من أجل ذلك نطلب الدستور١
طلبنا الدستور ونطلبه لتكون الوزارة مسئولة عن تصرفاتها مسئولية، ذات أثر فعلي أمام المجلس لتكون الأمة في أَمْنٍ على حقوقها وحريتها، فلا يُنفَى أحد من السودان من الليمان أو من غير الليمان إلا بحكم قضائي بالأوضاع القانونية.
وطالما قيل عَنَّا إننا نقول بسلطة الأمة لمجرد تقليد الأمم المتمدِّنة، نقول بذلك ونطلب الدستور؛ لنَتَّخِذَهُ زخرفًا، ولنُرضي شهواتنا من العزة المجردة عن كل منفعة حقيقية، يقولون ذلك، ويقولون: إنَّ المصريين في أمانِ الله، لهم حكومة عادلة، وإن كانت غير دستورية بالقانون، إلا أنَّها لفرط عدلها وتناهيها في العفة وبعدها عن الاستبداد كالحكومة الدستورية أو أقوم سبيلًا، فيها منافع الحكومة الدستورية وليس فيها أضرار البطء في سير الأعمال ولا المشاغبات الحزبية التي تؤدي في كثير من الظروف إلى ضرر البلاد، حكومة هي المثل الأعلى للحكومات؛ لأنَّ فيها شدة الحكومة المستبدَّة، وعدل الحكومة النيابية، فماذا ينقص المصريين إلا الفخفخة والمباراة بأنَّهم أمَّةٌ ذات حكومية دستورية، وإلا فإنَّ الأمة المصرية متمتعة فعلًا بنتائج الدستور لها غُنْمُ الحكم العادل وليس عليها منه شيئًا من المسئولية.
لو كان ذلك صحيحًا لرضينا بحالنا كارهين، فماذا يكون شأنُنا والأمثلة اليومية في أعمال الحكومة لا تزيدنا إلا اقتناعًا بالحاجة إلى الدستور، نتخذه، لا زينة في الحياة، ولكن مرقاة للتقدم وأمانًا من الاستبداد.
ها نحن أولاء أمام تَصَرُّفٍ من أحدث تصرفات الحكومة عهدًا وأشدها أثرًا في الطمأنينة على الحرية الشخصية وادَّعَاهَا إلى التظنُّن في تطبيق القوانين، ذلك الممثل هو نفي المسجونين إلى السودان من غير حكم النفي وفي غير حدود القانون.
لو أنَّ السلطة الشرعية والسلطة الفعلية متفقتان على أنَّ السودان جزء غير منفصل عن مصر، وأنَّه لا فرق بين مديرية الخرطوم وبين مديرية أسوان، وأنَّ عقد الاتفاق المبرم بين الحكومة المصرية وبين الحكومة الإنجليزية باطل، وأنَّ السودان ليس وطنًا خاصًّا ومستعمرة بل هو إقليم من الأقاليم المصرية وجزء من الوطن المصري تحت سلطة القانون المصري، لو كان الأمر كذلك لما كان إبعاد المسجونين فيه نفيًا لا تُبيحه قوانين البلاد، وَلَكُنَّا نحن أول المبرِّرين لعمل الحكومة من هذا القبيل، فأما والاتفاق السوداني مُنَفَّذٌ بين الحكومتين، والسودان غير خاضع للقوانين المصرية، فإنَّه لا يجوز اعتبار السودان جزءًا من مصر فيما يضرنا، واعتباره منفصلًا عن مصر فيما ينفعنا.
يُضحكنا أن يرد على بعض الأذهان أن تصرف الحكومة هذا قد يُعتبر سابقة تنفعنا هي ومثيلاتها يوم إقامة الدليل على أنَّ السودان جزء من مصر! كلا إنَّه لا مصلحة للضعيف من مجاوزة الحق إلى ميدان القوة؛ فإنَّ الحق هو قوة الضعيف، فإذا جاوزه إلى غيره، فإنما هو يُجَرِّدُ نفسه من كل سلاحه، ليحارب القوة بالضعف المجرد.
ومهما كانت العيوب الأصلية في اتِّفَاقِ السودان، فإنَّ الواقع أنَّ العمل جارٍ عليه، فإذا كانت الحكومة المصرية توافقنا على أنَّ فيه من العيوب القانونية ما يُبْطِلُهُ وتعدل عن تنفيذه، يصبح قولها مقبولًا في أن إبعاد المسجونين إلى السودان ليس فيه مجاوزة لحدود القانون ولا اعتداء على الحرية وحقوق الإنسان، ونحن نعيذ الحكومة من أن تعمد في تبرير عملها هذا إلى التحدي بهذه النظرية؛ لأنَّه لا يفسر في البيئات المصرية إلا بأنَّه استخفاف بالرأي العام، وحكومتنا أعلى مقامًا وأكثر بصيرة من أن تعرض نفسها إلى مثل هذه النتيجة.
وكل ما يُقال في الموضوع أنَّ الحكومة تَعَجَّلَتْ في الأمر، وفي قدرتها أن تُرجع أولئك المنفيين من السودان احترامًا للقانون، أمَّا نحن من جهتنا فنقول: لو أنَّ لنا دستورًا لما أمكن أن يقع من ذلك شيء.
ومن أجل ذلك نطلب الدستور.