وثيقة دستورية
رأى محمد — عليه الصلاة والسلام — أن المدينة خلو من القوانين العامة والخاصة إلا ما ذكرنا، وأنها عرضة للنزاع المسلح من حين إلى حين بحكم ما يقع بين الجماعات الفطرية في مجتمع مختلط، وأن اليهود؛ وإن لم يكونوا أخلص عنصر أو أشرف عنصر فهم بمالهم وثقافتهم الدينية ومحالفتهم الأوس وتعودهم الحرب وقصورهم الحافلة بالعدد، حتى إن بعضهم ليأكل في أوانيَ من ذهب وفضة، وجدهم أقوى عنصر؛ وهو مطبوع على السياسة ومكارم الأخلاق، فتلطف فيهم، وقابل حسن لقائهم بالمجاملة، وأعانه الله — سبحانه وتعالى — بذكر موسى وهارون وعمران — عليهم السلام — فشاد بفضلهم، كما شاد بفضل عيسى وأمه قبل توجه المهاجرين إلى الحبشة، ولكن القرآن أنكر ألوهة عيسى ولم يزد على كونه نبيًّا مرسلًا، وسن الرسول سنة الصيام في يوم عاشوراء؛ لحكمة رآها، وفي القرآن من قبل في السور المكية كثير من شريعة موسى؛ كالتطهر، والختان، ومبدأ العين بالعين والسن بالسن، وليس كما توهم البعض تقليدًا للتوراة، ولكن لرابطة الدم والتقاليد بين عرب الحجاز وإبراهيم الخليل الجد الأعلى لبني إسرائيل، وزاد الله أن أرشد الرسول إلى اتخاذ بيت المقدس قبلة للمسلمين؛ لأن معراج الرسول بدأ من عتبة في المسجد الأقصى، فكان هذا العهد عصرًا ذهبيًّا لليهود؛ لأنهم اطمأنوا للمسلمين، ولم يجدوا مخالفة جوهرية بين الدينين بعد عقيدة التوحيد؛ وهي عقدة العقد عند المشركين.
ورأى الرسول الفرصة سانحة لتأسيس النظام الذي تقوم عليه دولة الإسلام، فأعانه الله فكتب العهد المشهور الذي وصفه المستشرقون بأنه دستور المدينة، قال ابن إسحاق: «وكتب رسول الله كتابًا بين المهاجرين والأنصار وَادَعَ فيه يَهُودَ وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم.» وهذه الوثيقة الكبرى لا مجال للبحث في صحتها وصدق روايتها، ولا موضع للشك في حقيقتها، فإن أسلوبها ومادتها شاهدان بأنها من إملاء رسول الله في زمنها ومكانها، وإن كان كتَّاب السيرة ورواة الحديث لم يدركوا قيمتها التشريعية حتى ابن إسحاق نفسه لم يفهم مداها! فاحتفظوا بنصها كاملًا، فأنقذها الله من «غنايتهم المضرة» بالأخبار والوثائق!
ولم يقدم ابن إسحاق وهو المرجع الأول لهذه الوثيقة الدستورية بغير قوله: كتب محمد كتابًا بين المهاجرين وأنصار المدينة ولليهود أهداهم وفاقًا وأقرَّ على قيامهم بجزية بشرائط دينهم، وأمنهم على أملاكهم وأشرط عليهم عدة شروط وواجبات إلزامية، وشرط لهم شروطًا. إن غموض كلام ابن إسحاق ناشئ من قلة إدراكه قيمة الورقة، لقد جعل الرسول نفسه بعد الله مصدر السلطات المدنية في المدينة لا اغتصابًا ولا حيلةً، ولكن باتفاق ورضا؛ فالخزرج يودون أن يكون نبيهم مصدر السلطة والمهاجرون أكثر منهم رغبةً في هذا فليس إلا المشركون واليهود من يحق لهم الاعتراض والمناوأة، ولكن هؤلاء لم يعترضوا.
وإليك نص هذه الوثيقة نقلًا عن صفحات ٣٤١–٣٤٤ من سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي، نبي المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومَنْ تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدُونَ عَانِيَهمْ بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جسم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في نداء أو عقل (والمُفْرَح المثقل بالدين والعيال)، وأن لا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود فإنه له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإنَّ سَلْمَ المؤمنين واحدة؛ لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا في سبيل الله إلا على سواء وعدل.
وأن المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قَوَدٌ به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يئويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد — عليه السلام — وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثِم؛ فإنه لا يُوتِغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني جسم مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يُوتِغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وأن لبني الشظية مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الإثم، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد — عليه السلام — وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم، وأن الله على أبرِّ هذا، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مُضارٍّ ولا آثم، وأنه لا تُجار حرمة إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يُخاف فساده كان مردُّه إلى الله وإلى محمد رسول الله ﷺ، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه، وأنه لا تُجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من هم بيثرب، وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل إنسان حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة (ابن هشام: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة)، قال ابن إسحاق: «… وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأن من خرج آمِن ومن قعد آمِن بالمدينة، إلا من ظلم وأثِم، وأن الله جار لمن برَّ واتقى ومحمد رسول الله ﷺ.» قال ابن هشام: يُوتِغ: يُهلك، أو قال: يُفسد. ا.ﻫ.
