المنافقون في المدينة
لا تكمل صورة الحياة في المدينة بدون الإسهاب في الكلام على المنافقين؛ لأن هذا الفريق من الناس وإن لم يكونوا جنسًا أو طبقة أو حزبًا، إلا أنهم كانوا أقوى من كل هؤلاء مجتمعين؛ لأن أعمالهم وأقوالهم تتم في الخفاء، وقد أتقنوا الظهور بما ليس في قلوبهم ويمكنهم أن يكذبوا وينكروا ما قالوا أو فعلوا، ولهم أسلحة عدة؛ منها: التقلب، والغدر.
أما أصل كلمة النفاق في اللغة العربية فقد لا يؤدي المعنى الذي تم الاصطلاح عليه، ويمكن الحصول على تعريف المنافق تعريفًا وافيًا من القرآن والسنة، أما المادة اللغوية نفسها فهيهات أن نبلغ بدرسها أربًا، فالدابة تنفق، والنَّفاق — بفتح النون — رواج البيع، وأنفق الرجل افتقر وذهب ماله، والإنفاق كالإملاق، وهو غير النفقة المعلومة بمعناها الشرعي والاقتصادي، والنفق سرب تحت الأرض له مخلص إلى مكان، وليس في أي لفظ من هذه الألفاظ ما يدل على المعنى الذي نقصد إليه، وقد جاء في بعض المراجع أن كلمة منافق بالمعنى المطلوب حبشية الأصل، ودلالتها أن الرجل ستر كفره بقلبه وأظهر إيمانه بلسانه، ولعل في معنى النفق (السرب) أو جحر اليربوع الذي تحت الأرض يفرُّ إليه ليخفي مكمنه مقاربة إلى المقصود، وعلى كل حال؛ فإن النفاق معروف عند الناس جميعًا، فلا داعي للإسهاب في تحري اللفظ، فإن له شبيهًا أو مرادفًا في كل اللغات، وهو في حياة الحيوان نوع من التغمية؛ فإن الحرباء تتلون بألوان الشجر والأرض؛ لتخفي نفسها عن أعين من يقتفيها ليؤذيها، وقد جعلت الطبيعة بعض الحيوان بلون البيئة التي يعيش فيها؛ حماية له ووقاية، كالأسد والنمر المخطط والغزال وحمار الوحش وأنواع السمك والأصداف، وفي الحروب اتخذت الجيوش التغمية بالألوان؛ لتخفي أدوات القتال في الأشجار وعند السير والمهاجمة وغيرها، فهذا نوع من النفاق الذي يصحب الحيوان طول حياته لحماية حياته، فكأن النفاق ضروري للضعفاء في أوقات الخطر، أو الأقوياء الذين يريدون أن يزدادوا قوة في محاربة العدو.
وفي اللغات الأوروبية النفاق مأخوذ من اليونانية، بمعنى لعب دورًا أو مثَّل دورًا، فهي كلمة فنية؛ لأن الرجل يظهر بغير حقيقته فيكون ملكًا أو صعلوكًا أو عاشقًا أو شجاعًا وهو في الحقيقة صعلوك أو غير محب أو جبان، ولكنه يستطيع بنظرته أن يقنع المشاهد أنه على طبيعة الذي يمثله؛ فمضحك الملك والأحدب ولابس الطرطور منافق حاذق بعد أن يفيق من الذهول الأول في بلاط الملك.
ولكن هذه كلها معان أولية؛ فقد اتسع نطاق النفاق في المجتمعات الإنسانية وصار فنًّا بأصولٍ وقواعدَ ثابتةٍ، وتشعبت أطرافه في السياسة والاجتماع واتخذ مكانته المعروفة، فيقال في الكتب الأوروبية: النفاق الاجتماعي، وهو كل ما يقتضي ظهور الإنسان بغير حقيقته في المجالس والمآدب والمعاملات، وهو في السياسة إبداء غير ما يضمره رجالها في البلد الواحد أو في البلاد المتباينة، وقد صار أمرًا من الأكاذيب الكبرى المتفق عليها، ويقول الفرنسيون: إنه اعتراف من الرذيلة بسمو الفضيلة؛ لأن المنافق يخفي رذيلته وراء مظهر الفضل.
