غزوة بدر الكبرى
(١) قبيل بدر
قضى الرسول والمهاجرون في المدينة قبل موقعة بدر الكبرى تسعة عشر شهرًا، كان آخرها رمضان من العام الثاني للهجرة، لم ينضب خلالها معين المهاجرين والأنصار ولكن قلَّ مالهم؛ لأن المهاجرين لا كسب لهم إلا قليلًا نادرًا، وقد بذل الأنصار معظم ما ادخروا وربحوا في معونة إخوانهم وأضيافهم.
ولم يكن الأنصار من قبل كلهم في غنى شديد؛ لأن اليهود أينما حلوا يمتصون مصادر الخير كلها ولا يبقون لأحد شيئًا إلا النذر اليسير الكافي لإعاشة الغرباء عن ملتهم حتى يستطيعوا الحياة والعمل لخدمة اليهود، ويحرص اليهود عليهم حرص البخيل على رفيقه الذي يجيعه ويفقره ليحتاج إليه؛ لأن المولى لا غنى له عنه، فكان أبو أيوب الأنصاري نفسه — وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة — لا يملك عند قدوم الرسول إلا غطاء واحدًا لنفسه وزوجته يطلقون عليه اسم قطيفة، روي أنه لما نزل للنبي في الدور التحتاني من منزله سال بعض الماء فخشي الرجل وامرأته أن يخر على الرسول فأتلفا القطيفة — وهي غطاؤهما الوحيد — في تجفيف الأرض المبتلة، وهذه الحالة العجيبة تدل على قدر ثروته؛ وهو أكبر الأنصار شأنًا، بينما كان اليهود غارقين في السجاجيد والبسط والنمارق والطنافس كعادتهم في كل عصر وفي كل مكان، لا بد أن يشقى من أشقاهم الدهر بجوارهم، هذا أمر لا شك فيه. فلما وصل المقداد بن عمرو إلى المدينة مهاجرًا لم يجد منزلًا يئويه (مسند، ج٣، ص٤)، وقل غذاؤهم وندرت ثيابهم حتى صارت خلقانًا.
وكان المهاجرون فرحين بذلك، يسرُّهم أن يقاسوا في سبيل إيمانهم وتلبية دعوة الله، فأقبلوا على الشدائد بقلوب المؤمنين المطمئنين، ولهذا الإقبال فرحة لا يذوقها إلا المجاهدون في سبيل كل غاية شريفة، حتى ولو لم يكن لديهم أمل في انفراج الأزمة؛ فإن طهارة ضمائرهم وشعورهم بالسمو والارتفاع عن التفاني في المادة يكفيان لإلهامهم الصبر والفرح ودبيب روح البطولة في أوصالهم، وهكذا كان المهاجرون في تلك الفترة، أما رسول الله فهو هو الغني بالله الزاهد في خيرات هذه الدنيا لحال خاصة به لا تدركها إلا النفوس السامية، وغني عن البيان أنه ما ترك دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة (أخرجه الصحيحان)، ولكنه لم يكن يعيش وحده؛ بل كان معه أهل بيته وصحابته وبقية المهاجرين وهم كثر، وكان في وسط لؤم من اليهود والمنافقين والمشركين ولا يسنده إلا الميسرون من الأنصار، ولم يكن بالرجل الذي يستغني لنفسه ويترك الذين تركوا وطنهم وأهلهم وأموالهم ومتاجرهم في سبيل الله وحده وهو رجل لم يذق الفقر في حياته، لا طفلًا ولا فتًى ولا شابًّا ولا كهلًا؛ فإنه نشأ في بحبوحة من مال جده وعمه وخديجة وأبي بكر وعثمان وابن عوف، وعرض عليه المشركون أن يقاسموه أموالهم مناصفة فأعرض وأبى، وقد آغناه الله فوق هذا كله بالقناعة فصار بحال يستوي عنده الحجر والذهب:
كيف وهو الذي نهاه القرآن الكريم بقوله الحكيم: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا؛ لأنك غني عنها بربك، ولكن ما العمل وحوله من حوله ممن ذكرنا؟! قال أنس: ما أمسى عند آل محمد صاع تمر ولا صاع حب وإن عنده يومئذ لتسع نسوة، ولكنه كان إذا أكل أكلة طيبة أو شرب شربة ماء بارد قال لصحبه: «لتُسألن عن نعيم هذا اليوم.»
واشتغل علي بن أبي طالب في الري ليهودي بثمرات معدودة (الترمذي، ص٧٣، ج٣).
ولما ابتنى الرسول على عائشة في الشهر السابع أو الثامن للهجرة لم يقم لها عرسًا ولا فرحًا، وقنعا بقدح من حليب، وعمل أبو بكر في البيع والشراء في سوق المدينة، واشتغل عثمان بن عفان فاكهيًّا يشتري التمر من بني قينقاع بالجملة ويبيعه بالمفرد، واختار عبد الرحمن بن عوف تجارة الألبان، وعكف ابن الخطاب على المساومة والدلالة، وأراد النبي أن يحرر أعناق المسلمين من ربا اليهود فحرَّم القروض على المواسم فلا يقترض الزراع مالًا على تمره قبل جَنْيِهِ؛ فقد كان اليهود يشترون نتاج المواسم بأبخس الأثمان عند اضطرار المزارعين، كما يصنع الروم في مصر في الأقطان والحبوب، وحاول بعض كبار المهاجرين أن يعملوا في النقل بين بلاد الفرس والمدينة (المسند، ج٣، ص٢٤٧).
ولم يقصر الرسول في احتمال العبء الأكبر من هذا الضيق المادي، ولم يميز نفسه أو أهل بيته بشيء، والأحاديث الصحيحة حافلة بما كان هو وأجلَّاء صحابته يعرضون له من حالات الحاجة الملحة، وأن الغالب فيهم كانت هذه الحالات، ولكنه كان دائم الوصية بالضعفاء فيقول: «ابغوني ضعفاءكم؛ فإنما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم.» ومر به مصعب بن عمير وكان من الأغنياء في مكة وما عليه إلا بردة مرقَّعة بفرو، فلما رآه الرسول بكى للذي كان فيه من النعمة، وهذا يدل على أنه كان شاعرًا بأحوالهم حساسًا لِمَا يمر بهم من الحوادث، ولكنه كان راضيًا؛ لأنه ينشئهم نشأة جديدة ويُعدُّهم لجلائل الأعمال، والذهب لا بد أن يُصهر قبل أن يخلص من خبثه، وإن كانت تؤلمه بذاذتهم ورثاثة ملابسهم، وعن عائشة في البخاري ومسلم: «اشترى الرسول ﷺ من يهودي طعامًا بنسيئة وأعطاه درعًا له رهنًا.»
وقد أنكر بعضهم رواية رهن الدرع وروايات الجوع وقالوا: أما كان في المسلمين مُواسٍ ولا مؤْثر ولا مُقرض، وقد أكثر الله — عز وجل — الخير، وفتح عليهم البلاد وجبَوا ما بين أقصى اليمن إلى أقصى البحرين وأقصى عمان، وكيف يجوع من يُجهز الجيوش؟! وهؤلاء الذين دُهشوا أو شكوا في هذه الروايات لم يعلموا إلا القليل من خلقه وفطرته ﷺ فقد كان يؤثر على نفسه بأمواله ويفرقها على المحقين من أصحابه وعلى الفقراء والمساكين وفي النوائب التي تنوب المسلمين ولا يرد سائلًا ولا يضع درهمًا فوق درهم، وكان يحزن إذا بقي في داره مال لم يُقسم بين الناس.
وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام وهو لا يعلمهم ولا ينشط في وقته ذلك إليهم به ولا يبادر بإخبارهم، وإنما رهن درعه عند اليهودي؛ لأن اليهود في المدينة كانوا يبيعون الطعام ولم يكن المسلمون يبيعونه؛ لنهيه إياهم عن الاحتكار؟!
فكل الذي رُوي عن جوعه باختياره وقبوله الفقر ورضاه بالزهد وتعففه عن الصدقات وتحريمها على نفسه وعلى أهل بيته صحيح، سواء أكان في وقت عسر عام كالأشهر التي تلت الهجرة، أو في يسر ورخاء كالأعوام التي تلت فتوح بدر وسائر الغزوات؛ فإن طبعه لم يتغير ولم يكن كالباباوات الذين مرحوا في نعيم أموال الناس باسم الدين، ولم يستثمروا شعوبهم، بل كان يوزع المال بين المسلمين وهم أمة لا طائفة ولا جمهرة، بل أمة تُنشأ وتُبنى، وكان في طاقته أن يفرض الضرائب، ولكنه كان يعلم وهو الحاكم العظيم والمنشئ المبدع أن الضرائب مكروهة وفارضها مبغوض إلى الناس، ولم يكن في حاجة أكبر من حاجته إلى تأليف القلوب وتحبيب الناس في الدين، وهو لا يريد أن يربي الجيل الجديد على الذل والخنوع، وأكبر مظهر لهما دفع الضرائب للحاكم القوي، ولو أنه فرضها فمن أين لهم كسبها وربحها وهم من علمنا فقرًا بعد غنًى، وعسرًا بعد يسرٍ، وضيقًا بعد فرج في سبيل الله؟ ثم ألم نرَ فضيحة فنحاص والأحبار السمان الذين لم يُقرُّوا قروض الله، وضنوا بالقليل على من رفع ذكر بلدهم وأمَّن حياتهم وضمن لهم السلام والاطمئنان إلى حين؟ ألم تذكر عائشة أنهم قضوا أشهرًا لا يوقدون النار في مطبخهم لطهي الطعام قانعين بالماء والتمر، وهي بنت أبي بكر وزوجة الرسول؟ وكم شكت فاطمة زوجة علي بن أبي طالب وبنت الرسول من الجوع؟ ولم يذق الرسول طعامًا مهدًى إليه قبل أن يدعو أهل الصفة ويقول لهم: إنه لا يَطعم شيئًا بدونهم، وما قيل عن أنه كان يبارك الطعام فيطعم منه المئات ولا يفرغ مبالغة فيه ولم يدَّعِه الرسول لنفسه، وإنما البركة من القناعة والاجتماع وفرح الأضياف بمشاركته ﷺ.
فكان المهاجرون ينظرون شزرًا إلى اليهود والذين ابتلاهم الله بالشح والصفاقة والشماتة في كل محتاج ولا ينال أحد منهم قرضًا إلا برهن وضمان وتأمين، ثم إنهم يهرون بدن المدين بالربا والإلحاح والتعيير، وبينما كان المهاجرون وكثرة الأنصار يتضورون جوعًا كان اليهود في آطامهم وقصورهم مختنقين بالتخمة والدفء منعمي البال بأمان الغد، لا يحملون هموم الرزق ولا يَحارون فيما يأكلون غدًا ولا يُعوزهم ثياب ولا أثاث ولا زخرف ولا زينة، يلبس رجالهم أجود الصوف والحرير والكتان وأفخر الجلود أحذية لهم وقد حلَّوا نحور نسائهم ومعاصمهن وآذانهن وأرجلهن بالعقود والقلائد والأساور والأقراط من جوهر وذهب وفضة وهي المسروقة أو المرهونة والمغتصبة، وقد يكون فيها ملك مدينين بائسين لم يقدروا على تخليصها فراحت بسبيل عجزهم أولًا وأخرًا، واليهود لا يبالون بما ينهبون، وكيف لا يستغنون وهم الذين لم يحذقوا شيئًا كما حذقوا صناعة المال ولهم أعمال رائجة ومتاجر نافقة ووسائل لجلب الكسب الحرام تعجز عنها الشياطين، ومهما كانت ثروة الأنصار فإنها تنضب حيال النفقات العامة؛ لأن هذه الحال لم يكن يكفيها إلا خزانة الدولة وبيت المال، وأين هما في هذه الآونة الحرجة؟ وكان رسول الله لا يستعين بيهودي أو مشرك إلا إذا آمنا، ولا يرضى للمسلمين إلا العزة والرفعة، ولا يرضى أن ينزل أحدهم إلى درك الاستجداء أو طلب المعونة؛ صيانةً لحياء المسلم، وحفظًا لعهد الله.
