الصداقة١
حدثني صديق ذكي القلب ينتفع بكل الحوادث ويعتبر بكل المشاهدات قال: ركبت الترام إلى جانب السواق فحضرتني طائفة من الأفكار ترجع كلها إلى حال هذا العامل وما يُعاني من سفر مستمر خلو ممَّا نجد نحن في أسفارنا من التعزية ببلوغ الغرض، وما يحمل من مسئولية كبيرة مستمرة إذ هو مسئول عن سلامة الراكبي ترامه، مسئول عن المصادمات، مسئول حتى عن الأطفال المتعسفين يمر أحدهم أمام الترام ليغتبط بخفته في العدو وليهزأ بسرعة الكهرباء، أو يتصدى للتعلق به سائرًا من على اليمين حيث يتاح له النزول من غير خطر أو على الشمال إذا زلقت رجله، فهو وشيك أن يلقى بين ترامين، قال: حادثت السائق حيث لا خطر من محادثته وسألته ماذا يجد من عمله وهو يذوق لذة المسئولية التي يحملها والخدمة التي يؤديها؛ فأجاب ببساطة خاصة بالأفندية من درجته ومستوى تربيته: إنَّ عمله شاقٌّ مُمِلٌّ، ولكنه يخفف عليه كثيرًا هذا الملل أن يقابله سواق آخر من أصحابه يتبادلان في هذه الفرصة الضيقة عبارات التحية لا يتمَّانها حتى يبعد كلاهما بحيث لا يسمع صوت الآخر، تسلية ضئيلة! ولكنَّها مع ذلك مثيرة في النفس إكبار الصداقة وإنَّها من الشروط الأصلية للحياة.
لم ينفرد صاحبنا السواق بالمسئولية بل كلنا في المسئولية سواق ترام يحتمل مسئولية عمله ونتائج أعمال غيره أيضًا، وكلنا مُعَذَّبٌ لا بد له من تعزية تخفف عليه حمل الحياة، والظاهر أنَّ أكثر التعزيات خيرًا وأطولها عمرًا وأطهرها طبيعة هي الصداقة.
يرد على الخاطر في هذا المقام معنى قلما فات امرأ استعماله: (لا لا، كلنا أصدقاء). يقولها الواحد لصديقه إذا عرض عليه الاشتراك في عمل مالي أو نحو ذلك من الأعمال التي مغبتها عادة الاختلاف على المنافع وتبدل الصفاء كثيرًا بين المتعاملين! مهما قيلت هذه الجملة في مقام الاعتذار، ومهما ابتذل استعمالها فصار يتناول علاقات غير الأصدقاء في الحقيقة، إلا أنَّها مع ذلك لشيوعها في الناس تعتبر من جانبهم إجماعًا على أنَّ الصداقة فوق كل المنافع وأغلى ثمنًا من أن يشتري بها الرجل كائنًا ما كان من الأعراض الإنسانية.
ما هي حياتنا إن لم تكن في الواقع مجموعة من المشاعر المختلفة، بها وحدها نحيا ومن أجل الجمع بينها والحصول على لذتها نتعب وننصب وفيها نحيا ونموت! وما أظن ما في الإنسان من قوى مادية وعقلية إلا خدمًا لتشبيع مشاعره النفسية: ألا ترانا ننظر إلى ما في الدنيا بنظارات تأخذ ألوانها من صفاء نفوسنا وكدورتها، فالمغتبط بما هو فيه يرى الحياة وردية — كما يُقال — ولو كان في فقر الأنبياء أو في غيابات السجون! أما الذي يظن أن تقطعت به أسباب الفوز ولازمته خيبة الرجاء في مقاصده أو في أصدقائه، أو من هو لأي سبب تكدرت مشاعره، فلا يرى ما هو فيه من نعم الحياة إلا جحيمًا مقيمًا، إنَّها مشاعرنا النفسية هي التي عليها العمدة في جعلنا سعداء أو أشقياء، فليس بعجيب على الإنسان أنْ يجعل للصداقة وهي أظهر المشاعر الإنسانية هذه القيمة ويفضل الشعور بها والاغتباط بِلَذَّتِهَا على كل شيء.