ولسنا بصدد الكتابة في النفاق وتشخيص أعراضه وتحليل نفسية المنافق وتعليل نفاقه أو ذكر عناصر النفاق المفادة من الوراثة والتعليم والعدوى الاجتماعية وضعف النفس والاضطرار، ولكننا بصدد التبيين لما كان من شأن المنافقين في مقاومة الدعوة المحمدية في المدينة؛ فقد كان سلاحًا ماضيًا فتاكًا فتكًا ذريعًا يوشك أن يقضي على كل النهضة.
ولا شك كان النفاق من الرذائل المعروفة عند العرب في الجاهلية وإلا ما أتقنه منافقو المدينة، وكان بعض أهل مكة من كبار المنافقين، وحتى المسلمين كان منهم منافقون مهرة، فأبو لبابة كان منافقًا عندما غدر برسالة الرسول إلى بني قريظة وأطلعهم على ما ظنه قصد النبي، ثم ندم وتاب وربط نفسه بسلسلة في إحدى أساطين المسجد، ولكن نفاقه كان قصير الأمد فأسرع إلى التوبة. لم نعثر على شعر جاهلي يصف النفاق، ولكنا لا نشك في وجوده؛ فإنه حالة من حالات النفس التي لا يمكن أن تكون قد فلتت من ملاحظة الشعراء؛ فهو حتمًا في الفطرة الإنسانية نوع من الوقاية عند الخطر، وأوله النفاق السلبي؛ وهو إنكار الفعل أو القول، ثم هو مزيج من الجبن والأنانية والكذب والخداع والاستهانة بعقل الغير والجرأة على الحق، ولا يجوز أن نخلط بينه وبين المجاملة الاجتماعية والمداراة التي قيل بسببها: «دَارِهِمْ ما دمتَ في دَارِهِمْ، وأرضهم ما دمت في أرضهم.» وقال رسول الله: نبشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم. فهذا لون من أدب الاجتماع؛ لأن ظهور المرء بحقيقته في كل الأحوال مدعاة للهلاك ومُظهر للعداوات ومحرك للأضغان ومُسقط للهيبة بسبب فجر الخصم وانفجاره، ثم إن الظهور بالمجاملة والمداراة للسفهاء واللئام دفاع مشروع عن النفس للخلاص من أذاهم ورد لكيدهم في نحورهم، وهو مشروع على أساس انتشار الشر في الطبيعة الإنسانية وحاجة المرء العاقل لاتقائها، وقد اخترع غلاة الشيعة «التقية»؛ أن يظهر الشيعي المغالي بمظهر السني ريثما ينجو من البيئة التي يخشى خطرها، وهم الذين ابتدعوا قولهم: «أخفِ ذهبك وذهابك ومذهبك»؛ أي مالك وطريقك التي تسلكها وعقيدتك.
فالنفاق من صفات الضعفاء أو الأقوياء الخبثاء، وهو من أهم صفات المرأة في كل عصر ومكان وسنٍّ؛ لأن المرأة محتاجة إليه دائمًا؛ فإن أهم حاجتها إلى الرجل والمال، وأهم خلالِها الحبُّ والبغض، وأهم مصادر قوتها الكذب والتضليل، والأنثى بصفة عامة منافقة، والنساء أكثر نفاقًا فلا يخلو لفظ أو فعل من ألفاظها وفعالها من النفاق، فهي تمثل دور العشق مع من تبغض، وتدعو بطول العمر لمن تتمنى ولو بجدع الأنف هلاكه وموته، وتظهر بالضعف وهي أقوى ما تكون، وبالفقر وهي غنية، وتنافق مع من تحب فتُظهر له البغض؛ لتشد عليه وتزيده ارتباطًا بها، ولذا تنجح المرأة في التمثيل والتجارة والسياسة والتجسس (معظم جواسيس الدول في أشد أوقات الحروب حرجًا من النساء، فهن أعين وآذان صالحة جدًّا فينلن ما لا يظفر به الرجال)، ولا يفلحن في العلم ولا القضاء ولا الصناعات والفنون، وأكثر نفاقهن معلل بضعفهن المزعوم، وعلى القارئ أن يستعيد بذاكرته وخياله صورة امرأة في شتى مسالكها؛ فيفهم النفاق على حقيقته، فالمرأة وحدها هي التي «تدبر من تحت لتحت»، وهذا هو بالدقة معنى اللفظ الإغريقي الذي تطور إلى ما نعلمه.