إن أصل هذه الوثيقة معجز غامض لا يمكن الوصول إلى حقيقة كنهه، ومعضلة لا يمكن حلها؛ لأننا حيال عمل تأسيسي للحياة الداخلية للمجتمع الإسلامي في أول نشأته.
ولكن كل المصادر الإسلامية ضنينة بتفسير أصلها وطريقة الاهتداء إليها، فليس لها أثر في الحديث؛ لأن الحديث ليس موضعها؛ وهي أقرب إلى أن تكون في تاريخ القانون أو مجموعة القوانين الإسلامية، ولكن العرب لم يسجلوا هذا النوع من الأوراق؛ لأنه لم تكن لديهم جريدة رسمية غير القرآن والحديث، والقرآن نفسه هو مصدر التشريع وليس موضع التسجيل لحديث النبي أو قوانينه الوضعية. إن ابن إسحاق الذي دونها في سيرته لم ينقلها بالرواية، وإلا كان ذكر سلسلة الرواة كعادته في أيسر الأمور، وإذن لا بد أن تكون هذه الوثيقة قد وصلت إلى يده مكتوبة، فقدم إليها بسطرين، ورأى بسليقة المؤرخ ضرورة إثباتها، ولم يرَ بثقافة المؤرخ السياسي تحرِّي أصلها ونشأتها، ولا غرابة في أنه عثر على نسخة مكتوبة نقل عنها الوثيقة، فهي بطبيعتها عقد أو عهد مكتوب، والدليل على وصولها مكتوبة إلى يد ابن إسحاق احتفاظها بخواص النصوص المكتوبة، وبقاء القديم الغامض فيها على قِدمه وغموضه، ولو كانت نقلت روايةً لتبدلت بعض الكلمات في أفواه الرواة كما هي العادة في غير القرآن والحديث، لقد وصفها كاتب الورقة وهو الرسول الذي أملاها؛ ونعبِّر عنه بكاتب؛ لأنه صاحب الفكرة، ولأنه كان الذي يُملي على كتَّاب الوحي وغيرهم، بأنها «كتاب»؛ لأنه لم يكن في تلك البيئة لغة رسمية للسياسة والقوانين الوضعية، ويؤخذ لفظ كتاب بأنه معنى المخطوط الشامل لمعنى العقد أو العهد أو المحالفة والاتفاق، فإن صح هذا كانت اعترافًا من جانب واحد وليس عليها شهود، ولا دليل على صدورها إلا ما جاء في أولها: كتاب رسول الله الذي كتبه بين المهاجرين والأنصار وموادعة يهود. وينصُّ صدر الوثيقة على أنه كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين … إلخ، ولكنك لا تجد في صلب الوثيقة أو نهايتها توقيعًا من أحد ممن ورد ذكرهم في النص، فكأن الوثيقة قد صدرت تحمل صفة القانون دون حاجة إلى توقيع أطراف العقد الخاضعين لنصه، وإذا رجعنا بالذاكرة إلى حلف المطيبين وحلف الفضول نجد اجتماعًا وأيمانًا وثيقة وتعاهُدًا يشبه احتفالًا رسميًّا؛ لأن هذين الحلفين وإن حدثا في الجاهلية، إلا أنهما ربطا الأجيال المقبلة، حتى إن رسول الله بعد بعثته قال إنه لو دعي لحلف الفضول ما تأخر عن تلبيته، واستمر حلف الفضول نافذًا إلى عهد معاوية، فلما نادى به الحسين لحيف وقع عليه أُرغم معاوية على مداراته وتلبية طلبه، ولكن هذه الوثيقة على حالتها لم يسبقها دعوة كالتي وجهت إلى الكبراء في حلف الفضول، ولم تصحب كتابتها مأدبة أو حفلة أو خطبة، ولكن محمدًا وحده هو الذي أصدرها، فما نصيب المسلمين واليهود والمشركين في التفكير فيها أو تحريرها ما دامت ملزمة لهم ومظهرة حقوقًا ومقيدة بالتزام، أما المؤمنون والمسلمون المذكورون في أول الوثيقة فقد أقرُّوا من قديم بأنه رئيسهم وزعيمهم ورسول الله؛ فله الحق أن ينطق باسمهم بدون توكيل صريح أو ضمني؛ لأنهم لا يعارضونه سواء أكانت الوثيقة لهم أو عليهم، أما الآخرون من يهود ومشركين فلم يحضروا تحريرها؛ لأنهم لو حضروا المشارطة لكتبوا في صلبها أو نهايتها ما يثبت حضورهم، ولم يقسموا ولم يثبتوا قبولهم بنصوصها.
يسوءنا أن تاريخ حياة الرسول في المدينة قصَر مدونوه ورواته همَّتهم فيه على المغازي (الواقدي) والوفود (ابن سعد) والكتب التي بعث بها الرسول إلى الملوك والزعماء يدعوهم إلى الإسلام، أما تاريخ السياسة والاجتماع والحياة الخاصة فقد وردت عرضًا، ولا بد أن يكون لها ارتباط بشيء من الثلاثة التي ذكرناها، حتى أغفلوا قانون المجتمع الذي قصد الرسول إلى أن يخضع له كل عناصر السكان بلا تفريق؛ ليسود السلام بينهم، وليتمكن من إعدادهم للحروب المقبلة، وتلك العناصر كما قدمنا هي: المسلمون، واليهود، والمشركون، فإذن يمكن أن نطلق على هذه الوثيقة اسمًا ينطبق على حقيقتها؛ وهو: «قانون حياة المجتمع في المدينة»، سَمِّهَا دستورًا، سَمِّهَا محالفة، صِفْها بأنها عقد أو وثيقة بسبب الغموض الملازم لمصدرها، ولكنها تحل محل القانون المنظم لحياة المجتمع المدني بلا أدنى ريب في وقت في وقت كان الهدوء شاملًا، وكان اليهود قانعين، والمشركون خائفين مترددين، والمسلمون مطمئنين منتظرين.
