الترجمة الرسمية في عهد الحملة
حاجة رجال الحملة إلى الترجمة الرسمية، استعانتهم بأسرى المسلمين في مالطة وخاصةً المغاربة، المترجمون في ديوان «مينو»، هيئات المترجمين الرسميين في عهد الحملة، أسرى المسلمين في مالطة، المستشرقون من رجال الحملة: «فانتور»، «جوبير»، «براسرفيش»، «لوماكا»، «حنا روكه»، «كليمان»، «بوديف»؛ المترجمون السوريون، هجرات «الشوام» إلى مصر منذ بدء القرن ١٨، الحملة تصطحب مترجمين سوريين من إيطاليا: دون إلياس فتح الله، يوسف مسابكي، أنطون مشحرة؛ مترجمون سوريون من مصر: يوسف فرحات، ميخائيل كحيل، القس رفاييل، إلياس فخر، نصر الله، عبود وميخائيل الصباغ، نقولا الترك؛ المترجمون المصريون، صلة الأقباط بالفرنسيين، الفرنسيون يعلمون بعض الشبان الأقباط اللغة الفرنسية، أليوس بقطر، الرأي في الترجمة الرسمية في عهد الحملة.
***
ولكننا قد نتساءل بعد هذا: ألم يكن للحملة — على الرغم مما كان يكتنفها في الداخل والخارج من اضطرابات وقلاقل — أثر في الترجمة عن العربية إلى الفرنسية أو عن الفرنسية إلى العربية في هذه السنوات الثلاث التي قضتها في مصر؟
والحقيقة أننا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بأنه كان في مصر إبان وجود الحملة بها نوعان من الترجمة: ترجمة رسمية، وترجمة علمية.
وبدأ نابليون يضع الأسس لحكومة جديدة يشترك فيها زعماء المصريين، ليستعين بهم في إدارة شئون البلاد، وإقناع الأهلين، وقد نص في الأمر الصادر بتكوين الديوان أن يكون أعضاؤه تسعة ينتخبون من بينهم واحدًا للرياسة، وأن يختاروا سكرتيرًا (كاتم سر) من غير الأعضاء، ويعينوا اثنين من الكتبة والتراجمة يعرفان الفرنسية والعربية.
وانتهت المعارك بين الجيشين بالصلح والاتفاق على أن يجلو الفرنسيون عن مصر، وتعود البلاد إلى السلطان، وفي القاهرة أُعلنت الشروط الخاصة بالشعب «في أوراق ألصقت بالطرق مكتوبة بالعربي والفرنساوي وفيها شرطان من شروط الصلح التي تتعلق بالعامة.»
وبعد، فهذه نبذ متفرقة مما ذكره الجبرتي عن الترجمة الرسمية يؤيد ما ذهبنا إليه من أن هذا النوع من الترجمة كان له خطره وأهميته أثناء وجود الحملة الفرنسية في مصر، غير أن المراجع المعاصرة لم تُعْنَ بذكر ثبت بهؤلاء المترجمين أو التعريف بهم، ومع هذا ففي الفقرات الآتية محاولة لهذا الإحصاء، وهذا التعريف.
(١) هيئات المترجمين الرسميين في عهد الحملة
- (١) الأسرى الذين كانوا في جزيرة مالطة٢١ من مغاربة وعرب وأتراك، وقد أطلق سراحهم رجال الحملة الفرنسية بعد استيلائهم على مالطة، وصحبوهم معم إلى مصر، وأطلقوهم في كل مكان يوزعون منشور نابليون بين المصريين، وقد قام واحد منهم بحمل رسالة المشايخ إلى نابليون وهو في الجيزة — كما ذكرنا — ولم تذكر الكتب المعاصرة اسم واحد من هؤلاء.
