سلطة الأمة١
لا يزال عندنا كثيرٌ من النَّاس المسئولين عن مصر بحكم مراكزهم من العلم والمعرفة أو من الحياة والمال من إذا حادثته في سياسة البلد تَقَبَّضَ وجهه وأعرض عن حديثك بنظره، كأنَّما جئت تُلقي تحت نظره ميزانية الإفلاس تنطق له بأنَّ ما على مصر أكثر ممَّا لها. يقول لك الأمة ضعيفة لا سلطة لها، والأخلاق متحللة، والاحتلال لا يعمل شيئًا لترقيتها، فكل جهد ضائع وكل عمل غير نافع. يقول لك ذلك وزفراته يلحق بعضها بعضًا دلالة على أنَّ نفسه تذهب على وطنه حسرات، ومع الأسف أنَّ هؤلاء اليائسين هم بفضل مراكزهم قدوة للكثير من الشبان ينقلون إليهم هذا المعنى، معنى اليأس الذي يبعد عليه أن يأتي بنفع البلاد … على أنَّ الحس يثبت لنا كل يوم بالأمثلة أنَّ المرء من طبعه أن لا يقنط من أمر محبوب لديه، بل النفس مائلة للاعتقاد بوقوع ما تحب دائمًا حتى من غير دليل.
وترى الخصم أمام القضاة لا ييأس من كسب قضيته ولو كان مبطلًا عالمًا بباطله، وترى الموظف لا يقنط من الرقي مهما قامت لديه الأدلة على عدم كفاءته وتصميم رؤسائه على عدم ترقيته، والتاجر الذي كثرت عنده البضاعة ونزلت عليه السوق، لا يقنط من ارتفاعها ثانية أي من الربح المنتظر مهما دلت المقدمات على نقيض ذلك حتى يقع في الإفلاس، ذلك بأنَّ الإنسان من دأبه الرجاء، وإنَّه لحب الخير لشديد، فما أعجب من شيء عجبي لرجل يحب خير وطنه كما يحب الخير لنفسه أو أشد، ومع ذلك سرعان ما يَتَسَرَّبُ إليه القنوط من نجاحه لأول صدمة أو لظهور عَرَضٍ من الأعراض الزائلة غير مناسب لوسائل الارتقاء.
أستغفر الله من أن أقول إنَّ في وطنية أولئك اليائسين دَخَلًا أو في قولهم زورًا، ولكن الذي أراه أنَّ ما هم فيه من اليأس ليس نهائيًّا، ولكنَّه متقطع يطوف عليهم كلما ظهرت بوادر الفشل، ويذهب عنهم كلما ظهرت طلائع النجاح، فتسميته يأسًا فيها تسامح، وأولى بهذه الحال أن تعد ضربًا من التردد الذي ينتج دائمًا عن عدم فهم وسائل الرُّقِيِّ فهمًا صحيحًا، ومن الخطأ في تقدير مركزنا تقديرًا تامًّا، لا يدخل إليه الشك من أي مكان.
إنَّ الحكم على حال مصر الحاضرة حكمًا صحيحًا، وفهم وسائلها للتقدم فهمًا تامًّا والعمل لتقويتها عملًا متواصلًا، يجعل المصري لا يُبالغ في نتائج بادرة من بوادر الفشل ولا ينخدع بطليعة من طلائع النجاح، بل يستمر سائرًا في عمله الهادي المتين يأخذ من أسباب الفشل درسًا نافعًا يتقي به أمثالها في المستقبل من غير ضجر ولا فزع، ويستفيد من طلائع النجاح سرورًا كامنًا وقوة تشجعه على مضاعفة خُطاه الثابتة إلى الأمام.
الحكم على حال مصر يتوقف على الحكم على الاحتلال وعلى سلطة الأمة ولست أجد سببًا لليأس من قبل الاحتلال الإنكليزي ولا من اليوم القريب الذي تتحقق فيه سلطة الأمة.
حُكمنا على الاحتلال الإنكليزي إنَّما هو كما نحكم على نازلة من السماء لا نستطيع رفعها، ولكننا نستطيع أنْ نُحَوِّلَهَا إلى مصلحتنا ونتقي أضرارها كلها أو بعضها، حتى ينقضي أجلها وتمَّحي آثارها، ولقد صرح الاحتلال بأنَّه يرمي إلى الغرض الذي نرمي إليه نحن من تقوية مصر حتى تقدر على حماية نفسها، والمصالح الإنكليزية فيها من أن تعبث بها يد قوية. فما علينا إلا أنْ نُطالبه كل يوم بأنْ يقوم بما افترضه على نفسه وأن يسلك السبل التي توصل إلى هذا الغرض المشترك، وعلينا نحن من جانبنا أن نكون أسرع منه إلى سلوك تلك السبل وأنشط إلى وضع المقدمات، والعمل إلى النتائج، ونبالغ في ذلك حتى نسبقه إلى الإصلاح نحن بأنفسنا؛ لأننا على صدق هذا الوعد نحن المنتفعون أولًا وبالذات، لأنَّ الإنكليز لهم غير الهند، وليس لنا إلا مصرنا.
