الصحراء والنفود والربع الخالي
في تاريخ العالم وقصص الحضارة الإنسانية، وفي أخبار العمران وأنباء المدنيات القديمة والحديثة؛ صفحات غامضة وألغاز معقدة، يقف الباحث والقارئ حيالها مدهوشًا حائرًا، وقفة أوديب بين يدي الأسد المجنح ذي الأسرار، الذي ألقى عليه من الأحاجي والمعميات ما ألقى ليختبر ذكاءه، ويسطر حظه بلسانه في جانب الشقاء والسعد بعد المجد الذي ناله وهو يرفع له الستار عن حقيقة أمره، ولكنه لم يفطن ولم يرَ؛ لأن الأقدار أرادت له ما أرادت. وإن هذا الوحش المجنح لم ينقرض، ولم يَغِبْ سواده عن هذه الحياة الدنيا يومًا أو بعض يوم، ولم يخفت صوته ليلة، ولم تنقطع مسائله للبشر طرفة عين. وكذلك الفتى أوديب راح وحلت محله مئات وألوف من الفتيان والكهول والشيوخ بدءوا حياتهم عميانًا وختموها غير مبصرين يسألون ويجيبون، ثم يسيرون في طريقهم المقسومة ويتبعون خطة القضاء المرسومة لهم إلى النعيم أو إلى الشقاء؛ وهكذا الأمم كالأفراد تتبع حظوظها معصوبة الأعين مكتوفة الأيدي إلى أن تتاح لها اليقظة التي تدب من صميم نفوسها، ويمنحها الله الفكاك من قيود أسرها فتنطلق هي الأخرى لمستقرٍّ لها في آفاق المجد والعظمة، أو في درك الخمول والخمود …
جزيرة العرب قحلاء في معظم أجزائها، وقد وُصف حجازها الواقع بين الجبال والبحر بأنه وادٍ غير زرع، وهي في شمالها وغربها ومعظم الجنوب صورة موحشة من صور الأرض الجبلية المرتفعة، والسهول ذات الرمال الناعمة، والصحاري التي لا تعرف الخضرة ولا الماء ولا الظلال.
وقد لا يرى قسوةَ الطبيعة الجرداء المقفرة والأرض الغبراء المحرقة بجبالها ووديانها — على حقيقتها — غيرُ الطيار الذي يتاح له أن يُلقيَ بنظرة من مرصد طائرته على الأرض التي يحلق فوقها؛ فتأخذ عينه بقمم الجبال العارية البارزة كرءوس المردة على أعناق طويلة ملساء كأعناق العقبان، فإذا ما تجاوزها بمنظاره إلى الوديان، ارتدَّ إليه بصره بعد أن ترتسم على شبكيته صور الكهوف والمغاور والمفاوز التي يتيه فيها الخيال قبل ارتداد الطرف إلى صاحبه، وقبل أن يتمكن من تحويل عينيه المحدقتين عن تلك الهضاب والنجود النادرة الإنبات، تهب عليها رياح شديدة الحرارة كأنها تأوُّهات خارجة من أتون عظيم، وقوده تلك الرمال الملتهبة، ودخانه ذلك الهبوب الذي يُسيل دماغ الضب ويصهر الصخر الصلد ويذيب الحديد الصُّلب في جوف الأرض، وكل ذلك في أرضٍ بعيدة الغور مترامية الأطراف متحركة الرمال غامضة الدروب مبهمة التقسيم، كأنها امرأة مسحورة تلد الأجيال وتبتلع نسلها، ثم هي تبدو للناظر كأنها بِكر لم تُزف إلى عرس ولم تعرف بعدُ أحدًا من الرجال؛ فهذه الطرق والدروب التي اخترقها ملايين الرجال على ظهور الإبل شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا من عهد عادٍ وثمود وجرهم وجديس … لا تلبث أن يطأها المسافرون خفافًا سراعًا أو ثقالًا مبطئين، حتى تنطبق على آثارهم وتنصفق على خطاهم فتمحو الأولى وتخفي الثانية، وكأنها لوح الطفل القارئ يمحو فيه ويثبت وهو مُجِدٌّ في المحو كما هو مجد في الإثبات، كثير النسيان؛ وهكذا يمتد النظر في عالم الذهن أو على متن الطائرة من ساحل البحر الأحمر إلى ساحل الخليج الفارسي، ومن خليج السويس إلى بوغاز باب المندب، ومن جبال الحجاز إلى الدهناء، وكأن الهلال الذي اتخذه المسلمون رمزًا لرايتهم قد رسمته الطبيعة في جبل الطويق الذي يعترض نجدًا، كما شكلت العناية الإلهية أجزاءً من الجزيرة بأشكالٍ تشبه سائر المخلوقات، ولها من أسمائها الغريبة نصيب؛ فهذا النفود الكبير ذو الرمال الكثيفة المتراكمة الصعبة المرور تسفيها الرياح فتؤلف كثبانًا متسلسلة؛ فهو أشبه بالبحار العميقة التي تكاد تكون لعمقها بلا قرار، بل هي أشبه شيءٍ بوادي الهلاك، فيكون داخلها معرضًا للنفاد والضياع.
