الفصل الأول
اتصال العلماء المصريين بعلماء الحملة الفرنسية وأثر هذا الاتصال
التقابل بين جيش المماليك والفرنسيين، أعداء الفرنسيين في مصر، فشل الحملة
حربيًّا، جهود علماء الحملة، موقف الشعب منهم، موقف علماء مصر منهم، الشيخ
عبد الرحمن الجبرتي يصف المجمع العلمي، اختياره عضوًا في ديوان «مينو»، الشيخ
إسماعيل الخشاب، علاقته ببعض مستشرقي الحملة، اختياره كاتبًا ﻟ «سلسلة التاريخ» في
ديوان «مينو»، أسطورة إصدار صحيفة عربية في عهد الحملة ودحضها، الشيخ حسن العطار،
عنايته بعلوم غير تلك التي كانت تُدرس في الأزهر، اتصاله ببعض الفرنسيين، إفادته
منهم ولهم، أثر هذا الاتصال في المشايخ الثلاثة، مطبعة الحملة.
***
كان الأمر في مصر قد انتهى بقوتَيْن من ثلاث — وهما قوة الباشا وقوة
الديوان — إلى الضعف العام، والانحلال الشامل، كما انتهى بالقوة الثالثة — وهي قوة المماليك
— إلى نوع من الانتعاش والصحوة؛ لهذا نجد أن هذه القوة هي التي تتولى أمر الدفاع عن مصر
أمام خطر هذا الغزو الجديد، ولكن المماليك اصطدموا هذه المرة بغرب غير ذلك الذي عرفوه
في
الحروب الصليبية، وسرعان ما رأوا أن لا أساس لما زعموا «من أنه إذا جاءت جميع الإفرنج
لا
يقفون في مقابلتهم، وأنهم يدوسونهم بخيولهم.»
١ فكان هذا الجيش الجديد الآتي من الغرب الجديد يتبع نظمًا جديدة، ويستعمل أسلحة
جديدة، ويقوده شابٌّ يمتلئ شجاعةً وإقدامًا وأملًا، فلم يكن من الممكن، أو من المحتمل،
أن
تقف أمامه فلول المماليك — رغم شجاعتهم الشخصية — بنظامهم الفروسي القديم، وخططهم العتيقة
—
خطط الكر والفر — وسلاحهم البالي من سيوف ورماح ونبال … إلخ.
هُزمت جيوش المماليك، وتفرقت جنودهم شيعًا تلوذ بأذيال الفرار شرقًا نحو الشام، وجنوبًا
نحو أقاصي الصعيد وبلاد النوبة والسودان؛ ولهذا نستطيع أن نقرر أن الحملة نجحت من الناحية
الحربية، ولكنه كان نجاحًا وقتيًّا لم يلبث أن انكشف عن صعوبات جديدة، يقوم بها عصبة
من
الأعداء: إذ لم يكن من اليسير أن تتنازل فلول المماليك عن غنيمتهم بهذه السرعة، ولم يكن
من
السهل أن يترك السلطان مصر — درة تاجه — للفرنسيين دون أن يناضل في سبيلها — ولو بجهد
المقل
— ولم يكن من الجائز عقلًا في شريعة إنجلترا أن تلقي لفرنسا الحبل على الغارب تستولي
على
هذا الشريان الذي يصل بين قلبها وبين أطراف الإمبراطورية في الشرق، ولم يكن من المقبول
أخيرًا لدى سكان مصر أن يضع هؤلاء الفرنج أيديهم على بلادهم، وهم هؤلاء الكفرة الذين
يشربون
الخمر، ويراقصون النساء، ويرتكبون المنكر عيانًا، وهم الذين يقيدون من حرياتهم يومًا
بعد
يوم فيمنعونهم الدفن في منازلهم، ويأمرونهم بكنس الشوارع ورشها وإنارتها ليلًا، ويهدمون
أبواب حاراتهم، ويزيلون أسقف أسواقهم، ويسجلون مواليدهم وموتاهم، ويفرضون عليهم الضرائب
… إلخ.