- (٢)
العارفون باللغة العربية من رجال الحملة الفرنسية، وأهم هؤلاء:
- (أ) فانتور Venture: وهو أحد أعضاء لجنة الترجمة بالمجمع المصري، وأكبر أعضاء هذا المجمع سنًّا، قضى أربعين سنة من حياته في الشرق، فكان مترجمًا بالسفارة الفرنسية في تركيا، ثم مترجمًا للغات الشرقية للحكومة الفرنسية في باريس، ثم مدرسًا للغة التركية في مدرسة اللغات الشرقية في باريس، ثم صحب الحملة إلى مصر فكان كبير مترجميها، أو «ترجمان صاري عسكر» كما يسميه الجبرتي، وكان نابليون يقدره، ويثق به ثقة كبيرة، ويرجع إليه في كل ما يتعلق بالشرق والشرقيين، ومن تلاميذه المعروفين: المسيو مارسيل، والمسيو جوبير الآتي ذكرهما.ولما سار نابليون بحملته إلى سوريا استصحب معه المسيو «فانتور» ولكنه مرض هناك بالدسنطاريا ومات، فتألم نابليون لموته، وأرسل بنعيه إلى الديوان في خطاب تاريخه المحرم سنة ١٢١٤ﻫ (يونيو سنة ١٧٩٩) قال فيه: «وفانتوره مات من تشويش، هذا الرجل صعب علينا جدًّا، والسلام …» وعقب الجبرتي على هذا الخبر بقوله: «وفانتوره هذا ترجمان صاري عسكر، وكان لبيبًا متبحرًا، ويعرف باللغات التركية والعربية والرومية والطلياني والفرنساوي.»٢٢
- (ب) جوبير Pierre Amébee Jaupert (١٧٧٩–١٨٤٧): أحد المستشرقين من علماء الحملة، وواحد من تلاميذ «دي ساسي». تخرج في مدرسة اللغات الشرقية في باريس، وكان تلميذًا لفانتور، فلما تُوفي الأستاذ اختار نابليون تلميذه ليشغل مركزه، ويكون كبيرًا لمترجمي الحملة، وقد كتب أبحاثًا كثيرةً٢٣ نُشرت في كتاب وصف مصر، وبعد جلاء الحملة عُيِّنَ مدرسًا للغة التركية في مدرسة اللغات الشرقية، ثم اختير مدرسًا للفارسية في «الكوليج دي فرانس»، وفي أخريات أيامه عُيِّنَ ناظرًا لمدرسة اللغات الشرقية.
- (جـ) براسرفيش: أحد أعضاء لجنة الترجمة بالمجمع المصري، ويسميه الجبرتي: «السيتوين الخواجة داميانوس براشويش كاتم السر وترجمان صاري عسكر.»٢٤ ويبدو أنه خلف «جوبير» فتولى هذا المركز بعده في عهد «الجنرال مينو»، وقد قام بالاشتراك مع زميله لوماكا l’Homaca بترجمة أقوال المتهمين بقتل الجنرال «كليبر».
- (د) لوماكا l’Homaca: عضو آخر من أعضاء لجنة الترجمة بالمجمع، وقد اشترك مع زميله «براسرفيش» كما ذكرنا في النقل عن سليمان الحلبي وزملائه، وترجمة أقوالهم أثناء التحقيق معهم، وكانت له جهود أخرى في ترجمة الوثائق الرسمية٢٥ كرسائل «مينو» التي أرسلها في أيام الحملة الأخيرة من الإسكندرية إلى أعضاء الديوان بالقاهرة.
ويبدو أن هؤلاء الأقطاب الأربعة كانوا يكوِّنون الهيئة العليا للترجمة الرسمية، فقد كانوا جميعًا أعضاء في لجنة الترجمة بالمجمع العلمي أو «مدرسة العلماء في بر مصر»،٢٦ وشغل ثلاثة منها منصب كبير مترجمي الحملة أو «ترجمان صاري عسكر»، واشترك الرابع في ترجمة كثير من الوثائق الرسمية الهامة.ومع هذا فقد كان هناك نفر آخرون من جنود الحملة وقوادها على علم بالعربية، فساهموا بقسط أقل في الترجمة الرسمية، من هؤلاء:
- (أ) «حنا روكه»:٢٧ وقد اشترك مع «براسرفيش» و«لوماكا» في ترجمة بعض أقوال المتهمين بقتل «الجنرال كليبر».