ومن أكابر الكتاب الذين برعوا في وصف النفاق وصفًا علميًّا لابرويار الفرنسي من فطاحل النصف الثاني من القرن السابع عشر، كان مريدًا لثيوفراست اليوناني وأستاذًا لأمير كونديه، وقد أبدع في تصوير أخلاق أهل زمنه ففاق الأوائل والأواخر في وصف النفاق.
ومن الأوضاع الاجتماعية التي تحتم النفاق في سبيل العيش: الضعيف بين أقوياء، وقد عبر عنه الشاعر العربي:
وقال الآخر يركن إلى الفراسة في كشف قناع المنافق:
لأن العين تنطق بغير ما ينطق به اللسان.
ومن تلك الأوضاع وضع الضرائر اللاتي يعشن في كنف زوج في بيت واحد، واللواتي وإن اختلفن دارًا يجتمعن أحيانًا فيقبلن بعضهن بعضًا ويتعانقن، والواحدة تريد أن تفري جلد الأخرى وتهلكها بالغرق والنار إن استطاعت!
ومنها حياة أبناء الزوج في بيت زوجة أبيهم سواء كانت أمهم على قيد الحياة أو متوفاة، وكذلك أولاد الزوجة في بيت زوجها، ومن يرغم على تهنئة زوج امرأة كان يخطبها ولم يسعده القدر بزواجها، والتي تهنئ عروسًا يأخذها خطيبها، والذي يفرح لشفاء عدو له من مرض كان يرجو وفاته بسببه، وحرمه الشفاء من خير كان يؤمله؛ كميراث أو إقصاء عزول إلخ! كل هذه مواقف حرجة تقتضيها حياة المجتمع في أطواره المختلفة، والمرءوس الأكفأ من رئيسه، والعالم أو الأديب المقل في عشرة الغني الجاهل إن لم يربأ به علمه وأدبه عن الوقوف هذا الموقف المخجل.
وفي الأدب القديم أمثلة للنفاق أفرغها المؤلفون في قصصهم مثل تارتوف في قصص موليير، وهو المتدين في الظاهر الفاسق في الحقيقة، يستغل مال صاحبه ويطمع في عرضه، ورجال البلاط في قصة هامليت أمير دنمرك «لشكسبير» وياجو برواية أتلو «لشكسبير» وهو الذي يودي بنفاقه بحياة البطل الأفريقي وزوجته الجميلة الشابة، ورجال البلاط الروماني في عهد نيرون والإمبراطور طيبريوس نفسه ووزرائه (راجع حوليات تاسيت)، وقد حَسَّنَ ندماء نيرون له أن يحرق رومة ويفتك بزوجته ويغتال أمه ويعزل سنيكا الحكيم، وكذا يهوذا الأسخريوطي الذي أسلم المسيح وباعه بنقود لليهود ليصلبوه من أئمة النفاق، وكذلك كان فوشيه الشرطي الفرنسي في غدره بمولاه بونابرت ومترنيخ النمسوي.
ومعظم المحيطين بالمستبدين منافقون، وإلا فلا حياة لهم؛ لأن الصراحة ألد أعداء الملوك المستبدين والرؤساء الجائرين، والوسطاء طبقة منافقة؛ فهم يحسِّنون السَّيِّء ويشوهون الحسن، وكذلك اللواتي يمارسن وظيفة الخطبة بين الأزواج، حتى إن القانون حرم مكافأتهم على ما يتم من صفقات الزواج على أيديهن.
وقد توصف طائفة بأجمعها بالنفاق كالجيزويت (اليسوعيين) مع أنهم من خيار الكاثوليك؛ فقولهم جيزويتي مرادف لمنافق، وتجرأ بعض الكتاب فوصف أممًا بالنفاق فقالوا: النفاق الإنجليزي أشهر من أن يذكر! ولكن في هذا مبالغة؛ فقد يؤخذ الحذر وبعد النظر كالذي عند اليهود وبعض الإنجليز بأنهما نفاق، ولا دخل لنا في هذا.
