، ويُصبح العرب كلهم خليجيون ومهاجرون أقلية، والآسيويون هم الأغلبية. وتستطيع الهند مقايضة هذا الخطر بكشمير، وبالتحالف الهندي الإسرائيلي.
وحرصًا على عروبة الخليج، وإيجاد عنصر التوازن بين ضفتَيه الآسيوية والعربية، يتم استثمار جزء من عوائد النفط لتنمية الوطن العربي من أجل تكامله اعتمادًا على العمالة العربية، وحلًّا لمشكلة البطالة فيه. كما يُساعد ذلك على تدعيم الأمن القومي الداخلي في الخليج، وتقليل المخاطر الخارجية المحتملة من إسرائيل وأمريكة، واحتلال آبار النفط بدعوى حرمان إيران منها، ودفاعًا عن الأمن القومي لأمريكة بتأمين مصادر النفط، وتهديد الأمن القومي الإسرائيلي من القوة العسكرية والاقتصادية للخليج بضفَّتَيه الشرقية والغربية، الآسيوية والعربية. وهو تحقيق لاتفاقية الدفاع العربي المشترك التي ما زالت حبرًا على ورق، والتي لم تستطع صد الغزوات على الوطن العربي من خارجه، أمريكة وإسرائيل، أو من داخله، العراق. وفي هذه الحالة لا لُزوم للقواعد العسكرية الأجنبية داخل الوطن العربي وفي مياهه الإقليمية؛ فدفاع الوطن العربي عن نفسه كافٍ لحمايته من الأطماع القُطرية والأجنبية.
من المخاطر المُحدِقة بالوطن العربي تآكلُه من الأطراف؛ من الطرف الآسيوي شرقًا في العراق والخليج، ومن الطرف الأفريقي جنوبًا، السودان والصومال وزنجبار وموريتانيا، وانحسار العروبة في شمال تشاد ومالي، وانحسار الإسلام في باقي الدول الأفريقية في جنوب الصحراء. كما قد تتآكل حدود الوطن العربي الشمالية من مخاطر الفرانكفونية والتوجه الغربي نظرًا للقرب الجغرافي بين المغرب العربي وأوروبة، وإقامة تعاون مغاربي أوروبي لحساب فرنسة بدلًا من مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، وابتلاع الوطن العربي كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه ووسطه في مصر عبر الأطلنطي، وكمجالٍ حيوي للإمبراطورية الأمريكية الجديدة. فإذا غاب المركز ضمرت الأطراف أو شلَّت أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا (الرعد: ٤١). وإذا احتجبت مصر انفرط العقد، وتفرَّق العرب ذرافاتٍ ووُحدانًا.
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ٩
انقضى عيد الأضحى المُبارَك، وهو أكبر أعياد المسلمين، حيث يقف الملايين منهم على جبل عرفات، يهلِّلون ويكبِّرون بصوت رجل واحد من مختلف القبائل والشعوب، ويحمدون الله على ما أنعم به عليهم من الإيمان والتوفيق والإسلام خاتم الرسالات.
تتوالى الأعياد عبر السنين، ويظل المعنى واحدًا ثابتًا يتأكد في كل عيد، واللسان يردِّد: «عيدٌ بأية حال عُدت يا عيدُ؟» نظرًا للتفاوت الشديد بين دلالة المناسبة وواقع المسلمين، بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، بين المثال والواقع. وانحسار الفعل الإنساني المَنوط بتحقيق الوحي كنظامٍ مثالي للعالم.
والدلالة العظمى لعيد الأضحى المُبارَك مُستنبَطة من اسمه «الأضحى»؛ أي الضحية، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (الصافات: ١٠٧). والواقعة معروفة، سواءٌ كانت تاريخيةً عند الفقهاء، أو مُتخيَّلة عند الفلاسفة. والدلالة معروفة أيضًا؛ الإنسان قيمةٌ مُطلَقة، حياته مقدَّسة، يُصارع الموت حتى ولو كان بأمرٍ إلهي. فالله حياة لا يأمر إلا بالحياة. من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا، في التوراة وفي القرآن.
وقد بُعث المسيح أيضًا، وتغلَّبت الحياة على الموت، والرفع إلى السماء على الدفن في الأرض.
والتضحية بالحيوان بديل عن التضحية بالإنسان. وقد كانت القرابين عند الساميين أحد مظاهر التقوى والعبادة، ومنها الختان في اليهودية والإسلام؛ سيلان الدم رمز الحياة باسم الله. ضحَّى قدماء المصريين بالإنسان في احتفالٍ مَهيب بعروس النيل حتى يعمَّ الفيضان والرخاء، وأنقذ الإسلام الإنسان، ونسخ الأمر الأول الذي وقع في منام إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل بأمرٍ ثانٍ، وهو التضحية بكبش تنفيذًا للأمر الإلهي، وفي نفس الوقت اعترافًا بأن الإنسان قيمةٌ مُطلَقة، وذبح الحيوان لإنقاذ الإنسان، بل إن بعض المِلل والنِّحل أيضًا تُحرِّم ذبح الحيوان كما هو الحال في الهند، أو لدى جماعات الرفق بالحيوان الحديثة.
أما واقع المسلمين اليوم فهو على عكس ذلك. يتمُّ التضحية بالإنسان والحيوان معًا؛ فكم من الزعماء والقادة تم اغتيالهم وتصفيتهم جسديًّا، مثل شهدي عطية وبن بركة، بأيدي النُّظم السياسية، ومثل عز الدين القسَّام والشيخ ياسين بأيدي العدو الصهيوني! وكم من أفراد المقاومة وزعماء المعارضة يتم تعذيبهم في السجون والمعتقلات! وكم من المُعتقَلين يتم احتجازهم طبقًا لقانون الطوارئ والحبس الاحتياطي!
وكم من المُواطنين يستشهدون في بالُوعات غير مغطَّاة، أو بصعق الكهرباء، أو بأسلاكٍ عارية في الطُّرقات، أو بحوادث طُرُق غير ممهَّدة دونَ حدٍّ أدنى للأمان، أو من حرق قطارات أو تصادمها، أو من غرق عبَّارات في البحار، أو من غرق قوارب محمَّلة بالهجرات غير الشرعية من الوطن العربي إلى شواطئ أوروبة؟
وكم من الفقراء يموتون جوعًا وقحطًا من المسلمين في السودان والصومال وتشاد ومالي وبنجلاديش! وكم من عرايا الأجساد والمُتشردين بلا مأوًى يموتون من البرد والعراء! وكم من القوانين تسنُّها الدولة ضد حقوق الإنسان وإشباع حاجاته الأساسية في الغذاء والكساء والإيواء والتعليم والصحة وحرية التعبير، بحجة الخصخصة، ورفع الدعم، وقانون العرض والطلب، ومنطق السوق، ومُتطلبات الجودة والكفاءة، والحفاظ على الأمن العام حتى يستقر النظام، ويأتي المُستثمرون هرولةً لإنقاذ البلاد من الفقر والبطالة.
ونشأت جمعيات حقوق الإنسان كأحد تنظيمات المجتمع المدني، وظلَّت ضعيفة الأثر، تتبنَّاها النخبة، وتُثار حولها من الدولة وأعدائها شبهة التمويل الأجنبي، وتبنِّي جدول الأعمال الغربي، وتواري حقوق الشعوب لصالح حقوق الإنسان، وتهميش حقوق الجماعة لصالح حقوق الأفراد.
لم تتحول حقوق الإنسان إلى ثقافةٍ شعبية عامة؛ ربما نظرًا لتهميش تراث الإنسان في موروثنا الثقافي الديني القديم؛ فقد غاب مبحث الإنسان كمفهومٍ مستقلٍّ في تراثنا القديم، وظهر بصورةٍ مغلَّفة داخل مفاهيم دينية وفلسفية وصوفية وفقهية أخرى. الإنسان في صورة الإله في علم أصول الدين مع مشاركة في الصفات، طبقًا للحديث الشهير: «إن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله.» فالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة صفاتٌ مشتركة بين الإنسان والله. وإن أُطلِقت على الإنسان مجازًا تُطلَق على الله حقيقةً، وإن أُطلِقت على الإنسان حقيقةً تُطلَق على الله مجازًا طبقًا لقياس الغائب على الشاهد.