- (ب) «كليمان»: ذكر الجبرتي أنه كان يقوم أحيانًا بالترجمة في بعض جلسات الديوان، قال في حوادث ذي الحجة ١٢١٥ﻫ / أبريل ١٨٠٠: «حصلت الجمعية، وحضر الخازندار، والوكيل … وبعض التجار …، و«كليمان» الترجمان، فتكلم «استوف»، وترجم عنه الترجمان أن صاري عسكر الكبير «مينو» يقرئكم السلام … إلخ.»٢٨
- (جـ) ومنهم مترجم ثالث اسمه «أبي ديف» هكذا ذكره الجبرتي، فقد وصف الجلسة الأخيرة للديوان بعد أن تم الصلح بين الفرنسيين من ناحية والإنجليز والأتراك من ناحية أخرى، ونقل نص الخطب التي أُلقيت في تلك الجلسة، وكان آخرها خطبة ألقاها «استوف» باللغة الفرنسية، ثم قرأ المترجم ترجمتها باللغة العربية، قال الجبرتي بعد ذكر هذا النص: «وهو من تعريب «أبي ديف» وإنشاء «استوف» بالفرنساوي …»٢٩
- (أ)
- (٣)
المترجمون السوريون:
كان السوريون أكثر شعوب الشرق الأدنى اتصالًا واختلاطًا بشعوب أوروبا المطلة على البحر الأبيض المتوسط في العصور الوسطى، ففي ربوع بلادهم كانت ميادين الحروب الصليبية، وفي شواطئ سوريا قامت الإمارات اللاتينية، وعاش أخلاط من هذه الشعوب اللاتينية، وانتهت الحروب الصليبية ولكنها خلفت في الشام طائفة من المسيحيين تدين بالمذهب الكاثوليكي، وتعترف بالولاء لزعيم الكاثوليك ورئيسهم «البابا» المقيم في روما؛ ولذلك ظلت رحلة البطارقة والمطارنة والقساوسة السوريين دائمة إلى «روما» لزيارة مقر البابوية، ولتلقي العلوم الدينية في مدارس «روما» الدينية، وكثر — تبعًا لهذا — العارفون باللغتين الفرنسية والإيطالية بين كاثوليك سوريا.
وفي القرنين السابع والثامن عشر اضطربت أمور الحكم العثماني، وزاد طغيان الباشوات الأتراك في الشام، ونال الطوائف المسيحية شيء من الاضطهاد، «ولما ساعد فخر الدين المعني أمير لبنان الشهير المرسلين الإفرنج الكاثوليكيين على النزول في سوريا ولبنان وفلسطين، لجأ فريق من السوريين المسيحيين إلى قناصل الإفرنج، وتمذهبوا بمذهبهم طمعًا في حماية دولهم، والفوز بشيء من المساعدة المادية، فثار عليهم رؤساء الأرثوذكس اليونانيون، وأخذوا يزرعون البغضاء والتعصب الديني في قلوب إخوانهم السوريين الأرثوذكس، ويلجئون إلى البطريرك القسطنطيني ليستصدروا الأوامر في اضطهاد الكاثوليك … فانتهز الحكام العثمانيون هذه الفرصة الثمينة ليضطهدوا المسيحيين من المذهبين الكاثوليكي والأرثوذكسي … فأخذوا ينزحون إلى القطر المصري في أوائل القرن الثامن عشر. وزادت مهاجرتهم بعد اضطهاد سنة ١٧٢٥ الشهير، وكان أغلبهم من دمشق الشام، فلُقِّبوا بالشوام، وعم هذا اللقب كل السوريين المهاجرين إلى مصر.»٣٠ولجأ هؤلاء «الشوام» إلى القاهرة أولًا، ودمياط ثانيًا، والإسكندرية ثالثًا، وهي المدن المصرية الكبرى ذات الصدارة حينذاك في التجارة والصناعة، واستغلوا في هذه المدن نشاطهم التجاري والصناعي الممتاز، فسرعان ما أَثْروا، وكونوا ثروات وجاليات كبيرة لها شأن في تاريخ مصر الاقتصادي وقتذاك، ووصلت أخبار هذا النجاح إلى إخوانهم في سوريا ولبنان فتوالت الهجرات وتتابعت؛ ولهذا يُرجع الأب قسطنطين الباشا هجرة مسيحيي الشام إلى مصر إلى سببَيْن: «قوة الجذب وقوة الدفع؛ إذ كانت أخبار نجاح من تقدم منهم إلى هذا القطر تجذب سواهم، وكان الاضطهاد الديني الذي كان يجري في مدن الشام يدفعهم بقوة إلى هذا القطر.»٣١وكانت موانئ إيطاليا التجارية، وخاصة البندقية وجنوة وليفورنو، تضم منذ القرن الخامس عشر جاليات شرقية كبيرة، وإذ كانت موانئ مصر الشمالية على اتصال تجاري دائم بموانئ إيطاليا فقد تجددت رحلة السوريين من مصر إلى موانئ إيطاليا للتجارة أحيانًا، وهربًا من اضطهاد المماليك أحيانًا أخرى.