من المعوِّقَات لنا عن السير إلى الأمام أن نتجاهل وجود الإنكليز في بلادنا وهم موجودون بالحس، وننكر سلطتهم بالفعل جريًا وراء قواعد القانون الدولي فنغير القواعد كل يوم، وسلطتهم الفعلية هي المرجح في كل مسائلنا المصرية الداخلية منها والخارجية في يدهم كثير من الوسائل لرُقِيِّنَا، فإعراضنا عن هذه الوسائل لا يفسر إلا بأننا نزهد في نتيجتها وهي القوة والاستقلال، ولو لم نَكُنْ جَرَّبْنَا هذا الإعراض لكُنَّا معذورين، ولكنَّنا جربناه فكانت النتيجة ما رأيناه، فليس إلا أنْ نشتغل من جانبنا لمصلحتنا، ونحملهم — والحالة الدولية الخارجية كما ترى — على أن يسيروا معنا لتحقيق وعودهم ولنسهل عليهم الواجب الذي ادَّعَوْا أنَّهم يحملونه على عاتقهم، لو فهمنا ذلك فهمًا صحيحًا وطالبنا بإلحاح أن يشركونا في التشريع وفي إدارة البلاد على القدر الذي تسمح به الظروف الآن، لاستعملنا وقتنا في مصلحتنا دائمًا ولما تركنا حاضرًا معطَّلًا من العمل والمستقبل ليس بيدنا ولا بيدهم ولكنَّه بيد الله.
لو سلكنا هذا الطريق ونجحنا فيه لحققنا مقدارًا من سلطة الأمة نستخدمه هو نفسه بالعمل للحصول على ما يبقى منها بالزمان.
فأما كون الأمة ضعيفة والروابط الاجتماعية متحللة وسلطة الأمة معدومة فهذا قول سطحي صرف.
لا أستطيع أنْ أصدق أنَّ أمة كأمتنا جامعة بين الاستعداد الاجتماعي والاستعداد العلمي تفقد قوميتها أو سلطتها متى وقعت في أعراض المرض والضعف بل الواقع يشهد أنَّ أمة كهذه يستحيل أن تُحكم عن رغم إرادتها أو تُغلب على حريتها إلا إذا كان لرضاها من ذلك نصيب عظيم، وإنَّ سُلطة الأمة موجودة بالفعل إن لم تكن معترفًا بها بالقانون، موجهة إلى غير طريقها الطبيعي؛ لأنَّ الأحكام الماضية قد وجهتها إلى الرضى بالاستبداد قاعدة للحكم، كما وجهت غيرهم من الأمم العربية إلى ذلك، فليس همنا إيجاد سلطة الأمة من العدم وأستغفر الله — ولكنَّ همنا هو تحويل السلطة الحالية التي تصرفها الأمة تصريفًا غير طبيعي في خدمة غيرها إلى الوجهة العليا وجهة الحرية السياسية، وجهة خدمة نفسها واحتمال مسئولية شؤونها، ولا طريق لذلك إلا التعليم والتربية أن نُوغل فيهما إلى حدٍّ يجعل الاعتقاد عامًّا بأنَّ السعي في تحقيق سلطة الأمة هو أول الواجبات الوطنية على الوطنيين.
إذا كان الاحتلال الإنكليزي يستحيل أن يدوم إلى الأبد، وإذا كانت سلطة الأمة لا تلبث أن تُوجه بالتربية والتعليم إلى وجهها العالي النافع؛ وإذا كان عمر الأمة يعد بالأجيال لا بالسنين، فمن قصر النظر وضيق الصدر وقلة التفكير أن ننظر إلى المستقبل بنظارة سوداء أو أن تأخذنا الخفَّة بالشطط فنتخطى المقدمات إلى النتيجة جهلًا بطبائع الوجود، بل الواجب علينا أن نتكاتف جميعًا على انتشال الأمة من مراقد الضعف، وأن نغرس اليوم معتقدين أنَّ ما نفعله اليوم نلقاه غدًا، وأنْ نصبر على مبادئنا لا ننتظر أن نجنيها قبل أن تأخذ نماءها الطبيعي وتنتج ثمرها المطلوب.