وظهر الإنسان عند الصوفية في نظرية «الإنسان الكامل» الذي تتَّحد فيه أيضًا صفات الله وصفات الإنسان عند ابن عربي والجيلي. وظهر الإنسان في علوم الحكمة؛ أي الفلسفة، كنفس وبدن، أو روح وجسم، بين الإلهيات والطبيعيات؛ جسم في الطبيعيات، وعقل في الإلهيات، وليس الإنسان الواحد الوجودي الموجود في الزمان والمكان؛ فالإنسان بين عالمَين كما قال الكندي. كما ظهر الإنسان العامل في الفقه الذي يُنفذ الأوامر ويجتنب النواهي بدافع الطاعة والإيمان والتقوى والعمل الصالح.
وقد ذُكِر الإنسان في القرآن الكريم خمسًا وستين مرة؛ مما يدل على أنه موضوعٌ رئيسي؛ فقد خُلِق الإنسان ولكنه عُلِّم البيان، خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (الرحمن: ٣-٤).
خُلِق هشًّا ضعيفًا مُتعجلًا، لا يعي الزمان، تُحركه الدوافع، وتُسيره الانفعالات. يطلب العون في ساعة الشدة، شاكٌّ، جاهل، مُجادل، وسواس، مُتأمل، ناسٍ. يترصد له عدوُّه الذي يُنكر كرامته ويرفض أن يسجد له، ويُهدد قيمته ووجوده. وهنا تبرُز مسئولية الإنسان وتحمُّله الأمانة، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (الأحزاب: ٧٢). ومع ذلك يتحول الإنسان الهشُّ إلى إنسانٍ صلب، يُحقق الكمال في الأرض، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: ٤). يحترم والدَيه احترام الإنسان للإنسان، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا (العنكبوت: ٨). وهو ما حاولت الحركات الحديثة إبرازه، خاصةً إقبال.
لذلك ظلَّ الغرب يزهو علينا بأنه وحده الذي أعطى العالم مفهوم حقوق الإنسان منذ نشأة النزعة الإنسانية في القرن السادس عشر عند أراسموس والكوجيتو الدي كارتي «أنا أفكِّر فأنا إذن موجود» في القرن السابع عشر، والإنسان مركز الكون في الثورة الكوبرنيقية عند كانط، ومثال من مُثُل التنوير في الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. وصور الشعراء كما فعل شيلي في «برمثيوس طليقًا» بعد أن قيَّده آلهة اليونان لأنه أراد سرقة نار العلم ونور المعرفة. صحيحٌ أن الإنسان هو الإنسان الغربي في الممارسة، الإنسان الأبيض القوي المُتحضر، النموذج الأوحد، السوبر مان، وليس الإنسان الأفريقي الآسيوي، الأسود أو الأسمر أو الأصفر.
وصحيح أيضًا أنه مجرد فرد لا جماعة. يُدافع الغرب عن حقوق الإنسان وينتهك حقوق الشعوب. أعطى للعالم «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، ولكنه نسي «الإعلام العالمي لواجبات الإنسان». في الغرب حقوق بلا واجبات، ولدينا واجبات بلا حقوق.
الدولة والثقافة
يبدو أنه لا يوجد حل للأزمة العربية الراهنة على الأمد القصير؛ فالأزمة تتفاقم يومًا بعد يوم، والسكون العربي لم يتغير، ووهم العجز العربي ما زال مستمرًّا، والتغيرات الكيفية لا تحدُث إلا إذا وصل التراكم الكمِّي إلى حدِّه الأقصى في سورية ولبنان والسودان والصومال وإيران، وتفجير المنطقة العربية كلها إلى شظايا يسهل ابتلاع القوى العالمية والمحلية لها، كما حدث في تفتيت دولة الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى واحتلال معظم ممتلكات «الرجل المريض». ولم يشفع البديل، القومية العربية، في لمِّ الشتات إلا إلى حين، عقدَين من الزمان، بدايةً بثورة يوليو في أوائل الخمسينيات، ونهايةً بهزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م في نهاية الستينيات.
لم يبقَ إذن إلا العمل على الأمد الطويل، واستعداد لمرحلةٍ قادمة قد تكون أشد وأصعب؛ فقد تعوَّدت القوى الكبرى اللعب في الوطن العربي على مدى أربعة عقود ظانَّةً أن الساحة خاليةٌ أمامها؛ أوطان تُحتل، ونُظُم سياسية عاجزة أو تابعة أو مغلوبة على أمرها، أو فقدت الخيال السياسي، أو قنطت من رحمة الله.
والعمل على الأمد الطويل هو العمل الثقافي؛ إعداد وجدان الأمة للنهوض من جديد.
وكما بدأت الأمة بالفكر، وتغيير رؤيتها للعالم ومعاييرها للسلوك؛ أي انتفاضة الذهن، وثورة العقل، والنقد الحضاري للماضي والحاضر، فإنها قادرة اليوم من جديد على إحداثِ ثورةٍ فكرية ثانية. وتبدأ هذه المرة بالمُفكرين الأحرار بعد أن بدأت في تجربتها الأخيرة منذ أكثر من نِصف قرن بالضباط الأحرار. والبداية بالفكر الحر هو الشرط الأول لقيام المجتمع الحر. هكذا بدأ التنوير قبل اندلاع الثورة الفرنسية، وامتدَّت آثاره حتى اندلاع الثورة الأمريكية، وانتشرت الأفكار الاشتراكية قبل اندلاع الثورة البلشفية، وظهر الإسلام الوطني قبل اندلاع حركات التحرُّر الوطني منذ الأفغاني حتى اليوم، وتأسَّس الإسلام الثوري قبل اندلاع الثورة الإسلامية في إيران.
توقَّف العامل الثقافي عن أن يكون عاملًا فعَّالًا بعد تأسيس الدولة الوطنية الحديثة وتحويل الثقافة إلى إعلام. وظيفتها تبرير النظام السياسي. إن اختار النظام الاشتراكية فثقافتها اشتراكية، وإن بدَّل إلى رأسمالية فثقافتها رأسمالية، وإن كان قوميًّا فثقافتها قومية، وإن بدَّل إلى قُطرية فثقافتها قُطرية. فقدتْ الثقافة استقلالها، وأصبحت جزءًا من إعلام الدولة بعد أن سيطرت الدولة عليه.
وأسَّست «وزارة الثقافة والإعلام»، وأحيانًا يُضاف «والإرشاد القومي». ولم ينجُ من ذلك إلا بعض المثقَّفين الذين آثروا الابتعاد عن الساحة الوطنية، والأدباء؛ فمنهم عبَّروا عن ضِيقهم بلغة الأدب الرمزية تخفِّيًا من عين الرقيب. والتأويل مُتعدد، وحماية النفس ضرورية.
أصبحت مهمة المؤسَّسات الثقافية إعلامية. تقترب أو تبعد من أجهزة الإعلام لتجميل النظام في الداخل مثل مؤسسات القاهرة، أو في الخارج مثل مؤسسات الإسكندرية. وهي على مَقربة من المتوسط جنوب أوروبة، وتُوحي بمجدها الثقافي القديم. وماذا يُفيد الطلاء الخارجي والمبنى من الداخل خاوٍ، والأساس مُزعزَع؟ الهدف هو جمع المثقَّفين في مؤتمراتٍ مُتتالية بحضور العرب والأجانب من أجل إثبات حيوية النظام، والتفاف المثقَّفين حوله مع درجةٍ عالية من التنظير. ولا ضير من القيام بخطابٍ نقدي ما دام الأمر لا يتعدَّى الكلام المُغلَق في قاعات المجالس أو صالات الفنادق؛ فالكلام صرخة في وادٍ، ليس لها صدًى لا عند المثقَّفين ولا عند الناس، ولا حتى عند النخبة السياسية؛ لأنها هي التي أخرجت المسرحية واختارت الممثِّلين.
