الكفاءة الاقتصادية١
ليست حاجتنا من إنماء الكفاءات الموصِّلة إلى الاستقلال قاصرة على إنماء الكفاءة الأخلاقية والكفاءة السياسية، بل لا بد لمطلبنا من الرقي إنماء الكفاءة الاقتصادية التي في توفُّرها عزة الأمم وفي فَقْدِهَا الذل وسوء الحال.
منذ فتح للأمة طريق الاقتصاد؛ أي: منذ إلغاء الالتزامات، لم يثبت الفلاح المصري في أية طبقة من طبقاته الثلاث الفقيرة ومستورة الحال والغنية، أنَّه يحفل كثيرًا بمبادئ الاقتصاد، أو أنَّه يُحاسب نفسه حسابًا عسيرًا عندما تحضره شهوة المباراة في عدد الأفدنة أو في الإنفاق على عرس أو على مأتم أو على اكتتاب من اكتتابات الخير والشر، أو في الإدلاء بالمال إلى الحكام في غرض مشروع أو غير مشروع، إنَّه مبالغ في التفاؤل بالخير، فهو لا يحب أن يقيس حاصلات السنة الآتية على حاصلات السنة الماضية، ولا يحب أن يجعل قاعدة قياسه النظر الصحيح المرتكن إلى الحس، ويغفل عمدًا أن يجعل لظرف السوء محلًّا من الملاحظة في تقديره، كان يتزوج كلما تيسر له ذلك، ولا يحفل بما سيفتح عليه تعدد الزوجات من النفقات، كأنَّه اتخذ عند الزمان عهدًا أن يدور دائمًا لمصلحته، أو كأنَّما هو يصرف من تحت السجادة، فهو بذلك المثل الأعلى لمذهب المتفائلين، متفائل غالٍ في التفاؤل إلى ما يكون أشبه بالغفلة منه بالاتِّكَالِ على الله، الواجب عليه أن يقدر ويعمل ويَتَّكِلَ على الله، فهو لا يقدر وإن قدر يخطئ عمدًا في التقدير ويعمل إلى درجة محدودة ويجعل الاتِّكَال يقوم مقام التقدير والعمل جميعًا؛ لأنَّه أقل كلفة وأسهل عذرًا عندما يلوم نفسه أو يلومه غيره على ما فرَّط في واجب الاقتصاد.
تلك هي إحدى المشخصات التي قد يمتاز بها الفلاح المصري عن غيره من الفلاحين في البلاد الأخرى، يقولون: إنَّ من أَخَصِّ الرذائل في أهل الفلاحة الأنانية والبخل والحسد، والظاهر أنَّ الفلاح المصري بريء من هذه الرذائل إلى نقائضها أي إلى فضيلة كرم النفس وكرم اليد وعدم النظر إلى ما في أيدي الناس من نعم الله، بل الظاهر أيضًا أنَّه بالغ حتى أسرف على نفسه فظلمها بعدم المبالاة وظلم قومه أيضًا فألقى البلاد تحت أعباء ثقيلة من الديون، لا فكاك لها منها إلا بعمل عظيم وزمن طويل.
ذلك الذي نُسمِّيه النقص في الشعور بمسئولية الحياة الجديدة التي دخلنا فيها، هو السبب الأول لهذه الضائقة الحائقة بالفلاحين، بل هو السبب الأول للنتائج السيئة التي يجعلها المتطيرون البائسون علامات الخراب، ولكِنَّ المعتدلين في النظر لا يرونها موجبة للقنوط بل موجبة لشدة الالتفات إلى إصلاح النظام الاقتصادي في مصر ونشر المبادئ الاقتصادية والأمثلة الاقتصادية، لنستطيع أن نستفيد في حياتنا المدنية الجديدة من الثروة المالية القدر المناسب لما نستفيده من الثروة الأخلاقية والفنية والعلمية.
ليس من الغالين في سبيل الاقتصاد من يقرن الكفاءة الاقتصادية بغيرها من الكفاءات الأخرى في العناية والرعاية ويجعل العمل لها لازمًا لتربية الأمة بل هو ألزم من العناية بالكفاءات الأخرى؛ لأنَّنا يجب أنْ نعيشَ قبل أن نكون علماء أو فنيين يجب أن نعيش قبل كل شيء، ولقد نرى بالمثل أنَّ العلم يخدم الاقتصاد والفن يخدم الاقتصاد والسياسة لا تستعمل حيلة ولا تثير حربًا إلا لتخدم الاقتصاد.
فعلى أيِّ وجه نظرنا إلى الحركة الاقتصادية في البلاد نجد أنَّ العناية بنظامها في عمومها والإرشاد إلى إنمائها في كل أجزائها ومظاهرها الجزئية، هي من أول الواجبات على كل جمعية تغذي نفسها بآمال الرقي وعزة الاستقلال.
نقول: إنَّ مُداخلة الحكومة في تنظيم الحال الاقتصادية قد لا يتفق تمامًا مع مذهب الحرية، ولكننا نبَّهنا إلى ذلك بأنَّه من غير الممكن أو على الأقل من الصعب أن يُنفذ مذهب من مذاهب الحكم برمته من غير استثناء، على أنَّه في بلادنا التي هي حديثة العهد بالنهضة الجديدة يجب أن تأخذ الحكومة على عاتقها تشجيع الحال الاقتصادية، وإنماء الكفاءة الاقتصادية بحال تتفق في مظاهرها مع روح الحرية، وهذا ميسور مجرَّب في كثير من البلاد.
ولا شك عندنا في أنَّ الحكومة إذا أرادت معالجة الحال الاقتصادية من أصولها، عمدت إلى تشجيع إنشاء بنك مصر والنقابات الزراعية، وذلك هو الحجر الأول في النظام الاقتصادي المطلوب.