حقوق الأمة١
قد تجاوز الحكومة عندنا حدود القانون، لا حبًّا في إذلال الشعب ولا إظهارًا لعظمتها واستهانتها به، ولكن لما يظهر لها من وجوه المنفعة العامة كأنَّها ترى أنَّ المنفعة هي كل شيء وغير المنفعة لا شيء، صحيح أنَّ منفعة الأمة بوجوهها المادية والمعنوية هي كل شيء؛ ولكن من هو الحَكَمُ مرْضِي الحكومة في تقدير منفعة الأمة؟ تلك هي المسألة، وذلك هو الفرق بيننا وبين الذين يظنون أنَّ حكومة المستبدل العادل هي خير الحكومات.
نقول: إنَّ نظرية الاستبداد بالأمر على مبادئ العدل نظرية خيالية؛ لأنَّه لا يعرف التاريخ حكومة من هذا الصنف، بل كانت الحكومات المرضية كحكومة الخلفاء في صدر الإسلام، بعيد عليها أن تكون مستبدة؛ لأنَّها كانت خاضعة في كل تصرفاتها الاجتماعية والسياسية لكتاب الله وسنة نَبِيِّهِ، ولا نعرف عن الخلفاء الراشدين أنَّهم تَعَدَّوْا في تصرُّفِهِم حدود الله ولا غمطوا حقوق الأمة ولا حقوق الأفراد المقررة في الشريعة الغراء بحجة أنَّهم إنَّما يَتَعَدَّوْنَ حدود الله لمصلحة الرعية؛ لأنه لا مصلحة للرعية من تَعَدِّي الحاكم حدود الشرع، وغير هذه من الحكومات المستبدة ما كانت عادلة، فما أظن مذهب (الاستبداد العادل) في عقول أنصاره إلا أمنية يتمنونها لمثل أعلى من حكومة موحدة الكلمة قوية البطش بعيدة عن الشهوات الحزبية والفردية سريعة الحركة لا بطيئة كالحكومات النيابية، عادلة لا تنحرف عن جادة العقل أبدًا، تصوروا هذا المثل الأعلى فلم يجدوا له صيغة إلا ما سموه (حكومة المستبد العادل)، وها نحن أولاء قد جربنا الاستبداد ورأينا تجارب الأمم في الاستبداد وفي الحكومة النيابية، فخرجنا من هذه الأمثلة نَمْقُتُ الاستبداد ونُحِبُّ الحرية ونَوَدُّ بكل شيء لو نخرج من حكومة الاستبداد إلى الحكومة النيابية أو حكومة الأمة.
هذا هو الواقع من أمرنا ومن أمر كل الأمم، وبعيد أن نرجح ذلك المذهب التصوري الصرف على هذا المذهب، مذهب الحكومات النيابية التي أثبتت التجربة أنَّه أفضل طرائق الحكم.
على أنَّ منافع الأمة ليست كلها منافع مادية، إنَّما الأمة أفراد ليست حياتهم في الحقيقة إلا مشاعر، فهم في الحكومة الاستبدادية في شعور بالذل والعبودية يقبض الصدر ويحبس الملكات ويُكره المرء في عيشته، يكرهه في عيشة ليست له، فإنَّه إنَّما يعيش على خطر أن يصلب أو يُنفَى أو يُجرَّد من ماله لما تراه الحكومة من منفعة الأمة في الصَّلب أو النفي أو التجريد من المال، حياة جربت، فكانت نتيجتها اللازمة جمود القرائح وفساد القلوب، فلو أننا قارنَّا حال الأمم المتمدنة تحت حكومات الاستبداد وتحت الحكومات النيابية، لوجدنا أنَّها تحت الأولى كانت في نوع من الجمود أكبر مظاهر الرُّقِي فيها التقدم الصناعي لإرضاء شهوات الملوك والحكام من الزينة والزخارف في العمارات، أما تحت الحكومات النيابية فكان العقل البشري قد فك من عقله فنشط يأتي بالمعجزات الواحدة تلو الأخرى، والواقع أننا لا نعرف سببًا جديًّا لهذه الروح الجديدة التي تَجَلَّتْ على مدينتنا الحديثة فجعلت الإنسان ملكًا حقيقيًّا يسخر كل قوى الطبيعة لمنفعته حتى حقق خيال الكتاب السابقين، فإنَّ كُتَّاب العصور الأولى كانوا يظنون طيران المرء في الهواء حُلْمًا جميلًا وخيالًا عن الحقيقة بعيدًا، ولكنَّه اليوم وما سبقه من المعجزات الحديثة حقائق راهنة.