٢
وثارت هذه القوى جميعًا ضد الفرنسيين، ولكلٍّ بغيتها وأمنيتها، وظلت الحملة الفرنسية
سنوات ثلاثًا تناضل نضالًا عنيفًا حتى عجزت فخضعت ثم خرجت.
غير أن فريقًا آخر من رجال الحملة نجح نجاحًا مشكورًا في مهمته التي أُلقيت على عاتقه،
ذلك هو فريق العلماء المرافقين للحملة، فقد كان الجنود يحاربون ويناضلون في الصحراء،
وفي
المدن، وفي القرى، وهؤلاء العلماء عاكفون على أبحاثهم وآلاتهم وكتبهم، يدرسون تربة مصر،
ونباتاتها، وحيوانها، وطيرها، ونيلها، ومعادنها، وطرقها، وأسواقها، وصناعاتها، ومجتمعاتها،
وآثارها … إلخ، ثم يسجلون في دفاترهم نتائج أبحاثهم هذه كلها، لتكون الرصيد المختزن للمؤلف
العظيم الذي يضعونه عن مصر بعد خروج الحملة، وهو كتاب وصف مصر Description de l’Egypte.
وكان الناس في مصر يشاهدون هؤلاء الفرنسيين يتنقلون في القرى والمدن يقلبون أنظارهم
في كل
شيء ويُخضعون كل ما يرون ويشاهدون لبحثهم وآلاتهم، ويسألون ويقيدون، فلفت أنظارهم هذا
الفضول، ولكنهم لم يلبثوا أن انصرفوا عن هؤلاء الفضوليين وجذبتهم شئون حياتهم
الخاصة.
هذا كان موقف عامة مصر من علماء الحملة، أما موقف علماء مصر فكان مغايرًا لهذا، فقد
اتصلت
الأسباب بينهم وبين رجال الحملة بعد أن هدأت المعارك الأولى وأسفرت عن فرار المماليك
الذين
كانوا سوط عذاب مشهرًا على المصريين منذ أمد طويل، فهم من جانبهم رأوا أن حماتهم قد تخلوا
عنهم وفروا هاربين، ونابليون من جانبه كان يرى كما قال في مذكراته أنه لكي يسوس «هؤلاء
الناس — أي المصريين — لا بد من وسطاء يسعون بيننا وبينهم، وكان لا بد أن نقيم عليهم
رؤساء
وإلا أقاموا رؤساءهم بأنفسهم، وقد فضلت العلماء وفقهاء الشريعة؛ لأنهم: أولًا كانوا كذلك
—
أي رؤساء بطبيعتهم — وثانيًا لأنهم كانوا مفسري القرآن، ومعروف أن أكبر العقبات تنشأ
عن
أفكار دينية، وثالثًا لأن للعلماء خلقًا لينًا، ولأنهم — دون نزاع — أكثر أهل البلاد
فضيلة،
لا يعرفون كيف يركبون حصانًا، ولا قبل لهم بأي عمل حربي، وقد أفدت منهم كثيرًا، واتخذت
منهم
سبيلًا للتفاهم مع الشعب، وألَّفت منهم الديوان.»
٣
وتكوَّن الديوان من أظهر مشايخ المصريين، يرأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي، وكان للديوان
شأنه الخاص — من الناحية السياسية — في حكم مصر تحت نفوذ الفرنسيين.
وكوَّن علماء الحملة مجمعهم، وأقاموا عُددهم وآلاتهم، وأعدوا مكتبتهم، وتوفروا على
أبحاثهم، وجذب هذا كله بعض المستنيرين من علماء مصر كمؤرخ مصر وقتذاك الشيخ عبد الرحمن
الجبرتي، بل إنهم «كانوا إذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول
إلى
أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصًا إذا رأوا
فيه
قابلية، أو معرفة، أو تطلعًا للنظر في المعارف بذلوا له مودتهم، ومحبتهم، ويحضرون له
أنواع
الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير، وكرات البلاد، والأقاليم والحيوانات، والطيور والنباتات،
وتواريخ القدماء، وسير الأمم، وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم، وحوادث أممهم
مما
يحير الأفكار.»