وعلى أن ما وصفنا أو بعضه يُحرج صدر الحليم ويغري المسلم الصابر بالفتنة ويحرض غير القانع بالاعتداء على الأعداء الذين لبسوا ثياب الأصدقاء، والخونة الذين تشبهوا بالأمناء، والذئاب التي أخفت براثنها وأنيابها تحت جلود الحملان، فإنه لم يُثْرِ مسلم ولم ينهب ولم يسرق ولم يعتدِ على يهودي أو مشرك في المدينة؛ لأن «مركز الدائرة» كان قويًّا، والكل يخشى الرسول، وأقل مما رأينا كان خليقًا بأن ينفث روح الثورة والشيوعية ويغري المسلمين بالتعدي والنهب، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث ولم يشكُ يهودي أو مشرك مسلمًا إلى رسول الله أنه اعتدى عليه أو طمع في شيء من ماله أو أخلَّ بتعهد أو ود أو التزام؛ فقد كبحوا جماح أنفسهم وضبطوا أنفسهم وملكوا زمام عقولهم وقلوبهم في أشد أوقات الاضطرار، ولم يخطر ببال أحدهم أن يسأل: فيم إذن هذا الدين وهذا الخروج على الأوثان إذا كان المسلم يلقى مثل هذا الشقاء في أول عهده بالهجرة؟! وكيف تكون حالنا إذا طالت محنتنا بهؤلاء الأوغاد من اليهود والمشركين؟! وهذه كتب السنة والحديث والمؤرخين والمستشرقين لا نرى فيها سطرًا أو كلمةً تشير إلى حادث وقع خطأً يسجل ظلامة من هذا النوع، مع أن المجرمين في كل مكان وزمان إنما يوجدون بل يُخلقون لظروف كهذه الظروف، وهؤلاء هم العرب الذين ألِفوا الغزو والنهب وما زالوا قريبي العهد بالبداوة قد برئوا من هذه الأدواء ولم تظهر أعراضها على أحد منهم.
إنما كان المسلمون يحقدون على اليهود؛ لخبثهم وجشعهم وعدم مراعاة الجوار وفراغ قلوبهم من الرحمة.
وكان المسلمون يحقدون على قريش؛ لأنها أخرجتهم من ديارهم وضيعت أموالهم وأرزاقهم واحتلت ديارهم، ولولا اضطهادها إياهم لبقوا في بلدهم غارقين في نعمتين من الدين والدنيا، فهذا ثأر لا يُنسى وضغينة لا تفتر وحقوق يحق أن تُستردَّ، وأي رجل في أي زمان أُخرج من دياره ونُهب ماله وعفا عمن فعل به ذلك؟! لقد خرج الرسول إلى المدينة وتبعه من تبعه لا ليَلهوا بالمدينة وهوائها ومائها ونخيلها وأعنابها وإن كانت كلها خيرًا مما كان في مكة، ولم يذكر المهاجرون عسل مكة وبصلها ولا فومها وقمحها كما فعل أتباع موسى في حنينهم إلى خيرات وادي النيل! ولكن أهل مكة من المهاجرين وعلى رأسهم الرسول لم ينسوا أنهم خرجوا من مكة ليعودوا إليها غزاة فاتحين وليرغموا أهل الشرك فيها على الإيمان بالله لا بالأصنام؛ ليؤدبوهم ويستتيبوهم ويضعوا أنفوهم في التراب ويقتلوا منهم من استطاعوا؛ تثبيتًا للدين الجديد، فما يزال الحق والعدل والخير حائرةً وَلْهَى إلى أن تُهرق الدماء وتُزهق النفوس على ظُبا السيوف ورءوس الرماح، فيستقر الحق والعدل والخير في نصابها، وما يزال صاحب الحق والعدل والخير والداعي إليها مستضعفًا مقهورًا ما لم يجرد سيفه؛ ليغرسه في صدور أنصار الباطل والظلم والشر، فإن لم يفعل فعلى الحق والعدل والخيرِ السلامُ، في هذا كان يفكر الرسول والمسلمون ولا سيما المهاجرون، وإني لفي عجب من الجهلاء والبلهاء الذين ينكرون أن الإسلام قام على السيف والرمح ويخشون أن تنسب إليه القوة والبطش وتنفيذ الرأي بالقتال، السيف أصدق أنباء من ألف كتاب وألف إصحاح وألف سِفر، واليهود أول من أثبت ذلك وفعله، والنصارى ثاني من أثبت ذلك وفعله، والجاهليون والروسيون واللاتينيون وكل الأجناس، حتى المسيح الوديع قال: لم آتِ لألقى سلامًا بل حربًا. فكيف يفكر هؤلاء الناس في الدفاع عن الإسلام بأنه ليس دين حرب وقتال، بلى؛ إنه لكذلك، وإن لم يكن كذلك ما أفلح ذووه قيد شعرة، وإن كان الحق يعلو والعدل يعلو والخير يعلو بالوعظ والنصح والكلم الطيب فلِمَ أخفق في مكة بعد ثلاثة عشر عامًا؟!
ومن هم هؤلاء المكيون الضعفاء الجبناء الذين طردوا المسلمين وأرغموهم على التغرب والفاقة وهم الذين اخترعوا ألف حيلة وحيلة لاتقاء المواقع وحاطوا بلدهم الحرام بموانع القتال، أليسوا تجارًا بخلاء يخشون على مالهم وعيرهم؟ لقد شرعوا في قتل الرسول وقتلوا من استطاعوا قتلهم من المسلمين، ففيمَ التورع في مهاجمتهم والنيل منهم والقضاء عليهم؟! أليس في هذا العمل ما يُرهب اليهود ويقضي على تنطعهم ووقوفهم للمسلمين بالمرصاد والتحدي؟ ألا يقطع هذا النصر، إذا حازه المسلمون، ألسنة المنافقين والمهوشين والمضللين، ألا يفقأ أعين الجواسيس ويصم آذانهم؟!
نعم إن المهاجرين يحاربون أهل مكة وهم أهلهم وأصدقاؤهم وأصهارهم، ولكن أهل مكة قد قطعوا تلك الأواصر وقضوا عليها بأفعالهم، والإسلام عوضهم عنهم أهلًا وأصدقاء وأصهارًا وأقارب، وإن كان أهل مكة وقريش ما زالوا جبناء حرصًا على دمائهم وعلى حياتهم المنصرفة للهو واللعب والملذات؛ فإن المهاجرين قد تبدلت أخلاقهم وتغيرت مناحي تفكيرهم وتطهرت أعرافهم من أدران الجاهلية وأرجاسها، وهم لا يحرصون على الحياة حرصهم على الجهاد الذي يعقبه استشهاد، ولم يخطر ببالهم في هذه الأوقات غنائم ولا أنفال ولا سلب ولا نهب كما يزعم خليفة الأعداء وحليف اليهود والمشركين المعلم مرغليوث الأرمني في ص٢٣٩ من كتابه، ولم يكن المسلمون في فاقة ولا حاجة؛ لأنهم بدءوا الغزوات بعد سبعة أشهر من الهجرة، وهم لم تشتد حالهم إلا قرابة عشرين شهرًا منها، فكان أول لواء عقده الرسول لعمه حمزة بن عبد المطلب في أول رمضان أدركوه في المدينة فحمله أبو مرثد كناز الحصين الغنوي حليف حمزة وكان لواء أبيض، وقوام السرية ثلاثون رجلًا من المهاجرين، ولم يشترك أحد من الأنصار؛ لأنهم شرطوا له أنهم يمنعونه ويدفعون عنه في دارهم.
وكان أبو جهل يقود قافلة من الشام إلى مكة، فلما بلغوا ساحل البحر الأحمر من ناحية العيص اصطف الفريقان للقتال ولم يقتتلوا؛ لوساطة مجدي بن عمرو الجهني؛ لأنه حليف الفريقين فقبلوا وساطته، وعاد كلٌّ منهم إلى بلده، وقد كانت جرأة عظيمة من حمزة أن يستعد لقتال عشرة أضعاف رجاله، ولكنه بدأ تنفيذ الفكرة التي أقرها النبي والمسلمون، ولم يخفوا مقاصدهم على قريش، وفي الشهر التالي (شوال سنة ١ﻫ) خرج عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف إلى بطن رابغ على ساحل البحر الأحمر، وهو المكان الذي يحرم فيه المقبل على مكة من مصر وأقرب إلى جدة منها إلى ينبع، وعددهم ضعف سرية حمزة وليس فيهم أنصاري، وكان رئيس قافلة قريش عكرمة بن أبي جهل في مائتين من أعوانه، وكانوا على ماء اسمه أحياء، فتراشقوا بالسهام ولم يخرجوا سيوفهم من أغمادها؛ لأنهم لم يلتحموا ولم يصطفوا، وهذا الذي يسمى مناوشة، وقد أصيب سعد بن أبي وقاص بسهم.
وأراد الرسول أن يمكن ابن أبي وقاص من ثأره، فعقد له في الشهر التالي لواءً حمله المقداد بن عمرو البهراني وبعثه في عشرين رجلًا ففاتتهم القافلة ولم يدركوها في المكان المنتظر فعادوا إلى المدينة.
فلما ختم المسلمون عامًا في المدينة خرج رسول الله ﷺ نفسه إلى الأبواء (صفر سنة ١ﻫ) وحمل لواءه عمه حمزة، واستخلف الرسول على المدينة سعد بن عبادة أحد زعماء الأنصار، وسار الرسول حتى بلغوا الأبواء فاختلف وقت اللقاء بستة أميال ولم يعلم أحد ممن كان على رأس قريش، ولكن عرف المسلمون أن لهم في كل شهر قافلة أو أكثر، ولم يعد الرسول خالي اليدين، فالتقى بقبيلة بني ضمرة التقاء مودة، فتقدم إليهم سيدهم مخشي بن عمرو الضمري فوادعه على أن لا يغزو الرسول قبيلته، ولا تغزوه، ولا يتحالفوا مع أحد عليه، ولا يُعينوا عدوًّا، وكتبوا محالفة بذلك، وفرح الرسول بمعاهدة هذا الفرع من بني كنانة، ولم يغب عن المدينة سوى أسبوعين، وكانت هذه أولى غزواته بشخصه، والأبواء محل دفن والدته.
وغزا بعدها بشهرين، وترك سعد بن معاذ على المدينة، وحمل لواءه ابن أبي وقاص، وخرج في مائتين من أصحابه، وكانت رياسة عير قريش لأمية بن خلف الجمحي، وهو من أسعد الناس حظًّا؛ فقد كان معه مائة رجل على ألفين وخمسمائة بعير، فلما بلغ المسلمون بواطًا من جبال جهينة لم يجدوهم فعادوا إلى المدينة، وفي الشهر الثالث عشر خرج الرسول في طلب كرز بن جابر الفهري، واستخلف زيد بن حارثة، وحمل اللواء علي بن أبي طالب، وسبب هذه الغزوة أن كرزًا أغار على إبل وغنم كانت ترعى على بعد ثلاثة أميال من المدينة، فطلبه الرسول إلى أن بلغ وادي سفوان من ناحية بدر ففاته وعاد الرسول.
وفي الشهر السادس عشر من الهجرة خرج الرسول إلى ذي العشيرة وهو مكان لبني مدلج بناحية ينبع ومعه مائتا رجل، وترك على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، الذي توفي بعد ذلك في أحد عن أرملته أم سلمة، فتزوجها الرسول بعد أحد، وكانت أول امرأة هاجرت من مكة إلى الحبشة والمدينة، وقد أفضنا في تاريخها في ذكر زوجات الرسول، فوجد أن قافلة قريش قد فاتته بأيام، والمهم في غزوة ذي العشيرة أن العير التي فاتت الرسول في ذهابها من مكة إلى الشام لم تفته في عودتها من الشام إلى مكة بعد ذلك بثلاثة أشهر، فخرج إليها فأدركها عند عودتها فلزمت الساحل، وبلغ قريشًا خبرها فخرجوا بجيشهم؛ ليمنعوها، فلقوا رسول الله ببدر فحاربهم، ولم يُفِدِ النبي في غزوة العشيرة سوى محالفة بني مدلج من بني ضمرة.
ولكن المسلمين أفادوا المران والتدريب والصبر على العدو والتربص له وتراكم الغيظ في صدورهم إلى أن يلقوه لقاءً حاسمًا.
وفي رجب — وهو الشهر اﻟ ١٧ من الهجرة — أرسل الرسول عبد الله بن جحش الأسدي إلى بطن نخلة، وهو بستان ابن عامر قرب مكة، وكان عدد المسلمين اثني عشر رجلًا، وقتل المشركون مسلمًا واحدًا هو عمرو بن الحضرمي، وأسر المسلمون مشركيْن اثنين وفرت البقية، وكانت الغلبة لمقداد بن عمرو؛ فقد استاق وصحبه عير قريش وكان فيها خمر وجلود وزبيب من الطائف، وحرم سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان من المشاركة في القتال.
هذا غنم ضئيل بالنسبة للمغازي السابقة التي أخفق سعيها وهي بعد راجعة من الطائف إلى مكة فلم يكن لها كبير شأن.
ولكن المهم في هذه السرايا الصغرى والوسطى، أن المسلمين تمرنوا على السفر والانتقال وتحمل المشقات في القتال والاستعداد له، ولم يكونوا قبل اليوم يعرفون ما هو الجيش وما لقاء العدو لقاء منظمًا تحت قيادة معترَف بها تطيع قائدًا أعلى في المدينة وتكف يدها عن الغنائم حتى يأذن الرسول بتقسيمها.
