خبز السجون١
هذا الخبز الضار لا ندري أنكالٌ فوق العقاب أريد بأهل السجون، أم محض اقتصاد في النفقات! شكا منه أهل السجن وجِيءَ لنا منه بعينة ذات لون قاتم وملمس خشن تقطع شهوة النهم وتعافها الكلاب، فشكونا منه إلى أولي الأمر فيه، ووعدنا من بضعة سنين بتحسين حاله فخفت صوت الشكوى ثم زال، وكان الناس في اطمئنانٍ على صحة ذلك العدد الكبير من المسجونين، فإذا بنا اليوم نسمع صوت الدكتور نيدل تُرَجِّعُهُ رصيفتنا (البروجريه) إنَّ خبز السجون سم قاتل: قالها الدكتور لا أخذًا بظاهره المؤذي، ولكن بعد بحث وتحليل، قولة تخلع قلوب الناس على أبنائهم، وتفزع منها أهل العدل وأولي الرحمة بعباد الله فلا مناص للحكومة من تغييره في الحال أو تحليله ونشر نتيجة التحليل.
ما سمعنا إلى اليوم في حكم هذا القانون الذي بأيدينا أنَّ الغذاء جزء العقاب يأكله الأثيم سمًّا قاتلًا كما يقول الدكتور، بل العقاب بَيِّن في الحدود وفي حكم القاضي حبس بسيط ومع التشغيل، حبس بالأشغال الشاقة مؤقتًا أو مؤبدًا، ومن عقوبات السجن الجَلد وليس منها الطعام الضار، على أنَّ عقوبة السجن لمن يتعدى حدوده لا لجميع المسجونين على السواء؛ لذلك يستحيل الظن بأنَّ هذا الخبز الذي يَطْعَمُهُ أهل السجن هو العذاب جزاء على سيئة المسيء، إلا أنْ تكون مصلحة السجون تزيد على حكم القاضي، وليس لها إلا تنفيذه هو لا غيره بذاته ووصفه، وما يطعم السجين إلا من غالب قوت أهل البلد، كان يطعم السجناء خبز القمح، فقالوا: بل خبز الذرة هو غالب قوت أهل البلاد، وما كان لنا أنْ نجعل الإجرام ميزة للمجرم على البريء، وفضلًا للسجين يأكل خبز القمح على الطليق يكاد لا يطعم إلا خبز الذرة، قالت مصلحة السجون ذلك عند شكوانا الأولى، فقلنا: تلك كلمة حق وإنصاف لا نخال أحدًا من غير أهل السجن إلا يُقِرُّهَا على ذلك، ولكن خبز الذرة ليس سمًّا قاتلًا، ولا هو بلونه وملمسه وطعمه رديءٌ يعافه الجائع، فماذا عساه يكون هذا الخبز الجديد؟!
حسب الإنسانية عذابًا علمها بأنَّ العدل الذي يؤخَذُ به النَّاس ليس في الحقيقة إلا الطريقة الممكنة للنظام، وأنَّه أشبه بالظلم منه بالعدل المطلق، وأنَّها تعرف أنَّ من السجناء مظلومًا حقيقًا بالتمتع بحريته، ومن الطلقاء أثيمًا أولى به ظلمات السجون.
حسب الإنسانية عذابًا علمُها بأنَّ من الجناة عددًا كبيرًا لا يجوز أن يحمل كل مسئولية جنائية، وأنَّ للانتقال الوراثي والبيئة ودوافع الطبيعة التي لا قبل لأحد بردها، لكل أولئك معظم المسئولية على الجنائية، ومع ذلك هي تعاقِبُ الجاني كأنَّما هو حُرٌّ في تصرفاته يحمل وحده عدلًا جميع نتائجها.
حسب الإنسانية ما هي فيه من القلق الدائم والشقاء المستمر، فما كان أغناها عن هذا القلق الجديد الذي سبَّبَتْهُ مصلحة السجون رجاء اقتصاد تافَهٍ في النفقات أو تهاونًا في معاملة المسجونين بالتي هي أدنى للرحمة والرفق ببني الإنسان.
ليس بالحكومة من حاجة لأنْ نُؤكِّد لها أنَّ هذه التهمة هي أشنع ما رميت به حكومة في الدنيا، ونطلب إلى نظارة الداخلية أنْ تحقق تَصَرُّفَ مصلحة السجون وتنشر على النَّاس العناصر الداخلة في تركيب هذا الخبز ليطمئنوا على أنَّ الرفق والقانون كليهما آخذ نصيبه في السجون.