٤
وطاف الجبرتي بحجرات المجمع وأروقته، ووقف عند كل مشهد جديد، ولدى كل كتاب طريف مشدوهًا
مفتوح الفم من الدهشة والعجب، ولم يسعه وهو المؤرخ الثقة، إلا أن يثبت وصف ما رأى في
تاريخه
معلنًا دهشته وإعجابه وعجزه — وهو كبير من علماء مصر وقتذاك — عن فهم هذه الآلات والعدد،
فهو قد نشأ بالأزهر وتلقى فيه العلم، والنمط الذي كان يتبعه طلاب العلم في مصر وقتذاك
ساذج
بسيط، وإن كان متعبًا في نفس الوقت، فالطالب يجلس في المسجد أو في داره، وينحني على كتاب
مخطوط كلما أراد أن يقرأ، فإذا دخل الجبرتي بعد ذلك مكتبة المعهد وشاهد نظام المطالعة
الجديد الدقيق أُعجب به ووصفه بقوله: «وفيه جملة كبيرة من كتبهم، وعليها خُزان ومباشرون
يحفظونها ويُحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها موادهم، فتجتمع الطلبة منهم
كل
يوم قبل الظهر بساعتَين ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسي منصوبة
موازية لتختاة عريضة مستطيلة، فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها فيحضرها له الخازن،
فيتصفحون ويراجعون ويكتبون، حتى أسافلهم من العساكر.»
٥
ثم طاف الجبرتي بالقسم الخاص بعلماء الفلك من المجمع، وشاهد ما فيه من آلات عجيبة
وصفها
بقوله: «وعند «توت» الفلكي وتلامذته في مكانهم المختص بهم الآلات الفلكية الغريبة المتقنة
الصنعة، وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب، الغالية الثمن، المصنوعة من الصفر
المموه، وهي تُرَكَّب ببراريم مصنوعة محكمة، كل آلة منها عدة قطع تُركب مع بعضها البعض
برباطات وبراريم لطيفة بحيث إذا رُكِّبَت صارت آلة كبيرة، فأخذت قدرًا من الفراغ، وبها
نظارات وثقوب ينفذ النظر منها إلى المرئي، وإذا انحل تركيبها وُضِعَت في ظرف صغير. وكذلك
نظارات للنظر في الكواكب وأرصادها، ومعرفة مقاديرها وأجرامها وارتفاعاتها، واتصالاتها
ومناظراتها، وأنواع الساعات التي تسير بثواني الدقائق الغريبة الشكل الغالية الثمن.»
٦
وترك هذا القسم إلى قسم التصوير فشاهد هناك المصورين يصورون الأشخاص والأشياء جميعًا،
ووصفه بقوله: «وأفردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السناري، وهم المصورون لكل شيء،
ومنهم
«أريجو» المصور، وهو يصور صور الآدميين تصويرًا يظن من يراه أنه بارز في الفراغ مجسم
يكاد
ينطق، حتى إنه صوَّر صورة المشايخ، كل واحد على حدته في دائرة، وكذلك غيرهم من الأعيان.
وعلقوا ذلك في بعض مجالس صاري عسكر، وآخر في مكان آخر يصور الحيوانات والحشرات، وآخر
يصور
الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها.»
٧
ثم عرج بعد ذلك على قسم الكيمياء والطب فوصفه بقوله:
«وسكن الحكيم «رويا» ببيت ذي الفقار كتخدا … ووضع آلاته ومساحقه وأهوانه في ناحية،
وركب
له تنانير وكوانين لتقطير المياه والأدهان واستخراج الأملاح، وقدورًا عظيمة وبرامات،
وجُعِلَ له مكانان أسفل وأعلى، وبهما رفوف عليها القدور المملوءة بالتراكيب والمعاجين
والزجاجات المتنوعة. وبها كذلك عدة من الأطباء والجراحية وأفردوا مكانًا في بيت حسن كاشف
جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي، وبنوا فيه تنانير منهدمة، وآلات تقاطير عجيبة الوضع،
وآلات تصاعيد الأرواح وتقاطير المياه، وخلاصات المفردات، وأملاح الأرمدة المستخرجة من
الأعشاب والنباتات، واستخراج المياه الجلاءة والحلالة. وحول المكان الداخل قوارير وأوانٍ
من
الزجاج البلوري المختلف الأشكال والهيئات على الرفوف والسدلات، وبداخلها أنواع
المستخرجات.»