نخلص الآن من هذا التعريف بالمنافقين الذي لم يكن منه بد إلى وصف المنافقين في المدينة، فبدونهم لا تتم الصورة الحية التي نحاول أن نرسمها لهذا البلد الذي لولاهم ولولا اليهود لكان بلدًا أمينًا حقًّا. كان المنافقون في البلد جيشًا لا يقل عن ثلاثماية من الأعيان والأفذاذ والفصحاء والوجهاء، كانوا «طابورًا خامسًا» من الطبقة الأولى، وكانوا مسلحين بكل أسلحة النفاق؛ وهي حلاوة اللسان، ووجاهة المظهر، والغنى، والذكاء، والكذب، والخداع، والطمع، وسعة الحيلة، وحضور البديهة، ولو أن هداهم الله واستعملوا هذه الصفات في الفضيلة والعقيدة كانوا من أسعد السعداء وأقوى الأنصار، ولكن هذه المحاسن كان يشوبها الجبن والخبث النسوي والالتواء العقلي، فكلُّ منافق في نظرنا مريض جبان لا يسير على منطق، لأنه لو أنعم النظر لرأى ما يعود عليه من النفع بالنفاق موقوتًا لا يتجاوز وقته مع أنه يكلفه كثيرًا. وإنه مع ضعف المسلمين في أول أمرهم كان المنافقون مع قوتهم يخشون جانبهم؛ جانب الصراحة والشجاعة فيهم، ويخجلون عند المواجهة، كما كانت حال فنحاص الذي أنكر اسمه أمام النبي أنه نسب الفقر لرب المسلمين وهو ربه؛ لأنه يهودي موحد من أهل الكتاب وأتباع موسى، ومحمد لم يقل: إن له إلهًا غير إله موسى. ولكن فنحاص أراد النَّيل من محمد وأبي بكر والقرآن لا من ربه؛ لأن التوراة تطالب اليهود بالعطاء وإقراض الله قروضًا حسنة، فلما صفعه أبو بكر بادر بالشكوى إلى الرسول وأنكر قوله حتى نزل قرآن يؤيد أبا بكر في دفاعه.
وسبب رعب المنافقين واليهود من النبي أنه جاملهم وتواضع لله وعاهدهم ووادعهم، وقد أجمع المؤرخون على أن رأس النفاق في المدينة عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول الذي أسلم ابنه قبله ثم أسلم هو أيضًا ولم يشفه الله من النفاق، وقبل إسلامه كان يظهر العداء جهرًا، ولما وجد أن العداء المفتوح يجلب عليه الويلات ويبيح دمه اتخذ الإسلام ستارًا يقيه شر الانتقام، فالمنافق هو المسلم الذي أسلم اضطرارًا وبقي في قلبه مشركًا وعدوًّا لدودًا للمسلمين، ومنهم الجلاس بن سويد بن الصامت وكان زوجًا لأم عمير بن سعد، وقد رباه يتيمًا لا مال له فكفله الجلاس وأحسن إليه؛ إكرامًا لأمه، وفي ظني دون أن يمس هذا الظن كرامة عمير، أنه أسلم مبكرًا؛ ليخرج على الجلاس غيرةً على أمه؛ فقد كان يتألم لبقائها في بيت رجل غريب واضطراره لأن يطيعه (وليس كل الناس على مذهب: من يعقد على أمي أدعوه يا عمي)، ففي إحدى الليالي دخل الجلاس داره وتعشى واستلقى على فراشه ثم أخذ يستعيد حوادث النهار فقال مفضيًا بدخيلة نفسه بمسمع من زوجته وربيبه عمير: «لئن كان ما يقوله محمد حقًّا فلنحن شر من الحمير.» أي إنه والمنافقون حمير؛ لنفاقهم وتكذيبهم الرسول بعد أن أسلموا، فإنه في الواقع موقف خاطئ مكذوب مزور عقيم لا طائل وراءه، فهم مسلمون يصلون ويعبدون وينادون محمدًا برسول الله، وفي الوقت نفسه لا يؤمنون بالقرآن ولا بمحمد! فإذا كان الرسول على حق فكيف موقفهم مع الله، ولو لم يكن على حق فأي نفع لهم من هذا الإسلام الذي أعلنوه.