وبين المؤلِّف والمُخرِج والممثِّل مصالح مشتركة، منها إبقاء النظام وتجميله ضد تشويهه من جماعات الانحراف والتطرف، وخصوم النظام وأعدائه. ومنها توزيع المناصب الثقافية القيادية على الفريق الذي تتغير أدواره طبقًا لمهارته في اللعبة الشهيرة للكراسي الموسيقية. وبدلًا من أن تكون الثقافة مُستمرة والنظام السياسي مُتغيرًا، أصبحت الثقافة مُتغيرة والنظام السياسي ثابتًا وإن تغيَّرت اختياراته السياسية، من نخبة إلى نخبة.
وتنوَّع المثقَّفون وتعدَّدت أدوارهم؛ فهناك المثقَّف المبرِّر للنظام، وهو ما سُمي في الأدبيات المعروفة مثقَّف السلطة. يقوم ليس فقط بتجميلها، بل بتبريرها حتى لو قلب الحق باطلًا والباطل حقًّا، وحتى لو كان هذا التبرير ضد قناعته الشخصية قبل أن يصبح خادمًا للنظام. وهناك نقيضه، مُعارض النظام، يُشارك أحيانًا في النشاط الثقافي لإسماع صوته وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ (غافر: ٢٨)، و«الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس». وقد يعزف عن المشاركة ويُقاطع كدليل على الرفض والمشاركة في المسرحية، ولو من موقع المُشاهد والمُتفرج.
وهناك المثقَّف الذكي؛ يدٌ مع النظام، ويدٌ مع المثقَّفين على كافة اتجاههم، يساريين ويمينيين، اشتراكيين وليبراليين، ماركسيين وإسلاميين مُستنيرين، قوميين وقُطريين، شرقيين وغربيين؛ لإظهار قدرته على الحشد والتجميع؛ فالكل وراء النظام، ويعمل في كنفه، وتحت رعايته ومراقبته. يستفيد من المَنصب القيادي طامحًا إلى ما هو أعلى منه حتى قمة المؤسسة الثقافية، ويحظى بالاحترام الواجب من جماهير المثقَّفين. ويزيد الحشد بالكتابة في الصحافة القومية والعربية داخل الأوطان وخارجها، وكلما زاد الانتشار قويت الثقة به، واقترب أكثر من الرياسة؛ الهدهد بين سليمان وسبأ. يوظِّف الثقافة لصالح النظام ضد أعداء النظام؛ فالثقافة سلاحٌ مثل الجيش والشرطة والأمن. الاستقرار الثقافي ضرورة للاستقرار الأمني. والوعي الزائف واحد؛ الوعي السياسي أو الوعي الثقافي.
والحقيقة أن هناك تناقضًا بين الإعلام والثقافة، بين الدولة والثورة، بين النظام والنقد. الدولة شرطة وجيش وأمن ونظام، والثقافة شكٌّ ونقد ورفض وغضب. في الدولة، المُواطن الصالح تسليم وطاعة. وفي الثقافة، المثقَّف الوطني ثورة ومقاومة. وظيفة الدولة الإبقاء على الوضع القائم من أجل الاستقرار والتنمية وجلب رءوس الأموال، ومهمة الثقافة تغيير الوضع القائم إلى ما هو أفضل من أجل الرُّقي والتقدُّم، بحثًا عن الكمال. تبغي الدولة إقصاء خصومها السياسيين وإبعادهم عن مراكز إصدار القرار. وغاية الثقافة المعارضة في مراكز التأثير. هدف الدولة الضبط الجماعي، وتأجيل الصراع الاجتماعي إلى جيلٍ آخر، ونظامٍ سياسي لاحق. ودور الثقافة الحراك الاجتماعي في هذا الجيل، وإحداث التغيُّر الاجتماعي المطلوب في الحاضر دون تأخير أو تأجيل. الدولة حكومة، والثقافة أهالٍ؛ فلا الدولة تقوم بدور الأهالي، ولا الأهالي تقوم بدور الدولة. وطالما تحدَّث الفلاسفة والمُفكرون من قبلُ عن عقل الدولة وعقل الثورة كعقلَين نقيضين. غاية الدولة الإمساك بالحاضر وإيقاف الزمن، محو الماضي وإلغاء المستقبل. وغاية الثقافة تحريك الحاضر، واستلهام الماضي، والإعداد للمستقبل. في الدولة، الوحدة فضيلة، والتعددية رذيلة. وفي الثقافة، الوحدة رذيلة، والتعددية فضيلة. وقد بلغ التعارض بينهما إلى حدِّ استحالة تحويل الدولة إلى ثورة في النُّظم التسلطية، وتحويل الثورة إلى دولة في النُّظم الثورية.
لذلك دعا كثير من الفلاسفة والسياسيين الوطنيين إلى استقلال الثقافة عن الدولة، ورفع أيديها عن حوارات المثقَّفين، وعدم التدخُّل لنصرة فريق دون فريق. هكذا دعا اسبينوزا في «رسالة في اللاهوت والسياسة». قد تدعم الدولة أجهزة الثقافة ومؤسَّساتها، ولكنها لا تدخل في المعارك الثقافية وقضاياها وتعدُّد الآراء فيها. ورقابة الدولة على المصنَّفات الفنية والمطبوعات هي قمَّة المأساة في تدخُّل الدولة في الثقافة للسيطرة عليها وتحويلها إلى إعلام. ولا يكون وزراء الثقافة وأمناء مجالسها أعضاءً في الحزب الحاكم؛ حرصًا على الاستقلال الثقافي وليس الولاء السياسي.
تتغير النُّظم السياسية وتظل الثقافة مستقلَّة عنها. ولا يعني الاستقلال الثقافي العزلة الثقافية عن واقع الأمة، بل يعني الحرص على مصالح الأمة الثابتة، والالتزام بها إذا ما عصفت النُّظم السياسية بها. استقلال الثقافة مثل استقلال القضاء واستقلال الجامعات، هي العناصر الثابتة في وجدان الأمة؛ حرية الفكر، والعدل بين الناس، والنقد الاجتماعي.
الثقافة والحزب
كما تكون الثقافة مُستقلة عن الدولة، تكون أيضًا مُستقلة عن الحزب؛ فالدولة سلطةٌ كلية، والحزب سلطةٌ جزئية. الحزب سلطةٌ داخل السلطة، والدولة سلطة مجموع الأحزاب. الدولة سلطةٌ شرعية بالاقتراع العام لكل الشعب، والحزب سلطةٌ شرعية باقتراعٍ خاص لأعضاء الحزب. أتى كلاهما عن طريق الانتخاب الديمقراطي الحر. شرعية الدولة تأتي من شرعية الحزب لأنه هو الذي اختار نظامها السياسي، وشرعية الحزب من شرعية الدولة لأنه يعمل في إطار القانون العام.
فإذا ما عملت الدولة لحساب الحزب الحاكم تسقط شرعيتها؛ لأن الدولة نظامٌ موضوعي، في حين أن الحزب اختيارٌ سياسي. وإذا ما عمل حزب المعارضة لصالح نفسه وليس لصالح الدولة، فقدَ أيضًا شرعيته باعتباره مُمثلًا للصالح العام وليس للصالح الخاص. وتضاربت المصالح بين الدولة والحزب، بين الكل والجزء؛ مما قد يُهدد بالصراع بين الشرعيتَين، وربما بالانفصال وتفكُّك الدولة إذا مثَّل الحزب أحد طوائف الدولة أو أعراقها أو مناطقها الإقليمية. يصبح الحزب دولةً صغرى، وتصبح الدولة حزبًا كبيرًا. وتضيع الوحدة الوطنية، وينتهي الولاء للوطن الأم.
وهنا تأتي أهمية الثقافة كعنصر توحيد بين الدولة والحزب، وقاسمٍ مشترك بين السلطتَين الشرعيتين في البلاد؛ سلطة الدولة وسلطة الحزب. فبالرغم من الصراع السياسي بين الاثنين إلا أنه يدور في إطارٍ وطني عام تحميه الثقافة وترعاه. الثقافة إذن هي اللغة المشتركة بين الدولة والحزب، والجسر الموصِّل بينهما.