٣٢وقد بلغ من ازدياد نفوذ هؤلاء المهاجرين المالي والاقتصادي أن طغوا على طائفتي اليهود والأقباط اللتين كان لهما احتكار الوظائف المالية في مصر منذ عهد طويل، ففي سنة ١١٨٢ﻫ / ١٧٦٨-١٨٦٩م «قبض علي بك الكبير على المعلم إسحاق اليهودي معلم الديوان ببولاق وضربه حتى مات.»٣٣ ثم أُعطي التزام هذا الديوان للمعلم ميخائيل فرحات السوري، وأصبح هذا الالتزام المالي الهام وقفًا على مسيحيي السوريين منذ ذلك الحين، فقد حل المعلم ميخائيل الجمل بعد قليل محل ميخائيل فرحات، ولكن علي بك الكبير سرعان ما غضب على الجمل فعزله، وأعطى الديوان للمعلم يوسف البيطار الحلبي، فاستغاث الجمل بصديقه المعلم إبراهيم الصباغ مستشار ظاهر العمر أمير عكا، وحليف علي بك، فأجاب رجاءه، وسعى لدى علي بك حتى أُعيد الديوان للجمل والبيطار معًا، وفي سنة ١١٨٨ / ١٧٧٤م تُوفي، فأُعطي التزام الديوان للمعلم «أنطون فرعون قسيس»٣٤ زعيم مسيحيي الشام في مصر وقتذاك، وأثرى أثريائهم.لهذا لا نعجب إذا عرفنا أن «نابليون» أرسل — وهو يعد العدة للحملة — إلى العالم «مونج» و«الجنرال ديزيه» في «روما» يأمرهما أن يتعاقدا مع بعض المترجمين من الشرقيين المقيمين في «إيطاليا»، وقد كان من بين المترجمين الذين تعاقدوا معهم اثنان من السوريين المقيمين في إيطاليا — من طائفة الروم الكاثوليك — هما: دون إلياس فتح الله ويوسف مسابكي.٣٥وجاء في مذكرات القس أنطون مارون أن الفرنسيين — وهم في طريقهم إلى مصر — «طلبوا بعض الشرقيين للترجمة حيث صمموا النية للحضور للإقليم المصري، فخرج معهم جملة رهبان، وتقلدوا السلاح، ومن جملتهم «الراهب أنطون مشحرة» الذي نزع «الأسكيمو» والثوب الرهباني، وتقلد السلاح … وحضر مع الفرنساوية لمصر.»٣٦ولما بدأ الفرنسيون ينظمون شئون الحكم في مصر كان من بين أعضاء الديوان الذي أنشأه نابليون اثنان من السوريين، هما: يوسف فرحات وميخائيل كحيل.٣٧وكان من الطبيعي أن يستعين الفرنسيون بمن في مصر من المسيحيين وخاصةً السوريين لمعرفتهم باللغة العربية وباللغتين الفرنسية والإيطالية، ولاتفاق الطائفتين في اعتناق دين واحد ومذهب واحد، فكان «أنصارهم من نصارى البلد الأقباط، والشوام، والأروام.»٣٨ولما انتهى نابليون من وضع النظام الجديد لحكم مصر فكر في أن يتقرب إلى والي عكا أحمد باشا الجزار، وأن يكتسب صداقته، فأرسل إليه هدية يحملها فرنسي، «وكان بصحبته أنفار من النصارى الشوام في صفة تجار، ومعهم جانب أرز ونزلوا من ثغر دمياط في سفينة من سفائن أحمد باشا، فلما وصلوا إلى عكا وعلم بهم أحمد باشا أمر بذلك الفرنساوي فنقلوه إلى بعض النقاير، ولم يواجهه، ولم يأخذ منه شيئًا، وأمره بالرجوع من حيث أتى، وعوَّق عنده نصارى الشوام الذين كانوا بصحبته.»٣٩وبعد تحطيم الأسطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية، واليأس من وصول أي مدد جديد من فرنسا، أنشأ «نابليون» فرقة عسكرية من مسيحيي السوريين والأروام، وقام بتنظيم هذه الفرقة وتدريبها الجنرال «كليبر».٤٠ولما أُعيد إنشاء الديوان في عهد الجنرال «مينو» عُيِّنَ له مترجمان سوريان: القس رفائيل «ترجمان كبير»، وإلياس فخر٤١ «ترجمان صغير». وقد لعب الأب أنطون رفائيل زاخور راهبة دورًا هامًّا في الترجمة الرسمية في عهد الحملة، غير أنه لعب دورًا أهم في الترجمة العلمية في عهدي الحملة ومحمد علي، مما سنتناول الكلام عنه بالتفصيل في مواضعه.