رمال صحراوية لا ماء بها، يسير فيها الركب أربع ليالٍ، وفيها برك إذا سالت الأودية امتلأت، ولكن تلك الكثبان مكسوة بشجر الغضا والعذر والأثل؛ وهي أشجار مخيفة موحشة تكون في الأغلب ملتوية ومتعرجة كأنها مرسومة بريشة مصور مخبول على ستار مأساة فاجعة، فتظن وأنت تراها وتسمع موسيقاها المحزنة المثيرة للخوف والحيرة، أن أغصانها أعشاش للبوم والعنقاء، وجذوعها ملجأ لصغار الجن وكبارها، ومن حينٍ إلى آخر ترى بئرًا تخالها — لإقفار ما حولها — محفورة بأيدٍ مجهولة من عهد صالحٍ وثمود، وتتوهَّم للوهلة الأولى أنها خُلقت مع الأرض ولم يحفرها إنسٌ ولا جان، ولم يُدْلِ فيها بدلوه قبلك بشر، حتى إذا خلَّيت وراءك الآبار وهرولت في «ظل» تلك الأشجار وجُست خلال الأودية والشعاب والطعوز والقعور خُيل إليك أن الطبيعة لم تكن من الدنيا إلا جزيرة العرب، وما جزيرة العرب إلا هذه الرمال التي لا يعلم عدد ذراتها إلا علام الغيوب؛ فتدرك حينئذٍ جمال الخلق وجلال الخالق المتجلي في هذه المظاهر نفسها.
وما هذا النفود الكبير الذي يمتد من الجوف إلى اليمن سوى رقعة واحدة من رقاعٍ شبيهة به؛ أهمها وأعظمها ذلك الربع الخالي الذي ألَّف في وصفه الحاج عبد الله فيليبي كتابًا بعد أن جاس خلاله.
وإذا ودعت النفود الكبير بطعوزه وأفلاقه وشعابه وقعوره وخبوبه وآباره وأشجاره ومفارق طرقه ودروبه، وأجوائه التي تتراوح بين حرارة الغليان وشآبيب البرد في اليوم والليلة، فإنك مقبل على الدهناء والقنيفذة والسر ودلقان والشقيقة؛ وكلها نفود صغيرة كالمواليد الجربانة في حضن والدها الأكبر الذي اضطجع بجانبها وجعلها حدًّا فاصلًا بينه وبين الربع الخالي؛ وهو نفود أعظم لا تدرك أطرافه، يلم بين تلك الأطراف والحواشي عوالم من الرمال الرقيقة الناعمة التي تسمى بالأحقاف؛ وهي من نوع رمال بعض شواطئ أيقوسة؛ فهي مغراق تبتلع الأجسام الثقيلة التي تطؤها، وهي خداعة كأمواج البحر، وهي مسحورة تخفي الناس قبل أن يتنبهوا لسحرها، وهي ناعمة كالمرأة الفتانة التي تحوطك بذراعيها لتخدرك قبل أن تفترسك، وهي غزيرة متراكمة كالكلمات التي تغريك بها الكاهنة لتسلب لُبَّك قبل أن تسلب مالك وتمتص دمك. هل هي رمال أم محط رحال الجن ومسكن الشياطين، ومدخل مدهون بأزهى الألوان يؤدي بداخله إلى وادي الفناء؟
نعم، إنه الربع الخالي، بل محيط المحيط من الرمال؛ هضاب وكثبان ووديان، أوقيانوس أرضي له أمواجه وتياراته، وكما أن في قاع المحيط وحوشًا مائية مهولة كالأخطبوط، كذلك في الربع الخالي قبائل موغلة في الوحشية وقادرة — لبُعدها عن حدود الحياة البشرية — أن تتحمل شظف العيش ومتاعب الحياة كأنها كلمات مهجورة على هامش صحيفة مبهومة الكتابة، كلمات لم تحوِها حروف الهجاء المعروفة لنا، بل معروفة لأجيال سابقة انقطعت بيننا وبينها صلات الحياة. هل كان هذا الربع الخالي قاعًا للبحر قبل التاريخ؟ للبحر الذي كان يغمر الأرض من أعلاها إلى أسفلها ومن شرقها إلى غربها؟ هل يكتشف العلماء بقايا متحجرات مائية تزيح لنا الستار عن هذه الحقيقة الباهرة؟