ومُرِّن المسلمون على عدم اليأس من الذهاب والعودة ومن فوات الفرصة في لقاء القوافل، وتجشموا الصبر على ذلك كله طاعةً لله ورسوله، وتعودوا لقاء هؤلاء الذين كانوا صناديد قريش، وتعلموا المرافقة في الحرب وحمل السلاح، وفي ذي العشيرة كان المسلمون لا يبالون بالمتاعب؛ فكان علي بن أبي طالب ينام ويتمرغ في التراب وهو ربيب النعمة وحامل العلم، فخرجوا من نعومة أهل مكة وترفهم إلى خشونة الصحراء والنضال.
ولنا أن نسأل: لِمَ فاتت هذه العير كلها سرايا المسلمين ولا سيما تلك التي خرج إليها الرسول؟
ليعلم الناس قاطبة أن الرسول لا يعلم الغيب في القتال، ولو علم لالتقى كل مرة بمن أراد، ولا يكفي أن نقول: إنه كان يعلم وأراد تدريب صحابته، فإن الخروج والعودة بغير ظفر محرج للصدور، ولو كان يعلمه بقوة خارقة لطلب الغلبة لقومه، ولم يكونوا في حاجة إلى تدريب أو تمرين، وإنما نحن نراه في الحروب بشرًا سويًّا لا ملكًا، ولا ينبأ بالغيب، ولا ضامنًا لنفسه نصرًا.
ونفيد أيضًا أن الرسول لم يبدأ حروبه على قريش ببدر كما يظن بعض الناس، وإنما جاءت بدر في ترتيب طبيعي، وجاءت مصادفة سعيدة جدًّا لم تُقدَّر قيمتها في يومها، وإن كانت من المعارك الحاسمة في التاريخ، وإن المسلمين لم يخرجوا لبدر للنهب؛ لأنهم بلغوا غاية الفاقة في الشهر ١٩ من الهجرة؛ فقد كانوا من قبل يخرجون كل شهر بعد نصف عام من وصول المدينة، فليس خروجهم بمبتدع ولا مبتكر، غير أنهم لم يوفقوا في المغازي السابقة لأسباب خارجة عن إرادتهم؛ منها: عدم خبرتهم بالطرق، وأهل مكة — ولا سيما زعماء القوافل — منهم دهاة يعرفون كل شبر ومتر بين مكة والشام، وقد رأينا فيها بأنفسنا مسالكَ وشعبًا يضل فيها أعظم الأدِلَّاء والمرشدين حذقًا، ولم يكن يومئذ خرائط ولا رسوم جغرافية أو طوبوغرافية ولا تصوير شمسي ولا مركبات يستكشف العدو بواسطتها.
ومنها: أن أهل مكة لا بد أنهم كانوا ينفقون مالًا كثيرًا في تضليل المسلمين؛ خشية مواقعتهم، فيمدهم جواسيس قريش المدسوسون المأجورون بمعلومات، بل بمجهودات لا تنفع، كالدليل الذي ضلل بونابرت قبيل موقعته، والسوادني الذي ضلل حملة هيكس.
ولما فطن المسلمون إلى تكرار الإخفاق وتفاوت المواعيد والمسافات بأيام وأميال، صمموا على أن يترقبوا قافلة بعينها، ولذا ترقبوا تلك القافلة التي فاتتهم بذي العشيرة، وكان عليها أبو سفيان، ولم يعولوا على «إخبارية» جاسوس أو «خبير»، وقد علموا أن العير لا بد وأن تعود من الشام، فلا بد من تضييق الخناق عليهم والبحث عنهم في كل مكان، ولا يبعد أن يكون قد لحقهم مسلمون أمناء صحبوهم في العودة واتصلوا بالمدينة أسبوعًا بأسبوع.
فليست أقلام المخابرات بحديثة العهد ولا ببدعة إسلامية، ولكن الذي يعنينا أن المسلمين صمموا أن لا يفلت منهم القرشيون في هذه المرة مهما تكلفوا أو تعبوا، وإن في المهاجرين والأنصار لرجالًا من الدرجة الأولى في الفراسة والفطنة وتنسُّم الأخبار واقتفاء الآثار والمهارة في التغمية والاستخفاء وتضليل الأعداء، ولا يمكن أن يكون لقاء بدر محض مصادفة، بل عمل حربي متقن مسبوق بخطط محكمة، ومصحوب بشجاعة فائقة وصلت حد الاستماتة، وملحوق بحسن تدبير وفطنة سامية فيما نجم عن هذه الموقعة، فعرف الرسول كيف يستثمر النصر؛ وعندنا أن ثلاثماية رجل وعشرة كانت أقصى قوة للمسلمين في المدينة، وهي كتلته الحربية الكبرى في هذا الوقت، ولو كان لديه أكثر منهم ما تردد في خروجهم، ولعل مثلهم كانوا مرضى أو شيوخًا أو عاجزين عن القتال.
كان في مقدور الرسول أن يحشد نصف ألف، ولكنه خشي أن يكون ضرهم أكثر من نفعهم؛ لضعف بقية الجيش، فآثر أن يخرج بأشجعهم وأخفِّهم وأصبرهم وأكثرهم إيمانًا، وهذا الفعل نفسه ينطوي على خطأ حربي ننزه الرسول منه؛ وهو مهاجمة ألف رجل بثلثهم أو يقلون قليلًا، ولكن في يقيني أن هؤلاء الثلاثمائة كانوا بمثابة ثلاثة آلاف، وقد كان لهم من الحمية والاستماتة والرجاء في النصر والخوف من فشل الهزيمة وسوء مغبة الإخفاق ما نفخ في روحهم حتى أيقنوا أنهم فائزون، هذه هي الروح المعنوية في أكمل مظاهرها، وليس الفاقة وليس العري والحفاء أو انطواء الأحشاء على معًى ضامرة هي التي بعثت بجيش بدر إلى بدر، ولكن العقيدة والعزيمة والإرادة هي التي وثبت بهؤلاء فثبتوا في الميدان.
ثم إن بدرًا مثل كل موقعة حاسمة كانت ملآنة بما اصطلح هذا العصر على تسميته بالمفاجآت، ليس الدارس في حاجة إلى التخصص في فنون التكتيك والاستراتيجي؛ ليتبين ظروف هذه الحرب من بدايتها لنهايتها؛ لأنها كانت من البساطة بحيث لا تخفى أساليبها عن ضابط صغير؛ فقد كانت خطتها رسومًا مخططة، وكان موضعها مُبْهمًا، ولكن الرجل أو الرجال الذين أرسلهم الرسول أو أحد الصحابة لإرشاده عن عرب قريش قد نجح في تسليم البضاعة نجاحًا باهرًا، وماذا يهمنا لو عرفنا اسمه؛ فقد كان بطلًا من أبطال التاريخ الإسلامي.
(٢) الموقعة
وقعت بدر في ١٧-١٨ رمضان وهو الشهر التاسع عشر من الهجرة أي السابع من السنة الثانية، وهذا التاريخ يعدل ١٥-١٦ مارس سنة ٦٢٤م، فهي معركة الربيع، ربيع الإسلام وبداية انتعاشه بقوة السيف، وقعت صباح الجمعة بعد أن قضى الجيشان ليلة متقابلين، ليلة قضاها المسلمون في نوم عميق فأصبحوا في نشاط وصحو واستعدوا، وقضاها المكيون في سهر وأرق سببهما الخوف، فنهضوا كما ينهض السهران، وأمطرت السماء قليلًا فأفاد المطر جيش النبي وأضرَّ بجيش المشركين، وقد يكون قليل من المطر مقدمة الهزيمة كما حدث في موقعة وترلو فتعطلت المدفعية الفرنسية عن الحركة.
كانت موقعة بدر موقعة خاطفة بالمعنى الحديث؛ لأن النبي دعا إليها ولم ينتظر المتكئين والمترددين وقبل أعذار المرضى.
فكانت موقعة حاسمة في تاريخ الإنسانية وفي تاريخ العرب والإسلام.
وكان النصر فيها دليلًا على مهارة النبي في القيادة وحذقه فنون الحرب وقدرته على إدارة المواقع وتقديره قوته وقوة الأعداء ومعرفته ما يجب على القائد من الاحتماء والابتعاد عن موضع الخطر؛ ليستمر في إصدار الأوامر، وفي الوقت نفسه قربه من جنده؛ لتشجيعهم وتقوية قلوبهم وشد أزرهم، وقد بدأ الرسول حياته الحربية قائدًا ورئيس جيش في الرابعة والخمسين، فأظهر فطنة خارقة وصفات عليا يحسده عليها كبار أركان الحرب في كل جيل وقرن حتى عصرنا هذا، فإنه تمكن بفئة قليلة من قهر فئة أكبر منها ثلاث مرات، وتمكن بفرسين وبضع إبل من التغلب على قوة فيها مائتا جواد ومئات الجمال، واستطاع بجنود حفاة عراة جياع (فقد وصفهم بذلك وهو يدعو لهم) أن يقهر جيشًا ألفيًّا مكونًا من أغنياء قريش وسادتها الطاعمين الشاربين المكتسين المسلحين سلاحًا كاملًا، ولم يكن في جيش محمد عدد من القواد وكبار الضباط من يعدل في الطغيان والقوة والثبات والمران طغاة قريش، وتمكن محمد وهو في مكان أقل ارتفاعًا من مكان أعدائه أن يغلبهم ويشتتهم ويلجئهم إلى الفرار المخزي، ويرجع الفضل الثاني بعد الرسول في ربح هذه الموقعة إلى بيت عبد المطلب وبطليه علي وحمزة؛ وهو البيت الذي حارب في حرب الفجار دفاعًا عن قريش جميعها وعقد له النصر، وفي حرب الفجار تمرن على المواقع كما ذكرنا في وصف شبابه.
وثبت من موقعة بدر أن الفئة القليلة المؤمنة الثابتة المستهينة بالحياة المادية طمعًا في الجهاد في سبيل الله وما تعتقد حقًّا تغلب حتمًا الفئة الكبيرة التي ينقصها الإيمان ويدفعها حب المادية إلى القتال في سبيل المال والشهوات.
وكان محمد في بدر يقود كثرة من الأنصار وقلة من المهاجرين، ولكن الأنصار لم يخرجوا للحرب إلا باختيارهم ورغبتهم؛ لأن عهدهم مع الرسول لا يحتم عليهم الحرب خارج المدينة، ولكنهم خرجوا للهجوم بمحض ميلهم إلى غمار الحرب، فعادوا بمعظم الغنائم تعويضًا لهم عما قدموه بسرور وفرح للمهاجرين عندما حلوا ضيوفًا ببلدهم، ولم يكن الأنصار حتى هذه الساعة يعلمون شيئًا عن كفاية الرسول الحربية؛ فقد خبروه نبيًّا وهاديًا ومبشرًا ونذيرًا ومصلحًا وزعيمًا، ولم يعرفوه قائدًا، فلما رأوا قيادته ازدادوا فرحًا واستبشارًا، ولم تكن قريش تعرف فيه حنكة القائد؛ بل عرفته أمينًا كريمًا، كلامه أقل من فعله، صبورًا على اضطهادهم إياه وأذاهم، وهدفًا لسبابهم وقذفهم وإهانتهم واعتدائهم عليه في المسجد، فلما رأوه قائدًا هالهم منظره واضطربت صفوفهم، ولما ذاقوا مرارة سلاحه أفاقوا من غشيتهم، ولكن أفاقوا ليفر منهم من لم يمت، أما القتلى فقد وردوا القليب جثثًا مكدسة عارية بعد أن نزعت عنها دروعها وخوذاتها.
لا شيء يعدل بدرًا في تاريخ المسلمين، ولذا صار شهودها يُعدل بألقاب الشرف الكبرى، وندم الذين لم يحضروها وحسبوا أنفسهم من أشقياء الدنيا حظًّا وطالعًا، ومنذ الشهر السابع للهجرة والرسول يبعث البعوث المسلحة لترصد قوافل قريش وتتربص بها، وكانت كلها تفشل وترتد آسفة، حتى السريات التي خرجت تحت قيادته لم يكن نصيبها أكبر من نصيب سواها، ولكن هذه السريات التي وُصفت مبالغةً بأنها مغازٍ، أفادت التدريب والمران وتعرُّف الطرق وقياس الأبعاد وتحمل مشاق التعبئة والسير في الليل والنهار والجوع والظمأ، فهذه حكمة غالية، وكانت الطرق بين الشام ومكة غاصَّة بالجواسيس والمأجورين لمكة والقبائل المحالفة لها التي تؤمِّن طرقها في ذهابها وعودتها، فعاهد الرسول كثيرًا من تلك القبائل وحالفها ونجح في دعوتها للإسلام، فأمن جانبهم عندما آن أوان المعركة الكبرى؛ فجمع بين فطنة السياسي وقدرة القائد ولم يخطئ في حساب حسبه، فكانت بدر دقة أستاذ أعظم في الحرب والسياسة وبعد النظر.
•••
لم يلتفت مؤرخونا القدماء إلى ما في موقعة بدر من الجمال والجلال، أما المحدثون من الكتاب فقد درجوا على أن يبرئوا الإسلام من اللجوء إلى السيف وإهراق الدماء في سبيل نصرة الحق؛ درءًا لما خوَّفهم به بعض كتاب أوروبا الخبثاء من تهمة قيام الإسلام على السيف.