ولكن يظهر أن «الاستحمار» قد أوشك أن يثبت في ذهنه في ذلك الوقت الصافي وهو بعيد عن شياطينه وأصدقائه المنافقين واليهود، يعني وا خسارتاه لو كان محمد نبيًّا حقًّا والقرآن منزلًا صدقًا، سوف نحاسب على نفاقنا حسابًا عسيرًا! هذه مناجاة كانت لو تركت لعلها تقود الجلاس من تلقاء نفسه إلى الإيمان بالتدريج؛ لأنه بدأ يشك في إنسانيته وإنسانية حزبه، وبين الشك واليقين خطوات.
كان عمير متيقظًا فسمع كلام زوج أمه فلم يطق عليه صبرًا، فقال له: يا جلاس (ولم يقل له: يا عمي)، إنك لأحب الناس وأحسنهم عندي يدًا (عرفان بالجميل وشجاعة)، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك، ولئن أصمت عليها ليهلكن عليَّ ديني، ولَإحداهما أيسر عليَّ من الأخرى؛ أي إن فضيحتك أهون عليَّ من هلاك الدين.
ومشى عمير إلى رسول الله وذكر له مقال الجلاس، فأرسل الرسول للجلاس وسأله، فحلف بالله لقد كذب عليه عمير، وما قلت ما قال عمير.
فقال عمير: بلى والله لقد قلته فتب إلى الله، ولولا أن ينزل القرآن فيجعلني معك ما قلته. وهنا يتغير سبب البلاغ؛ فقد خاف عمير هلاك دينه، والآن خشي نزول القرآن واقترانه بالجلاس إذا صمت وستر عليه، ثم إن عميرًا قال: اللهم أنزل على نبيك تكذيب الكاذب وتصديق الصادق. فأمَّنَ الرسول على دعوته فنزلت آية: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَروا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ … فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ. فاعترف الجلاس وتاب وقبل الرسول، توبته وحسنت توبته ولم ينزع عن خير كان يصنعه مع عمير، فكان ذلك مما عُرف به حسن توبته، فقال الرسول لعمير: «وقيت أذنك.»
هذه الحالة من النفاق بسيطة سهلة محمودة العاقبة، لكنها دلتنا على أشياء كثيرة؛ فمنها: يقظة الشباب، وشدة إيمانهم، وفرحهم بالإسلام، وغفلة الكهول وضلالهم، وحماسة عمير؛ وهو الذي نشأ وترعرع في حجر زوج أمه فأنفق عليه ولا مال له؛ فهو بمثابة والده، وصراحة شباب المسلمين من أهل المدينة، فإنه لو صمت وكتم إلى أن قال للرسول لكان جاسوسًا مذمومًا، ولكنه صارح الجلاس بعزمه واعتذر إليه بأن دينه أغلى عليه من ممالأة زوج أمه الذي يبره ويعيِّشه، فهو مثال للمؤمن الصادق، كما أن الجلاس أسلم على زغل وما زال قلبه مملوءًا بالشك؛ ولا نقول بالكفر؛ لأنه عندما سئل صنع كفنحاص ثم تاب، ويُظهر لنا حديث عمير أن أهل المدينة كانوا يخشون القرآن خشية عظيمة، ويعتقدون أنه كائن حي، وأنه سوط عقاب وإرهاب؛ فإن الله يعلم الغيب ولا يكتمه على لسان نبيه، وكل آية تنزل معلوم سببها وأشخاصها وحوادثها، فتنقلها الألسن وتُصغي إليها الآذان، ثم تُحفظ وتُتلى إلى آخر الدهر، فهو أقوى من القوانين وأشد من الأحكام النهائية المحترمة المهيبة، يستمد قوته من الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا تأخذه في الحق لومة لائم أو غضبة غاضب، ولم يكن الجلاس بالأبله أو المغفل الذي يسيء إلى عمير بعد ذلك؛ فقد حماه الرسول وأكرمه الله بإجابة دعوته التي أمن عليها النبي وثبتت ضغينته إذا أساء إليه الجلاس، ولعل هذه المحاكمة الرقيقة التي أعقبتها توبة قضت على البقية الباقية من الشك في نفس الجلاس فوصل إلى نهاية «الاستحمار» ثم عاد إنسانًا سويًّا!
