زهر الربيع١
ليس كل الحياة شقاء للسعي إلى مال ينفق أو يدخر وإلى مباراة في رفعة المناصب، بل الحياة أيضًا استمتاع بجمال الطبيعة، فكرة خفيفة الوزن تافهة القيمة عند أهل الوقار، أولئك الذين يرون ركض الدابة ينافي الوقار، ولعب الكرة يذهب بالوقار، ومعظم أسباب التربية البدنية لا يتفق على ما يجب للرجال من إطراق طويل وسكون عميق وجمود على المأثور عن السلف الصالح القريب، كأنَّ الأمة يجب أن تكون كلها من أهل الرياضة والكشف، يضحون قوة البدن لصفاء الروح حتى تنزع بجهتها القدسية عن هذا العالم السفلي إلى الملكوت الأعلى، ولو أنَّهم أرادونا على احتباس النفس عن لهو الدنيا ولعبها إلى العمل للآخرة ونعيمها، لكان فيما يهدون إليه من التقليد مغنم.
ولكنَّ الحال قد تبدلت إلى صرف النظر عن جمال الطبيعة ونعيم الحياة الإنسانية إلى أخس أطراف هذه الحياة: الحرص على الخدمة في الحكومة، والحرص على فقد الحرية في كل شيء حتى في اللذات البريئة، حتى في الاشتغال بتربية ملكة الجمال، حتى في العناية بغرس الأشجار وتوليد الأزهار، الحرص على فقد الصراحة في كل شيء حتى في الأعمال الشخصية، تقف عن الظهور بتعرف الجمال حيث كان، وعن إعلان حب الجمال، وعن الظهور بحب الأزهار واستقبال الربيع بالتحية والارتياح، بديل ذلك استغراق في اللذات المخجلة بشرط أن تكون خفية حتى لا تجرح قدسية الوقار.
ربِّ! كل ما خلقت تابع لقانون التطور حتى المعاني والأفكار، فالذين تجرَّدُوا من مزايا السلف الصالح في علم يُفيد وجد ممتع وسيرة طابت ظواهرها وبواطنها قد اكتفوا من أسلافهم بتقليد شيء واحد لم يقدروا إلا عليه وهو صورة ظاهرة من الإطراق لا في التفكير والسكون، بل هو مظهر يقتضيه الوقار؟ فإذا تحركت النفس الإنسانية في هذا الجسم الوقور فإنَّما حركتها إلى الشهوات السافلة المنحطة دون الشهوات العالية من اغتباط حقيقي بجمال الطبيعة، وتقدير صحيح لما أودع في الفنون من كنوز الجمال، ذلك جيل ذهب بأهله، ولنا جيل ناهض يجب أن يؤلِّف بين علمه وبين نزعات نفسه، ويضيف إلى تثقيف عقله تهذيب مشاعره، ويطرح جانبًا كثيرًا ممَّا ورثناه من ماضينا القريب، فيعمل للمزاحمة العالمية ليكسب قسطه تحت السماء من مال يسد الحاجة وقوة تحمي الوطن ولذة بجمال الطبيعة تعين على فهم الحياة، فيُعْنَى بمظاهر الجمال كما يُعْنَى بزراعة القطن؛ لأنَّ الحياة ليست شقاء خالصًا بل هي يومان: يوم للشقاء ويوم للنعيم، ويأخذ بنصيب من الالتفات للظواهر الطبيعية كما يحرص على الاستفادة من الظواهر الاجتماعية والحوادث الاقتصادية.
ها نحن أولاء أمام الربيع، أزهاره تنسم أنفاسها، وتأخذ بأبصارنا ألوانها، وتحرك جدتها عواطف الحنان في قلوبنا كأنَّها بعض أبنائنا إن مرآها ورياها ينقلان نفوسنا من عالم الشقاء إلى عالم النعيم، ومن أرض الحقيقة الواقعة إلى سماء الخيال الجميل، لا أظن هذا الانتقال وهميًّا لا وجود له، كلا إنَّه صحيح واقع فإننا نشعر بوجوده في قلوبنا ونرى آثاره على وجوهنا، إنَّ خيال اللذة البريئة موجود وأثره سعد، ولعله هو نعيم الحياة، فأهلًا ومرحبًا بأزهار الربيع.
ليس جديدًا علينا بني الإنسان أن نُعلن مشاعر الاغتباط، ونُسدي عبارات الإعجاب إلى الربيع وجماله، فقد كان ذلك في كل زمان موضوع وصف شعرائنا، والمحرك الأول لعواطف المُحِبَّةِ في صدورنا، وكأنَّ الزهر رسول المودة وهدية الحب بين الأنفس الحساسة التي بينها وبين الجمال نسب متين.
كُنَّا ولا نزال نبتهل إلى الربيع وننسب بالطبيعة؛ فهل لها أذن تسمع تغنينا بجمالها؟ أم هي صَمَّاءُ صادرة عن قوات أزلية سائرة إلى مصير مرسوم لا تلقي نظرة على سكانها المفتونين بزخرفها الفانين في حبها، وهم في الحقيقة ضحايا عدوانها، ليكن كل ذلك، ولكن ذلك غير مانع لنا من أن نستوفي قسطنا من الحياة على أكمل ما نستطيع، نبلو مرها ونطعم حلوها، ننسى آلامنا فيها بما يسحرنا من جمال أزهار الربيع.
علموا أبناءكم حب الجمال، ونموا في نفوسهم ملكته، ليعلموا أنَّ الحياة ليست جحيم الهموم، ولكن فيها لمحات من النعيم، إنَّ حبَّ الجمال يرفع النفس إلى لذائذ أطهر طبعًا وأسعد أثرًا وأبقى في العواطف نتيجة من كل ما عداه من لذائذ الحياة، وإنَّ أبسط موضوع لتعرُّف الجمال والمران به أزهار الربيع.