وذكر الجبرتي مترجمًا سوريًّا آخر اسمه «نصر الله»، قال في حوادث ذي القعدة ١٢١٥ / أبريل ١٨٠١: «تُوفي محمد أغا مستحفظان مطعونًا (أي بمرض الطاعون) … ولم يقلدوا عوضه أحدًا، بل أذنوا لعبد العال أن يركب عوضًا عنه، وذلك بمعونة نصر الله النصراني ترجمان قائمقام «بليار».»٤٢وممن اتصل بالفرنسيين من المترجمين السوريين أيضًا: عبود وميخائيل الصباغ، وهما حفيدا إبراهيم الصباغ طبيب ظاهر العمر، وقد وُلد ميخائيل٤٣ في عكا، وتلقى العلم بها، ثم ارتحل إلى مصر طلبًا للعلم أيضًا، واتصل بالفرنسيين عند قدومهم، وعاد معهم عند خروجهم حيث اتصل بالمستشرق الكبير «دي ساسي De Sacy» في باريس، وعُيِّنَ مصححًا للكتب العربية في المطبعة العربية هناك ثم ناظرًا للمخطوطات الشرقية في المكتبة الأهلية.ونقولا الترك٤٤ المؤرخ الثاني للحملة باللغة العربية بعد الجبرتي، كان والده من القسطنطينية، وارتحل إلى دير القمر حيث ولد له نقولا الذي نبغ في الأدب شعرًا نثرًا، واتصل بخدمة الأمير بشير الشهابي، وله فيه مدائح كثيرة، ثم سافر إلى مصر، وقيل إن سيده أرسله إليها ليدرس عن كثب مدى ما ترمي إليه أطماع الفرنسيين، وفي مصر اتصل بالفرنسيين وترجم لهم، وله كتاب بالعربية عن تاريخ الحملة في مصر والشام اسمه: «ذكر تملك الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية»، وقد قام بنشر النص العربي وترجمته الفرنسية في «باريس» سنة ١٨٣٩ المسيو «ديغرانج M. Desgranges».وكان من المترجمين السوريين للحملة أيضًا القس جبرائيل الطويل:٤٥ غادر مصر مع الحملة، وبقي في فرنسا سنوات إلى أن عُين أستاذًا للغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية في «باريس» خلفًا للأب رفاييل زاخور راهبة.هؤلاء طائفة من المترجمين السوريين الذين شاركوا في الترجمة الرسمية في عهد الحملة الفرنسية، نضيف إليهم اسمًا أخيرًا هو يعقوب بن يوسف (عزيز) الترجمان الحلبي الماروني، ذكره الأب بولس قرألي ضمن وفيات السوريين٤٦ في مصر سنة ١٨٠٣.ولا يمكن أن تكون هذه القائمة المختصرة ثبتًا كاملًا لأسماء المترجمين السوريين، فقد اتصل بالفرنسيين منهم أثناء مقامهم في مصر عدد كبير، وعند جلاء الفرنسيين عن مصر خرج معهم «جماعة كثيرة من القبط وبحار الإفرنج والمترجمين، وبعض مسلمين ممن تتداخل معهم، وخاف على نفسه بالتخلف، وكثير من نصارى الشوام والأروام …»٤٧ ويذكر الأب قرألي أنه كان من بين هؤلاء المهاجرين «نحو خمسمائة سوري من طائفة الملكيين الكاثوليكيين ومعهم كاهنهم الخوري جبرائيل طويل، فاستوطنوا مارسيليا.»٤٨ - (٤)
المترجمون المصريون:
قد يلجأ الباحث المفكر بعد ذكر هذه الطوائف إلى البحث والتنقيب عله يجد من بين المصريين من قام بالترجمة للفرنسيين، ولكنه يجد أن حالة المصريين التعليمية في ختام القرن الثامن عشر لم تكن تؤهل واحدًا منهم للقيام بهذه المهمة، كان المصريون أغلبية من المسلمين، وأقلية من الأقباط، ولم تكن مدارس الطائفتين ومعاهدهما العلمية تُعنى بتدريس اللغة الفرنسية، أو أي لغة أخرى غربية، كذلك باعد الخلاف الديني بين المسلمين من المصريين وبين الفرنسيين، فلم يحاول أحد من عامة مسلمي مصر وطلابهم الاتصال بالفرنسيين في هذه المدة اليسيرة اتصال تلمذة ليتعلم عنهم اللغة الفرنسية، كذلك لم يكن علماء المسلمين الذين اتصلوا بالفرنسيين وأُعجبوا بهم في السن التي تسمح لهم ببدء تلقي لغة جديدة.