ولكن أخطر من الجلاس وأكثر شرًّا نبتل، قال الرسول في وصفه «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.» كان يجلس إلى النبي ويسمع حديثه وينقله إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم: «إنما محمد أُذُنٌ؛ من حدَّثه بشيء صدَّقه.» أي ما يقصد إليه العوام في مصر بقوله: «فلان وِدَنِي» — بكسر الواو وفتح الدال — أي سهل التصديق سريع الاعتقاد فيما يقال له ولو كان على حبيب، وهذه صفة لا تليق بالرجل العظيم؛ فضلًا عن الرسول! ومعنى هذا أن نبتلَ زعم أنه لا يكتفي بنقل الأحاديث بل يتجسس على النبي ويدرس أخلاقه ويصوره للمنافقين، وقد نزلت فيه الآية: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ … الآية.
وقد وُصف نبتل بأنه نقَّال للحديث، كبده أغلظ من كبد الحمار، وقد كان نبتل جاسوسًا للمنافقين واليهود، فأراد أن ينال من النبي في ناحيتين: الأولى: أنه يصدق كل ما يقال له فلا يخشى المنافقون غضبه؛ لأنه سوف يصدق أكاذيبهم. والثانية: أن الرسول من بساطة التكوين بحيث تنطلي عليه كل حيلة ويدخل في رُوعه كل شيء حتى لو كان وقيعة في مؤمن أو حبيب.
ولكن أين الجلاس ونبتل من ابن أبي نابغة النفاق ورأس الضلال الذي جعل النفاق فنًّا متقنًا وجعل النفاق منه وعاءً للخبث وعلمًا على الرذيلة، وقد نال من الإسلام نيلًا شديدًا في أول أمره، لو لم يكن هذا الرجل عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول منافقًا لكان في مقدمة الصحابة من الأنصار؛ فقد كان من أعظم أشراف المدينة وكان مرشحًا للملك، فلما انصرفوا عنه بحضور النبي حقد عليه وضاغنه واستعمل ضده كل أسلحة اللؤم والنفاق، وأنا أراه مخطئًا؛ لأنه إن لم يفلح في زعامة فكان عليه أن يسير في ركاب المفلح، فما هو بأكبر من أبي بكر وعمر وعلي، ولا بأعظم من عظماء الأوس والخزرج: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن رواحة، وعبد الرحمن بن عوف، وأسعد بن زرارة، وعشرات سواهم كانوا معاصريه ورفقاءه ولم يقلوا عنه شرفًا، ولم يشاركوه في فضيحة قذرة؛ وهي استخدام جواريه في البغاء وجمع السحت الناتج من الدعارة؛ ليزيد به ماله، حتى نزلت فيه آية تصفعه؛ لإكراهه إماءه على الزنا: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ….
وهذا الرجل أسلم لما رأى إجماع قومه على الإسلام ولما رأى ابنه مسلمًا مؤمنًا من صحابة الرسول، ولكنه أسلم خداعًا وهو يصر على النفاق، ونحن لا نلومه على تعلقه بدينه الوثني؛ فهو حر في عقيدته، ولكن نلومه على نفاقه، فلو تمسك بدينه وحارب النبي جهارًا لكان حكمه حكم أحد رجال قريش أو ثقيف أو أحد رجال الأوس والخزرج الذين بقوا على الشرك للحظة الأخيرة أو ماتوا مشركين، ولكن العيب والجرم والخزي أنه حارب في أول أمره في الظاهر وتوقح وطال لسانه، ثم خاف فحارب في الخفاء جبنًا، ثم أعلن إسلامه واستمر على نفاقه، وكان أولى به أن يهاجر؛ فإنه كان أكثر مالًا وولدًا من المهاجرين الذين نزحوا من مكة إلى المدينة. وجاء فيه قرآن آخر: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا.