وقد أُجريت أمام الجبرتي في هذا القسم بعض التجارب الكيميائية البسيطة التي يقوم
بإجرائها
تلميذ المدارس الثانوية عندنا اليوم ولكنها أدهشت عالمنا الكبير وحيرت فكره، فإنه يقدم
لهذه
التجارب قبل وصفها بقوله: «ومن أغرب ما رأيته في هذا المكان …» ثم يصف ما رأى فيما يلي:
«أخذ بعض المتقيدين زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئًا
في كأس، ثم صب عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلا الماءان، وصعد منهما دخان ملون حتى انقطع
وجف ما في الكأس، وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا أخذناه بأيدينا،
ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرًا أزرق، وبأخرى فجمد حجرًا أحمر ياقوتيًّا.
وأخذ
مرة شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض ووضعه على السندال، وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له
صوت
هائل كصوت القرابانة انزعجنا منه، فضحكوا منا. وأخذ مرة زجاجة فارغة مستطيلة في مقدار
الشبر
ضيقة الفم، فغمسها في ماء قراح موضوع في صندوق من الخشب مصفح الداخل بالرصاص، وأدخل معها
أخرى على غير هيئتها، وأنزلهما في الماء، وأصعدهما بحركة انحبس بها الهواء في أحدهما،
وأتى
آخر بفتيلة مشتعلة، وأبرز ذلك فم الزجاجة من الماء، وقرب الآخر الشعلة إليها في الحال
فخرج
ما فيها من الهواء المحبوس وفرقع بصوت هائل أيضًا. وغير ذلك أمور كثيرة، وبراهين حكيمة
تتولد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبائع، ومثل الفلكة المستديرة التي يديرون بها الزجاجة
فيتولد من حركتها شرر يطير بملاقاة أدنى شيء كثيف ويظهر له صوت وطقطقة، وإذا أمسك علاقتها
شخص ولو خيطًا لطيفًا متصلًا بها، ولمس آخر الزجاجة الدائرة أو ما قرب منها بيده الأخرى،
ارتج بدنه وارتعد جسمه، وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة سريعة، ومن لمس هذا
اللامس، أو شيئًا من ثيابه، أو شيئًا متصلًا به، حصل له ذلك، ولو كانوا ألفًا أو أكثر
…»
٨
وقد تعمدت أن أنقل هذه النصوص الطويلة عن وصف الجبرتي لأقسام المجمع لأبين الفارق
العظيم
الذي كان يفصل حينذاك بين عقلية الغرب وعلوم الغرب — يمثلها علماء الحملة — وبين عقلية
مصر
والعلوم في مصر — يمثلها كبير من علمائها — ويبرز هذا الفارق اعتراف الجبرتي في تعليقه
على
هذا الوصف كله، فإنه يقول: «ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة، «ينتج منها نتائج لا
تسعها
عقول أمثالنا».»
وبمضي الوقت قويت الصلة بين الجبرتي ورجال الحملة الفرنسية في مصر، وكان الديوان
قد عطل
إبان المفاوضات بين الفرنسيين والأتراك لعقد معاهدة العريش، فقد كان الفرنسيون معتزمين
الرحيل إذا نُفِّذَت المعاهدة، ولكن المعاهدة نُقضت، ومع هذا ظل الديوان معطلًا، ولم
يفكر
كليبر في إعادته، فلما قُتل وانتقلت القيادة إلى «مينو» أعاد الديوان في صورة غير صورته
أيام نابليون، وليس فيه كما يقول الجبرتي: «خصوصي وعمومي … بل هو ديوان واحد.»