وتكمُن الخطورة إذا ما تحزَّب الحزب ثقافيًّا وليس فقط سياسيًّا. يكيِّف الثقافة طبقًا للسياسة، ويردُّ الكل إلى الجزء؛ فيتحول الصراع بين الأحزاب كما يتحول الصراع بين الأحزاب والدولة من صراعٍ سياسي إلى صراعٍ ثقافي، ومن خلاف في الفروع إلى اختلافٍ حول الأصول، ومن اختياراتٍ سياسية إلى خياراتٍ ثقافية، ومن برامج حزبية إلى دولةٍ داخل الدولة.
الثقافة توحِّد، والأحزاب تفرِّق. الثقافة هي العنصر المشترك بين جميع المُواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية، والحزب هو التفضيل الخاص لبرنامجٍ حزبي على برنامجٍ حزبي آخر. وكلها برامج وطنية تُعطي الأولوية للحرية والديمقراطية على المساواة والعدالة الاجتماعية، أو العكس تُعطي الأولوية للعدالة الاجتماعية، وإعادة توزيع الدخل بين الأغنياء والفقراء، وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، على الحرية الاقتصادية والليبرالية السياسية. وكلاهما صحيح، إنما القضية في التفضيل. كلاهما مَطلبان فِعليَّان، ولكن الخلاف في فقه الأولويات، وهو فقهٌ شرعي.
مهمة الحزب ليس التقوقع على النفس، والانغلاق على الذات، وإلا ضمرت قواعده، وجمدت حيويته، إنما مهمته فتح أبوابه، ومد الجسور مع باقي الأحزاب، وتوسيع قاعدته من أجل تحقيق تحالف وطني عريض، وإقامة جبهة وطنية عامة، أو ائتلاف وطني تنصهر فيه الأحزاب من أجل عرض اختيارات بديلة للحزب الحاكم. مهمته التفرقة بين التناقضات الفرعية والتناقضات الرئيسية؛ فالحزب الليبرالي قد يتَّحد مع الحزب الاشتراكي كما هو الحال في معظم الأحزاب الليبرالية الاشتراكية أو الديمقراطية الاشتراكية. أما التناقضات الرئيسية فهي بين الحزب الليبرالي والحزب التسلُّطي، وعادةً ما يكون هو الحزب الحاكم، بين الحزب الاشتراكي والحزب الرأسمالي الإقطاعي الذي عادةً ما يكون حزب النخبة السياسية التي بيدها السلطة والثروة، وبين الحزب القُطري، مصر أولًا، الأردن أولًا، الكويت أولًا، والحزب القومي الذي يُعطي الأولوية للمصلحة القومية على المصلحة القُطرية، بين الحزب الذي يدعو إلى الصلح والتطبيع مع إسرائيل، والأراضي العربية ما زالت محتلَّة في فلسطين وسورية ولبنان، والحزب الذي يدعو إلى أنه لا صلح ولا اعتراف ولا تطبيع مع إسرائيل قبل أن تنسحب من الأراضي المحتلة، وتلتزم بالشرعية الدولية الخاصة بتقسيم وعودة اللاجئين، والحدود المُعترَف بها دوليًّا، وعدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة.
مهمة الثقافة هنا مدُّ جسور الحوار بين الأحزاب السياسية والتمسك بالثوابت الوطنية؛ فالثقافة الوطنية هي القاسم المشترك بين الأحزاب. وفلسطين أمانة في عنق العرب بصرف النظر عن أيديولوجية الأحزاب السياسية، ليبرالية أو اشتراكية، إسلامية أو ماركسية، قُطرية أو قومية. الثقافة الوطنية رصيدٌ مشترك لدى كل المُواطنين، تعبِّر عن تاريخهم ووجودهم المشترك قبل اختياراتهم الحزبية. الثقافة وجود الأمة الدائم عبر التاريخ تعبيرًا عن هُويتها. والأحزاب اختياراتٌ طبقية وقتية، تتغير بتغير المصالح والتركيب الطبقي للمجتمع والتحالفات الحزبية، والتي تهدف إلى الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وليس بالضرورة عبر الهُوية الثقافية.
يموت الحزب إذا ما انغلق على نفسه، وأصبحت الثقافة الوطنية هي الثقافة الحزبية. يجفُّ من داخله إذا لم يسمح بضخِّ دمٍ جديد لقلبه، حتى ولو كان من الأقلام غير الحزبية، والتي لها وزنٌ ثقافي وطني كبير. يموت الحزب إذا ما تحزَّب وانعزل ولم يجد القاسم المشترك الذي يجمعه مع باقي الأحزاب أو مع المُستقلين، وأصبح كالجهاز العصبي في الجسم يعبِّر عن مجموع حركته، وليس عن حركة عضو واحد حتى ولو كان القلب أو الدماغ. وتتحجر الثقافة الوطنية إذا ما تحوَّلت إلى ثقافةٍ حزبية، وضحَّت بالوطن في سبيل السلطة، وبالماضي والمستقبل في سبيل الحاضر، وبالعقل في سبيل القصر، وبوجدان الناس من أجل الاعتماد على أصواتهم للوصول إلى السلطة، ثم طلب الطاعة منهم باسمها.
وبالمِثل يموت الدين إذا ما تحوَّل إلى عقيدة، وينتهي الفكر إذا تحوَّل إلى مذهب، ويتجمد الفن إذا ما تحوَّل إلى تقليد. وبعد أن تنغلق الأحزاب على أنفسها يُحارب بعضها بعضًا بدلًا من الحوار. كلٌّ منها يستبعد الآخر. حزب يخوِّن حزبًا، وحزب يكفِّر حزبًا. والحزب الحاكم سعيد بالاقتتال بين الإخوة الأعداء الذين يُنافسونه على الحكم، فيضعف الجناحان، ويقوى القلب. ويكون رجال الحزب مثل رجال الدين، كهنوتًا مُغلَقًا وسلطةً أيديولوجية وسياسية على أعضائه وعلى غيره من الأحزاب، بل وعلى الدولة ذاتها. يتحوَّل مثل الكنيسة إلى دولةٍ داخل الدولة، وسلطةٍ داخل السلطة، ثم يحدث الانشقاق الحزبي والصراع بين الجيل القديم والجيل الجديد، بين التقليديين والتجديديين، بين المُحافظين والليبراليين، بين المُنغلقين والمُنفتحين؛ فيبدأ الحزب دورةً جديدة كما بدأ، تعبيرًا عن الثقافة الوطنية أساس البرنامج الحزبي، وعاقدًا لحوار مع باقي الأحزاب لتكوين تحالُف حزبي وطني عريض قادر على التصدي للمخاطر الكبرى التي تُواجه البلاد. هكذا قامت حركات التحرُّر الوطني وحركات الاستقلال على تحالفٍ وطني عريض قائم على ثوابت الأمة في التاريخ.
وهنا يأتي دور المستقلِّين الذين حرَصوا على عدم الدخول في شرنقة الحزب وبوتقته كحلقة وصل بين مختلف الأحزاب. قلوبهم مع ذلك الحزب، وعقولهم مع الحزب الآخر. وعادةً ما يكونون هم ميزان الاعتدال في الحياة السياسية إذا ما غامرت الأطراف، كل طرف يشدُّ الوطن إلى ناحيته، فتميل الدولة إلى هذا الطرف أو ذاك. والدولة مثل الجبل، لا يميد ولا يميل.
