سر تطور الأمم١
نعم هذه هي رياضتي! كذلك كان جواب هذا النابغة الكبير أحمد فتحي زغلول باشا، وقد دخلت عليه في بيته بهيليوبولس في يوم حر شديد فألقيته يضع شرح القانون المدني وإلى جانبه هذا الكتاب (سر تطور الأمم) وقد فرغ من تعريبه في بضعة أسابيع لازَمَ بيته فيها لمرض أصابه فأشفقت عليه من هذا الشغل الشَّاقِّ في ذلك الجو المُحْرِقِ على ما نَعْهَدُهُ عليه من رقة في الصحة وعمل دائم طول سنة العمل، وقلت له: أبهذا ترتاض يا سيدي الباشا؟ فأجاب: (نعم هذه هي رياضتي)، فما كانت رياضة في الصيف الماضي إلا أن أَخْرَجَ لنا من ثمرة عمله وفكره وقلمه القدير كتابين اثنين: تفسير القانون، لم يظهر بعد، وتعريب (سر تطور الأمم) وهو الذي بين يدينا حين نكتب هذه السطور، فنِعْمَ الرَّجُلُ! ونِعْمَ ما ينفق فيه وقته وصحته؛ لينفع قومه.
عَلِمَ فتحي باشا منذ شبابه الفِضِّيِّ أنَّ رُقِيَّ الأمة لا يكون بالصدفة؛ ولكنَّه جهاد غايته فتح معاقل العلم والتربية وحصول الأمة منها على مقادير تسمح لها بالمزاحمة في معترك الحياة العامة فجعل لا يخلي وقته من كتاب يعربه أو كتاب يضعه في الحقوق إذا فرغ من شغله اليومي، وما عهدناه فيه وانيًا ولا عنه منصرفًا، سواء أكان ذلك أيام يشتغل برئاسة النيابة أم يرأس مجلس القضاء أو كما هو الآن يدير الأعمال ويضع المشروعات في نظارة الحقانية، كذلك يملأ الرجل حياته، وكذلك يعرف كيف ينفع قومه.
يظهر أنَّ فتحي باشا شغوف في المسائل الاجتماعية بأفكار الدكتور (جوستاف لوبون) على الأخص، وله الحق لأنَّ أفكار هذا الكاتب الاجتماعي الكبير هي زُبْدَةُ المعلومات الاجتماعية القديمة، ونتيجة المشاهدات الحديثة، لذلك كان أقرب الطرق لنقل القوانين الاجتماعية إلى مصر هو تعريب مؤلَّفاته ومؤلفات غيره من المعاصرين حتى نستطيع أن نعيش في جيلنا عِوَضًا أن نسبح في المعلومات القديمة غير عاملين بنتائج تطوُّرِهَا من حالٍ إلى حالٍ، ألا ترى أننا أخذنا قواعد القانون الفرنساوي الحاضر، وجعلناها قانونًا لنا من غير أن نبتدئ بمصدرها الأول وهو القانون الروماني، ولو أننا ندرس الآن الطبيعيات والرياضيات على قواعد اليونان القدماء لما كانت دراستنا لها تساوي شيئًا من التعب الذي نصرفه فيها، نحن نأخذ المدنية الحاضرة لنتسلح بقوتها في المزاحمة على البقاء فلنأحذها على آخر طراز لها كما يأخذ فتحي باشا بالقوانين الاجتماعية على آخر تطور لها من قلم الدكتور جوستاف لوبون.
لسنا في مقام تقدير التعريب في هذا الكتاب فإنَّ فتحي باشا معروف القدرة في الكتابة ومشهور الأمانة في النقل، وكتبه في أسواق العلم كاسبة المقام الأول عن استحقاق.
وأما موضوع الكتاب فهو البحث في مذهب المساواة بين الأفراد، وفي طباع الشعوب النفسية أو البسيكولوجية وفي ظهور أخلاق الأمم في عناصر مدنيتها، وفي تاريخ الأمم باعتبار أنَّه مشتق من أخلاقها، والبحث في أثر المبادئ في حياة الأمم، وتأثير المعتقدات الدينية في تطور المدنية، وشأن عظماء الرجال في تاريخ الأمم، ثم البحث في تَحَلُّلِ الخلق وسقوط الأمم. تلك هي موضوعات الكتاب، ونحن من جهة أَنَّنَا أمة ناهضة يفيدنا كثيرًا أنْ نعرف نتائج بحث علماء الاجتماع في قواعد صعود الأمم وهبوطها وعلل قوتها وضعفها، فلا غنى لنا في حالنا هذه عن الاهتداء بهذه البحوث الاجتماعية في عملنا لمصلحة بلادنا، خصوصًا إذا رأينا أنَّ هذه القوانين لا يختلف تطبيقها في بلادنا ولا تختلف نتائجها عن أطماعنا.
وأنَّه لَيَسُرُّنَا أنْ نرى الكتب التي عرَّبها فتحي باشا وعلى الأخص (روح الاجتماع) و(سر تقدم الإنكليز السكسونيين) قد تمثلت تمثلًا حقيقيًّا في العقول المصرية تشف عنه عبارات الكاتبين في الصحف الذين ليس لهم مرانة بقراءة الكتب الاجتماعية باللغات الأجنبية.
نؤكد ذلك لا إظهارًا لاعترافنا بجميل المعرِّب فقط ولا تذرعًا لمطالبته بأن يزيدنا من مؤلفاته ومُعَرَّبَاتِه فإنا نحسبه في غنى عن ذلك، ولكن لنبين بالحس مقدار المنفعة التي نجنيها في تصحيح أفكارنا الاجتماعية من نقل مثل هذه الكتب إلى لغتنا، ولنتخذ هذه المشاهدة دليلًا جديدًا على أنَّ أساس رقينا ليس شيئًا آخر إلا نقل قواعد المدنية إلى بلادنا.
فإلى كاتبنا الكبير فتحي زغلول باشا نقدم التهنئة على أنَّ غرسه قد أثمر، ذلك هو خير جزاء يُجْزَاهُ من يصل الليل بالنهار في نفع قومه من أقوم طريق وهو طريق القلم.