٩ وكونه من «تسعة أنفار متعممين لا غير، وليس فيهم قبطي، ولا وجاقلي، ولا شامي
…»
٩ واختير مؤرخنا الشيخ عبد الرحمن الجبرتي عضوًا في هذا
الديوان وأشار إلى نفسه عند ذكر أسماء الأعضاء بقوله: «وكاتبه»
٩
بعد ذكر اسم الشيخ الصاوي مما جعل البعض ينكر اختياره عضوًا في الديوان ويظن أنه يقصد
بلفظ
«كاتبه» كاتب الشيخ الصاوي، غير أنه مما يؤيد اختياره عضوًا في الديوان أن جريدة
«الكورييه دليجيبت
Courier de l’Egypte» التي كانت
تصدر في مصر وقت وجود الحملة بها نشرت في العدد ٩١ الصادر في ٥ افريمير من السنة التاسعة
(ديسمبر سنة ١٨٠٠) رسالة ودية أرسلها أعضاء الديوان وقتذاك إلى نابليون القنصل الأول
في
فرنسا، وفي أسفل الرسالة توقيعات أعضاء الديوان جميعًا ومن بينها توقيع الجبرتي
١٠ (انظر أيضًا الشكل رقم
١-١).
ولم يكن الجبرتي العالم المصري الوحيد الذي اتصل
بالفرنسيين وأُعجب بعلمهم، بل اتصل بهم أيضًا شاعر مصر وقتذاك السيد إسماعيل الخشاب،
فالجبرتي يروي له شعرًا قاله في رجلَيْن منهم، أحدهما اسمه «ريج»
١١ والثاني واحد من رؤساء كتابهم من العارفين ببعض العلوم العربية. يقول الجبرتي:
«ولما وردت الفرنساوية لمصر اتفق أن علق (أي الخشاب) شابًّا من رؤساء كتابهم، كان جميل
الصورة لطيف الطبع عالمًا ببعض العلوم العربية، مائلًا إلى اكتساب النكات الأدبية، فصيح
اللسان العربي، يحفظ كثيرًا من الشعر، فلتلك المجانسة مال كلٌّ منهما للآخر، ووقع بينهما
توادد وتصاف حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة الآخر، فكان — الخشاب — تارةً يذهب لداره
وتارةً يزوره هو …»
١٢
كان أبو الخشاب نجارًا ثم احترف تجارة الأخشاب، غير أن ابنه لم يشأ أن يمتهن مهنة
أبيه،
وتثقف بثقافة العصر الدينية اللغوية، وتلقى العلم على مشايخ العصر، واتصل منهم بالشيخ
العروسي شيخ الجامع الأزهر (١١٩٣–١٢٠٨ / ١١٧٩–١٧٩٣)، وبالعلامة السيد محمد المرتضى الزبيدي
صاحب تاج العروس، وبالشيخ محمد الأمير
١٣ مفتي المالكية … إلخ … إلخ، ثم أقبل على قراءة الكتب الأدبية، وكتب الصرف
والتاريخ، «وأُولع بذلك … حتى صار نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات، واستحضار المناسبات
والماجريات، وقال الشعر الرائق، والنثر الفائق …»
١٤
ويبدو أن هذه الصداقة بينه وبين بعض المستشرقين من علماء الحملة مهدت له السبيل للاتصال
الرسمي بقادة الفرنسيين، فلما أُعيد تأسيس الديوان في عهد «مينو» اختير الشيخ إسماعيل
ليكون
أمينًا لمحفوظات الديوان، أو على حد تعبير الجبرتي: «كاتب سلسلة التاريخ»، فكان هو «المتقيد
برقم كل ما يصدر في المجلس من أمر أو نهي، أو خطاب أو جواب، أو خطأ أو صواب.» وذلك لأن
«القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليومية في جميع دواوينهم، وأماكن أحكامهم،
ثم
يجمعون المتفرق في ملخص يُرْفَع في سجلهم بعد أن يطبعوا منه نسخًا عديدة يوزعونها في
جميع
الجيش حتى لمن كان منهم في غير مصر من قرى الأرياف، فنجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير
منهم …»
١٥
وقد أخطأ كلٌّ من جورجي زيدان والأب لويس شيخو فهم هذا النص، فأثبتا في كتابَيْهما
عن
تاريخ الآداب العربية في القرن ١٩ أن هذه السجلات التي كان يكتبها الخشاب تُعتبر أول
صحيفة
عربية صدرت في الشرق، قال زيدان: «إن هذه النشرة التي كان يدونها الخشاب، وتُطبع ثم تُوزَّع
على الجنود، تشبه أن تكون أول جريدة عربية رسمية لكنها عسكرية.»