لم يخفَ على الواقدي كل شأن الوثيقة من الناحية التاريخية ولا من الناحية السياسية، فزعم أن يهود المدينة تعاهدوا مع الرسول على أن يترك كل عشيرة من عشائرهم وأبناء ملتهم لشئونهم، واشترط لنفسه السلم بينه وبينهم، وكفهم عن مناوأته ومعونة أعدائه، وإن يكن الموقف بعد بدر قد تغير، ولكن الواقدي لم يتناول اختلاف عناصر السكان الذي أوضحناه، ولم يخطر بباله أن اليهود لم يكونوا وحدهم أصحاب الحول والطول؛ بل كان لبعض المسلمين من أهل المدينة من قبيلتي الأوس والخزرج قصور وآطام وأموال، وكان بينهم حلفاء من قبائل أخرى كالتي حشدوها للمحاربة فيما بينهم؛ كجهينةَ، وأشجعَ، ومزينةَ، وبني ثعلبةَ، وقد رأينا معظم الحروب بين الأوس والخزرج ويهود سببها مصرع حليف لأحدهم أو إهانة لحقته، فشأن الحلفاء كان عظيمًا ولا بد أن يشملهم أي نظام يسن لمصلحة الجميع، وإذن يكون الرسول قد أراد سيادة السلام والنظام بين جميع العناصر، غير ناظر في هذه الفترة إلى السيادة والسلطان أو التحكم في إرادة الخاضعين للنظام، فإن كان جان جاك روسو قد تخيل «العقد الاجتماعي» فقد حققه الرسول في المدينة؛ لأنه تنازل الجميع عن بعض حقوقهم والتزامهم ببعض الواجبات؛ لتكون لهم الحقوق الأخرى كاملة، لقد تخيل جان جاك روسو هذا التعاقد في عهد قديم؛ ليبرر ظهور الحكومات في التاريخ، ولكن الرسول أكده بتحرير هذه الوثيقة التي ترتفع قيمتها بالنظر إلى ما تلاها من عظمة الدولة الإسلامية، وقد كانت هذه الورقة حجر الزاوية فيها.
يخطئ من يطلق على هذه الوثيقة وصف «معاهدة صلح»؛ لأنه لم تسبقها حرب بين النبي وأحد من أهل المدينة، ولكنها شملت القضاء على نزاع الأوس والخزرج، وألزمت اليهود أن لا يُعِينوا أحدًا من أعدائه، وأن لا يدخلوا حربًا مع الأوس على أحد من الخزرج، فكفَّ بذلك أذى الحروب عنهم قبل حدوثها، وقضى على أيام كيوم بعاث الذي أهلك الحرث والنسل قبل وصوله المدينة بست سنين، وقضى على حروب شخصية كانت أشد هولًا؛ فقد كان رجال في المدينة بقوا على الشرك أو اليهودية وأبناؤهم مسلمون، ومنهم من بقي على النفاق كعبد الله بن أُبَيٍّ وابنه مؤمن خالص الإيمان.
وكان من المحتم على النبي أن يصبر ويتحمل أذى المشركين واليهود، ولكن صبره نفذ في ابن أشرف أحد زعماء اليهود، ولم يكن للرسول إلا أن يوضح موقفه حيال اليهود وموقفهم حياله؛ ليخمد أنفاس ابن أشرف وأمثاله، فابتكر فكرة الحياد، فقال في الوثيقة: إن اليهود ليسوا له وليسوا عليه، لا يلزمهم بالدفاع عنه ولا الهجوم معه، ولا يرضى أن يشاركوا من يحاربه. وفي بعض الأخبار أن اليهود تعهدوا بمناصرته على أعدائه إذا دعاهم، مقابل بقائهم في منازلهم بين ظهراني الأوس والخزرج، ولكن هذا النص لم يرد في الوثيقة، فنضرب عنه صفحًا؛ لأن النبي لم يكن له إذ ذاك عدوٌّ ظاهر، ولأن بقاء اليهود في منازلهم لم يكن محل نزاع؛ فإن الرسول ما جاء ليخرجهم من دارهم خصوصًا في هذه الفترة التي وصفناها بالعصر الذهبي من حيث الولاء والمودة وتبادل المنافع، ورجاء الرسول أن يهدي الله يهود فيؤمنوا برسالته، ورجاء يهود أن ينصرهم ويكون نبيهم المنتظر، وإذن لا نرى في الوثيقة محالفة حرب لقاء سكوت على استقرار اليهود في منازلهم، لقد كان في المدينة أمة، والوثيقة تعتبرها كذلك أمة متحدة، وأن القانون الجديد قد شمل العلاقات القديمة، فليس التشريع شاملًا حالة النبي والمسلمين والأوس والخزرج واليهود وحلفائهم، بل إنه أيضًا محا ونسخ وألغى ما كان سابقًا، ولفظ الأمة قديمًا لم يكن بمعناه الحديث الذي يفترض قرابة الدم، بل الأمة: الجماعة، وهو في اللفظ مفرد وفي المعنى جمع، والأمة: الطريقة والدين؛ يقال فلان لا أمة له؛ أي: لا دين له ولا نِحلة، قال الله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ؛ أي: كنتم خير أهل دين، وقد كان تعبير المسلمين عن أهل المدينة بأمة معناه جماعة دينية، وبهذا المعنى في الجاهلية كما جاء في شعر النابغة الذبياني، فالأمة لها طابع ديني بنص الشعر الجاهلي ونص القرآن ونص الوثيقة: «وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.» ولأجل