مقدمة
من مميزات العبقرية الصحيحة، وأعني بها العبقرية الأثينة، لا العبقرية الاصطناعية التي تتولد بكسب المعارف أو الفنون، أنْ تسبق بأثانتها العصر الذي تنشأ فيه، فإذا كانت العبقرية في إِهَابِ شاعر سبق العصر بأخيلته وسبحاته الشعرية، وإذا كانت في إهاب فنان سبق العصر بما يُبدع من الظلال والألوان والتعبيرات التي يفرغها فيما يخرج منه صورة أو تمثال، وإذا كانت في إِهَابِ مُفَكِّرٍ، سبق عصره بالتفرد في الحس بما سوف تتمخض عنه النظامات وأوجه التقدم التي تسير فيها خطا الجماعات، بحيث يرى واقعًا بالفعل، ما يلوح لغيره من النَّاس أنَّه مستحيل الوقوع، أما إذا كانت في إهاب فيلسوف فإنَّها ترحل به عن عالم النَّاس إلى عالم هو له وحده، فتخرج آثاره على اكتمال الفكرة فيها تغالب نزع الموت في يد الجماهير، ولا تُربي وتُؤتي أكلها حتى يكتمل الوعي الجماعي فيدرك ما فيها من جمال أو حق أو صدق. وأستاذنا الكبير صاحب هذه التأملات عبقري أثين بطبعه، ظهرت أصاله عبقريته في كل أطوار حياته العامة، فظهرت في أسلوبه، كما ظهرت في نواحي تفكيره، وفي اتِّسَاقِ فكرته، ورتابة منطقه، ووضوح غاياته، وجلاء مراميه. ففيما نشرنا له من «المنتخاب» قبل عشر سنوات وما نشرنا منها في هذا العام، وما ننشر اليوم في «تأملات» دليل باسم واضح القسمات على أنَّه سبق عصره بمراحل بعيدة المدى قصية الغايات.
ففي العصر الذي ارتسمت فيه السياسة المصرية في أحضان فرنسا وتركيا، نستنجد الأولى ونستعديها على إنجلترا مستغلين ما بينهما من حزازات ومنافسة ونتعلق بخيط العنكبوت من علاقتنا بالعثمانيين مستغلين سيادتهم الاسمية على مصر، نادى بالاستقلال، محببًا بذلك الفكرة الوطنية الصميمة التي قامت عليها الحركة العرابية. وإنِّي لأذكر أنَّ أستاذنا ذكر في مقال له أنَّ مصر تطلب «الاستقلال التام» فاستعدى عليه السيد علي يوسف صاحب المؤيد ورئيس حزب الإصلاح — وهو إذ ذاك حزب السراي — النيابة لتجره إلى موقف الاتهام؛ ذلك بأنَّ الاستقلال التام في ذلك العصر، كان جريمة تستحق الجزاء.
قال بحرية المرأة في عصر أظلمت فيه جوانب الحرية، ودعا الطلبة إلى الاشتغال بالسياسة في عصر كان فصل الطالب من معهده أهون على أصحاب السلطة من قلامة ظفر، وطالب بالدستور وبَشَّرَ بحرية الفرد وأنحى على تدخل الحكومة في شئون الأفراد؛ لأنَّ ذلك وجه من الاشتراكية التي لا تُلائم الطور الذي كانت تجتازه مصر في ذلك العصر، وآمن بالتطور في زمان دعا فيه بعض الزعماء إلى الطفرة، فكأنَّه بعبقريته الأصيلة قد أدرك أكثر ما خفي على أهل عصره من مستقبل هذه الأمة، ولا نزال حتى اليوم نستقرئ فيما كتب، تَنَقُّل الأمة المصرية في مدارج فكراته التي ساورته منذ أكثر من أربعين سنة.
ليس عندي من تعليل لهذا وللكثير بما فاضت به صفحات «المنتخاب» و«التأملات» إلا أنَّ أستاذنا، مَدَّ الله في عمره، عبقري أصيل العبقرية، فظهر إثر ذلك صادقًا في أسلوبه وتفكيره ومنطقه، وأقول على الجملة: إنَّه عاش حياته صادقًا مع نفسه، فصدق مع الناس، وأيدته في صدقه حوادث هذا الزمان.