وهنا أيضًا يأتي دور كبار الكُتاب والمُفكرين والساسة الذين يتجاوزون بقاماتهم بوتقة الأحزاب؛ فنجيب محفوظ ليس وفديًّا وإن كان تعاطفه مع حزب الوفد، وعبد الرحمن الشرقاوي ليس ماركسيًّا وإن كانت الماركسية هي انتماؤه الأيديولوجي، ومحمد إقبال وعلي أحمد باكثير وسيد قطب ليسوا إسلاميين وإن كان ولاؤهم الأيديولوجي للإسلام، ويوسف شاهين ليس يساريًّا، ولا حسن الإمام يمينيًّا؛ إذ يعبِّر كلاهما عن ثوابت أمة وروح شعب. روائعهما تُنسَب إليهما وليس إلى انتمائهما الأيديولوجي. والمُفكرون والكُتاب كذلك؛ فليس محمد حسين هيكل ولا طه حسين ولا العقاد مُفكرين وكُتابًا ليبراليين، ولكنهم مفكرون وكُتاب خارج التصنيف الأيديولوجي، يعبِّرون عن ثقافةٍ أمَّة ونهضة شعب. وهكذا أيضًا كان كبار القادة الوطنيين في العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات؛ عبد الناصر، سوكارنو، نكروما، جومو كنياتا، سكوتوريه، شوين لاي، ماوتسي تونج، تنكو عبد الرحمن، غاندي، نهرو، يعبِّرون عن أوطانهم عبر الهُويات الثقافية بالرغم من انتماءاتهم الحزبية التي تقوم على الجبهة الوطنية. وما زال كاسترو وموجابي يعبِّران عن هذا النمط البطولي القديم. وما زالت الأوطان تولِّد مِثلهم طالما ظهرت أشكالٌ جديدة من الهيمنة والاستعمار؛ شافيز في فنزويلا، ومحمود أحمدي نجاد في إيران. والوطن العربي ما زال ينتظر من يملأ الفراغ، ويخرج من ضِيق أروقة الحكم إلى رحاب الثقافة الوطنية.
الثقافة الخائفة
الثقافة الخائفة هي إحدى أنماط علاقة الثقافة بالسلطة. ليست الثقافة المُبرِّرة للسلطة، وليست الثقافة المُعارِضة للسلطة، وهما النمطان الشهيران، بل الثقافة الهامشية التي تسير بجوار السلطة وعلى حافتها، لا تُبرر ولا تُعارض، ولا تُثبت ولا تنفي، بل تجعل الثقافة مُنفصلة عن السياسة والواقع، عالمًا مستقلًّا بذاته، لا ينفع ولا يضرُّ طعام لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (الغاشية: ٧)، وظيفته ملء الفراغ، وإظهار أحد مكوِّنات الدولة الحديثة. هي ثقافة المؤتمرات الدولية التابعة للدولة، والتي يُعَد إليها إعدادًا جيدًا من الناحية التنظيمية؛ فنادق الدرجة الأولى، الانتقالات المنظَّمة بعربات الرئاسة أو وزارة الثقافة، الاستقبال، إعداد الأوراق وطباعتها قبل انعقاد المؤتمر … إلخ.
موضوعاتها نظريةٌ خالصة، علمية جامعية، مُستقاة من أعماق التاريخ مثل الإيمان والعقل، الدين والعلم. طرف من عندنا وهو الدين والإيمان، وطرف من عندهم، العقل والعلم، لإلحاق القديم بالجديد، والماضي بالحاضر، والتقليد بالتجديد؛ تأكيدًا على الهُوية والإيمان أمام الجماهير؛ فالنظام السياسي في حاجة إلى سندٍ شرعي من الدين لكسب الجماهير التقليدية في الداخل، وهو في حاجة إلى تحديث وتجديد وعصرية لكسب ثقة المثقَّفين العلمانيين في الداخل، ورضا النُّظم السياسية في الخارج. العلم من التاريخ، والفكر مُحايدٌ موضوعي لا ينحاز لشيء، وإلا خرج عن الموضوعية.
يعتني بالكمِّ دون الكيف، ما دام الكمُّ غير مؤثِّر، والكيف غير وارِد. المطلوب المهرجان والغطاء العلمي على الواقع السياسي. ليس له هدف ولا غاية إلا ملء الفراغ السياسي والثقافي. جمهوره صغير من العلماء المُتخصصين في الداخل والخارج. يفتتحه رجال الرئيس؛ وزراء الثقافة والتعليم والشئون الدينية. وصورة الرئيس بملابسه الرسمية ووشاحه وأوسمته وعصا المارشالية التي ترمز إلى السلطة والأمن والجيش والشرطة؛ فالعبد يُقرَع بالعصا، والحُرُّ تكفيه الملامة. وفي خُطَب الافتتاح الرسمية يُستشهد بأقوال الرئيس؛ فهو العالم الأول في كل الموضوعات، يعرف كل شيء، ويوجِّه كل نشاط، ويقترح كل موضوع، ويدعو كل ضيف. يُذكَر اسمه مع أفلاطون وأرسطو، والفارابي وابن رشد، وديكارت وكانط، وهيجل وماركس من القدماء، ودريدا وديلوز من المُحدَثين.
والفنادق على أطراف المدينة، لا يشعر بها أحد، ولا يقف المُتظاهرون على الأبواب يحملون لافتات عن حقوق الإنسان، والمطالبة بالحُريات العامة، ومناهضة أمريكة وإسرائيل لتعطيل حركة المرور وسط المدينة، أو لإثارة الشغب بفعل المُندسِّين العُملاء. معارك في الهواء، دخان يملأ الجو. فالثقافة غطاء وليست كشفًا، تعمية وليست إيضاحًا. الثقافة لا تنقد الوضع القائم، بل تضع فوقه رُكامًا من النظريات والمنقولات من القدماء أو المُحدَثين. يقوم بذلك موظَّفون في الدولة من أساتذة الجامعات أو وزارات الثقافة أو رجال الإعلام، وكلهم مَرضيٌّ عنهم من النظام. وأساتذة من الخارج يُشاركون في هذه التمثيليات الثقافية للإبقاء على الوضع القائم؛ إمعانًا في تغريب الثقافة بدعوى الموضوعية والحياد ضد الشغب السياسي والاختيار الأيديولوجي، وبيع الثقافة وشرائها في سوق السياسة.
يتوجَّس جميع المشاركين خيفةً من أن يفلت اللسان، ويعبِّر عما يجيش في القلب. ويضع المثقَّف الوطني القيود على لسانه، والحواجز على قلبه، والإغلاق على ضميره؛ حتى يستطيع أن يتكلم بما لا يعتقد، ويقول ما لا يؤمن به، ويتفوَّه بالمطلوب منه قوله وفِعله بالعربية وهو النادر، أو بالفرنسية وهو الشائع حتى يُشارك الأجنبي لُغته، ويُبعد عن نفسه شبهة العروبة والإسلام في الداخل؛ فهو غربيٌّ فرانكفوني كما يريد النظام السياسي والقوى الخارجية. يقود عربته وفرامل اليد مرفوعة حتى تسير ببطء، ويتحكم في سرعتها حتى لا تنطلق العربة على سجيَّتها، ويعيش ازدواجية الخارج والداخل، القول والضمير، الكلام والاعتقاد (تجوع الحُرة ولا تأكل بثديَيها).
ويصول الحضور ويجول بالفرنسية أكثر من العربية؛ فهو لا يقلُّ حماسًا عن المُتحدثين. والكل لديه غَيرة على العلم والحقائق العلمية حتى وإن غاب الوطن، وينفعل بتلك النظرية أو تلك لإخفاء انفعالاته الحقيقية بواقع الأمة وغياب حرياتها العامة، وديمقراطية الحكم، والتعددية السياسية، وحق الاختلاف، والرأي والرأي الآخر.
وتظهر القدرات اللغوية للفرانكفونيين استجداءً لإعجاب الأجانب، واستعلاءً على باقي الباحثين الوطنيين الذين ساروا في التعرُّب نِصف شوط، وندموا على ما فعلوا بعد أن ولَّى عصر العروبة، وكاد يولِّي عصر الإسلام في حضور العولمة الطاغي في نُظُم التبعية لأمريكة وإسرائيل. ولعل أحد المسئولين يكون حاضرًا فيَلمَح مثقَّفًا جديدًا يمكن تجنيده كمثقَّف للسلطة، يجمع بين الثقافة والسلطة بدلًا من الصراخ في الهواء الذي يُفيد فقط في جذب الانتباه وإن لم يُفِد في توعية الناس.
وكما بدأ المؤتمر الدولي بمبادرة من الرئيس، كذلك ينتهي بإرسال برقية شكر وتأييد للرئيس على رعايته للمؤتمر، وعلى فكرته العبقرية التي لولاها لما عُقِد مؤتمر، ولا تم نقاش، ولا فُتِح فم، ولا سُمِع صوت.