فإنه لما أُرغم «المرشح للتاج» على إقفال بيته الذي كان يديره للدعارة بعد نزول الآية وهي بمثابة القانون المطاع؛ لأنها نهي من الله وتحرم صناعة القوادة، وكف المنافق الأكبر عن أن يكون «ديوثًا» مرغمًا، اشتد حقده على محمد الذي لم يحرمه لذة الملك في المدينة بل حرمه أيضًا لذة الإشراف على العهارة وجمع المال. ولم يروِ التاريخ سيرة رجل كان يرجو الملك وهو قوَّاد غير هذا، فيا لفرحة اليهود بحليفهم!
اشتد غليان غيظه فلما قابل لفيفًا من أصحاب الرسول فيهم أبو بكر وعمر وعلي يسيرون في نزهة خلوية تحت أعناب المدينة ونخيلها قال القواد المطالب بالعرش لأصحابه: «انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم» (يقصد إلى الصحابة)، فأخذ بيد أبي بكر فقال: «مرحبًا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله ﷺ» ثم أخذ بيد عمر فقال: «مرحبًا بسيد بني عدي، الفاروق، القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله.» ثم أخذ بيد علي فقال: «مرحبًا بابن عم رسول الله ﷺ وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله.»
فقال له علي — ولم تجز عليه حيلته وإن كان كل ما قاله صدقًا: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق؛ فإن المنافقين شر خليقة الله تعالى. فقال المنافق: مهلًا يا أبا الحسن، ألِي تقول هذا؟! والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم! … ثم افترقوا.
فقال ابن أبي لأصحابه الذين شهدوا هذا الموقف: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرًا.
انظر هذا موقف من أبسط مواقف عبد الله الذي قلنا: إنه ذو شخصية لذيذة سنصادفها كثيرًا حتى بعد فشله وموته ونزول القرآن فيه وهو دفين، شخصية تصمد للعن والطعن والنيل والقدح، ولكنه نجا بجلده بسبب إيمان ولده لا بسبب مهارته، إنه يصِم خير الصحابة بأنهم سفهاء؛ أي لأنهم أسلموا وأطاعوا الله ورسوله وهاجروا، ولكنه لم يقل في حقهم إلا الحق، وهنا تصدُق كلمة علماء النفس؛ فليست العبرة باللفظ والمعنى، ولكن العبرة بالنغمة التي يقال بها اللفظ؛ فقد يقال لك الصدق عنك في وجهك ولكن بطريقة قاتلة ولو كان بأحلى الألفاظ وأبلغها، وقد يجيبك المحب المخلص بأبسط الألفاظ، وقد يكون عليها طابع الجفوة فلا تحس نحوه إلا بالحب لما تعتقده من إخلاصه.
ما الذي منع أبا بكر الذي صفع فنحاص، وعمرَ الذي كان أشد الصحابة وأقواهم، وعليًّا الشهم الأبي أن يجلدوا بهذا الكاذب وجه الأرض؛ عقابًا لها على أنها أنتجته، وأن يقضوا عليه بضربة حاسمة يسيل لها دمه ويهبط فيها ورمه وتزهق بها روحه، وهم يشعرون الإهانة في ثنايا الكلمات المعسولة.
لقد عاقهم عن ذلك، حتى اكتفى عليٌّ بالعتاب والتعزير، أن لابن أُبَيٍّ ولدًا مؤمنًا محبوبًا عند رسول الله، وأنهم لا يحبون أن يهرقوا دمًا لرجل وَادَعُوهُ وهو يُظهر الإسلام، وأن رسول الله كان يعتبره صاحبًا؛ بدليل قوله لعمر عندما رجاه في قتله: «أيقال محمد يقتل أصحابه؟!»؛ أي معاصريه من أهل المدينة الذين وادعهم وعاهدوه، كل هذه كانت تقف في سبيل قتله، وأكثر من هذا في أشد المواقف، والنبي يلتمس له الأعذار، ويفلت أسباب العقاب كرمًا منه وجودًا.