نعم، وعلامَ كانوا يريدون أن يقوم هذا الدين؟
لقد جرَّب الله ورسوله طريق السلامة والسلام وآثر الدعوة بالقرآن والكلام على مدى عشر سنوات، وقيل ثلاث عشرة، وقيل خمس عشرة (على طريقة المؤرخين في تقدير الزمن!) فلم تثمر إلا قليلًا، والعمر ينقضي، والأيام تتلوها الأسابيع، والأسابيع تتلوها الشهور، والشهور تتلوها الأعوام.
فساق الله الأنصار وصح عزم الرسول على الهجرة.
أفكان يجلس في ظل النخيل والأعناب بين اليهود والمنافقين إلى أن ينتقل إلى رحمة الله فيُدفن في البقيع؟!
أهذا الذي كان يريده ويلهاوزين وجريمه ونولديكه وموير ومرجليوث ومن لَفَّ لفَّهم من أغبياء المسلمين الذين يظهرون أمام سادتهم بمظهر الكارهين للحروب؟
لو أن محمدًا فعل ذلك أو فكر فيه ما وُجد الإسلام ولا قامت له قائمة، ولطوى التاريخ ذكره طيه لتاريخ شيخ قبيلة أو شيخ طريقة أو نكتة من نكات التاريخ، بل لو فعل محمد هذا وفكر فيه وآثر السلامة والسلام لجنى على المهاجرين والأنصار وخيب آمال كلِّ من وثقوا به وبربه.
بل لو فعل محمد هذا وفكر فيه وآثر حياة الدعة أو خشي عاقبة مصادمة المنافقين والمشركين واليهود، ما كانت حضارة الغرب والشرق منذ ١٣٦٠ سنة، ولست أقول هذا من عندي ولا تدفعني إليه محبتي لمحمد ﷺ وتمجيده، بل قاله قبلي بعشرات السنين أرنست رينان ونيكولسون وجولد زيهر وسنوك هيرجرونجيه وجوستاف ليبون وأوزالد شبنجلر وداير الأمريكي، وعشرات غيرهم أقروا واعترفوا وكتبوا على أنفسهم في كتبهم أن أصول المدنية الأوروبية في حضارة الإسلام، وأنه لولا حضارة مكة والمدينة وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة وغرناطة ما كانت لندن ولا باريس ولا رومة ولا برلين، لست أنا الذي أقول هذا القول (محمد لطفي جمعة المصري في رجب ١٣٦٠/أغسطس ١٩٤١)، ولكن قاله علماء أعلام من الأوروبيين الذين تجمعت لديهم المراجع والمصادر والمكتبات، والذين خضعوا للحق بعد أجيال من نكران من سبقوهم من أجل مللهم وأممهم، ولو أرادوا أن يطمسوا الحق في كتبهم ما استطاعوا؛ لأن الأدلة ظاهرة شاهدة لا يمكن إنكارها أو الإغضاء عنها، وليس هنا مجال التبيين.
إذن كيف لا نفخر بأن محمدًا صنع الشيء الواجب في الوقت المناسب، وهو الحرب دفاعًا وهجومًا، ولم يكن من قبل قائدًا ولا جنديًّا، ولم يحضر من مواقع الجاهلية إلا حرب الفجار في جانب قريش وعلى الخصوص بيت عبد المطلب وبيت عبد شمس وبني أمية؟
إن الإسهاب في هذه النقطة يلقي شعاعًا هاديًا على مسلك النبي في بدر سواء في اهتمامه بترتيب الجيش وتعبئته أو تقدمه حيال الأعداء وهو يجوس الصفوف، أو ملازمته الدعاء الحار الذي أشفق منه أصحابه، أو سجوده ومناداته ربه ﺑ «يا حي يا قيوم»، أو الإغماءة القصيرة التي لحقته عندما رأى لون الدماء عندما سال من جسوم أعدائه وهو الرقيق اللطيف الرءوف الرحيم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ.
وهو الذي يُقدِّر الحياة الإنسانية حق قدرها ويضنُّ بدماء قومه أن تهراق لو كان حقنها مستطاعًا ويفسر فرحه بالنصر ومخاطبته أهل القليب وتبشير الشهداء بالجنة ووعد المجاهدين بها.
لم يدرك المؤرخون سموَّ كلِّ حادث من هذه الحوادث؛ لأنهم لم يدرسوها واكتفوا بسردها سردًا فاترًا ماديًّا كمن يُحصي عدد الدراهم أو يحصي كمية من البر والشعير ولا يفهم أنه حيال حادث من أعظم حوادث التاريخ في كل العصور.
•••
لما فات المسلمين كلُّ ما ترقبوه من قوافل قريش على مدى عام كامل، أي من الشهر السابع للهجرة إلى الشهر التاسع عشر، حتى خرج الرسول في بعضها وعاد بغير نجاح، وأخراها غزوة ذي العشيرة، لم يزل مترقبًا عودة القافلة الأخيرة من الشام، وهي التي فاتته في ذهابها إلى الشام بأيام، فدعا المسلمين إلى الخروج للتربص بهذه العير فأجاب قوم من المهاجرين والأنصار، وتثاقل أكثرهم؛ ظنًّا منهم أن النبي لن يلقى حربًا في هذه المرة وأن العير ستفوته كما فاتته في الماضي؛ فقد تكرر هذا الفوات عليهم حتى قنطوا من وقوع العير، وهي الجمال المحملة بأموال قريش وبضائعها، في أيديهم، وسبب هذا القنوط إحكام القرشيين نظام تأمين الطريق بقوافلهم بين مكة والشام ذهابًا وإيابًا، وقد استجد لهم الخطر بوجود النبي ورجاله في المدينة وهي على طريقهم إلى الشام ذهابًا وإيابًا، فأتقنوا نظم التجسس والتضليل بالاتفاق مع القبائل المقيمة في الطريق بين مكة والمدينة، ودفعوا لهم أموالًا وحالفوهم وعاهدوهم وكانوا كلهم مشركين على دين قريش، وهؤلاء العرب يعيشون منذ فجر التاريخ على الغزو والسلب إلا إذا أمنوا وقبضوا المال أجرًا على الحماية، فإنهم يفون بوعودهم، وفي هذه الحالة كانوا يخدعون رواد النبي حتى تمرق العير في كل مرة وداموا على هذه الحال عامًا كاملًا، فكان النبي في الغزوات التي خرج إليها ولم يعد منها بطائل يتصل ببعض هذه القبائل ويحالفها ويدعوها للإسلام ويعدها بالغنائم، فبعد أن كانت قريش مستقلة مستأثرة باستخدام تلك القبائل ظهر المسلمون وطلبوا إلى بعضها أن تكف عن خداعهم وأن تستغني عن الأجور التي يدفعها لهم أهل مكة، وأفاد الرسول أيضًا تعرف الطرق والمراسلات وطبيعة الأرض؛ لأنه لم يخرج من مكة إلا مهاجرًا، ولم يدرس تلك الجهات دراسة القائد، فكان العام الذي مضى، إنما انقضى في الدرس والتجربة والاستكشاف.
كانت هذه العير المحملة بالخيرات والبضائع والأموال تحت قيادة عدونا القديم أبي سفيان، فكان يتجسس أخبار الرسول عندما ترك أرض الشام ودنا من أرض الحجاز، فأخبره أحد جواسيسه بجلية الخبر، وهي أن الرسول كان قد عرض لهذه العير بالذات في طريقها ذهابًا من مكة إلى الشام (غزوة ذي العشيرة) وأن الجاسوس ترك الرسول ورجاله مقيمين ينتظرون رجوعها من الشام إلى مكة، وأنهم متربصون يترصدونها، وكان هذا الجاسوس موضع ثقة عند أبي سفيان، وقد رأينا بين العرب في العصر الحديث من يشبه هذا الجاسوس في القوة والفطنة وصدق الخدمة لسادته، لم يذكر التاريخ اسمه وإن ذكر اسم بسيسة الذي صدق النبي في خبر السير، كما ذكر التاريخ اسم المنذر بالبلاء لأهل مكة يستنفرهم على لسان أبي سفيان، وهو رجل مأجور اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري، وأن نسبته إلى قبيلة أبي ذر التي كانت موالية للمسلمين لم تمنعه الانتفاع بحرفته التي حذقها! ما هي؟! دفع له أبو سفيان عشرين مثقالًا فضة، وكان الرجل مشركًا، فجدع أنف بعيره وحوَّل رحله وشق قميصه من قبله ومن دبره، ودخل مكة يولول ويصرخ ليستنفر قريشًا ويخبرها أن محمدًا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه! ليتخيل القارئ هذا المنظر في مدينة كمكة وليسأل نفسه من أين جاءت هذه الفكرة؟ طبعًا لم تكن المرة الأولى التي فعل ضمضم فيها بنفسه وبجمله هذه الأفاعيل، ولو كانت الأولى في حياته فلم يكن الأول الذي اخترعها وابتدعها؛ فهي عادة قديمة بالغة كل القوة في إثارة العواطف وإزعاج الخواطر. إن رجلًا يركب جمله ووجهه إلى ذيل الجمل وأنف جمله مجدوع يقطر دمًا قبل أن يندمل ويكاد يكون عاري البدن وهو لا شك حاسر الرأس حافي القدمين، يدخل على بلد آمن غني ينتظر خمسماية وألفي بعير محملة أموال المكيين، لَأقوى أثرًا في النفوس من النواقيس التي تدق في الثغور منبئة بغرق السفن! ولم يدخل هذا النذير المشئوم على بلده صامتًا بل مولولًا ومعولًا وصارخًا ومنذرًا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولعله ينظم شعرًا وينشده كالنادبات أو يقرع طبلًا مبالغةً في التبليغ، ويلتف حوله الناس يسألونه فيعرفون أنه رسول أبي سفيان، ولعله أيضًا صبغ وجهه الأغبر بالسواد أو حثا التراب على رأسه أو على استه كما كانوا يفعلون؛ إظهارًا للحزن، واستثارة للشجون، فلم تكن عشرون مثقالًا لهذا المسخ بالقليل، ولو اطلع هو وأهل مكة وأبو سفيان بالهلاك الذي سيعقب ندبه وعويله لرأوا الأجر قليلًا جانب هذا التنبيه — هل كانت عادة عربية جاهلية أم يهودية أم يونانية؟! إنها لا شك عادة منقولة عن الأمم القديمة أبرزها خيال شاعر ناجع؛ فهو منظر من تراجيديا اليونان، أو من خيال كاهن جمع مظاهر الهلع والفزع فأوعاها ولم يقصر في تفصيلها وإجمالها.
لك الويل يا ضمضم بن عمرو الغفاري! فقد جلبت الويل على مكة ولم تقصر في أداء عملك الذي نقدوك عليه عشرين مثقالًا! كيف تصنع غدًا عند نعي أهل القليب؟! أم أنك ستخرج من مسرح الفاجعة المكية إلى الأبد؟ أليس هذا منظرًا تمثيليًّا لا ينقصه شيء؟! ألم يكن ضمضم بن عمرو الغفاري أمهر ممثل محزن في الحجاز؟ لقد أرانا كيف يصنع الرجل بنفسه وببعيره مسرحًا متنقلًا، جمل يجدع أنفه فيبدو مشوهًا مكلومًا ثم يسير بصاحبه فلا يقلبه ولا ينتقم منه، ورحل يُقلب فلا يسقط راكبه وهو ناظر إلى خلفه، كأنه لا يقوى على مواجهة المنكوبين مقدمًا، فهو معرض عنهم أسفًا وحزنًا، وإنسان يشق ثوبه فيبدو عاريًا فماذا بعد قدِّ القميص من قُبل ومن دُبر؟ ثم هو يصيح ويحثو التراب على رأسه! يا له من منظر مروع، وموكب مفرد فاجع! كل هذا بعشرين مثقالًا … ما أقلَّ الثمن! لم يدفع جمهور مكة أجرًا أشد هزالًا منه في التمتع بمثله!
أيها الصحفيون اطووا صحفكم، وأيها المذيعون سدُّوا أفواه مذياعكم وكمموها تكميمًا، ويا أسلاك البرق والمسرة كُفِّي عن ذبذبتك فإنك — مجتمعة ومتفرقة — لن تصلي إلى بعض ما وصل إليه ضمضم بن عمرو الغفاري من جمع مظاهر الهول في «رَكبة» واحدة! إنك لن تتجاوزي الألفاظ أو الكتابة، ولكنه فاجعة حية تسعى على أربعة أخفاف!