وقبل انفضاض الحفل يُكافأ المدعوُّون بيومٍ سياحي في آثار الدولة المُضيفة، رومانية أو عربية؛ فالقديم له بريقه وإن انطفأ بريق الجديد، والماضي له عظمته وإن ضاعت عظمة الحاضر. ويقبل الضيوف الأجانب الدعوة؛ فالعلم سياحة، والسياحة علم. أما الضيوف العرب فيُسارع أكثرهم بالرحيل؛ فالمشاركة في أحد فصول المسرحية أخفُّ وطأةً على النفس من المشاركة في باقي الفصول حتى إنزال الشعار وسماع تصفيق الحضور.
كل ذلك نشاطٌ ثقافيٌّ مُصطنَع لا يخرج من القلب، ولا يؤثِّر في قلوب الناس. إنها ثقافة ملء الفراغ، وحتى يبدوَ الرئيس إمام المثقَّفين وليس سجَّانهم وجلَّادهم. أهمُّ ظاهرة فيها مشاركة الأجنبي، أُولي الأمر بالأمس، ومبادرة الرئيس، أُولي الأمر اليوم. والشعب في كلتا الحالتَين مأمور بأُولي الأمر، مُطيع لهم، يُقلد الأوَّلين؛ فالمغلوب مُولَع بتقليد الغالب كما قال ابن خلدون من قبلُ منظِّر ثقافة البلاد. ويخشى الآخرين لِما للسلطان من رهبة في القلوب، وعسس حول المنازل والقاعات، وبصاصين في المجالس والمنتديات. وتظهر معاملة البُسطاء المزدوجة للعربي والأجنبي؛ فالأول بخيلٌ في الإكراميات، والثاني كريم. الأول يدفع بالعملة المحلية، والثاني بالأجنبية. الأول لا يصرف كثيرًا في مشروبات ومأكولاتٍ إضافية، والثاني ينعم بالحياة. فقد أتى عالمًا وسائحًا. والسياحة المصدر الرئيسي للدخل القومي، وليس الزراعة أو الصناعة كما هو الحال في النفط في الدولة الريعية. ومهما حيا العربي بلغة الضاد قارئًا السلام التقليدي أو التحية الحديثة «صباح الخير» و«مساء الخير»، قيل له «بون جور» و«بون سوار» حتى من عاملات النظافة، وخادمي المطاعم، وعاملي المَصاعد؛ حتى يكونوا على نفس مستوى الأجنبي؛ فلم يعُد للوطن قيمة في ذاته، لا في السياسة ولا في الثقافة، لا في الوطن ولا في الفكر، بالرغم من مشاريع العالم الثالث عن الثقافة الوطنية، وعن الاستقلال الثقافي للشعوب.
فإلى متى يضيع الوقت والجهد والمال في الثقافات الهامشية الخائفة التي تسير بجوار الحائط حتى لا تصطدم به، وتمشي على قِشر بَيض حتى لا ينكسر، أو على قشرة موز حتى لا تنزلق القدمان؟ أليس الساكت عن الحق شيطانًا أخرس؟ ومتى تتحول ثقافة الهامش إلى ثقافة المركز؟ ومتى تصبح الثقافة الخائفة ثقافة المواجهة، وثقافة النظام السياسي إلى ثقافة المقاومة؟ ولماذا يتقدم الآخرون ويتوقف الزمن عندنا، يصنعون مركبة التاريخ، ويُحددون مسارها، ونحن نصعد إليها في زمنٍ ليس زماننا، وفي اتجاهٍ ليس اتجاهنا؟ متى تستردُّ الشعوب وعيها، تتحمل مسئوليتها، وتحمل أمانتها؟ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب: ٧٢).
الصالونات الثقافية للملوك والأمراء
للعرب باعٌ طويل في الثقافة الشاملة التي تضمُّ العلم والأدب والفن دون السياسة؛ فهي جزءٌ مكوِّن للشخصية العربية. قد يندثر حكم العرب كما اندثر في الأندلس وتبقى ثقافتهم ممثَّلةً في قصر الحمراء، ومسجد قرطبة، ومساجد طليطلة وأسوارها، ومِئذنة أشبيلية (الخيرالدا)، والألفاظ العربية التي تحوَّلت إلى الإسبانية وعديد من اللغات الأوروبية.
فقد عُرِف العرب قديمًا بأسواق الشعر، عُكاظ وغيره، يتبارى فيها الشعراء. كان الشعر العربي مِرآة للحياة العربية قبل الإسلام وبعده، ذاكرة العرب الجماعية، ومِرآة لحياتهم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. ووُضعت المعلَّقات السبع على جدار الكعبة؛ فالشعر مقدَّس مثل بيت إبراهيم. الشعر دين العرب قبل الإسلام، ودين العرب هو الشعر بعد الإسلام.
واستمرَّ الأمر على ما هو عليه في بلاط الخلفاء والأمراء، وانضم إلى الشعراء الفقهاءُ والعلماء والفلاسفة وأصحاب النِّحل والفِرق، بل والزنادقة والملاحدة؛ فالدولة مُنتصرة، ولا خوف عليها من المعارضة الفكرية والخصوم السياسيين. وتندثر الأُسَر الحاكمة والدول التي سُميت باسم ملوكها، وتبقى الصالونات الأدبية وسيرتها وعلماؤها وفقهاؤها.
وفي العصر العثماني احتكر بلاطَ الخلفاء والأمراء فقهاءُ السلطان العثمانيون، وبدأ اضطهاد الأصوات الإصلاحية المعارضة، وأصبحت ثقافة الصالونات ثقافةً سياسية مُبطنة نظرًا لضعف الدولة، وحصارها بين خصومها في الداخل، وأعدائها في الخارج. ومع ذلك تُمثل السياسة عنصر الانقطاع، في حين تُمثل الثقافة عنصر الاتصال.
وبعد قيام الدول الوطنية الحديثة أنشأت وزارات الثقافة مع قلق في أسمائها واستقلالها بين وزارة الثقافة والإرشاد القومي؛ فمهمة الثقافة التربية الوطنية مثل وزارة التربية والتعليم، ووزارة الثقافة والإعلام؛ فمهمة الثقافة تبرير سياسة الدولة من خلال الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، ووزارة الثقافة والتراث القومي تأكيدًا على أهمية ارتباط الثقافة بالتراث القومي، خاصةً إذا كان تراث فِرقة ومذهب، ووزارة الثقافة دون ربطها بغايةٍ أخرى. ومع ذلك ظلَّت جزءًا من جهاز الدولة تعبِّر عن سياستها، ولا تسمح بالرأي الآخر إلا في حدودٍ غير مؤثِّرة كما هو الحال في باقي أنشطة الدولة، مثل التعليم والإعلام والدين والسياسة ممثَّلةً في الحزب الحاكم.
ثم تأسَّست الجمعيات الأدبية والعلمية والفنية والثقافية، وتكوَّنت جماعات الشعر والقصة، والنقد الأدبي والفني والسينمائي، ثم قامت الاتحادات العامة للكُتاب والفنَّانين والأدباء لتُساهم في النشاط الثقافي المستقل وإن كانت، طبقًا للقانون، تخضع لإشراف وزارة الشئون الاجتماعية، مثل جماعات المُسنِّين والمُهاجرين والصعايدة من أجل الضبط الأمني، وليست جزءًا من وزارة الثقافة التي قد تُعينها ماليًّا حتى لا ينفصل الجنين عن الأم، ويبقى الحبل السريُّ قائمًا في علاقة تبعية علنية أو ضِمنية.