أما العنصر الثاني من عناصر الشعب المصري، وهم الأقباط، فقد اتصلوا بالفرنسيين اتصالًا وثيقًا، وخاصةً زعيمهم المعلم يعقوب الذي جعله الفرنسيون «صاري عسكر القبط»، فجمع «شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رءوسهم مشابه لشكل البرنيطة، وعليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم في غاية البشاعة على ما يُضاف إليها من قبح صورهم، وسواد أجسامهم، وزفارة أبدانهم، وصيرهم عسكره وعزوته، وجمعهم من أقصى الصعيد، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن فيها خلف الجامع الأحمر، وبنى له قلعة وسورها بسور عظيم وأبراج وباب كبير يحيط به بدنات عظام، وكذلك بنى أبراجًا في ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية، وفي جميع السور المحيط والأبراج طيقانًا للمدافع وبنادق الرصاص على هيئة سور مصر الذي رمه الفرنساوية، ورتب على باب القلعة الخارج والداخل عدة من العسكر الملازمين الوقوف ليلًا ونهارًا، وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية.»٤٩وعند خروج الفرنسيين رحل معهم يعقوب وفي صحبته عدد كبير من جنود هذه الفرقة القبطية، أما يعقوب فقد أدركته المنية وهو في السفينة في عرض البحر، «أما أصحابه فقد عاد نفر منهم لوطنهم بعد قليل، وظل منهم في أوروبا آخرون قامت بينهم القضايا والدعاوى، ووقع أكثرهم في الفقر والفاقة، فأجرت عليهم الحكومة الفرنسية معاشًا مدة طويلة، وانتهى أمرهم بالاندماج في الفرنسيين، ولم يكن من أثر ثابت لأحد منهم إلا لأليوس بقطر صاحب القاموس الفرنسي العربي …»٥٠ويبدو أن الفرنسيين اصطنعوا أول مجيئهم إلى مصر طائفة من شبان الأقباط الذين تسمح لهم سنهم بتعلم اللغة الفرنسية، ولم ينبغ من هؤلاء إلا أليوس بقطر، فقد كانت سنه عند مجيء الفرنسيين ١٥ سنة فاتصل بهم وتتلمذ عليهم، وتعلم اللغة الفرنسية، واشتغل بالترجمة لرجال الحملة، ثم ارتحل معهم، وأقام مع الجالية المرتحلة من مصر في «مارسيليا» حتى سنة ١٨١٢، ودأب في تلك المدة على تعلم اللغة الفرنسية حتى أتقنها، وفي تلك السنة اسْتُدْعِيَ إلى باريس حيث عُهِدَ إليه بترجمة بعض الوثائق العربية الخاصة بالحملة إلى اللغة الفرنسية، وشارك العلماء الفرنسيين في تحقيق الأسماء العربية الواردة في المصورات الجغرافية التي كانت تعد حينذاك لتُنشر في كتاب «وصف مصر Description de l’Egypte»، وعمل في ذلك الحين على وضع قاموس فرنسي عربي، وفي سنة ١٨٢١ — وهو في السابعة والثلاثين من عمره — عُين مدرسًا للغة العربية العامية بمدرسة اللغات الشرقية في «باريس»، ولكن المنية عاجلته في تلك السنة بعد أن انتهى من وضع قاموسه، فأشرف على طبعه في «باريس» خلفه في تدريس اللغة العربية المستشرق الكبير «كوسان دي برسيفال Caussin de Perceval» في جزأين٥١ سنة ١٨٢٩.