في سبيل الارتقاء١
يكاد يكون من المضحك أو من المحزن أننا حتى اليوم لا نزال نبحث في وسائل انتقالنا من الحال الأولية — حال الضعف والجهل — إلى حال من القوة والعلم، متناسبة مع مقتضيات الزمن الحاضر، وكان من اللازم أن نكون قد فرغنا من القواعد العمومية من عشرات من السنين وصرفنا كل هَمِّنَا في تطبيقها على الجزئيات اليومية، ولكنَّنَا مع الأسف لا تزال أكثريتنا بين يائس من الإصلاح جهلًا بطرائقه، وبين عارف طريق الإصلاح، ولكنَّه يراه طويل المسافة بعيد النتيجة فيَنْكِب عنه إلى طريق خيالي صرف، طريق التحمس وتنبيه شعور العامة تنبيهًا لا يجدون من قوتهم له منفذًا، ولا من الظروف الحاضرة له مساعدًا، فينقلب أمرهم من التنبه الاصطناعي إلى اليأس من كل شيء؛ لأنَّ تنبيه شعور الإنسان تنبيهًا يوميًّا مستمرًّا إلى سوء حالهم مع عدم الانتفاع بهذا التنبه في الأعمال المشروعة الهادئة، إنَّما يكون في ظروف الاضطراب، وفي حال الاعتقاد بأنَّ طريق الرقي هو استعمال القوة اعتسافًا، وهذا طريق خطر السلوك عقيم النتيجة.
نحن لا نعرف في بلادنا أحدًا معينًا يعتقد أنَّ سبيل ارتقائنا هو غير السلام، فإنَّ الأقلام في مصر مُجْمِعَةٌ على أنَّ السلام هو الطريق الوحيد حتى أشدها تحمسًا، وأدخلها في باب الطيش والتغرير، ولكنَّ بعض الكتاب من الشُّبَّان أو غير المسئولين عن شيء في مصر قد دأبوا على أن يضربوا الأمثال في كتاباتهم بالحركات الأجنبية لا على القدر اللازم الكافي في العبرة والتبصِرة، ولكنَّهم يكيلون منها كل يوم حتى بلغ من بعضهم عدم التبصُّر أن يبرر عمل الغادرين من غير أن يحسب النتائج التي تترتب على تبريره هذا والمثل السيئ الذي يضربه للشبان، فيقع من حيث لا يشعر في المذهب السيئ من مذهب الذين يظنون أنَّ مصر ترقى بغير السلام.
أعترف أنَّ مذهب التطور والارتقاء مذهب لا تأخذ طرائقه بالأبصار ولا تخلب الألباب، وإن كانت نتائجه باهرة لمن يستطيع العمل من غير جلبة، والصبر اللازم لانتظار نتائج العمل. والواقع أنَّ الارتقاء لا يكون إلا بالتعليم والتربية، فأي مظهر يسحر أنظار الجمهور من مظهر معلم كفء في مدرسته يصلح عقول الأحداث ويهذب طبائعهم ويحول ميولهم إلى حب الخير، والجري في مجرى الحق والعدل؟ فما هو إلا جيل واحد — لا يعد لحظة في حياة الأمة — حتى يتبدل الوطن بساكنيه متحلِّلي الروابط، رجالًا قادرين بعقولهم وأخلاقهم وقوتهم على إعلاء شأنه والتشبث بإسعاده نتيجة باهرة، ولكن طريقتها منزوية عن العيون لا تبلغها حواس العوام ولا تحفل بها، بل لا تساوي عندهم في طريق الوطنية والعمل للوطن أصغر القيم، بل لا تساوي في الوطنية أن يجرجروا بأيديهم عربة كاتب يكتب لهم ما يرضيهم لا ما ينفعهم، أو تقليد من يخرج من السجن في جنحة قذف وسام شرف وفخار، أعترف بذلك ولكني لا أعترف من جهة أخرى أنَّ العوام هم الذين نأخذ عنهم سبل تقدُّم البلاد، فحسبنا ما نألمه إلى اليوم من الطباع التي نقلها لنَّا العوام بحبهم الظلم وتجافيهم طرائق التربية والتعليم، يفرحون بالتحمس الفارغ، ويَفْرَقُونَ من جَرَّائِهِ، حتى إذا فَشِلَ قائدهم أصبحوا عليه أنصارًا يحرجون مركزه ويسيئون إليه، ويولونه بعد الاحترام احتقارًا وبعد النصرة خِذلانًا.