وفي نهاية المطاف انضمَّ الملوك والأمراء إلى الثقافة مُساهمين في نشاطها وحركتها من داخل القصور؛ فيَعقد الملك صالونه الثقافي خاصةً في رمضان بمناسبة الشهر الكريم، ويسمِّيه باسمه الأول مثل المسجد تيمُّنًا به. ويجتمع مع العلماء، وهم في الغالبية الفقهاء، بالملابس الرسمية، كما هو الحال في حفلات البلاط أو المسرح أو الأوبرا أو في الأفراح والمآتم الرسمية لرجال الدولة والأعمال. ويتناقش الملك مع العلماء، عالمًا مع عالم، وفقيهًا مع فقهاء، بالحجة والبرهان؛ فالملك هو العالم الأول، والفقيه الأول، والفنَّان الأول. وهو ما سمَّاه الفلاسفة قديمًا العقل الأول أو النفس الكلية. يغلب عليها الثقافة الدينية؛ فالدين هو أساس الدولة، ويُعطيها شرعيتها. والملك هو أمير المؤمنين، ورئيس لجنة القدس التي ما زالت مُحتلة، وإن لم يصِل بعدُ إلى خليفة المسلمين. وقد تتغير الثقافة الدينية إلى ثقافةٍ علمية؛ فقد خرج العلم في تراثنا القديم من الدين، وكان الفقهاء علماء، والعلماء فقهاء؛ ومن ثَم يظهر الملك عصريًّا؛ فالعصر عصر العلم. وتُشارك النساء الرجال حتى يبدوَ الملك عصريًّا أمام الغرب الذي يتَّهم الإسلام والمجتمع الإسلامي بالذكورة والتخلًّف دفاعًا عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، وضد شبهات تعدُّد الزوجات والطلاق والميراث وعدم جواز رئاستها للدولة؛ الإمامة الكبرى، وإن جازت لها الإمامة الصغرى؛ الصلاة بالنساء. وقد تكون الغاية من ذلك كله التغطية على النظام السياسي، وما يُمثله من قهر وتصفية للمُعارضين، وتحسين صورة الملكية في ذهن الشعب، والدخول إلى القلوب من باب الثقافة والفن بعد أن انسدَّ باب السياسة والحكم. ويقبل فقهاء السلطان المشاركة في هذا «الديكور» الثقافي، ويتقبَّلون الهدايا والعطايا، وينالون الحظوة والتكريم، والكرمُ من شِيَم الملوك، في حين يُستبعد فقهاء الشعب وعلماء الأمة الذين يُمثلون مصالح الجماعة، ويُفتون لصالح الناس. وفي تاريخنا انقسم الفقهاء قسمَين؛ الأول نال الخُلعة والصُّرة والمركبة والمنصب، وهم فقهاء السلطان؛ والثاني اعتُقل وسُجن وعُذب وطُرد وقُتل، وهم فقهاء الأمة. والتاريخ يُكرر نفسه.
وقد تنضمُّ زوجات الأمراء لهذه الصالونات الثقافية؛ فالثقافة زينة المجالس وتاج الملوك وصولجان الأمراء، مثل السيوف المعلَّقة على جنوبهم، والخناجر المدفونة في خواصرهم، مذهَّبة ومرصَّعة بالجواهر، ولهم فيها مآرب أخرى.
وظيفة الثقافة بالإضافة إلى الزينة قضاء الوقت؛ فاليوم طويل، وزوجات الأمراء لا يظهرن في الاحتفالات العامة، ولا يصحبن أزواجهن في الأسفار الرسمية، ولا توجد ألقاب «السيدة الأولى». وتقع المنافسة بين زوجات الأمراء والملوك والرؤساء حول الصدارة الاجتماعية، والتسابق نحو خدمة المُعاقين والأطفال والمُسنِّين والمُحتاجين، ونشر الثقافة بين الناس، وزيادة المدارس وملاجئ الأيتام دون المعذَّبين والمُعتقَلين في السجون. والهدف هو التغطية والتعمية عن سياساتٍ ذكورية أخرى تتعاون مع الأجنبي المُحتل، وتسمح بإقامة قواعد عسكرية على أراضيها، ومراكز قيادة لأساطيل في مياهها لضرب جيرانها العرب والمسلمين.
وقد يكون الهدف أقلَّ من ذلك التشدُّق بحرية الرأي، واحترام الرأي والرأي الآخر، والانفتاح على ثقافات العالم في عصر العولمة، واللحاق بالعصر مثل المباني الشاهقة، والمطارات الدولية الشاسعة، والموانئ الضخمة والشركات العالمية، والتحوُّل من دولةٍ صغيرة إلى دولةٍ كبرى، ومن جزيرة في بحر إلى قارَّة من القارَّات. وزهرة الصالون الثقافي في آية من الجمال والأناقة واللباقة، تسرُّ الناظرين، يهرع إلى صالونها المثقَّفون والأدباء والعلماء لنيل الحظوة والشرف مع العشاء الفاخر في قصر السلطان، وفتح أبوابه مثل قصر الجبلاوي في «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ الذي يهابه الناس، وقد يكون خاويًا إلا من شبحٍ يسهُل التخلُّص منه.
الصالونات الثقافية مثل دوائر الحكم للنخبة وليست للشعب. ثقافةٌ عالمة وليست ثقافةً شعبية. قد يتم تناوُل الفن الشعبي والشعر الشعبي كفنٍّ شعبي دون أي مردود ثقافي أو سياسي، أو تحليل لأنساق القيم السلبية فيه، والتي هي خير دعامة للنظام السياسي. وقديمًا غنَّى أساطين الغناء رجالًا ونساءً للفنون ورعايتها من الملوك.
لم يتغير الكثير في حياة العرب إبَّان الثورات العربية الأخيرة على مدى أكثر من نصف قرن من ثقافة صالونات الملوك والأمراء إلى ثقافة الرؤساء، عسكريين من الجيش أو الشرطة من خلال المؤسَّسات الثقافية التابعة للدول. وما دام الله في التصور سلطانًا فإن السلطان في الواقع يتحول إلى إله، ويغنِّي الفنَّان لمديح الله والسلطان.
المال والثقافة
ازدادت أسعار النفط إلى حدٍّ كبير هذه الأيام، ووصل سعر البرميل الواحد حدود المائة دولار، ويتوقع البعض وصوله إلى حدود المائتَين إذا ما اعتدت أمريكة أو إسرائيل أو هما معًا على إيران، أو إذا ما اعتدت إسرائيل على سورية أو لبنان، أو إذا ما وقع حرب في الوطن العربي لسبب أو لآخر.
وبالرغم من أن قسطًا كبيرًا من العوائد تعود إلى شركات النفط، وباقي حقوق العرب في البنوك الأجنبية، والأقل منها يُستثمر داخل الوطن العربي، إلا أن استثمارات هذه العوائد تقوم بها شركات البناء الأجنبية لأضخم المطارات في العالم، وأعلى البنايات، وأوسع الطُّرق وأمتنها، وشبكات الاتصالات داخل كل القُطر العربي الذي به آباره. وكلها من مظاهر الدولة الحديثة. ولا يتم تخطيط ذلك على مستوى الوطن العربي كله، حمايته لوحدته، وربط مدنه بشبكة طُرُق سريعة، أو بشركات طيران عربية، أو اتصالات عربية، أو بإعادة البنية التحتية للأقطار الأقل تميزًا، أو إقامة مشاريع تنموية مشتركة، خاصةً ما يتعلق منها بالغذاء والصناعة والتعليم، حتى إذا ما نضب النفط، فهو سلعةٌ مؤقَّتة تنفد بمرور الزمن، وُجدت صناعاتٌ تحويلية بديلة قادرة على توفير العوائد البديلة.
ومن ضِمن مظاهر الدولة الحديثة المشاريع الثقافية؛ فلا دولة بلا ثقافة، ولا ثقافة بلا عصرية، ولا عصرية بلا تعرُّف على أهمِّ الإبداعات الثقافية للعصر عن طريق الترجمة.
فالحضارات الأخرى، غربًا وشرقًا، تُبدِع ونحن نستهلك، تؤلِّف ونحن نُترجم. ويكون منهجنا في التحديث نقل المعلومات ممَّن يعرف إلى من لا يعرف، من المركز إلى المحيط؛ فالتحديث يأتي عن طريق الوافد مثل مواد الصناعة والبناء الحديثة. مصدر العلم خارجي كما أن الوحي خارجي. هذا من الأرض، وذاك من السماء. ولا تحتاج الترجمة إلى جهدٍ كبير باستثناء مُموِّل وناشر ومُترجِم. والتمويل موجود من عوائد النفط المُتراكمة، والناشرون موجودون في شتَّى أقطار الوطن العربي، خاصةً في مصر ولبنان، والمُترجمون موجودون أيضًا، فرص عمل كبيرة، وأجرٌ مُجزٍ ومضمون؛ فنقل المعلومات أسهل من إبداعها، والترجمة أسرع من التأليف.