أن لا يحصل لبس؛ ليس معناه أن يهود بني عوف أو غيرهم مرتبطون مع المسلمين برابطة الدين، ولكنهم جزء من الأمة التي يحميها الله، فالله حاكمها، ورسوله ينفذ أوامره ونواهيه باسمه، أما العلاقة بين المسلمين أنفسهم فهي الإيمان؛ لأنهم يمثلون الوحدة، ولذا كانوا أخضع العناصر وأكثرهم التزامًا وواجبًا في أمة المدينة، ولكن المؤمنين والمسلمين لن يتحملوا هذه الأعباء عبثًا؛ فإن وراءهم من يتبعونهم وينضمون إليهم ويحاربون معهم، أي سكان المدينة كافة، فالله قد شمل الجميع بعنايته في دائرة بلدهم لا يتخلى عن أحد منهم ما داموا موالين للمسلمين محافظين على السلم والأمان اللذين لا يستقيم بدونهما للدين الجديد أمر ولا تنتظم بغيره حال.
هذا عن شخصية الأمة التي ورد ذكرها في الوثيقة، أما مكانها وزمانها فحدث عنهما بلسان التاريخ ما شئت، فالمكان هو تلك الوديان الخصيبة المشرقة والجبال الأضحيانة والآطام العالية والأنهار الجارية والقصور التاريخية والمسجدان الشامخان: قباء، والحرم المحمدي، والتلال والهضاب والنخيل والأعناب والآبار الحلوة والأعين العذبة المتدفقة وجبال أحد وسلع اللذين سيشهدان موقعتي أحد والأحزاب. وهذه الأمة في هذا المكان ستمتع بالسلم الدائم لا يعترضها حرب ولا يقلقها نزاع ما دامت واردة في العهد أو العقد الاجتماعي، وما دامت متمسكة به وقائمة بعهودها.
وبين الأنصار أيضًا مشركون يشملهم العقد (البند ٢٠) واليهود والعرب القدامى الموالون للأنصار ويعيشون في كنفهم، وهم بلا شك بقايا أنسال العمالقة الذين لم يقضِ عليهم اليهود القضاء الأخير فأبْقت عليهم السيوف؛ لأنهم أبِقوا أو فروا أو استصغر اليهود شأنهم، كما ترى الآن في أمريكا وأستراليا بقايا السكان الأصلاء نجوا بمعجزة من رصاص البنادق وحدِّ السيف الذي حملته الأجناس البيضاء المتحضرة! وبعض العرب من الأوس والخزرج الذين تهودوا، وقد جعلت الوثيقة عنايتها بالجماعات لا بالأفراد، فالقسم الثاني منها ينصبُّ على اليهود بوصفهم جزءًا من الأمة، لا بوصفهم قريظة أو النضير أو قينقاع فيقال «ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.» فلا السادة خُصُّوا بالذكر، ولا الموالي غُفل عنهم أو أُهمل شأنهم. رجل يريد أن يبني أمة فهو كباني البيت بما لديه من المواد، لا يغض الطرف عن أي حجر؛ فما لا يصلح للزاوية ينفع للمداميك التالية، وما لا تزدان به «الواجهة» يسد ركنًا في «الأكتاف»، وإن لم يذكر بعض الأوس والخزرج الذين خرجوا من الشرك إلى اليهودية بالتخصيص فقد شملهم مع قبيلتهم الأصلية، لا مع طائفتهم التي اختاروا دينها، فغلب الجنس على العقيدة؛ لأن الجنس هنا في نظره أرقى من العقيدة، ولأن هؤلاء العرب المتهودين الذين غلب جنسهم على ملتهم لم يكن لهم بطانة ولا أهل ملة شركاء، كجفنة وثعلبة، ولم يستطيعوا الحرب لأنفسهم وبإرادتهم، ولا يملكون أن يتقوها إذا دعتهم قبيلتهم إلى خوض غمارها، وقد كان نظر الرسول صائبًا؛ فإن هذه الفئة المزدوجة الصفات؛ دين في ناحية، وجنس في ناحية، كالحيوان ذي الرأسين، لم تكن لها قيمة سياسية ولا شخصية عامة يؤبه لها، فلا يكونون طرفًا في العقد ولا يُنصُّ عليهم بطريقة خاصة، أما اليهود المخالطين للأنصار مخالطة معاشية فقد اندمجت صلاتهم القديمة بالأنصار في كيان الأمة، وقد كان لبني قريظة والنضير شأن قبل سيادة الأوس والخزرج وأثناءها، فلم يهملهما الرسول وأراد إدماجهما في الأمة، ولكن يبدو لنا أنهما كانا من المنعة والقوة وحب الحياد حتى يوشكوا أن لا يكونوا، وإنه لبلاء كبير عليهما؛ لأنهما لو بقيا على حدة لكان في مجموع الأمة ما يمكن الرسول منهما، وإن اندمجا لا ينقصهما الاندماج شرفًا ولا مكانةً، أما يهود بني الأوس وثعلبة فما هم إلا بني النضير وبني قريظة الذين كانوا في كنف أوس الله وثعلبة بن عمرو بن عوف. ولكن النبي منذ الساعة الأولى ينظر إلى اليهود نظرة الحذر، جاعلًا مُعَوَّلَهُ على المهاجرين والأنصار، ولم يطلب من اليهود إلا كفَّهم عن أذاه مقابل دفاعه عنهم عند الحاجة منهم؛ كالأشقاء وكالإخوة لأم.