١٦ ثم قال في نفس المرجع ص٥٢: إن الفرنسيين أنشئوا في مصر «ديوانًا للقضايا كان
يصدر صحيفة اسمها «التنبيه» ينشرون فيها ما يجري فيه، ويفرقونها على العمال، وكان يحررها
السيد إسماعيل الخشاب، فهي كالصحيفة العسكرية أو القضائية.»
وقال شيخو استنتاجًا من نص الجبرتي: «فهذه كما ترى جريدة يومية وهي أول جريدة ظهرت
في العربية.»
١٧ وواضح جدًّا من عبارة الجبرتي أن الخشاب لم يكن إلا كاتب الديوان أو مسجل
مضبطته، وإذ كانت هذه العناية بتدوين ما يُقال في الديوان جديدة وغريبة على الجبرتي فقد
عللها بعناية القوم «بضبط الحوادث اليومية في جميع دواوينهم»؛ لأنهم كانوا «يجمعون المتفرق
في ملخص» ويوزعونه «في جميع الجيش»، ولا يعقل أن يُوزع هذا الملخص في جميع الجيش — الفرنسي
طبعًا — باللغة العربية. والصحيح أن هذا الملخص الذي كان يُطبع وتُوزَّع نسخ منه في جميع
الجيش حتى لمن كان في الأرياف هو الصحيفة الفرنسية
Le Courier de
l’Egypte التي كانت تصدر
١٨ كل ٥ أيام.
وقد يكون الباعث لهذَين المؤرخَين على هذا الاستنتاج ما ذكره الجبرتي بعد ذلك من
أن
الخشاب اختار لنفسه بعض ما ورد في هذه المضابط، فإنه يقول: «فجمع من ذلك عدة كراريس ولا
أدري ما فعل بها.» والذي تذكره المراجع الفرنسية أن الجنرال «مينو» أصدر مرسومًا في ٢٦
نوفمبر سنة ١٨٠٠ بإنشاء جريدة عربية اسمها «التنبيه
L’Avertissement»
١٩ واختار السيد إسماعيل الخشاب ليكون رئيسًا لتحريرها، وذلك تحت إشراف أعضاء
الديوان من العلماء، ويكون من أغراضها البحث في أعمال الديوان وأعمال الحكومة الفرنسية
ونشر
الأخبار الداخلية والخارجية وبعض المقالات في الفنون والعلوم والأخلاق … إلخ، ويقول الدكتور
إبراهيم عبده: «على أن الآمال التي عُلقت على ظهور التنبيه لم تتحقق إذ إن الظروف السياسية
واضطراب الأمن كل ذلك حال دون ظهور الجريدة، وبقي مرسوم إنشائها معطلًا حتى جلا الفرنسيون
عن مصر.»
٢٠
وقد ظل الخشاب يلي وظيفته هذه في الديوان «ضحوة يومَيْن في الجمعة» طول عهد «مينو»
حتى
خرجت الحملة من مصر، وذلك مقابل أجر شهري قدره سبعة آلاف نصف فضة.