طريق التربية والتعليم هو الموصل الوحيد، ولكنه — كما يقولون — لا برَّاق الرداء ولا حاضر النتيجة، فإنَّه كما لا يفرح به العوام جهلًا بنتائجه، ومن جهل شيئًا عاداه، كذلك لا تتفق مشاعر الشبيبة الغضة على اتخاذه والإيمان به؛ لأنَّ انتظار نتائجه يُخالف مزاج الشباب. وأخص صفات الشباب العجلة، وأخص ميوله الظهور بالقوة والبأس من غير أن يحسب مقدار قوته، والشباب من كرمه وطيب قلبه يحب التضحية يأتيها بغاية السهولة من غير نظر ولا تَدَبُّرٍ، فهو بذلك يستسهل الصعب، بل قد يبغي المستحيل؛ لذلك كان الشباب الغض أنفع الأطوار الإنسانية في المخاطرة، ولكنَّه بقلة تجربته وعدم اعتياده على حساب النتائج، لا بد له ممن يحسب عنه، ويبين له الطريق المنتج من الطريق العقيم.
كلنا يحب وطنه، وربما كان الرجل أعمق حبًّا من الشباب، وكلنا يحب سعادته بسعادة وطنه، وربما كان الكهل أشد حبًّا للسعادة؛ لأنَّه أشد حبًّا للحياة، ولكن من الذي يستطيع أن يُثبت لنا أنَّه يوجد لإسعاد وطننا طريق آخر غير طريق التربية والتعليم، أي من ذا الذي يستطيع إقناعنا بل إقناع نفسه هو، بأنَّ استعمال القوة ولو بمظهرها الأدنى ينفعنا ولا يضرنا، أو أن عندنا قوة تُسْتَعْمَلُ!
لا أحد، ولكن أنصار الحركات — كما قال بعض المحامين الإنجليز — هم غير المسئولين عنها من العجزة والنساء، وغير المفكِّرين في العاقبة الطامعين في الرُّقِيِّ السريع، وهم شبان الضباط، على ذلك نكرر النصيحة مع اعتقادنا بأنَّ الأقلام والألسن في مصر مُجْمِعَةٌ على أنَّ سلوك العسف مَهْلَكَةٌ للأفراد وللأوطان — بأنَّ طريقنا هو التربية والتعليم.
قد يقال: رأينا كثيرًا من المتعلمين يتمرَّغون في مراقع الطباع العامية لا يهتمون بكرامتهم ولا يقيمون وزنًا للفضائل الاجتماعية، إذ كلفهم الحق فتيلًا عافوه واجتنبوه، وإذا حملهم العدل كلفة عادوه، فكيف يكون طريقنا الوحيد هو التربية والتعليم؟
قد يكون ذلك حاصلًا في بلادنا وفي غير بلادنا مع فرق كبير في النسبة بالضرورة، ولكنَّ هذا لا يطعن على نظرية الارتقاء بالتربية والتعليم في شيء، فإنَّ العيب إمَّا أن يكون من الاستعداد؛ ولا شبهة في أن مستوى الاستعداد الأمي يرقى بالتربية والتعليم جيلًا عن جيل، وإمَّا أن يكون العيب من طريقة التربية والتعليم نفسها، فلا نَتَكَلَّفُ إلا إصلاحها وتوجيهها إلى غرضنا منهما، وعلى كل حال، فإننا إذا جعلنا التربية والتعليم غرضنا ووجهنا إليهما العناية التي ننفقها عن سعة في غيرهما ممَّا لا فائدة فيه قدرنا ولا شَكَّ على خدمة أنفسنا وسلكنا سبيلنا إلى الارتقاء.