إذن تكون الأمة المدنية مؤلفة من: مؤمنين ومسلمين، ويهود، ومشركين، قبائل وعشائر لا أفرادًا، حتى المهاجرين وهم قرشيون مسلمون اعتبرهم عنصرًا قائمًا بذاته على حالته التي جاء بها إلى المدينة؛ فهو ينضم إلى الأمة بهذه الصفة، فأدمج النظام القديم الذي خلع صفة المهاجرة على أهل مكة المضطهدين في النظام الجديد الذي أنتجته الأمة المقررة في العقد، وهذه القبائل كلها قد جعل منها إطارًا لمجتمع المدينة دون أن يمس سلطة رؤساء القبائل وسادتها، ولا يحد من حقوقهم ونفوذهم، ولا يخطر بباله أن يعزلهم ليحل محلهم ولاة أو وكلاء من عنده، وما كان أبعده بهداية الله وفطنته النبوية عن مثل هذه الهفوة، وكيف يتهيأ له أن يسود السلام والنظام ويقر قرار كل جماعة ويطمئن كل قوم إلى النظام الجديد فيتاح له أن يجعل من المدينة حرمًا، فلو أنه انتزع سلطة دنيوية أو اكتفى بالمؤمنين من المهاجرين والأنصار لاستجد على علاقتهم بأهل المدينة أمور تؤدي إلى ما لا نهاية له من الأحقاد والشرور والخطوب، فيجعل من يثرب «مكة» أخرى أشد اضطهادًا وأنفد صبرًا، ولكن تركه إياهم في قبائلهم سواء أكانوا قرشيين أو أوسيين وخزرجيين؛ فقد فعلوا فعل اللِّحام بين العناصر؛ فربطوا أواصرها ومتنوا رابطتها وزادوها التصاقًا، ثم فعلوا فعل الخمير، فلما جاء الوقت ونضج العجين لقحوه بما جعل منه خبزًا سويًّا، فلما حان ظهور القوة كان المسلمون روح هذه الأمة، فامتزجت الرياسة السياسية بالرياسة الدينية؛ الأولى نتيجة الاجتماع والعقد، والثانية أصل الفكرة وصدى صوت الوحي، ولا شك عندنا في أن محمدًا قد رأى كل هذه الثمرات منذ الساعة الأولى، فهو لم يخطَّ خطًّا في البناء إلا ويعرف مجموع ما يبلغه طولًا وعرضًا وسمكًا وارتفاعًا.
ولكن ها هي الأمة فأين ماليتها، وهي أساس البناء وأجنحة الطير وفقار الكائن الحي وقوة الاندفاع في السير؟ وكيف له بغير خزانة عامرة أن يلزم بواجب أو يؤديَ حقًّا؟ ففرض على كل قبيلة فرضًا لا ينازعه أي فرد: دفع دية الدم، وفدية الأسرى، مستعملًا نظام الالتزام الذي كان سائدًا في القبائل قبل مجيئه المدينة، وقد ترتب على هذا أمر في غاية الخطورة، وهو أيضًا مما رآه النبي وعمل له جهده، ألا وهو نقل عبء الثأر عن كاهل الأسرة إلى كاهل القبيلة، وسوف ينتقل من كاهل القبيلة إلى كاهل المجتمع، حتى إذا صار كذلك صار معه أن المجتمع يقيم الدعوى العامة على الجناة، وبذا تقر سلطة الحكومة وتغرس نواة التبعة الجنائية، أما نظام الولاء فباقٍ على قدمه فليس لأحد أن ينزعه، وكذلك حق الإجارة فلا دخل للجماعة فيه مؤقتًا؛ فكل فرد في وسعه أن يجير من شاء من خلق الله، وكان هذا النظام في نهاية السنوات الثماني قبل فتح مكة قد تجلى حتى تمكن أبو سفيان لما فقد المجير أن يقف في المسجد ويقول: أيها الناس أنا في جواركم إلى أن ألحق ببلدي. إلا المرأة فلا يمكن إجارتها إلا بإذن أهلها، وهذا مفهوم؛ لما له علاقة بالعرض؛ فقد يجيرها عاشق أو مفرِّق أو وسيط، واستثنى الرسول أهل مكة وقريشًا فلا يجيرهم أحد أبدًا.