وبعد، فهذه هي الطوائف التي قامت بالترجمة الرسمية في عهد الحملة، ولم تكن إحداها على علم متين باللغة العربية؛ لهذا جاءت النصوص المترجمة ضعيفة ركيكة الأسلوب، أقرب إلى اللغة العامية منها إلى اللغة العربية، وإن نظرة واحدة إلى النصوص الفرنسية لوثائق الحملة، ومنشوراتها الواردة في مراسلات نابليون وكتب الحملة، وإلى النصوص العربية لترجمة هذه الوثائق والفرمانات مما حفظه الجبرتي ونقولا الترك في كتابَيْهما، لتؤيد هذا الرأي. بل لقد أبدى الجبرتي نفسه رأيه في ضعف الترجمة في أكثر من موضع، فقد ذكر عند كلامه عن إنشاء الديوان في عهد «نابليون» أن الفرنسيين وضعوا لهذا الديوان قواعد وشروطًا كتبوها «بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم بقوانين التراكيب العربية.»٥٢ ولما ذكر نص محاكمة سليمان الحلبي قاتل «كليبر» قال في مقدمتها: «وقد كنت أعرضت عن ذكرها لطولها وركاكة تركيبها، لقصورهم في اللغة، ثم رأيت كثيرًا من الناس تتشوق نفسه إلى الاطلاع عليها … إلخ.»٥٣
Charles-Roux: “Autour d’une Route”, pp. 156–159, & Hoskins: “British Routs to India”, pp. 23, 26-27.
Cattaui: Rèigne de Mohammed Ali, etc. pp. 2–8, 213, 225, 243, 479, 487, 494, 499, 510.
وقد أدركت حتى سنة ١٩٢٠ تقريبًا في مدينتنا دمياط آخر أفراد هذه الأسرة وكان طبيبًا مشهورًا، ولا زال منزله بالمدينة يعرف حتى اليوم (بمنزل الدكتور فخر).
(١) مسابقة البرق والغمام في سعاة الحمام، نشره «دي ساسي» في ١٨٠٥ مع ترجمته إلى الفرنسية وعنوانه:
La colombe messagère, plus rapide que l’éclair, plus prompte que lanue. Texte arabe et traduc. par De Sacy.
(٢) «المقياس في أحوال المقياس» وهي رسالة في تاريخ مقياس بالنيل، طبع حجر بخط المؤلف، «باريس»، شهر «فلوريال»، سنة ١٣ للمشيخة الفرنسية.
(٣) نشيد قصيدة تهاني لسعادة القيصر المعظم «نابليون» سلطان فرنسا في مولد بكره «نابليون الثاني»، ومعها ترجمة فرنسية ﻟ «دي ساسي»، «باريس»، ١٨١١.
(٤) نشيد تهاني لسعادة الكلي الديانة «لويس الثامن عشر» ملك «فرنسا» ومعه ترجمة فرنسية بقلم «كرانجره داكرانج Grangeret de la Grange»، باريس، ١٨١٤م.
(٥) الرسالة التامة في كلام العامة، والمناهج في أحوال الكلام الدارج، ألفه سنة ١٨٢١ إجابةً لدعوة صديقه أليوس بقطر، وطبعه الدكتور «هنري تربكي Dr. H. rdeoke.» في «ستراسبورج»، غوتنهجن، ١٨٨٦.
ويبدو لي أن الترك لم يغادر مصر مع رجال الحملة كما ظن البعض، بل بقي في دمياط حتى سنة ١٨٠٥؛ فقد جاء في قرألي: السوريون في مصر، ج١، ق١، ص٨٧، أن القس أنطون مارون ذكر في مذكراته الخاصة أنه كان «يرسل إلى رئيسه العام بدير اللويزة ما يفيض عن نفقته من منتوجات القطر المصري ووارداته تارةً بواسطة الخواجة نقولا الترك، الشاعر الكاتب الشهير (لما سافر من مصر إلى دمياط وتوجه إلى بر الشام في آب ١٨٠٤ وكانون الأول ١٨٠٥) وطورًا بواسطة يوسف عيروط في دمياط … إلخ.» وقد ورد في سجل العماد لسنة ١٨٠٥ بكنيسة دمياط الكاثوليكية اسم الطفل ميخائيل الترك، فلعله ابن رُزِقَه نقولا؛ انظر المرجع السابق، ق١، ص١٣٣.