جني القطن١
لا أجمل من العمل إلا جني ثمراته، وما أسعد صباح الجنائين! يتنادَوْن فيجتمعون، ويتفقد بعضهم بعضًا ثم يسيرون، يمشون في طلعة الشمس جماعات جماعات مستبشرين رجالًا ونساء فتيانًا وفتيات صبيانًا وصبيات، يأخذون معهم مواشيهم تأكل تحت أعينهم من حشيش الأرض أو من خف الذرة المجاورة لمزرعة القطن، تتبعهم كلابهم أيضًا، فتكاد العائلة لا تخلف في البيت إلا من تصلح لهم الطعام، ترى الأطفال وقد خفت من الفرح جسومهم الصغيرة فهي تنط من هنا إلى هنا، وتثب وتلتفت، يضحكون من لا شيء، يغنون طَرِبين بأنَّهم تركوا المألوف من تَفَرُّقِ العائلة بكرة النهار كل إلى عمله بعيدًا عن الآخر، كبار العائلة إلى المزارع، ونساؤها إلى الأعمال المنزلية، وصغارها بعضهم يذهب إلى المكتب وبعضهم يسرح بالماشية، تنسخ هذه العادة يوم جني القطن، إذ يذهب جميع أفراد العائلة بجملتهم إلى المزرعة، يتسابقون في الجني، ويتبارى فتياتهم في الغناء، وتنافسهم في إجادة النكت الجميلة يضحك منها الجميع.
إنَّ هذا المنظر الجميل لأولئك الرفقات المستبشرة، لا تدع محلًا للشك في أنَّ جني القطن هو موسم سعادة الزارعين.
يمشي رب العائلة إلى الغيط أمام عائلته وقلبه مملوء بالرجاء، يرجو أن تكون ثمرة عمله السنوي وفيرة يُؤدِّي المال ويدفع الإيجار ويبقى له من ثمن القطن ما يفي بنفقاته، وكان هذا السرور الداخلي يطبع على وجهه سيما الرضا ويفيض على أخلاقه سعة الصدر، ينظر إلى أهله وذويه نظرات المَوَدَّة حتى إذا أراد حثهم على العمل لا يكون صيغة الزجر إلا صيغة تلطُّف وتشجيع، إذ يدعو لهم بالعافية فيقول (عوافي).
شغل المزارع كله صامت أو قليل الجلبة بطيء الحركات له مسحة من الوقار وعليه أمارات الصبر وسكون الحزن، إلا جني القطن، فإنَّه كثير الحركة متوالي الجيئات والروحات خفيف الحمل يتخلله طيب الغناء وعذوبة اللحن حينًا، وحديث الجنائين بعضهم لبعض حينًا آخر، يتجلى فيه الفرح بالجماعة، وإنَّ للجماعة لروحًا عامة تفيض على أفرادها حتى إذا مررت بهم من على الطريق، وليس لك في القطن فتيل ولا من ثمنه مليم أفاضوا عليك من فرحهم فشاركتهم فيما هم فيه، ولست أعرف منظرًا أروح للنفس من منظر الراضين.
إنْ لم يكن القطن جميلًا عند أهل المعرفة بالجمال، فإنَّ جَنْيَهُ من أجمل ما يكون، ومع ذلك فهو جميل، إنَّه نافع وكثيرًا ما يكون الشعور بالجمال غير خالص من دواعي المنفعة، كثيرًا ما يكون الجميل هو النافع، بل ذهب بعض المتعرفين جمال الأشياء إلى أنَّ أصله في النفس المنفعة لا غيرها، على أنَّ مزرعة القطن المحصورة في ذلك الإطار من التيل القائم عليها قيام السياج على البستان، ليست إلا لوحة من ألوان الطبيعة الجميلة عند القلوب التي تُقدِّر الجمال، لو أنَّ الجمال معروف الأوضاع ومحل للدليل والبرهان، لقلت كيف لا يكون جميلًا مجموع تلك الشُّجيرات مشتبكات على مسافات متساوية سيقانها حمر وأوراقها صفر وخضر وَمُدْهَامَّة وعلى غصونها المترنحة، أبراج القطن الأبيض … إلخ.
ولكن الجميل هو ما ترضى به النفس وتحبه كذلك، إن شئته روضًا فهو كذلك، وإن شئته غلة فهو كل ثروة البلاد، جنيه الظاهرة الاقتصادية الكبرى في مصر، وإلى حاصلها تُنسب الشدة والرخاء طول العام، يظن الثقاة من المزارعين أنَّ حاصل هذا العام لا يصل بحال سبعة الملايين، وقد كان في العام الماضي وشيك الثمانية؛ لهذا التقدير ولتقديرات أمريكا، يقولون: إنَّ القطن سيزيد ثمنه زيادة تُعوِّض بعض الخسارة في كميته، ولست أظن هذه التقديرات العابثة محجبة عن أدمغة أرباب المزارع، إنَّهم يُدركونها وهم وسط أولادهم في الجني فتثقل رؤوسهم، فيطرقون بعض الشيء، وكأنِّي بربِّ المزرعة استخفت من حواليه أصوات ذويه الجنائين حين يرهقهم حرُّ الشمس في الظهيرة يكثر تفكيره في تقدير حاصل زراعته، وتتمثل أمامه شخوص الدائنين المُلْحِفِين في الطلب فيطرق، ولكنَّه لا يلبث أن تحجب الشمس غمامة فيمسح الأولاد جباههم بأردانهم، ويعودون إلى غنائهم فينبهوه ويشاطرهم ما هم فيه من الغبطة، وكأنِّي به يقول وهو يطرد عنه هَمَّ الوفاء: خَلِّنَا نأخذ بطرف من سرور الحياة ولهوها فسرورها قليل وندع الهم إلى ساعة الوزن وتصفية الحساب.