وكل قبيلة تنازلت عن حق الحرب تعلنه على قبيلة أخرى في المدينة، أي إنه قضى على الحرب الأهلية؛ لأن غاية «الأمة» وضع الحرب أوزارها داخل البلدة وإنهاء أي نزاع يعترض طريق السلم الدائمة، فجعل فضَّ كل خلاف إلى الله ورسوله، فجعل محكمة عليا مرد الأمور فيها إلى الله ورسوله، قال: «وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يُخاف فساده كان مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ﷺ.» فهذا القضاء، أما إذا تعكر صفو السلم بالقوة بفعل فاعل، فلا يكفي أن يقوم في وجه الجاني خصمه المجني عليه وقبيلته، بل مجموع الأمة ولا سيما قرابة المجرم، فإنها تتدخل عليه لا له وتشارك القوة المستجدة لتسليمه ولا سيما في حالة إهراق الدم، فيعطى لصاحب الدم ليقتله أو ليتقاضى منه الدية، وما ننسى مقتل كعب الثعلبي حليف مالك بن العجلان بيد سمير من بني عمرو بن عوف؛ فقد كانت هذه الجريمة سببًا لحرب الأوس والخزرج الأولى، فلو سُلِّم سمير إلى مالك كما طلب ما حدثت تلك الحروب التي دامت عشرين عامًا وانتهت بالتحكيم ودفع الدية كاملة، وإن بقي تنفيذ الثأر بيد العشيرة أو الأسرة فإن اعتقال الجاني ومحاكمته من اختصاص الأمة، فما أعظم هذا التحول من انتقام الفرد إلى اهتمام المجموع، ومن مجرد القتل بغير تحقيق إلى محاكمة تقوم بها الأمة! فلم تتعدد جهات الحماية ودفع الأذى عن القاتل ولو كان ظالمًا، بل توحدت ليسود السلام كل بقعة وكل قبيلة وكل عشيرة وكل فرد فتتولد الحرية الشخصية وحق الحياة.
هذا في الداخل، أما في الخارج فقد اتجهت نية الرسول إلى تربية هذه الأمة وإعدادها لدفع غائلة الحرب من الخارج، وقد كانت كلها حروب دفاع كأحد والخندق ما عدا غزوة بدر التي كانت ضرورة لنهضة الإسلام، ولم تكن حرب مال أو نهب غنائم كما زعم بعض المستشرقين، فالمؤمنون إخوة ولكنهم في دفع العدو الخارجي لا يحاربون باسم الإخاء، وإنما باسم الأمة، فالأمن الداخلي قائم على القصاص، ولكن الأمن الخارجي قائم على الدفاع عن الملة، فصارت له صفة خاصة، فصار الانتقام من العدو الخارجي لا انتقامًا فرديًّا أو قبليًّا ولكنْ ذا صبغة حربية، وكما أن سلم المؤمنين واحدة (أي عامة) كذلك صارت حرب المؤمنين واحدة؛ أي عامة، فيتبع هذا أن لا يصطلح مؤمن مع عدو وبدون إذن أخيه المؤمن أو علمه؛ بل يكون الصلح عامًّا شاملًا متفقًا في شروطه، فاليهود الذين يختلفون نوعًا عن المهاجرين وبني قيلة في انضمامهم إلى الأمة بحكم جوار المنازل لهم نوع من الاستقلال الذاتي في داخل أمورهم؛ كالإجارة والولاء فيما عدا قريشًا، ولكنهم تنازلوا عن حقوقهم في محاربة من يضمهم العقد، فإذا نشب خلاف بينهم رفعوا أمره إلى الرسول ما عدا شئونهم الأهلية البحت، وعليهم أن يعينوا على من يهاجم يثرب ويمدوا المؤمنين بالمال في سبيل حروبهم إذا لم يريدوا أن يشتركوا في الحرب بأنفسهم، وقد يحاربون من تلقاء أنفسهم من عاداهم من خارج الأمة، ولكن بإذن الرسول فيما كان تفهًا لا يؤبه له، فإذا كانت هذه حال اليهود فلا شك أن القبائل العربية الأخرى قد جرى عليهم القانون مجراه على بني إسرائيل، ولكن اليهود قد أدركوا قيمة الفرق بين الحرب في سبيل الله والحرب في سبيل الوطن، فهم لم يلزموا بالحرب مع المؤمنين دفاعًا عن دينهم، ولكنهم ملزمون بالحرب إذا هاجم المدينة مهاجم يريد هلاكها، فإن المنفعة مشتركة ولا يمكنهم أن يتخلوا عنها، وهكذا يكون موقف المشركين، فلا دخل لهم في حروب العقيدة، ولكنهم مطالبون بالحرب في الدفاع عن الأمة، وفي الحق لم يكن عدو يهدد المدينة غير قريش منذ وطئها النبي والمهاجرون، وإن كان أهلها قبل ذلك في رعب من هجوم يهود من الشمال أو عرب الغساسنة من الشام.
ولكن وصول النبي قضى على تلك المخاوف وحصر الدفاع في ناحية واحدة، ومما لا ريب فيه أن الأنصار كانوا من حيث التبعة في محاربة قريش في درجة واحدة مع المهاجرين وربما زادوا؛ لأنهم بايعوا النبي مرتين أو ثلاثًا قبل الهجرة على أن يدافعوا عنه كدفاعهم عن أنفسهم وأولادهم، وهو الآن في وطنهم، وقد ازدادت هذه الرابطة توثُّقًا.
