النظام الاقتصادي١
الفلاح في ضيق شديد وحاجة مستمرة للاقتراض، والوسطاء والبنوك الصغرى وبقية الشركات ذوات رؤوس الأموال الوهمية تلعب في السوق بثقة البنوك الكبرى وبأموال النَّاس.
والبنوك الكبرى تقبض يدها خشية أنْ تَقَع فيما وقعت فيه من الخسائر التي جرَّتها عليها حوادث الإفلاس المتتالية، فاتَّسع المجال لصغار المرابين في القرى.
ذلك هو نظامنا الاقتصادي إنْ صح أنْ تُسمَّى الفوضى الاقتصادية نظامًا، إنَّها نظام في الجملة عند عدم النظام.
ليست الحكومة وحدها هي المسئولة عن هذه الفوضى؛ لأنَّ عقبة الامتيازات الأجنبية مانعة من توحيد النظام الاقتصادي في مصر على طريقة تَكْفُلُ مراقبة السوق مراقبة فعلية وضرب المثل العنيف بعقاب الذين يأكلون أموال النَّاس ويلعبون بثقة البنوك، وأسهل ما عليهم آخر الأمر أن يقدموا دفاترهم ويشهروا إفلاسهم، ومن الصعب أنْ يُوضع في مصر نظام اقتصادي يكفل حياطة السوق من الخيانة حياطة تامة، إلا بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية وتوحيد سلطة القضاء التي إليها المرجع في جميع الأحوال.
غير أنَّ عقبة الامتيازات ليست هي العلة الوحيدة للفوضى الاقتصادية، بل قد تكون الامتيازات في كثير من الأحيان هي العامل الأول في الوقت الحاضر لثقة الماليين الأوربيين الذين تشتغل أموالهم في مصر، تلك الثقة التي كان من شأنها أن تكون سعدًا على مصر والمصريين، لو أنَّنا أَحْسَنَّا التصرف وراعينا قواعد الاقتصاد واستطعنا أن نتقي شر الوسطاء والبنوك الصغيرة، ليست عقبة الامتيازات مانعة من إيجاد نظام اقتصادي إن لم يكن كاملًا، فليكن مخففًا للفوضى الاقتصادية، كافلة للفلاح أن يستدين بفائدة معقولة في فصل العسر استدانة مناسبة لحاله من الثروة حتى لا يقع في الإسراف والفقر المستديم.
يتوقف النظام الاقتصادي المحلي على استعداد من جانب الفلاحين وإرادة صحيحة من جانب الحكومة لحمايتهم، بشرط أن تكون هذه الإرادة خالصة من كل الاعتبارات التي خالطتها في الماضي عند تفكير الحكومة في إنشاء بنوك أهلية يكون لها من الامتياز ما للبنوك الأهلية في البلاد المتمدنة، وعليها من الواجبات ما على تلك البنوك.
أما استعداد الفلاحين للانتفاع من النظام الاقتصادي، فذلك رهن بالتربية الاقتصادية، وأفضل أنواعها أثرًا في بلادنا هو النقابات الزراعية الحرة التي ليس للحكومة في أمرها إلا حمايتها وتشجيعها من غير أن تكون تابعة للحكومة تَبَعِيَّةً قريبة؛ لأنَّ النقابة إذا كانت تحت رئاسة المدير أو المأمور يصعب جدًّا أن تأتي بالغرض المقصود منها، تتعطل فيها هِمَّةُ الأعضاء، ويقتل فيها روح الاستقلال، ويتطرق إليها من كل ناحية أغراض المحسوبية، ويصبح الاشتراك في رأس مال النقابة أشبه بضريبة لا يأتيها الشريك إلا كارهًا، ولا يدفع من ماله لها إلا من يكون له حاجة يبغي قضاءها بسلطة الحاكم الإداري، وتكون النقابة بذلك بؤرة جديدة لإفساد الأخلاق كبقية الاكتتابات التي يقوم بها الحكام الإداريون.