كيف دخل ضمضم إلى مكة؟ أمن المعلاة أم من المسفلة، أمن الحجون أم من الجعرانة؟ من أي باب دخل؟
إن مثل ضمضم لا يُسأل عنه كيف دخل، ولكن يذكر أثر دخوله، لقد والله خرج أبو جهل يعدو من المسجد؛ إذ سمع صوتًا صارخًا، وكان أبو جهل — عمرو بن هشام — من أذكى قريش وأشجعهم وأجلدهم وأوسعهم حيلةً، وكان رئيس الجماعة في محاربة الرسول، وكان الرسول يدعو الله أن ينصر الإسلام بأحد العمرين؛ أي ابن الخطاب، أو أبي جهل، فأدركه الله بالأول العادل العامل الشهم، وأخطأ سهم الحظ أبا جهل، وإن بغضنا إياه وعلمنا أنه كان يصفِّر استه؛ أي يدهنه بدهان أصفر لعلة معلومة أو مجهولة، لا يجعلنا ننتقص من قدر شجاعته وتدبيره وذكر محاسن عقله؛ فقد كان هذا البطل الوثني مرهف الحس دقيق السمع، فرآه الجالسون في المسجد الحرام يومًا جاريًا إلى الباب كأنه يفرُّ من عدوٍّ فأدركه العباس بن عبد المطلب عم الرسول فإذا هو يسمع ما لم يسمع العباس، يسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي (طبعًا على مقربة من فناء المسجد) واقفًا على بعيره (وهذه حركة أكروباتية زادها على التمثيل وهي تقتضي مهارةً خاصة وصبرًا كريمًا من الجمل المجدوع الأنف)، قد جدع أنفه وأذنيه (يا لك من جمل أصم غير أشم! تخدم صاحبك بسمعك وشمك في سبيل عشرين مثقالًا) وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، إن أصابها محمد لم تفلحوا أبدًا! الغوث الغوث!
يا لها من رسالة قصيرة بالغة حدَّ البلاغة والإيجاز، ثم تقول لي: كانت قريش معشرًا جهلاء! أقادرة هي على هذا الوضع المسرحي وتُعدُّ جاهلة؟! نعم، إنها تعبد الأوثان وتضطهد محمدًا وعمرَ وعليًّا، وتقتل المسلمين الصابئين، وتعذبهم وتحرمهم من ديارهم وتنهب منازلهم وأموالهم وتلجئهم إلى الهجرة مرتين أو عشر مرات، وتتآمر على قتل رجلهم الأوحد، ولك أن تعد هذه وتلك وهذا وذاك كما تشاء، ولكنهم ليسوا جهلاء في فنون العجز والكهانة ونعي التجارة قبل ضياعها، هل كان أبو سفيان هو الآخر باعث هذا الناعي الناعب من المصفرين أسوتهم كأبي جهل؟ هل كانت أرستقراطية مكة من المصفرين مثل كل أرستقراطية في العالم؟! ألا إن مثل هذا الفعل الشامل للأذى بالحيوان والخالع لكرامة الإنسان لا يأتيه إلا أصحاب هذا الداء، والذين وإن عرفوا صفرة العجيزة لا يعرفون حمرة الوجه خجلًا، نحن لا نتقول على أبي جهل كراهيةً أو بغضًا؛ فقد قُتل في بدر وهو ينافح عن أصنامه، ولا نحقد على مشرك دفع ثمن شركه بدمه، ولكن ننقل قول العباس عم النبي في مجلس حافل بالمسجد؛ قال جوابًا على اتهام أبي جهل بيت عبد المطلب بالكذب رجالًا ونساء ونعتهم بأنهم أكذب بيت في العرب.
قال العباس: هل أنت منتهٍ يا مصفِّر استه؟ فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. فغضب أذناب أبي جهل وهم ممن نعرف من أمثال أبي لهب والوليد: ما كنت يا أبا الفضل جهولًا ولا خرقًا! وهكذا أعداء الحق والمنافقون لا يقولون الحق أبدًا ولا ينصفون الشريف المدافع عن شرفه، وسوف يرون عما قريب من الجهول الخرق، أمهل الظالمين أمهلهم رويدًا.
عندما سمع المكيون رسالة ضمضم هاجوا وماجوا وحل بهم الهرج والمرج وغضبوا وهددوا وتوعدوا، وإني لأتخيلهم يرفعون عقيرتهم كأي شعب منحل مضمحل متدهور قبيل هزيمتهم بأيام معدودة: «إلى الأمام! النصر أو الموت! هيا!» ولكنها تخرج من قلوب خربة وأدمغة مخمورة على أطراف ألسنة مذبذبة؛ فقد كان الفزع أعظم مظاهرهم والخوف من الغد أقوى ما تملكهم، ولكنهم لا يملكون أن يترددوا أو يتقهقروا بعد رسالة ضمضم! وقال قائل منهم: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير الحضرمي؟ والله ليعلمن غير ذلك! يشيرون بذلك إلى سرية عبد الله بن جحش الأسدي إلى بطن نخلة السابقة على بدر بشهرين، بعثها الرسول في اثني عشر رجلًا، إلى بستان ابن عامر الذي قرب مكة، فخرج واقد بن عبد الله التميمي يقاوم المسلمين فرمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وقيل إن الرسول بعث عمر بن الخطاب ليدفع دية عمرو بن الحضرمي لأخيه عامر فأوعز أبو جهل لعامر أن يرفض دية أخيه، واستبقى أبو جهل هذا الثأر ليستغله بعد ذلك في التحريض على القتال، فكان ما كان في بدر.
– أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير الحضرمي؟ والله ليعلمن غير ذلك! وتجهز أهل مكة سراعًا فخرج من قدر، وبعث من لم يقدر مكانه رجلًا من المرتزقة التي تبيع دماءها؛ حاجةً إلى المال، وطمعًا في الغنيمة، وأعان قويهم ضعيفهم، وقام أشراف قريش (دائمًا هم الذين يصفرون أسوتهم)، يحضون الناس على الخروج؛ فقال سهيل بن عامر: يا آل غالب، أتاركون أنتم محمدًا والصبأة من أهل يثرب يأخذون أموالكم؟! من أراد مالًا فهذا مالي ومن أراد قوتًا فهذا قوتي. ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب؛ خوفًا من رؤيا عاتكة أخت العباس وعمة النبي؛ فقد كانت كأبيها عبد المطلب وابن أخيها محمد صادقة الرؤيا، وقد رأت قدوم ضمضم قبل وقوعه وهزيمة قريش قبل حصولها، ونحن نصدق هذا؛ لأن العلم الحديث أثبته وأقره في كتب كثيرة؛ أهمها: ما كتبه موريس مترلنك في «المضيف المجهول» وغيره كثير من علماء الأفرنج، دع عنك أن المواهب الروحية التي تخول للبعض موهبة الرؤيا الصادقة قد تكون في بضعة أفراد من أسرة واحدة، ولا يوجد بين قرائنا من لم يرَ بنفسه أو يسمع عن ثقة غيره حديثَ رؤيا صدقت كفلق الصبح، أو «كأخذ بيد» كما عبر أبو لهب عن رؤية عاتكة، ولكن أبا لهب وإن ضن بدمه الثقيل فلم يضن بماله الحرام.
فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم كانت لأبي لهب دينًا عليه أفلس بها! فكانت رأس المبعوث من أبي لهب بالمال الحرام من نصيب عمر بن الخطاب اجتزها في موقعة بدر، فراحت دراهم أبي لهب من حيث أتت، ولم يخلُ الأمر من فكاهات لاذعة وتهكم مرير ونكات لا يتقنها إلا أهل مكة؛ فقد كان أمية بن خلف شيخًا جسيمًا ثقيلًا فأراد التخلف (أليس ابن خلف؟) فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس مع قومه بمجمرة فيها بخور حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا عليٍّ استجمر؛ فإنما أنت من النساء! ولم تكن هذه الفعلة إلا دسيسة من أبي جهل؛ ليسخر بها من أمية، فقال أمية لعقبة بن أبي معيط وكان من سفهاء قريشك: «قبحك الله وقبح ما جئت به!» فأدركه أبو جهل بعد هذا الكي بالنار وقال له: يا أبا صفوان، متى رآك الناس تخلفت، وأنت سيد أهل الوادي، تخلفوا معك، فسِر يومًا أو يومين، فنهض الشيخ مضطرًّا وتجهز يجرر أكداس لحمه وشحمه المترهلة.
ولم يكن نكوص أمية بن خلف (أبي صفوان وأبي عليٍّ!) سببه ثقل وزنه وترهل لحمه وشحمه، بل كان فيه أثر من الخرف والطيرة، وإن حديثه ليلقي شعاعًا على علاقة الأنصار بقريش؛ فقد كان أهل مكة لا يكثرون من مخالطة الأوس والخزرج إلا في الحج، فلما استنصروهم على اليهود ردوهم وقالوا: هؤلاء تجار أغنياء، ونحن تجار أغنياء؛ فلا ننصر الأوس والخزرج عليهم. فلما حصلت المبايعة الثالثة والأخيرة أدرك المكيون سعد بن عبادة وهو يلحق بأهل بلده ودينه الجديد، فجعلوا يده إلى عنقه بسير مضفور وجعلوا يضربونه ويجرون شعره وكان ذا جمة يتساقط شعره على كتفيه، فتمكنوا منه حتى أدخلوه مكة، فخلصه منهم رجلان من أهل مكة فنجا بنفسه ولحق بأصحابه، وهم السبعون الذين بايعوا النبي البيعة الأخيرة.
ولعل هذا أول اعتداء وقع من أهل مكة على أحد الأنصار في موسم الحج ولعلهم كانوا قاتليه أو على الأقل معتقليه إلى حين.
أما أمية بن خلف فكان صديقًا لسعد بن معاذ يتزاوران ويضيف أحدهما الآخر في مكة والمدينة، وسعد من الأنصار، فلقيه أبو جهل في صحبة أمية بن خلف يطوف بالكعبة فقال له: أتطوف بالكعبة آمنًا وقد آويتم محمدًا وأصحابه وزعمتم أنكم تناصرونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا. فقال سعد وهو يرفع صوته لأبي جهل: أما والله لئن منعتني الطواف لأمنعنك ما هو أشد عليك منه؛ وهو طريقك على المدينة.
فنافق أبو صفوان لأبي جهل على سعد بن معاذ، فأنذره سعد بالقتل وتوعده، وكان أمية بن خلف جبانًا فعلًا، فلما آن أوان الحرب تحايل حتى يفلت منها فلم يمكنه أبو جهل، ولم يكن أمية بن خلف وحيدًا في الرغبة عن القتل بل كان غيره، عتبة وشيبة أبناء ربيعة وزمعة بن الأسود (صهر الرسول، وهو مشرك) وحكيم بن حزام (ابن أخي خديجة وكانت تقيم في بيته بمكة) وغيرهم من أغنياء مكة، خافوا على أعمارهم وعرفوا قوة محمد وشدة بأسه وصدق عزيمته فتكهنوا بسوء العاقبة، ولكن أبا جهل وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث كانوا سياط الحرب المعاند، فلم يكفوا عن هؤلاء الناس حتى حملوهم على الحرب ولم يحملوهم إلا على الموت السريع.
أعدَّت قريش العدة ولكن أبا جهل تذكر في اللحظة الأخيرة أن بينهم وبين كنانة ثأرًا فخافوا أن تطعنهم في ظهورهم.
•••
ولنترك الآن أهل مكة وجيشهم يسيرون خفافًا وثقالًا في طريقهم إلى بدر الكبرى! إلى بدر القتال! إلى بدر الحاسمة!
ولنعُد إلى الرسول في معسكره خارجًا من المدينة في ثلاثمائة رجل من الأنصار والمهاجرين وازدادوا تسعًا، وكانوا كلهم يشقون خطواتهم الأولى في الحرب، فلم يغزُ بأحدهم من قبل، وكان أهل مكة محاربين قدماء، في ذي العشيرة، وهي لبني مدلج بناحية ينبع، وبينها وبين المدينة تسعة بُرُد (جمع بريد، وهو مسيرة ثلاث أو أربع ساعات).
انتقى الرسول رجلين من خيرة رجاله فأرسلهما في ٢ رمضان يتحسسان خبر العير العائد بقيادة أبي سفيان من الشام إلى مكة وقوامه ٢٥٠٠ بعير، وهما طلحة بن عبيد الله التيمي وسعيد بن زيد بن نفيل، فلما بلغا أرض الحوراء نزلا بحسن نية على كشد الجهني فأجارهما وأنزلهما، وكان من جواسيس قريش ومأجوريها، فكتم على الرجلين أمر العير وخطتها حتى مرت، فلما وثق من مرورها وانفلاتها وفواتها خرج مع مبعوثي الرسول خفيرًا حتى أوردهما ذا المروة شمال المدينة بشرق وأقصى ما يكون عن طريق العير، وكانت العير قد سلكت ساحل البحر الأحمر وأسرعت مجدةً في طريقها إلى رابغ فطريق مكة، تصل الليل بالنهار؛ خوفًا وفرقًا من طلب الجيش المحمدي، فعاد طلحة وسعيد خائبين إلى المدينة ليخبرا الرسول خبر العير الذي شرباه ساخنًا من يد كشد الجهني بعد أن قضيا عشرة أيام في عملهما، فوجداه قد خرج بجنوده يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان (الشهر ١٩ من الهجرة)، وتحديد هذا اليوم قاطع بأن بدرًا وقعت صباح الجمعة ١٨ رمضان لا صباح الإثنين كما ظن كثير، وهكذا يكون النبي شرع في أول رمضان في الاستعداد بفكره، فبعث الرائدين في ٢ رمضان فقضيا عشرة أيام في رحلتهما ذهابًا وإيابًا، وخرج هو في ١٢ رمضان وقطع خمسة أيام في الطريق إلى بدر فوقعت يوم الجمعة ١٨ رمضان.