لقد زعم بعض القارئين لنص الصحيفة أن فيها غموضًا وإبهامًا، ولكن هذا وإن لم يكن مقصودًا إلا أنه جاء لحسن الحظ لمصلحة الفريق الأقوى — وهو النبي وأتباعه من المهاجرين والأنصار — الذي يعنيه التفسير اللفظي والمعنى الحرفي، ولا يملك أحد أن يزعم أن الصحيفة مكتوبة بصيغة تجعل لها أكثر من معنى واحد كما هي حال بعض الوثائق السياسية، فإن الرسول أبعد الناس عن المظنة، ولكنها محررة بأسلوب الزمن الذي كُتبت فيه، وإن المعاصرين لنا مهما حذقوا قراءة النصوص القديمة فلا يمكن أن يقيموا دليلًا ينقض هذا، فمثلها كمثل الأوراق التي دُوِّنت في السنوات الأولى من الهجرة، ولا شك في أنها من وثائق هذه الفترة، غير أنه يُرى في مجموعها أنها ترمي إلى اجتذاب العناصر التي ما زالت مترددة في الإسلام والأخرى المعادية التي لا تقدر على الجهر بعدائها. وشخصية النبي ظاهرة فيها بموضع الاعتدال والتواضع والركون إلى الله؛ لأن الصحيفة ليست من الوحي ولا من الحديث في شيء، ولا هي بالمرسوم الملكي ولا الفرمان الهمايوني، وهذا يُعلي من شأنها ويرفع قدرها ويزيدها في تقديرنا؛ فإنها خلاصة فكر الرجل في الوصول إلى سلامٍ عامٍّ في البلدة التي هاجر إليها، فلا يتدخل في شئون الجماعة بأكثر مما هو في حاجة إليه لبلوغ هذه الغاية، فيترك المشركين في قبائلهم ما دامت هذه القبائل قد قبلتهم على ملتهم، ويترك اليهود في عشائرهم في أحضان الأنصار ما داموا في نطاق الأمة، ولا يتعرض لدينهم وعرفهم، ولا ينتظر من هؤلاء أو أولئك أن يتخذوا الإسلام دينًا، فهو يؤسس أمته على ما هي عليه؛ لأن هذا الأساس واجب ومحتم، بل هو أداة تربية الأمة وإعداد العدة.
أما تاريخ الصحيفة فلا شك أنه كما قلنا في عصر الذهب اللامع والآمال البراقة من الجهتين، قبل موقعة بدر؛ لأن محمدًا بعد بدر غيَّر لهجته في مخاطبة الجميع بأمر الله ولا سيما اليهود، أما كونها صحيفة صحيحة أي صادرة عن النبي فلا يمكن الجدال فيه، ولا يمكن القول بأن مؤرخًا لاحقًا افتعل هذه الصحيفة أو اصطنعها في عهد الأمويين؛ لأنه لا يرضي أحدهم أن يقدم رابطة الأمة على رابطة الدين كما هو مرمى الصحيفة في أول أمرها للضرورة السياسية والاجتماعية عند تأسيس الدولة وتأليف قلوب عناصرها، ولم يكن في قلب أحد من العداء لقريش غير أعدائها الأولين الذين أخرجتهم من ديارهم وسلبت أموالهم وخربت بيوتهم وقتلت أولادهم، ولا يمكن لأحد من اللاحقين أن يدرك فكرة تنظيم الحياة المدنية في يثرب على أساس السلم الدائم وحقن الدماء وإدماج العناصر لمواجهة الأعداء بجبهة متحدة، وقد لا توجد وثيقة أخرى من إنشاء الرسول ومحض تفكيره لم تتجمل بالوحي الإلهي المباشر، فإذا أضفنا الأسلوب الذي ينطق بعصر تحريرها جزمنا قطعًا بأنها صحيفة صحيحة لم تمتد إليها يد غير يد الذي كتبها بإملاء الرسول في العصر الذي حددناه، وفي هذا العصر نفسه تراخت العلاقات بين يهود وبين الأنصار فوجب على الرسول أن يعيد بناءها على أساس جديد؛ لأن الأساس القديم قد انهار، ولأن الأنصار عزفوا عن الاعتزاز باليهود في الحرب ما داموا قد جلبوا إلى المدينة نبيًّا مرسلًا له كتاب ككتاب موسى وشريعة كشريعة بني إسرائيل، وإن موسى بن عمران قد مات من ألوف السنين، ولكنَّ محمدًا ما يزال على قيد الحياة ويُنتظر منه ومن رسالته الشيء الكثير.
إن إيجاز الجمل وشفافيتها تدل على أن المقصودين بالصحيفة يفهمون الإشارة والإيماء ويستغنون بالتلميح عن التصريح، فالكلام قصير، والنصوص مختصرة مقتصرة على المقصود، والمعاني طويلة بعيدة عميقة، والنبي لا يزيد على أنه محمد النبي أو محمد وحسب، وفي نهاية الوثيقة: محمد رسول الله، كأنه توقيع، أما المسلمون فهم المؤمنون كما يسميهم القرآن، ويغلب على أسلوب الصحيفة لهجة قانونية كأنها بقايا مصطلح قضائي عفى عليه الزمان، قد جاء حتمًا من أسلوب الكتاب الذين في المدينة وهم تلقوا فنهم على غيرهم من أهل الصناعة.