وكأني بالطائر المحلق في سماء هذا الربع الخالي وقد تجلَّت له تلك الرقعة العجيبة بألوانها الحمراء، وكثبانها الغنية بالرمال، وتلالها المستديرة كأنها حدوة الفرس أو شق الهلال، وبجوارها سلاسل بيضاء متوازية كأنها جبال من لبن متجمد في وسط وعاء ضخم من النحاس الأحمر، وفي جوف الوعاء لبن يترقرق، فإذا ما أمعن النظر بدت له الرمال البيضاء المتماوجة.
وفي ثنايا تلك المفاوز البيضاء والحمراء والهضاب الوردية والوديان الصفراء ذلك البحر السافي الذي ورث عن أبيه البحر القديم غريزة الهلاك؛ فما البحر السافي سوى تلك الرمال الرقيقة التي تبتلع الأثقال التي تطؤها.
وليست المياه في تلك النفود والصحاري معدومة، ولكنها نادرة ندرة خير منها عدمها؛ فأكثر هذا النادر مُر الطعم لا يستساغ ولا يطفئ ظمأً ولا ينبت زرعًا، وبعضه ملحٌ أجاج لا يُشرب ولا يُذاق، وقليلٌ منه في الآبار العميقة يُشرب لأنه لا يوجد ماء سواه، بل يعد المسافر نفسه سعيدًا إن ورد عين ماءٍ بعد طول الشُّقة وشدة الحرمان، وقد تشد رحالك ما يزيد على مائتي ميل فلا تجد ماءً من أي نوع من الأنواع، وحيث لا ماء فلا حياة للنبات والحيوان والإنسان.
وإن معنى الآية الشريفة: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ لا يتجلى لك على ضفاف النيل أو الفرات حتى يكثر الزرع والضرع وتظهر نعمة الله على الخلق بفضل الخضرة والماء، ولكن معنى تلك الآية يتجلى واضحًا قويًّا حيال ذلك العدم المطلق في تلك الصحاري المقفرة التي زادها الظمأ والجفاف إقفارًا وفقرًا، ونقلها من عالم الحياة إلى وادي الموت والعدم؛ فالحياة لا تدب إلا حيث السواقي والمراعي والآبار والواحات، والكائن الحي لا يهجر إلا القحط والعطش، ولا يفر إلا من المفاوز والمخاطر، والسائح والمسافر لا يسيران إلا في طريقٍ معبَّدة ممهدة تخترقها القوافل حتى وإن كانت حواشيها وهوامشها ملآنة بالهياكل العظمية للإبل والبشر، فإنها لا تزال مأمونة ما دامت مطروقة، وإن كانت تحتفظ بآثار الموت الطارئ، بل إن آثار هذا الموت الطارئ دليل على أن الحياة مرت من هنا وهناك؛ لأنه لا يوجد الموت إلا حيث كانت الحياة، وهذه العظام النخرة، وتلك الجماجم ذات الأعين المفقوءة، والمحاجر العميقة الراقدة في جنب جماجم الإبل؛ تدل على أن الإنسان والحيوان قد مرَّا بتلك الفدافد، وما زال الإنسان ورفيقه يجدُّ السير ويدأب حتى أدركه الموت على صورة من الصور، وكأن تلك العظام إذا مرَّ بها النسيم سحرًا تنادي أشباح المسافرين المسرعين في وادي الموت «ألا أيها الركب المجد! كما أنت مجد، كذا نحن كنا مجدين، وكما نحن راقدون كذا أنتم ترقدون!»