ضرب الرسول عسكره ببئر أبي عتبة على ميل من المدينة، فعرض جيشه وردَّ مَن استصغر من الشباب المتحمس الذي يجازف في الحرب؛ طمعًا في المجد قبل الغنيمة ويتعجل النضج؛ حبًّا بأن يعد في صفوف الرجال، ولما كان الرسول قد خرج متعجلًا، فلم يستطع أن يقوم بكل ما يجب على الخارج لحرب، والمؤكد أنه خرج في طلب العيرِ، والعيرُ غيرُ محروسةٍ بأحراس مسلحين، ويكفي في مهاجمتهم هذا العدد الذي اتخذه، فالفرق كبير بين المسلمين وبين قريش؛ فقد خرجت جيشًا مسلحًا مستعدًّا للدفاع عن العير والهجوم على المسلمين، غير أن النبي منذ تسعة عشر شهرًا قد اعتبر نفسه صاحب المدينة، فأخذ ما ظنه كافيًا من الحيطة؛ فجعل أبا لبابة واليًا على المدينة (صاحب الذنب المشهور والمغفرة المنزلة بعد التوبة)، وكان قد صحبه في الجيش إلى بئر أبي عتبة، وكلف ابن أم مكتوم على الصلاة في المدينة (وهو الأعمى الذي نزلت في حقه سورة عبس وتولى)، وترك الرسول عاصم بن عدي على قباء والعالية (قريتين من ضواحي المدينة)، ولم يدرك مبعوثاه من قلم المخابرات المحمدية طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد الموقعة، ولقياه منصرفًا عن بدر بعد النصر، فلم يكن النجاح من نصيبهما في الذهاب ولا في الإياب، وجعل اللواء لمصعب بن عمير مفقِّه الأنصار الأول، وجعل لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، ولبس الرسول درعه ذات الفضول وتقلد سيفه «العضب»، وكان علي بن أبي طالب في نصف العقد الثالث، وإن لم يحمل لواء؛ فقد كان منظورًا إليه بعين الإجلال والمهابة، وكان الحباب بن المنذر صاحب الرأي في الاحتفاظ بالآبار بين المدينة وبدر؛ لتنفع في التقهقر إن دارت الدائرة على المسلمين لا سمح الله.
وكان جريئًا وعاقلًا وسأل الرسول في صراحة عن قصده وهل يعمل بالوحي أم بتدبير الحرب، فلما قال بتدبير الحرب، أشار برأيه، ففرح به الرسول وأخذ به، ويغيظ أمر مرغليوث نجاح الحباب؛ فلا يجد مطعنًا إلا أن الحباب من أسماء الشيطان، فلم يغيره الرسول كعادته في استبدال الأسماء الجميلة بالأسماء الرديئة، وهو في مجال آخر ينتقد عادة تغيير الأسماء ويراها بدعة، ولو أشعلنا أصابعنا لنضيء لمرغليوث المغرض أو عملنا له البحر المحيط «طحينة» وجعلنا له سقف قصره من لازورد وزبرجد فلا نرضيه أبدًا!
لم يكن النبي ليقبل معينًا من المشركين؛ خوفًا من تأثير روحه السيئ ونجاسته ورجسه، ويعلم أن رجلًا واحدًا قد يفسد المئات بِزَخَمَته، فلما عرض حبيب بن يساف الخزرجي نفسه لنجدة الأنصار وطمعًا في الغنيمة فرح المسلمون به؛ لشهرته وبطولته وقوة بأسه، وكان رجلًا قويًّا كغزاة الحروب الصليبية وهؤلاء الفرسان المغامرين، فوقف لهم الرسول وقال: «لا يصحبنا إلا من كان على ديننا، ولا نستعين بمشركين على مشركين.» وهذا هو المنطق والإيمان واستقامة الخطط، وإلا فمتى تكون؟
وقد شعر حبيب بن يساف بقوة الرسول وقوة حجته فخضع لهما وأسلم وقاتل قتالًا شديدًا وأبلى بلاءً حسنًا.
كان النبي مفطرًا، وبعض المسلمين يحتم الصوم؛ أي إنهم مشترعون أكثر من صاحب الشريعة التي أباحت الإفطار في السفر وفي الحرب واختصرت الصلاة، فقال لهؤلاء «الحنابلة» قبل أن يتفقه ابن حنبل: «يا معشر العصاة! أفطروا؛ ها أنا مفطر.» ولما كان كل ثلاثة يركبون بعيرًا فإذا جاء دوره ﷺ أرادوا أن يؤثروه على أنفسهم وهو في الرابعة والخمسين من عمره وقائدهم ونبيهم وسيدهم المطاع ومصدر الخير لهم، فيقول لهم: «ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما!»
قلنا: لقد عرفت طريق الرسول من المدينة إلى بدر معرفة جيدة وجاشها سياح أوروبيون حققوها وأثبتوها، فمن بئر أبي عتبة إلى صفراءَ، ومن صفراءَ إلى وادي ذفران، وفي وادي ذفران حدثت أمور ذات خطورة كبرى؛ فقد جاء النبأ إلى الرسول بأن جيش مكة مسرع إلى لقاء المسلمين؛ ليذود عن تجارته، ولا بد إن كان هؤلاء «الجدعان» مجدين في سيرهم حقًّا؛ فقد قطعوا ثلاثة أخماس الطريق من مكة إلى المدينة في زمن وجيز وطووا في أربعة أو خمسة أيام ما يطويه المسافر في عشرة، ولا تنسَ ما كانوا ينوءون به من أحمال وعتاد، ولا نعجب؛ لأنهم أهل أسفار وحل وارتحال وحزم بضاعة وحمل أثقال، فالمكي أخف راحل على ظهر الجزيرة، وجوَّاب آفاق لا يُجارى إذا خرج من وطنه، وتراهم قديمًا وحديثًا يصلون إلى أقصى الأرض غربًا وشرقًا وشمالًا وجنوبًا كالمستنفضين من جنس السكسون، وما الحث في القرآن على الضرب في مناكب الأرض والسير في طرقها وطي البيد وخوض البحار وركوب الأخطار في سبيل الرزق أو في سبيل المجد، إلا صورة من حياة هؤلاء المكيين وحبهم التنقل وقدرتهم على الاندماج في كل بيئة وقدرتهم على تحمل الأجواء، لقد نقل المخبر إلى الرسول أن جيش مكة مسرع؛ ليدافعوا عن عيرهم، فجمع الرسول مجلس حربه ووزرائه وطرح عليهم مسألة الساعة قائلًا ما خلاصته ومعناه: إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فما تقولون؟ آلعير أحب إليكم من النفير؟ أتستولون على القافلة بتجارتها أم تلقون الجيش لتحاربوه معرضين عن المال؟
فقالت طائفة منهم: العير أحب إلينا من لقاء العدو، وعززت قولها وحجتها بأن الرسول لم يذكر لهم القتال حتى يتأهبوا له، فيا رسول الله عليك بالعير ودع العدو.
وإن سورة «الأنفال» لتلقي على هذه الحوادث نورًا رائعًا.
انظر! إن المهاجرين والأنصار لا يريدون الحرب؛ بل يريدون الغنيمة، ولا بد أن عدد المشركين الذين سمعوا به — وهو ألف — وعدد الخيل قد راعهم وأرعبهم، فظنوا الغنيمة خيرًا من الحرب وأسلم عاقبة، وإن تكن سلبًا ونهبًا فهي خير من القتال المصحوب بالمخاطرة، وحاولوا الاحتجاج؛ لأنهم خرجوا على العير لا على الحرب، وإنها حجة وجيهة؛ فإن الخارج للسلب وغزو العير على طريقة الجاهلية لا يحمل من السلاح والميرة والذخيرة إلا ما يحتاج إليه قاطع الطريق، أما المجاهد في الحرب فشيء آخر، دع عنك اختلاف الروح والخطة.
ورأى الرسول ووزراؤه الاختلاف في وجهة النظر، فغضب؛ لتعلق بعض المجاهدين بأطماع هذه الدنيا، فنزلت آية: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ.
انظر إلى قوله تعالى: بِالْحَقِّ هذه ما أقواها وأعظمها! وانظر إلى تلطف الله بهم فوصفهم بالإيمان، وما أعظم هذه الصفة في هذا المقام؛ لأنه قال قبل ذلك بآيتين في تعريف المؤمن: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
هل نسي الفريق من المؤمنين الكارهين للقتال أن الله وعدهم إحدى الطائفتين؛ أي العير، والنفير، ولم يفضل إحداهما، ألا تعرفون كيف تختارون؟ ألا تميزون؟ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.
أيكون بعد ذلك شك وتردد وجدال؟
لما وصل الحوار إلى هذا الحد نهض أبو بكر وهو لها ورجلها وسدَّاد الثغرات ومنقذ دعاة الهزيمة والتردد من العثرات، وخطب فيهم عمر فقال وأحسن.
وما يزال رسول الله صامتًا منتظرًا يريد أن يكون التصميم من ناحيتهم لا من ناحيته. إن الله يريد إحقاق الحق، وما خروج محمد من بيته في سبيل السلب والنهب، وليس بزعيم عصابة، ولكنه نبي مرسل، ويريد الله إبطال الباطل وقطع دابر الكافرين، وهذان لا يكونان إلا بالنصر في الموقعة التي ساقها الله لهم.
ونهض المقداد ليقول الكلمة التي تحرك الجماهير وترغم المترددين على الطاعة وترد أطماع طلاب الغنائم الباردة: يا رسول الله، امضِ لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون! ولكن نقول (اسمع كلام المقداد وتخيل شخصيته الثائرة الحكيمة)؛ إنما نقول: اذهب وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، ما دامت منا عين تطرف، فوالله الذي بعثك بالحق؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد بأقصى الحبشة لجالدنا معك من دونك حتى نبلغه.
فضحك رسول الله وأشرق وجهه وفرح بالمقداد ودعا له وقال خيرًا، وقضت كلمة المقداد وحضور بديهته وشجاعته على البقية الباقية من التردد، وإنك تقرأ هذا وتكاد تسمع كلامًا في مجلس حرب حديث، أو في مجلس وزراء أمة رشيدة، أو برلمان قوم درجوا على النخوة والمروءة والشرف، يحمل أحد خطبائهم حملة كريمة فيُخجل المعارضين ويمحو آية الضعف بآية القوة، ولا يأنف أن يفرغ رأيه في قالب حماسي يضع الخصوم في كفة الهزيمة ويتهكم بالذين يريدون إيفاد الرسول وربه للحرب وهم ينتظرون النتيجة المحتومة، فتابعه الجيش وانضم المعارضون إلى الرياسة وصفقوا للخطيب وبذلوا ثقتهم عن طيب خاطر.
فلما اطمأن الرسول إلى اتحاد الكلمة وتوافق الآراء اتجه إلى الوزراء قائلًا: أشيروا عليَّ. وهو يريد بذلك التعمق في البحث وتصفية المسألة وموازنة الأمور موازنة تؤذن بالعمل الجدي ورسم الخطط الخاتمة.
فقال عمر: «إنها قريش يا رسول الله وعزها، والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته، وأعدَّ لذلك عدته.»
عمر بن الخطاب لا يوجه الحديث إلى رئيسه وقائده وحبيبه؛ لأنه يعلم أن الرسول يعرف قريشًا وعزها وكفرها وقتالها وقوتها، لا يريد عمر أن يتهم بالتهاون والتساهل في شأن العدو، وهو من أصلبهم عودًا وأعرفهم ببطولة هذه القبيلة التي لا عيب فيها إلا تخطيها الحق وتعلقها بالأوثان، وإلا فهم أبطال في الحروب أشداء في القتال لا يستهان بأمرهم ولا يستخف ببطشهم، وأليس المهاجرون من خيرتهم؟ وأليس فيهم بقية صالحة ستدخل الإسلام فيعتز بها؟ ألم يكن هو بالأمس من أعداء الإسلام وقد صار اليوم أعز أنصاره؟ فهو لا ينتقص قومه ولا يحط من أقدارهم ولا ينيم قلوب المجاهدين؛ ليستخفوا بخصمهم.