والحقيقة أن هذا وهمٌ كبير؛ فالترجمة بمفردها لا تصنع ثقافة، ولا تُقيم نهضة، ولا تؤسِّس حضارة. الترجمة أحد ثلاثة عناصر في النهضة الثقافية مع النشر والتأليف كما فعلت مصر منذ قرن في «اللجنة المصرية للتأليف والترجمة والنشر»، والنشر العنصر الثاني، وبتفاعل الوافد والموروث، أي الترجمة والنشر، ينتج التأليف.
الترجمة وسيلة وليست غاية. تهدف إلى التعرُّف على ثقافات الغير. هي مقدمة وليست نتيجة، آلة وليست هدفًا. وتقوم على أُسُس اختيار واعية، وليس مجرد ديكور ثقافي بترجمة أهم الإبداعات الإنسانية قديمًا وحديثًا بصرف النظر عن مدى الاحتياج إليها، ووجود جمهور لها، وتأثيرها في المرحلة التاريخية الراهنة التي يمرُّ بها المجتمع العربي. تكوِّن بؤرًا ثقافيةً عالمة ومُتعالمة لنخبة من المُتعلمين قادرين على قراءة أصولها الأجنبية إذا كانت باللغة الإنجليزية.
والترجمة في الغالب ذات اتجاه واحد، من المركز إلى الأطراف، ومن الغرب إلى العرب، وليست مزدوجة الاتجاه في اتجاهٍ مُعاكس أيضًا، من العرب إلى الغرب، إحساسًا منَّا بأننا لا نُنتج ثقافيًّا بل نستهلك فحسب. صحيحٌ أن إبداعاتنا الأدبية في الشعر والرواية والقصة والمسرح تُرجِم البعض منها إلى اللغات الأجنبية بعد حصول بعض مُبدِعينا على الجوائز العالمية، ولم يُخفف ذلك من عقدة النقص أمام الآخر الذي لم يتخفف هو الآخر من عقدة العظمة، ومع ذلك لدينا إبداعاتنا في العلوم الإنسانية وفي الفكر العربي المعاصر تَجهَلها الثقافات الأخرى. وإذا كانت الترجمة ليست مجرد نقل لغة إلى لغة، أو ثقافة إلى ثقافة، بل تفاعُل الحضارات، فإنها تكون ذات اتجاهَين، من الغرب إلى العرب، ومن العرب إلى الغرب؛ حتى تتغير الصور النمطية التي كوَّنها الغرب عنَّا على مدار السنين، ونظَّرها العلماء بحيث أصبح التفكير والتنظير حكرًا على الغرب وحده دون غيره.
ويقوم بعض الشباب، خريجي الجامعات الأجنبية، بما لديهم من قدراتٍ لُغوية وبراعة في العلاقات العامة بالعمل داخل هذه المؤسسات والهيئات الجديدة للترجمة. ويكتفي أصحاب رءوس الأموال برئاستها وتوجيهها عن بُعد، ووضعها في إطارها المطلوب، وتوظيفها في الأهداف المحدَّدة المعروفة سلفًا. الناشرون العرب في الصف الأول، ويلحق الناشرون الأجانب حتى لا تفوتهم قسمة الغنائم من ودائع النفط، ومرحَّبون بهم؛ فهم من بلاد أهل التأليف والإبداع. والمُترجمون، أي العلماء، هم الذين يُنادي عليهم الناشرون لتوقيع العقود بعقلية الوسطاء التِّجاريين، والوُكلاء لأصحاب رءوس الأموال؛ فهُم الناشرون والمُوزعون والمُعدُّون لصناعة الكتاب، خاصةً وأن النشر الثقافي المستقل يُعاني من أزمة التأليف والطباعة والنشر نظرًا لغلوِّ أسعار مواد الطباعة وتكاليفها، وبطء عائدها، ومطاردة العلماء لهم لدفع حقوقهم والتهرُّب منهم.
في هذه الأوضاع، المال لا يصنع ثقافة؛ فالثقافة ليست ترجمة وطباعة ونشر مجلدات فخمة لا يقرؤها أحد، تُوزَّع هدايا لعِليةِ القوم وأصحاب رءوس الأموال، وتُوضَع زينةً في المكتبات العامة والخاصة. الثقافة أحد عوامل نهضة الشعوب وتقدُّم الأمم إذا كانت تعبيرًا عن واقعها، وتُلبِّي حاجاتها في المرحلة التاريخية التي تمرُّ بها. ودون تحليل هذه المطالب والاحتياجات تظلُّ الثقافة نخبويةً عالمة لا تُحرك ساكنًا. مهمة الثقافة في مناطق تراكم عوائد النفط هي الدفاع عن لغتها الوطنية، وعُروبتها، بتعريب العمالة الوافدة، والمحافظة على تجانس سكانها وثقافتها الوطنية، والتخطيط لمستقبلها القومي.
الثقافة جزء من وجود الدول ذاته؛ فإذا ما هدَّدته المخاطر الداخلية أو الخارجية تحوَّلت الثقافة إلى أداة دفاع ومُقوِّم وجود. ومنذ أن احتمت الأمة بالقومية العربية في القرن الماضي كبديل عن الدولة العثمانية، وهي الآن تحتمي بالدولة القُطرية بعد هزيمة يونيو (حزيران) في ١٩٦٧م، وحرب الخليج الأولى في ١٩٨٠م، والثانية في ١٩٩٠م، تُواجه الدولة القُطرية الآن مخاطر التفتيت والتجزئة إلى دُوَيلاتٍ طائفية عِرقية مذهبية كما يحدث الآن في العراق والسودان. هنا تأتي الثقافة الوطنية التي تنصهر فيها الأعراق والطوائف والمذاهب كقارَبِ نجاة.
وفي العالم ذي القطب الواحد، واستئساد الولايات المتحدة وإسرائيل به بعد غزو أفغانستان والعراق وكل فلسطين، لن يُسمَح بوجود قوة أخرى عسكرية واقتصادية وعلمية كما حدث في العراق، أو قوة مالية في مراكز تراكُم ثروات النفط. فكيف تترك الذئاب والأُسود غزالًا يتمختر أمامها بالحداثة والعصرية ومركز اتصالات بين الشرق والغرب؟ الخوف على هذه الثروات المُتراكمة من انهيار العملات الأجنبية كما حدث في جنوب شرق آسيا منذ عقد من الزمان، أو مصادرة الودائع في البنوك الأجنبية كما يحدُث الآن لكل من يخرج على بيت الطاعة الأمريكي مثل إيران بتهمة النووي، ومثل المنظمات الأهلية الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية بتهمة الإرهاب، أو بتدمير الآبار في حالة عُدوان أمريكي إسرائيلي على إيران، والآبار في مرمى الصواريخ من كل الجهات للقضاء على قوةٍ مالية مُتنامية قادرة على شراء أصول الشركات الصناعية الكبرى في مجموعة الثمانية. وبعد حصار مصر وتهديد أمنها القومي في الشمال وفي الجنوب، في فلسطين وفي السودان، يصبح الوطن العربي كله لُقمةً سائغة لمن يشاء القضم والهضم.
ليست مهمة المشاريع الثقافية، الترجمة أو غيرها، توزيعَ بعض عوائد النفط لديكورٍ ثقافي من مظاهر الحداثة في الدولة الريعية، بل الحرص على وجود الدولة ذاتها عن طريق الأمن الثقافي. ليست الغاية من البرامج الثقافية والمهرجانات الدولية للفنون توزيع البيض الذهبي على المشاركين، بل المحافظة على الدجاجة التي تبيض ذهبًا. ليس الهدف من النشاط الثقافي توزيع الألبان من البقرة الحَلوب، بل المحافظة على البقرة ذاتها من الذبح أو الاستغلال في تدوير السواقي وطواحين الإنتاج الغربي. ولماذا التضحية بالآجل في سبيل العاجل؟ لماذا التضحية بالصالح العام من أجل المصالح الخاصة؟ لماذا تكون الثقافة عالمةً وافدة، وليست وطنيةً مُقاومة؟ لماذا يكون رأس المال بلا وطنٍ وهو قادر على الحفاظ على الأوطان؟