المصرية١
سُئل أحد علمائنا البلغاء فقيل له: ما المصري؟ فقال: المصري هو الذي لا يعرف له وطنًا آخر غير مصر، أما الذي له وطنان يقيم في مصر ويَتَّخِذُ له وطنًا آخر على سبيل الاحتياط، فبعيد عليه أن يكون مصريًّا بمعنى الكلمة.
كان من السلف من يقول بأنَّ أرضَ الإسلام وطن لكل المسلمين، وتلك قاعدة استعمارية ينفع التحدي بها كل أمة مستعمرة تطمع في توسيع أملاكها ونشر نفوذها كل يوم فيما حواليها من البلاد، تلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصر القوي الذي يفتح البلاد باسم الدين، ويحب أن تكون أفراده كاسبين جميع الحقوق الوطنية في أي قطر من الأقطار المفتوحة ليصل بذلك إلى توحيد العناصر المختلِفة في البلاد المختلفة حتى لا تنقض أمة من الأمم المفتوحة عهدها ولا تتبرم بالسلطة العليا ولا تتطلع إلى الاستقلال بسيادتها على نفسها، أمَّا الآن وقد أصبحت أقطار الشرق غرضًا لاستعمار الغرب، وانقطع أمل هذه الأمم الشرقية في الاستعمار ووقفت أطماعهم عند حد المُدافعة لا المهاجمة، والاحتفاظ بسلامة كلِّ أمة في بلادها من أن تُمحَى جنسيتها ويفنى وجودها، فإنَّ أكبر مطمع لكل أمة شرقية هو الاستقلال.
أمَّا الآن والحال كذلك فقد أصبحت هذه القاعدة لا حق لها من البقاء؛ لأنَّها لا تتمشى مع الحال الراهنة للأمم الإسلامية وأطماعها، فلم يبق إلا أن يحل محل هذه القاعدة المذهب الوحيد المتفق مع أطماع كل أُمَّةٍ شرقية لها وطن محدود، وذلك المذهب هو مذهب الوطنية.
على هذا النظر، يجب أنْ نُقرِّرَ أنَّ المصريين هم أهل هذا القطر المصري الأصليون وكل عثماني أقام فيه على سبيل القرار واتَّخَذَه وطنًا له دون غيره من الأوطان العثمانية الأخرى، وليس هذا المذهب جديدًا، بل هو مذهب القانون المصري من زمن طويل.
هؤلاء المصريون من حقهم أن يكون لهم الانتفاع بمصر أولًا وبالذات، وعليهم الواجبات القومية المكتوب منها في القوانين والمفروض بالعرف، عليهم أن تكون محبَّتُهم لها خالصة من كل إشراك، وتفانيهم في خدمتها بعيدًا عن أي اعتبار آخر، عليهم أن تدل أقوالهم وأعمالهم على أنَّهم لا دار لهم إلا مصر ولا عشيرة لهم إلا المصريون، أولئك هم المصريون، إلا الذين يظنون أنَّ مصر مستَغَلٌّ وقتي يستغلونه، لهم غُنْمُهُ وليس عليهم غُرْمُهُ، أو الذين يتمثل الوطن في عقولهم بصورة تجارية لا يُخالطها أثر من آثار العواطف القومية، أولئك يصعُبُ على مصر أن تتخذهم أبناءها وتلقي على كواهلهم هَمَّهَا في الحاضر وأطماعها في الاستقبال.
لا يُفْهَمُ مِمَّا أقول أننا ندعو إلى التفريق بين العناصر المؤلِّفة لكتلة السكان المصريين، بل على ضد ذلك ندعو للجامعة المصرية كما دعونا لها من قبل، ندعو الذين يتبرَّمُون بالجنسية المصرية التي كسبوها بالإقامة في مصر، أن لا يَفِرُّوا بأحاديثهم وبأعمالهم من الانتساب إلى هذه الجنسية الشريفة، يقيمون بأجسامهم في مصر وعقولُهم وقلوبُهم تتجه غالبًا خارج حدودها إلى الأوطان التي ضَنَّتْ عليهم بخيرها ولفظتهم من أرضها، ندعوهم أنَّهم ما داموا مصريين أنْ يقطعوا ميولهم عما عدا مصر؛ لأنَّ الوطنية — وهي حب الوطن — لا تقبل الشرك ولأن الرقي المصري محتاج لعقولهم الراجحة وسواعدهم القوية.
سيقولون: إننا بما نقرر لا نأتي بشيء جديد، ولكننا نذكر الأوليات الوطنية التي يجب أن نكون قد فرغنا من أمرها من زمان طويل، ونعم ونحن نقول ذلك مع القائلين، ولكن هذه الأوليات الوطنية لا تزال مع الأسف غير معمول بها، لدينا منها مثالًا شائعًا جدًّا يدل في عمومه على نقص إدراك الوطنية المصرية وانحطاط في المطامع المصرية، فلو رجع كثير مِنَّا إلى أنفسهم ونظروا في أعماق ضمائرهم وراجعوا ما يقولون في مجالسهم وتَدَبَّرُوا أعمالهم، لرأوا أنَّ بعضنا لا يزال يحب الانتساب إلى بلاد العرب أو إلى سوريا أو إلى تركيا دون مصر، وهذا الميل يَبِينُ في القول ويتجسم في العمل، فمن ذا الذي يستطيع أن يُسمِّيَ هذا الميل ونتائجه وفاء لمصر؟ ومن ذا الذي يستطيع من غير تسامح أن يُسمِّيَ من يُحبون غير مصر مصريين؟
مصريتنا تقضي علينا أن يكون وطننا هو قبلتنا لا نوجه وجهنا شطر غيره، ويسرُّنا أن هذه الحقيقة شائعة في الأكثرية المصرية؛ لأنَّ هذا الشيوع سيوشك أن يعم جميع المصريين من غير استثناء.