وكانت الصداقة تربط بين هذَيْن العالمَين — وأحدهما مؤرخ والثاني شاعر — وبين عالم
ثالث
جليل هو الشيخ حسن العطار، يقول الجبرتي عن صديقَيْه: «فكانا كثيرًا ما يبيتان بداري
لما
بيني وبينهما من الصحبة الأكيدة والمودة العتيدة، فكانا يرتاحان عندي ويطرحان التكلفات
… ثم
يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فنٍّ من الفنون الأدبية والتواريخ والمحاضرات …
وكانت
تجري بينهما منادمات أرق من زهر الرياض، وأفتك بالعقول من الحدق المراض، وهما حينئذٍ
فريدا
وقتهما ووحيدا عصرهما …»
٢١
وكانت أسرة العطار مغربية الأصل، كما كان أبوه عطارًا، ولكن الشيخ حسن مال لدراسة
العلم
منذ الصغر، فشجعه أبوه على ذلك وأعانه، فشب شغفًا بالعلم والبحث في كل غريب، وكان شخصية
فذة، وامتاز على أقرانه بعقلية حرة ناضجة، فأحس بأن العلوم التي كانت تُدرس في الأزهر
حينذاك علوم فجة لا طائل تحتها، فدرس بنفسه علوم الهيئة والطب والفلك والرياضة، ومرن
على
استعمال الاسطرلاب وألف رسالة في كيفية العمل به وبالربعين المقنطر والمجيب، وكان يحسن
عمل
المزاول الليلية والنهارية.
٢٢
ويقول صديقه ومعاصره الشيخ محمد شهاب الشاعر إنه «كان آية في حدة النظر وشدة الذكاء،
ولقد
كان يزورنا ليلًا في بعض الأحيان فيتناول الكتاب الدقيق الخط الذي تعسر قراءته في وضح
النهار، فيقرأ فيه على نور السراج وهو في موضعه، وربما استعار مني الكتاب في مجلدين فلا
يلبث عنده إلا الأسبوع أو الأسبوعين، ويعيده إلي، وقد استوفى قراءته وكتب في طرره على
كثير
من موضعه …»
٢٣
ويذكر تلميذه وصديقه رفاعة أنه كان معنيًّا بالبحث في العلوم غير الدينية، وخاصةً
العلوم
الجغرافية والتاريخية، وأنه وجد بخطه هوامش على كتاب تقويم البلدان لأبي الفداء، وعلى
طبقات
الأطباء، وغيره من الكتب التاريخية، وأنه «كان يطلع دائمًا على الكتب المعربة من تواريخ
وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية مع غاية الديانة والرصانة، وله بعض
تآليف
في الطب وغيره …»
٢٤
وذكر المستشرق الإنجليزي المستر لين
Mr. Lane: أن الشيخ
العطار كان واحدًا من أكبر علماء مصر الممتازين وقت وجوده بها، ولكنه أشار إلى أنه لم
يكن
متضلعًا في العلوم الدينية تضلعه في الدراسات الأدبية.
٢٥
وعندما وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر كان العطار في الثانية والثلاثين من عمره فسافر
إلى
أسيوط، فلما استقرت الأحوال عاد إلى القاهرة، يقول علي مبارك باشا: «واتصل بناس من
الفرنساوية، فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم ويفيدهم اللغة العربية، ويقول:
إن
بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها، ويتعجب بما
وصلت
إليه تلك الأمة من المعارف والعلوم، وكثرة كتبهم وتحريرها وتقريبها لطريق الاستفادة.»
٢٦
أيقظت الحملة الفرنسية إذن عقول بعض علماء مصر وخاصةً عقول هؤلاء الأقطاب الثلاثة،
وبهرتهم علوم الفرنسيس وأثرت في فن كلٍّ منهم، فكانت كتابة الجبرتي «في تاريخه بعد الحملة
أدق وأكثر نقدًا لسير الحوادث ورجالها مما كانت عليه قبل
الحملة …»
٢٧ كما أصبح شعر الخشاب أرق حاشيةً وأسلس أسلوبًا، أما العطار فقد انحرف عن علماء
عصره وترك الدراسات الدينية واللغوية جانبًا، وعُنِيَ عنايةً كبيرةً بالدارسات الأدبية،
وكون له في هذا الميدان مدرسة جديدة كان من تلاميذها الذين حذوا حذوه: الشيوخ إبراهيم
الدسوقي، ومحمد عياد الطنطاوي، ومحمد عمر التونسي، ورفاعة رافع الطهطاوي، وسيكون لهذه
النخبة الطيبة جهود محمودة في حياة الترجمة الحافلة في عصر محمد علي.