أما بنو قريظة فلم يظهروا أن لديهم عهدًا مكتوبًا ولم يتمسكوا بصحيفة، كأنهم لم يلتقوا بالنبي في فناء رملة بنت الحارث، وكأن الصحيفة التي لا شك في وجودها لم يحتفظوا منها بصورة أو نسخة وهم أحرص الناس على كتاب ولا سيما بعد موقعة بدر، ولكن بلغ الكفر والفجر والبطر بزعيم بني قريظة كعب بن أسد أن يمزق شرَك نعله؛ ليدلل على قطع علاقته بأهل المدينة، فلعله ألحن بهذا الشرَك إلى الحبل الذي يلتف حول عنقه عما قريب، فإن صح أن بني قريظة لم يملكوا صورة من الصحيفة فلأنهم وغيرهم من عشائر إسرائيل لم يتحدوا في رابطة سياسية يهودية، وإنما دخلت على عشيرة منهم في أكناف القبيلة العربية المجاورة لمنازلها، فكان المسئول أمامه قبائل الأنصار عن أنفسهم وعمن دخلوا في حرمتهم من اليهود؛ لأن الأنصار كانوا حماة اليهود منذ تغلبت الأوس والخزرج عليهم، فالأنصار مدينون لليهود بجوارهم وإجارتهم ومدينون للرسول بتنفيذ ما جاء في الصحيفة، وهذه الرابطة بين الرسول والأنصار هي التي عاقته من أن يعامل اليهود معاملة الخوارج على القانون فيُهدر دماءهم، فهذا العقد قد أضيف إليه «عهد» و«ذمة» لم يكن النبي أول من يخفره أو ينقضه.
وهكذا تخرج الصحيفة ظافرة من ظلمات التاريخ لتلقي شعاعًا هاديًا على أول عمل سياسي دستوري أنتجته قريحة الرسول بمجرد وصوله إلى المدينة؛ فقد رمى نظرة فاحصة صائبة على هذا المجتمع الفطري، ورأى في لمحة موفقة طرائق العمل التي تؤدي إلى التوفيق بين هذه العناصر المختلفة، فتقدم إليهم بهذه الصحيفة التي نترك الحرية في تسميتها للقارئ المجتهد، وهي عمل سياسي عبقري، لا عمل راعي غنم ولا يتيم أبي طالب ولا تاجر جلود، ولكنه عمل يفوق أعمال ساسة اليونان والرومان، لا باعتباره أميًّا أو عربيًّا في القرن السابع الأوروبي، بل باعتباره سياسيًّا حديثًا يؤسس دولة، وقد قامت دولة أوروبا من قديم على الأساطير والميثولوجيا؛ فقد كان ييزيو مؤسس أثينا إلهًا جعلوه رجلًا، وكان ليكورجوس وصولون وداكون أنصاف آلهة وأرباب، وصارت قوانين جوستينيان مضرب الأمثال في العظمة مع أنها وُضعت لتغليب القوي على الضعيف، ولكن هذا القانون الأساسي كان فعل محمد بن عبد الله الذي لم يشأ أن يُصَدِّرَهُ: باسمك اللهم، ولا بسم الله الرحمن الرحيم، ولا يصف نفسه بالرسالة إلا في آخره إمضاءً لا تزكية؛ وذلك لأنه كان يرتبط باليهود وهم أهل كتاب غير كتابه، وبالمشركين من الأوس والخزرج وهم لما يؤمنوا برسالته، ولم يقم حفلًا ولا اجتماعًا غير الذي ذكره الواقدي عرضًا (ص٩٨٠) بأن يهود جلسوا إليه في فناء بيت رملة بنت الحارث في ظلال النخيل، ولكن هذا القانون الأساسي سرى ونفذ وقضى على الخصومات.
وسواء أقطع كعب بن أسد سيد بني قريظة شراك نعله ليظهر نقضه أم مزق صورة الصحيفة التي كانت بين يديه، فهذه شنشنة نعرفها من أخزم، وقد كلفه شرك النعل غاليًا؛ فقد كان سببًا في إبادة قومه وإهدار دمائهم، فإن الجهر بالعداء بغير كرامة يدل على الخنوثة والغدر وليس شيء منها جديدًا على قوم كعب، أما أن محمدًا ﷺ تغير في معاملته إياهم بعد بدر فلا عجب، فإنهم حالفوا المنافقين عليه وتألبوا ليقهروه بعد مؤامرتهم على قتله، وقديمًا دست له السم إحدى بناتهن فمات اثنان من صحابه ونجا من الموت بمعجزة، وتطاولوا عليه، وما عجزوا عنه وكلوا أمره لعبد الله بن أُبَيٍّ الذي ما زال يفاخر بمحالفتهم، فإذا ما رفع عن ظهره حمل الحذر من قريش وهذه قريش قد هزمت فلا داعي للخوف من يهود المدينة الذين أرادوا استغلال دينه وحاولوا إرغامه على أن يكون لهم مكملًا لشريعة موسى فيصبح حاخامًا أو «رابانًا»، معاذ الله، وهم لم ينصفوا أنبياءهم وقتلوهم بغير ذنب، وعبدوا العجل بعد الله ولم يذكروا نعمة الله الذي فضلهم على العالمين بعقيدة التوحيد، وصلبوا عيسى في زعمهم وهو خير رجل ظهر فيهم، فهل يرجى من هؤلاء خير أو يؤمل فيهم فلاح؟ وهل أشفقوا على أحد من الرسل أو الملوك والمصلحين قبله حتى يشفقوا عليه أو يطيعوه؟! فحسنًا فعل، ولم يكن يملك أن يفعل أقل من هذا أو خيرًا منه.