وفوق ذلك فإنَّ الحاكم الإداري خلو في الغالب عن المعلومات الاقتصادية، ولكنَّه بوصف أنَّه حاكم يجب أن يُطاع أمره وينفذ رأيه، نقابات من هذا النوع أولى بها أن لا تكون، إنَّما تنفعنا النقابات الحرة التي يقوم بها الناس بأنفسهم لا بأمر المدير، ويديرونها بأنفسهم تبعًا للنظام المرسوم والقانون المشروع لا بواسطة المدير، وكل ما على الحكومة الإرشاد والتضحية وتسهيل السبل لهذه النقابات في معاملة البنك، فإنْ كانت المراقبة لازمة فلتكن على الحسابات بمعرفة العمال الماليين لا الحكام الإداريين، هذا النوع من النقابات هو وحده الذي يقوم بأمر التربية الاقتصادية العملية ويجعل الفلاحين مستعدين للانتفاع ببقية النظامات الاقتصادية في البلاد.
أشرنا إلى إرادة الحكومة إرادةً صحيحة خيرَ الفلاحين من الجهة الاقتصادية، ونعني بالإرادة الصحيحة أن يكون عملها كله أو جُلُّه موجَّهًا لمصلحة الفلاح غير ملحوظ فيه ترويج مصالح أرباب الأموال في البنوك التي اعتبرتها وطنية، وليس فيها من الوطنية إلا الاسم المجرد، فلو أنَّ الحكومة أرادت أن تجعل للمصريين صوتًا في السوق المالية في بلادهم لاستعاضت بالاكتتابات التي يقوم بها عمالها كل يوم بطريق التوريط والتجبية وشبه الإكراه لمشروعاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، باكتتاب حُرٍّ عام تحت حمايتها لإنشاء بنك وطني تعطيه من الامتيازات ما أعطت للبنك الأهلي وللبنك الزراعي، ليكون هو المشجِّع للنقابات الزراعية والمشروعات الاقتصادية الوطنية، ولم يَفُتِ الوقت على ذلك؛ فإنَّ الحكومة الحاضرة تستطيع أن تصحح خطأ الحكومة الماضية ولعلها فاعلة؛ لأنَّها ستعرض على الجمعية التشريعية قانون النقابات الزراعية عند افتتاحها، خطوة حسنة في سبيل الإصلاح، ولكنَّها لا تتم هذه الخطوة ولا تأتي بالمقصود منها إلا إذا قرنتها الحكومة بالمساعدة الفعلية لإنشاء بنك مصري بالمعنى الصحيح، وفي هذا المقام تصريح بأنَّ كثيرًا من أولي الأموال في مصر مستعدون تمام الاستعداد لتنفيذ قرار «المؤتمر المصري» والقيام بإنشاء البنك في حجر الحكومة وتحت إشرافها ومساعدتها.
وإنا نُسارع إلى التصريح بأنَّ البنوك الكبرى في مصر تستقبل هذا المشروع بعين الرضى وتساعده، فقد حَادَثَنَا بعض مديري أكبر البنوك في مصر في هذا المشروع الذي تحلم البلاد بتحقيقه من أكثر من ثلاثين عامًا، فأظهروا لنا استعدادًا تامًّا لمساعدة المشروع ما دام حقيقًا بالثقة، والواقع أنَّ مصر لا تزال قُطرًا بِكرًا من حيث الاستغلال تحتمل المزاحمة المالية في سوقها عشرات من البنوك الجديدة، بل لا يزال ينقصها المال اللازم لإحياء الأرض الموات وتجفيف المستنقعات والبحيرات وإعدادها للزراعة واستخراج ما في بطن الأرض الجبلية من كنوز الرصاص والنحاس والبترول، وكل هذه المشروعات لا تتحقق إلا بأموال البنوك، فالقول بأنَّ المزاحمة المالية لا تمكن بنكًا مصريًّا وطنيًّا برؤوس أموال كلها أو جلها مصرية من الوجود والبقاء، قول لغو لا محل له من الاعتبار ولا يتوقف هذا المشروع إلا على الشروع فيه تحت حماية الحكومة وبمساعدتها.
إنا إذا شرعنا في إنشاء البنك الوطني والنقابات الزراعية، أمكننا أن نُخفف وطأة الفوضى الحاصلة في مصر، وأن نوجد في البلاد حركة اقتصادية ذاتية يمكن تنظيمها بغاية السهولة.