لقد كان بين الرسول والأنصار عهد بيعة لا يقضي عليهم بالحرب خارج المدينة، وها هم أكثر الناس وأغلبهم في الجيش، فلو تمسكوا بنص البيعة وقالوا: خرجنا للعير لا للنفير، فلن يبقى مع الرسول سوى ستين أو سبعين رجلًا من المهاجرين، وهؤلاء لن يصلوا إلى رابغ فضلًا عن برك الغماد التي لوح بها المقداد، إذن وجب الفصل في هذه النقطة قبل الخطوة الثانية. ألم تقل الأنصار في البيعة: علينا نصرتك إلا ممن دهمك بالمدينة من عدوك، وإنه ليس علينا أن تسير بنا إلى عدو من بلادنا، إنَّا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك بما نمنع به أبناءنا ونساءنا؟! وقد بروا إلى هذه الساعة ببيعتهم ووعدهم، وها هو الآن يدعوهم بالقرآن وبلسان وزرائه أن يخوضوا غمار حرب مجهولة النتيجة لديهم تدعو إلى معاداة قبيلة من أقوى القبائل ومدينة من أغنى المدن، وليس لهم عليها قدرة ولا تعدل قوة الأنصار قوتها، ألم يكفِ أنهم جابهوها بالبيعة والحماية داخل المدينة، حتى يمدوا حبل العداء إلى المعارك، فقال سعد بن معاذ سيد الأوس: لعلك يا رسول الله تخشى أن الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وأنا أقول عنهم، فاظعن من حيث شئت، وسالم من شئت، وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، ولو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.
وإذن يكون ابن عبادة زعيم الأوس قد فسَّر المعاهدة وأضاف إليها نصًّا جديدًا، فهدم القديم الذي يمنع خروج الأنصار للحرب مع الرسول ووعده بمعونة المال ومخاطرة الأعمار وأطلق يده في المسالمة والمحاربة، فسلمه توقيعًا على بياض؛ ليكتب الرسول فوقه ما يشاء، وهذه ثقة فوق الثقة، أو هي أعلى درجات الثقة، وقد شاء الله أن لا تسحب أبدًا بعد هذه الجلسة في وادي ذفران.
ضحك الرسول للمرة الثانية وأشرق وجهه؛ فقد رأى سياسته تسير من نصر إلى نصر وصفوف جديدة تنضم انضمامًا يؤمل به الفوز فقال: «سيروا وأبشروا؛ فوالله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.»
فعلم القوم أنهم ملاقون القتال، وأن العير لا تصل إلى أيديهم.
أترى هذه الخطوات وخطة الرسول الحكيمة منذ اعتزم إحقاق الحق وقطع دابر الكافرين، ترى لو أنه دعا المسلمين للقتال في المدينة أكانوا يلبون دعوته؟ إنه لم يغرر بهم ولم يخدعهم ولم يعدهم وعد الساسة، ولكنه دعاهم إلى إحدى الغنيمتين، لو دعا للنفير وحده أكانوا يخرجون؟ وإن خرج للعير ثلاثمائة فلعل النفير لا يخرج له أحد، وقد يؤثرون السلامة!
لقد آن أوان الرحيل من ذفران على نية صريحة جديدة وخطة محدودة وهي الحرب دون سواها، ومن لم يستعد لها فليرجع، ولكن لم يرجع أحد، فلننظر الآن ماذا فعل الجيش المكي الذي ركب كل صعب وذلول وسارع إلى القتال؛ لحماية العير بعد أن استنفرهم ضمضم بن عمرو الغفاري وجمله المجدوع ورحله المحول وقميصه الممزق المصبوغ بالنيلة ورأسه المعفر بالتراب.
فكأن أول موقف لهم بمر الظهران فنحر أبو جهل بن هشام عشر جزر، وقد أسرع الجزارون في ذبحها وتعجلوا فبقيت الحياة في بعضها فجالت في المعسكر فما بقي خباء أو خيمة من خيام الجند إلا أصابه من دمها، نحن لا نتطير، ولكن هم الذين تطيروا؛ فقد درجوا على الطيرة؛ وهي من العقائد التي قاومها الإسلام وذمها، وهذا لا يمنع أن الرسول كان يغير بعض الأسماء الرديئة بأسماء جميلة؛ لا طيرة؛ ولكن من حسن الذوق ورقة الطبع وخدمة المسمى، فإنك بلا ريب تفضل أن تدعو رجلًا باسمه عسلًا أو حلوًا على أن تدعوه حنظلًا أو مرًّا، وتحب أن تكون المرأة ميمونة أو صفية ولا تكون برة أو شعيرة أو قمحة.
- الأول: أسماء الزعماء وأصحاب المال الذين أنفقوا على الجند وأطعموهم طوال الطريق، وقد كان لكلٍّ منهم شأن في مكة وفي الموقعة.
- الثاني: رسم خطة الحملة وذكر الأماكن التي حطوا بها رحالهم؛ ليأكلوا ويستريحوا، وما تزال جميعها حتى الساعة ماثلة، وقد مررنا بمعظمها في سفرنا من مكة إلى المدينة، وقد بقيت على حالها وسطًا بين محطة الصحراء والقرية الصغرى.
- الثالث: سرعة السير والدلالة على عدد الجيش؛ فقد جعل حساب كل جزور بمائة رجل فكانوا ألفًا، وقد تعاون الكبراء على إطعام الجيش؛ لأنه لم يكن هناك خزانة عامة للتموين، وكان الواجب على أبي سفيان وحده أن ينفق من مال دار الندوة إن كانت لهم مالية معلومة، ولكن هذه المشاركة في الذبح دليل على خلوهم من وحدة المال ووحدة الإدارة، وكذلك لم تكن لهم قيادة موحدة بل تقاسموها، وفي كل حين يبرز اسم شهير كأبي جهل وعتبة وأبي سفيان. ولا يهولنا خروج العباس بن عبد المطلب لمحاربة ابن أخيه؛ فقد كان موقفه في مكة حرجًا وقد اتهموه بالخروج عليهم ومعاندتهم لا لشيء إلا قرابته لمحمد، ولذا لم يجرؤ هو أو أحد من إخوته (غير حمزة) على الحلول محل أبي طالب، وقيل إن أبا لهب فكر لحظة في خدمة الرسول كما خدمه أبو طالب فضعف حيال مكر الزعماء وانقلب أعدى أعدائه حتى دمغه الله وزوجته أم جميل، وكانت من شهيرات النساء بسورة: «تبَّتْ يدا أبي لهب».
ولم يحفظ لنا التاريخ نظام التموين في جيش النبي، ولا أسماء الذين ذبحوا الجزائر، لعلهم كبار الصحابة وسادة الأوس والخزرج، ولكن مدة حملتهم كانت أقصر؛ لقربهم من المدينة، وعنايتهم بالطعام كانت أقل، وقد دعا لهم الرسول فقال: إنهم جائعون فأطعمهم، وحفاة فاحملهم، إلخ.
كانت جريدة المكيين إحصاء الجزائر وذكر أسماء الذابحين، وجريدة الأنصار والمهاجرين آيات القرآن وحديث الرسول وخطب العظماء وتنقيح المعاهدات، لا تلويث الأخبية بدماء الذبائح …!
وإذن وقف الجيشان ببدر على مقربة من مائها.
كان أبو سفيان أثناء ذلك يجد السير في طريقه إلى مكة، وإنما سلك سبيلًا لا يصطدم أثناءها بجيش النبي، وإن كان محتمًا عليه أن يمر ببدر؛ لأن خطته أن يلزم الساحل، وبدر أقرب إلى الساحل، وهو لا يعلم أن بني وطنه قد شدوا الرحال مسرعين، وأن العشرين مثقالًا التي قبضها ضمضم قد آتت أكلها وزحزحت ألف رجل عن مراقدهم ومغانيهم ومفاسقهم وأغانيهم وشرابهم وطعامهم.
وصل أبو سفيان على مقربة من بدر ومعه العير في نفس الوقت الذي بلغ فيه جيش مكة قرية الجحفة، فعلم أن الرسول يدنو بجيشه من ماء بدر فصوب عيره عن الطريق وترك بدرًا بيسار وانطلق حتى أسرع حتى اطمأن على أنه أنقذ العير واستقامت له الطريق بحيث لا يدركه جيش النبي، أرسل إلى جيش مكة وقد علم مقره بالجحفة يردهم عن الخروج، وجاء في كتابه: «إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجت وأحرزت (أي عادت إلى حيازتكم بعد أن ظننتها مضيعة) فارجعوا.»
إلى هنا يجب أن نسجل لأبي سفيان فضل المهارة والحذق وحسن الإدارة وحقن الدماء وشدة الدهاء وبعد النظر؛ فهو فحل من فحول قريش، وتيس كبير من تيوسها التي يصح لهم أن يمجدوه؛ فقد استطاع قرابة عامين أن يوجه العير توجيهًا حسنًا ويتم رحلات القوافل المحملة بعناية وحذر، فلم تقع مرة واحدة في يد الغزاة من أصحاب الرسول، ولما استشعر الخطر في رمضان استأجر «ضمضم» فكان شر نذير أذهل المرضعات عما أرضعت، وأجهض الحوامل فألقين حملهن، وانتزع الرجال من أحضان القيان، وأنهض كلَّ من يطلق عليه اسم رجل حتى الذين يصفرون أسوتهم.
ولكنه كان حصيفًا وخبيرًا بالضرورات وبأدواء المدن وأدويتها، لقد أشار بتعبئة الجيش المرتجل وإنفاق المال في سبيل حشده وتسييره لا لتقع الحرب فعلًا، ولكن ليذود الجيش عن العير إن هجم المسلمون عليها؛ ليخلصوها لا ليقتلوا ويقاتلوا، فإذا امتنعت هذه الضرورة فلا داعي لإهراق الدماء.
أترى دولة حديثة تأمر بالتعبئة لتنفيذ بلاغ أخير فتنال ترضية أو تحل مسألتها عن أي طريق تصر على إعلان الحرب، أم تأمر بسحب الجيش أو رد الأسطول؟ الجواب ظاهر، وهذا ما فعله أبو سفيان، وقارن بين روح هذا الفرد وروح بعض المؤمنين الذين كانوا يقصدون إلى العير؛ هم أيضًا لا يريدون الحرب، محمد وخيار صحابته يريدون الحرب؛ لإحقاق الحق وقطع دابر الكافرين، وأبو سفيان كان يريد الحرب لحماية القوافل، فلما نجت بحنكته وحسن تدبيره نهى عنها وأمر جيش قريش بالعودة من حيث عاد بنو عدي وأبرأ ذمته من رغبة القتال، وقد اشترك في تموين الجيش وذُبحت في غيبته عشر جزائر.
هنا تكلم القضاء والقدر بصوت ولسان أرفع وأبلغ وأسمع وأفصح وأعلى وأبرع من أصوات «الكارهين» وألسنتهم، ومن صوت أبي سفيان ولسانه.
وقد لبس القضاء في هذه المرة ثوب أبي جهل وتقمصه وحل فيه حلولًا ونطق بجنانه وأشار بيده وبنانه، قال أبو جهل: كلَّا! والله لا نرجع حتى نحضر بدرًا فنقيم عليه ثلاثة أيام، فلا بدَّ أن تُنحر الجزور ويُطعم الطعام وتُسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا بعدها.
دعونا أيها القراء الأعزة نضرب بسهم في فلسفة التاريخ الإنساني الذي لا يساوي عند الله جناح بعوضة! فنظهر إعجابنا هنيهة بهذا الفحل القرشي والبطل الوثني والقائد المكي، وليس في هذا حياد شعرة عن خطتنا؛ فقد كان الرسول به معجبًا وفي خيره مؤملًا، ودعا الله أن ينصر الإسلام بأحد العمرين، فوقعت ورقة الحظ لابن الخطاب، أترى إلى هذا البطل؟ لقد كانت له نفس عالية وروح سامٍ ونظرٌ بعيد على الرغم من وثنيته وشركه، لقد جمع في جوابه على أبي سفيان حياة الجاهلية في سطرين! أتراه كان يحشد الجيش ويسارع مئات الرجال على كل صعب وذلول ويستنفر أشراف قريش وسادة الوادي؛ ليعود أدراجه بخيبة وصغار؟ فيم ضمضم وموكب ضمضم وإزعاج الناس والرجال؟ وفيم هذه الجزائر والمراحل والقيان والغلمان والأخبية تُضرب والجمال تُناخ والأثافي تُنصب والنيران تُشعل والقدور تُغلى والسماط يُمد والجنود تُعد والسيوف تُشحذ والسهام تُبرى والأقواس تُشد؟ وفيم تلك الدروع تُلبس والخوذات تُنصب على الرءوس؟ وفيم القصائد تُنشد والأغاني والأهاجي تُوقع على الدفوف لحماسة النفوس؟ وفيم اللحوم تُطهى والخمور تُحمل في الجلود والقرب وفي كل زق متين إن لم تُفرغ في الكئوس؟ وكيف يُؤتى بالقيان والغواني ولا تُوصل، وقديمًا قالوا: لا عطر بعد عروس؟!
هذه هي الجاهلية بمعلقاتها ومغامراتها وإباحيتها وأورجياتها؛ حيث يتجلى الإله بان ويُمجَّد الرب باخوس!
أرأيت عظمة أبي جهل بن هشام وبطولته وفروسيته حتى لكأنه أحد أبطال طروادة يأبى النكوص عن القتال، فإن أبى غيره الحرب فلا أقلَّ من الاحتفال.