ولا عجب؛ فإن هذه الطرق التي كانت تخترقها القوافل قد انعدمت وضاعت آثارها بعد أن هجرها المسافرون والتجار، ولأن الرياح الشديدة الهبوب تسفي الرمال بغير حساب، فإنها تغير معالم الأرض وتحول طبيعتها وتنقل كثبان الرمال من مكانٍ إلى مكان، وحسنًا فعلت القوافل بهجرها تلك المفاوز والمغاور، وحسنًا فعلت الرياح بتغيير تلك المعالم؛ فلا خير واللهِ في أرضٍ يخرج منها ماء وينبت فيها عشب إن ارتوى منهما الحيوان ورعى ضاع لون دمه الأحمر القاني، وانقلب أسودَ فاحمًا! وسواءٌ أكانت تلك الفدافد والمفاوز تخفي في أحشائها آثار عمران قديم أو بقايا حضارة بائدة تدل عليها خرائب وقلاع وحصون وديار شامخة وقصور أمست دامرة بعد أن كانت عامرة، أم تخفي براكين عظيمة خامدة سكنت بعد حركة وهدأت بعد غليان، وانطفأت نيرانها التي كانت متأججة، وهبطت حرارتها التي كانت متوهجة، ولم تخلف بعد موتها سوى أحجار محترقة؛ فهي على الحالين لا تنطوي إلا على الخراب بعد العمران، والخمود بعد الهيجان، والموت بعد الحياة. إن كانت ثَمَّةَ حضارة فقد اندثرت، وإن كانت ثَمَّةَ حياة فقد انعدمت، وإن كانت ثَمَّةَ حرارة أو نار فقد هبطت وبردت وانطفأت.
ويتفرع من النفود سهول رملية ذات رملٍ فحفاح، يستر صخورًا وتتكون منه آكام وكثبان متقطعة توصلك إلى الدهناء، ومريط ومخيط وخب النوم وخب الرضم، وتوقعك تلك الدهناء في حبائل وشباك وشراك وخيوط رملية، وتندلع منها ألسنة تمتد إلى فجوات حجرية، وقد جردت الطبيعة في وجه المسافر أسيافًا من الرمل جعلت حدها حدودًا بين النفود الشمالي والنفود الجنوبي أو الربع الخالي. أما جبال الحجاز فتجتاز الجزيرة على محاذاة الساحل الغربي، وهو شاطئ البحر الأحمر من الشمال إلى الجنوب، وتبدأ من شمالي مدين إلى اليمن أو «العرب السعيدة»، وقد أطلق علماء الجغرافيا على هذه الجبال اسم السراة، وسُميت حجازًا لأنها تحجز بين البحر الأحمر وبين النجاد الشرقية العالية، وهذه الأرض تمتد إلى الغرب حتى تصل إلى تهامة، وتبسط يدها إلى الشرق فتبلغ أرض نجد. وبعد جبال الحجاز يرتفع في الجزيرة جبل شمر، وأجا وسلمى، وهذه جبال مؤلفة من آكام وهضاب ورءوس تفصل بينها أودية وشعبان. وأجا جبل ذكر؛ لذا جعلته الطبيعة أعلى من سلمى، وهي سلسلة جبال أنثى. وهذه المنطقة — منطقة شمر — تزين السهل بهذين الجبلين الشامخين، وبما يحيط بهما من الكثبان والآكام كأنها أسراب ضخمة من القطا الكامن في أحضان ذلك السهل.
وإذا تعديت تلك الجبال ورأيت حضنًا فقد أنجدت، وما نجد التي اشتُهرت بشعرائها وجمال نسائها ووفاء خيولها وصحة أنسابها، إلا سلسلة من الواحات المتشابهة في الشكل، المختلفة في الحدود والمساحة.