يسرف الناس في استعمال لفظ الصديق مقولًا على الزملاء والمعارف بل ومعارف المعارف، وما أرادوا بذلك امتهان الصداقة وابتذال أمرها، فإنَّهم منذ طفولة الإنسانية إلى الآن، ينشدون الخل الوفي ويقولون بامتناعه بوصف أنَّه المثل الأعلى للصديق، ولكنَّهم يُريدون أن يشرفوا طبائع علاقاتهم بعضهم ببعض إذ يُعطونها لون الصداقة أو لفظ الصداقة، ولو سئلت ما الصديق لما زدت على أنَّه ذلك الإنسان بعينه الذي تشعر في نفسك بالفرح عند لقائه والشوق للجلوس إليه والإفاضة له بكل ما لديك، تُعطيه مفتاح عقلك وقلبك آمنًا ليرى فيهما كل شيء. يوحشك بُعده ويؤنسك قربه وتجد من نفسك باعثًا قويًّا وحاجة لا يسدها إلا لقاؤه.
ولقد نجد في الأمثلة الصديقين يكون كلاهما للآخر على ما وصفنا، فلا يقع بينهما، إلا أصبحا لا كالمعارف بل كالأعداء، وهذا صحيح مشاهَد، ولكنَّه لا يطعن على معنى الصداقة في شيء، بل هو يدل على أنَّ الصداقة كبقية المشاعر النفسية مختلفة الكم والبقاء باختلاف الاستعداد، فمن النَّاس من يُحبُّ إلى الشوق بل إلى الهيام بل إلى الموت، ومنهم من يحب حبًّا لا يتعدى المتعارَف في القدر ولا يتعدى أيامًا أو أسابيع في البقاء، ومهما كان من الصعب التفريق التَّام بين عاطفة الصداقة وعاطفة الحب تفريقًا منطقيًّا ووضعيًّا، إلا أننا مع ذلك نشعر في نفوسنا بتخالُفٍ بين الإحساسين وتبايُن في الكيف بين موضوعيهما، فالنفس التي لا يُمَكِّنُهَا استعدادها إلا من السير في الحياة على مقتضى المصادفة الصرفة، تنتقل في صداقتها كما تنتقل في إذاوق المودة، قلَّ أنْ ننعم بهذه الصداقة وإنْ كان من الصعب علينا أن نظن أنَّه توجد نفس لم تَذُقْ لَذَّةَ الصداقة قليلًا أو كثيرًا تبعًا لمبادئ التربية وفطرة الاستعداد.
ما أشمل الرضا للنفس تجلس إلى نفس صديقة مجلسًا ليس للتكلف في الأوضاع المادية ولا المشاعر المعنوية فيه أثر! روحان اتَّفقتا في المشاعر وتم بينهما التفاهم في كثير من أمهات المبادئ العلمية والكليات العقلية، لذة يعرفها الذي يعرف لذة الأحلام، فكثيرًا ما تجرد النفس من ذاتها في العزلة خيالًا تفضي إليه بما فيها وتبدي له ما خفي في طيات أعماقها من المقاصد، وما رسب فيها من الآلام، فإذا وفقت إلى الصديق الموفق كانت هذه المفاجأة الحلمية اللذيذة أشهى متاعًا وأقوى لذة من لذة الهواجس الفردية ومسارح الأحلام.
وما الصداقة بقاصرة في آثارها على هذه اللذة، لذة الحديث العذب والبعد مسوقة عن عذاب الحياة اليومية وأثقال التكلف في أوضاع الأعمال، بل كثيرًا ما كان صديقك مرآتك ترى فيها عيوبك وفضائلك جميعًا، بل طالما كانت الصداقة وتشيع الأصدقاء مصدرًا للتفوق والنبوغ. نفعت الصداقة الروح بتخليصها من سآمة الوحدة وألم الوحشة، ولكنَّها نفعت العلم والأدب أيضًا في كثير من الأحيان.
إحساس تلك هي الحاجة إليه، من حقه أن يتعهَّد أمره في النفس لينمو فيها، فلا يغيرك لصديقك خطأ وقع فيه، فما الكمال بمدرَكٍ في هذا العالم، بل يجب أن تكون معاملة الصديقين مبنية على حسن الاعتقاد وقاعدة التسامح.