وقد عاش الشيخ العطار حتى ولي مشيخة الأزهر في عهد محمد علي، وشهد هذا التغير في الأحوال
والمعارف الذي تنبأ به، وخطب في الاحتفال الذي عُقد بمناسبة عقد الامتحانات الأولى لمدرسة
الطب، وهو أخيرًا صاحب الفضل على تلميذه رفاعة الطهطاوي زعيم النهضة العلمية الحديثة،
وهو
الذي قدمه لمحمد علي ليكون إمام البعثة المصرية إلى فرنسا (سنة ١٨٢٦م)، وهو الذي أشار
عليه
أن يسجل مشاهداته في هذه البعثة التي أخرجها رفاعة فيما بعد في كتابه الممتع «تخليص الإبريز
إلى تلخيص باريز».
•••
بدأت إذن الثقافتان الفرنسية والعربية تتصلان إحداهما بالأخرى وتؤثران إحداهما في
الأخرى،
ولو قُدِّرَ للحملة أن تطول مدتها لكان من المحتم أن يعمل كل فريق على نقل ثقافة الفريق
الآخر إلى لغته، وخاصةً أن علماء الحملة كان من بينهم عدد من المستشرقين، وكانت مكتبتهم
تضم
كتبًا عربية وفرنسية كثيرة أحضروها معهم، وكانت مكتبات المساجد والخاصة في مصر تضم بين
جدرانها آلاف الكتب المخطوطة التي كانت تنتظر في صبر نافد من يفتحها ليقرأها ويعدها للنشر
أو للترجمة، وكانت الحملة أخيرًا قد أحضرت معها عدة هذا النشر وآلته وهي «المطبعة العربية»
أو «مطبعة جيش الشرق» أو «مطبعة الجيش البحري» كما كانت تُسمى وهي في طريقها إلى
مصر.
وكانت هذه المطبعة معدة بالحروف العربية والفرنسية
٢٨ واليونانية التي جمعها لها نابليون من باريس ثم استكمل لها الأحرف العربية
الناقصة من مطبعة «البروباجندا»
٢٩ بروما، وقد بدأ القسم العربي من هذه المطبعة عمله وهو على ظهر البارجة
«أوريان
L’Orient» في عرض البحر، فطُبِعَت به نسخ من
الترجمة العربية للمنشور الذي أعده نابليون لإذاعته على المصريين، وعندما نزل جنود الحملة
الفرنسية إلى أرض مصر سُميت مطبعتهم ﺑ «المطبعة الشرقية» و«المطبعة الفرنسية»، وأمر نابليون
أن تُنقل بأقسامها الثلاثة إلى منزل قنصل البندقية بالمدينة، وأن تُرَكَّب أجزاؤها وتكون
معدة للعمل في ثمانٍ وأربعين ساعة، وأن تُطبع أربعة آلاف نسخة أخرى من المنشور، ولما
استقر
الفرنسيون في القاهرة نُقلت هذه المطبعة إليها، وسُميت «المطبعة الأهلية»
٣٠ و«مطبعة الجمهور الفرنساوي»، وكان مقرها الأول دار عثمان بك الأشقر بالأزبكية
على مقربة من بيت الألفي حيث كان يسكن نابليون، ولما قامت ثورة القاهرة الثانية نقلت
المطبعة إلى الجيزة، ومنها نقلت مرة أخرى إلى القلعة وهي مقرها النهائي، فقد أخذها
الفرنسيون معهم وهم يجلون عن مصر، وسترى أن محمدًا عليًّا سيعنى بعد ذلك بإنشاء مطبعة
عربية
أخرى في بولاق، وهي التي لا تزال موجودة حتى الآن، وتاريخها في الواقع شطر كبير من تاريخ
النهضة العلمية الحديثة.