وما السبب في ذلك إلا الخلاص من الاستبداد والاستعاضة عنه بحكومات الحرية، فقدنا بالاستبداد ينابيع السرور التي من شأنها أن تنفجر في النفس الإنسانية، وفقدنا به حرية العقل التي أتت للعالم بهذه المعجزات ثم تجيء بعد ذلك في القرن العشرين ونسمح لنفوسنا أن يرد على خاطرنا الرجوع إلى الاستبداد على أي وجه كان؟!
نسوق هذا القول لبيان أنَّ الحكومة الاستبدادية لا تستطيع بحال من الأحوال أن تشعر بمشاعر الأمة لتقدر منافعها، ولذلك فإنَّها مهما كانت بعيدة عن الهوى لا يكون أمرها في التصرف إلا أنَّها تخلص من خطأ لتقع في خطأ مثله.
بعيد علينا أنْ نتهم حكومتنا بشهوة الاستبداد وتجاوز حدود القوانين لإظهار عدم احترامها للرأي العام، ولكنَّها تفعل ذلك اعتقادًا منها — كجميع الحكومات الاستبدادية — بأنَّها انفردت بمعرفة منافعنا دوننا، وعلى هذا النحو جرت في إرسال الليمانية إلى السودان وفي منع الموكب الذي كان يريد الطواف في المدينة لمناسبة عيد الجلوس، ويلقي خطباؤه الخطب في الأحوال العامة، ولَعَلَّ المنع كان مقرونًا بالمجاملة في المعاملة أو بإحلال الإرشاد والنصيحة محل الأمر والإكراه، ولكنَّه على كل حال منع من التمتع بحقوق الأفراد، حتى الاجتماع والسير في الشوارع العامة وحرية الخطابة في جنينة الأزبكية، وذلك كله مجاوز لحدود القوانين.
ليس إرسال الليمانية ولا منع المظاهرة هو وحده الذي يخيفنا على حقوق الأمة، فإنَّ هذه المجاوزة تكررت في هذا الصيف الماضي، فشرعت الحكومة القانون النظامي من غير أن تأخذ رأي مجلس الشورى مجاوزة لحق الأمة الثابت بالقانون القديم، ثم أخذت تصدر القوانين بعد صيرورة القانون النظامي واجب التنفيذ، فأنشأت نظارة الزراعة وأنشأت نظارة الأوقاف، كل ذلك من غير انتظار رأي الجمعية التشريعية، وذلك مجاوز أيضًا للقانون النظامي فلا تكون المسألة إلا مجاوزة تتبعها محاوزة، قولوا ما شئتم من أنَّ تلك المجاوزة في مصلحة الأمة ونحن مع أننا لا نعرف وجه هذه المصلحة، نؤكد أنَّه لا يوجد للأمة في الدنيا مصلحة تعادل مصلحتها من الحرية والمحافظة على حقوق الفرد وحقوق المجموع.
لذلك نرفع للحكومات النصيحة، ونكرر الالتماس بأنَّ الأمة هي وحدها التي تعرف منافعها دون غيرها، وأنَّها مع ذلك لا ترى لنفسها منفعة ألزم لحياتها من الاحتفاظ بالحرية وسلامة حقوق الإنسان.