ثم إنه لا يُخفي غايته من استغلال تلك الفسحة الحربية والنزهة المكية، إنه يريد أن يذيع الخبر في العرب فتهابهم ولا تسجل عليهم الخوف والجبن وتفضيل السلامة على المجازفة.
وماذا يهمه حرص أبي سفيان ودهائه وحقنه الدماء؟
لقد ساس أبو سفيان هذه العير خير سياسة فأنعم به وأكرم، وله ما شاء من التحبيذ والتشريف على نجاح خطته! ولكن هذه الحملة وهؤلاء الرجال أيعودون إلى مكة منكسي الرءوس لم يجردوا سيفًا ولم يشرعوا رمحًا ولا يرووا من دماء المسلمين سيفًا ولا مشرفيًّا ولا مهندًا ولا بتارًا؟
حسن، نعود، وأمرهم إلى أوثانهم، ولكن ألا نفرح ونطرب؟ ألا نغني ونشرب، ألا نخاصر ونعانق؟ ألا تُفرش النمارق؟ ألا تُرفع القباب على هند ودعد وليلى ورباب ولو فرحًا بنجاة العير ومظاهرة بالقدرة على الحرب ولو كان خصمنا محمد والمهاجرون والأنصار.
أبو سفيان لا يريد الحرب.
والمؤمنون الكارهون لم يريدوا الحرب.
وبنو عدي عادوا لا يريدون الحرب.
والأشراف والسادة كأمية بن خلف يخافون الحرب.
وأبو جهل نفسه يكتفي بالسهرات الجاهلية، وعلى الرغم منه لا يريد الحرب، ولكن الله ورسوله يريدان الحرب، الحكم هنا للقلة لا للكثرة، بل هي للواحد الأحد، لقد تمكن محمد في تسعة عشر شهرًا من تربية الجيل الجديد والأمة الفائزة، لم يحتج إلى أربعين عامًا كالتي احتاج إليها موسى في خلق اليهود من جديد في وادي التيه، حتى ولا أربعين شهرًا بل أقل من نصف هذه، وآية هذا الميلاد السعيد والنجاح الخارق، مجلس الحرب الذي عُقد في وادي ذفران.
لقد آن الأوان لالتقاء مكة والمدينة وجهًا لوجه.
هل هما قريتان تلتحمان، أم مذهبان ومبدآن؟
هل هما مكة العريقة الغنية القوية العزيزة التي أخرجت أعداءها من وطنهم، ووضعت يدها على أموالهم، ونكلت بالباقين من أقاربهم، التي بلغت طور التجارة بعد الزراعة والصناعة، أم يثرب الصغيرة الفقيرة التي كان يحكمها اليهود والمشركون وأصبحت يحكمها محمد؟
هل هما جيشان أحدهما ألفي والآخر مئوي، وأحدهما مسلح مستكمل العَدَد والعُدَد، شبعان ريان سكران، والآخر جائع عار مجرد لا يضم بين صفوفه غير المشاة، إلا فارسين على فرسين؟
ترى لمن تكون الغلبة؟ وهل تلك الغلبة أزلية ثابتة في ألواح الأقدار كما تكون الهزيمة للفريق الآخر أزلية مدونة في سفر الأسفار، أم النصر والهزيمة طائران ما يزالان في ميزان القضاء مغيبًا عن علم البشر على الرغم من البُشريات؟
ما يزال أبو جهل وسفيان بن أمية (وهو غير أبي سفيان بن حرب) وسهيل بن عمرو وعتبة بن ربيعة ومقيس بن عمرو والحارث بن عامر يملكون حظهم وحظ بلدهم، فإذا عادوا أدراجهم عادوا بشيء من الخزي المبهم، والعار الغامض، ولكنهم يعودون بجيشهم كاملًا ناجيًا وحجتهم بأيديهم، ولكنهم إذا فرطوا في هذه الفرصة فلا يعلمون ما تخبئه لهم الأقدار، وهم الذين درجوا وشبوا وشابوا على استشارة الأصنام والاستقسام بالأزلام.
ولكن ألم يقل أبو جهل لمن أنذر شخصه بالقتل: «سيعلم غدًا من المقتول: نحن، أم محمد وأصحابه!»
لقد كان لبدر موسم عند هلال ذي القعدة يدور ثمانية أيام، فيا حبذا لو اجتمع الموسمان؛ موسم بدر ورقصة أبي جهل على ماء بدر! ولكن حفلاته وسهراته لن تطول أيامها ما بقي من رمضان ثم شوالًا حتى يحل هلال ذي القعدة، فقال لهم: لن نبقى إلى الموسم ولكننا نتعجله ونقيم ما هو أفخم منه وأعظم، ولم يدرِ أنه باقٍ وسبعون من أقرانه حماة مكة إلى الموسم، وما بعد الموسم، وما بعد بعد الموسم عشرات الأعوام بل مئاتها بل ألوفها …!
أين؟ … في القليب!
إن صوت الدماء يعلو ويرتفع، وأجراس الموت ترن.
يا لهما من طنين ورنين!
بلغ جواب أبي جهل آذان أبي سفيان بن حرب (وهو غير سفيان بن أمية) فساءه طغيانه فقال: هذا بغي؛ والبغي منقصة وشر. فلما علم بنو زهرة بهذا قلدوا بني عدي وعادوا أدراجهم، ولا ندري عددهم وكان زعيمهم الأخنس بن شريق فتعب في إقناع أبي جهل برأي أبي سفيان فلم يفلح، فولى وجهه شطر أرض قبيلته.
رأى العباس أن بني عدي عادت، وأن بني زهرة عادت، وقد دب الضعف في صفوف الجيش؛ لأنهم علموا أن لا قتال؛ لأن أقصى ما يطلبه أبو جهل (ما أصدق كنيته وما أشد انطباقها عليه منذ الآن!) أن يرقص ويغني ويعانق على النمارق ويشرب الخمر على ماء بدر، فخمدت الحمية واطمأنت النفوس إلى نجاة العير وحماية صاحبهم وحليفهم مخرمة بن نوفل ورعاية ماله، ولا نفْع في الحرب بعد النجاة، وهذا التخذيل يفتُّ في عضد الجنود؛ لأن الجندي الذي يُنصر إنما يحارب لأجل فكرة وعقيدة، والجندي الذي يُهزم إنما يحارب لغير غاية أو لغاية مبتذلة مرذولة كالمرتزقة، وقد سُلبت الغاية من قلوب القرشيين وتنحى عنهم قبيلتان، وقد أثبتت الحروب الحديثة أن النصر في جانب أصحاب المبادئ، يموتون في سبيلها أو يحيون لنصرتها.
وهذه الحملة القرشية التي أثارها ضمضم كانت ركيكة الغاية؛ لأن مدارها المال، فلما ضمن المال تلاشت حيويتها وقصفت فقارها والتوى سنانها وتهدم صرحها في نفوس ذويها والمسوقين إليها، فلما هزلت وتراخت وانتهت إلى الطبل والزمر والرقص والخمر عادت كالطلل الخالي والشبح البالي أو الحلم البائد والصيد في حبالة صائد.
رأى العباس بن عبد المطلب عم النبي هذه المناظر وهو خارج «مكره أخاك لا بطل.» فأراد أن يتملص وفاتح بني هاشم في الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع! وأغلب الظن عندي أنهم إذا رجعوا قد ينضمون إلى جيش النبي، أو أنه رأى أن يعرضهم للقتل أو يتخذهم رهائن وقد اطلعوا على خفايا الجيش وأشرفوا على أسرار الحرب فلا خير في فراقهم، فأبقاهم على ضغن.
صمم أبو جهل على خطته وأعرض عن نصح أبي سفيان والأخنس بن شريق زعيم بني زهرة، ولم يكن الأول ولا الثاني يرغبان نفع محمد والمسلمين في كف الحرب؛ فقد كان التغلب عليهم غاية أماني أبي سفيان وإن يكن يمثل حزب المعتدلين في السياسة، ولكنهما فكرا في نفع قريش فخيب أبو جهل أملهما.
ما زال جيش قريش سائرًا حتى نزلوا بالعدوة القصوى، ولعل المنطق يقتضي أن قيادته تعقد لأبي جهل؛ لأنه أصبح سيد السير وصاحب الخطة، والعدوة القصوى قريبة من الماء، وهو عين حياة الصحراء.
ونزل النبي والمسلمون بعيدًا من الماء بينهم وبينها مرحلة.
فشعر بعض المسلمين بشيء من المذلة وقالت ألسنة السوء فيهم، ولا يخلو ركب فضلًا عن جيش من شياطين الإنس التي توسوس في صدور الناس، وقد أعانها الظمأ والتعب وحالة الضنك والضيق التي فيها المسلمون، وأرهبتهم كثرة قريش وأخبيتهم وقبابهم وبريق أسلحتهم، قالت ألسنة السوء: تزعمون أنكم أولياء الله وأنكم على الحق وفيكم رسول الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من شاءوا وساقوا بقيتكم إلى مكة!
إنه كلام مليح في ظاهره لا يأبى لسان سوء أن يتحرك به، إن مؤرخي القدماء يشفقون أن يجعلوه على ألسنة أحد ممن شهد بدرًا؛ لأنهم قدسوهم، والقرآن مجدهم، والنبي زكاهم، ولكن التقديس والتمجيد والتزكية إجمالية، ولا يمكن أن يكون جيش كجيش المدينة خاليًا من شخص أو شخصين تجول في أفكارهم خواطرُ كهذا الخاطر فيصرح بها ولو على سبيل النقد المباح، ألم ترَ في أول الأمر مؤمنين كارهين قد حملتهم فصاحة المقداد وسعد بن معاذ على أجنحتها فساروا تبعًا لروح الجماعة منقادين لتأثير الساعة.
فإذا ما طال السير واشتد الجوع ولم تُغنِ التمرة وجرعة الحليب أو البُرُّ المدشوش غناء اللحم والذبائح، واشتد الظمأ والماء قريب في يد عدو لا في يد حبيب، وقارن الرائي بين ألف وبين ثلاثماية، وبين ماية فارس وبين فرسين، وبين أغنياء يخبون خبًّا في الصوف والحرير ويخطرون في الدروع، وبين الحفاة العراة الجياع العطاش؛ فلا يمنعه عن هذا القول إلا إيمان شديد وثقة لا حد لها وتمسك بالشخصية قد لا تتوافر جميعها لكل الناس، وعندنا أن القائل بَشَر لا جانٌ، وإنسان لا إبليس ولا شيطان، والقرآن يصف بعض الإنس بأنه شيطان: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ.
ويطلق الناس على الجن: فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وعندي أنهم معذورون لو قالوا ذلك تبعًا لظواهر الأمور، ودليل عذرهم وقبوله عند الله أنه سبحانه وتعالى لم يُطل محنتهم؛ خوفًا من فكاكهم، فبعث المطر فورًا فأطفأ الغبار ولبدت الأرض واشتدت وهبط التراب وشربوا وملئوا أسقيتهم (أي قربهم) وسقوا الركائب واغتسلوا وطابت نفوسهم، وسجلها القرآن في آية: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ.
أما قريش فقد أصابهم من المطر ما لم يقدروا على أن يصلوا منه إلى الماء؛ فكان مطر واحد في مكان واحد: نعمة وقوة للمؤمنين، وبلاء ونقمة على أعدائهم.
قد يبدو هذا الكلام غريبًا، ولكنه غريب لصدقه وصحته وتأييد التاريخ الحديث له.
انظر إلى موقعة واترلو الحاسمة في تاريخ العالم بين بونابرت وولنجتون وبلوتشر في سنة ١٨١٥؛ لقط سقط فيها المطر على الفريقين فكان سببًا في انتصار فريق وانكسار آخر، والأعجب أنه كان سببًا مباشرًا للهزيمة؛ كان بونابرت ممتازًا بالمدفعية، بها أحرز كل فتوحه في أوروبا وفي الشرق؛ فقد كان أعظم قائد مدفعي في التاريخ الحديث، والمدافع في حاجة إلى أرض يابسة تتحرك عليها؛ لأن ثباتها في مكان واحد يعدمها قيمتها، وكانت أرض الميدان في واترلو قبل المطر يابسة صلبة ملبدة شديدة، فلما نزل المطر صارت هشة طرية تنزلق فيها الأقدام وتسوخ فيها عجلات المدافع، فعجزت حركتها، ولم يعجز خصومه؛ لأنهم لم يعولوا على المدافع، وفيكتور هيجو يناجي تلك الساعة المطيرة التي سبقت الموقعة مناجاةً كنت أظنها جوفاء، ولكني أراها الآن بليغة، وهو يناجيها وقد دارت الدائرة على ملكه ومولاه وسيد وطنه، فما أحراني بمناجاة السحابة التي أنزلها الله على بدر، وقد نال بها ملكي ومولاي وسيدي النصر المؤزر، ودارت فيها الدائرة على أبي جهل وجنوده، وإن استمدت المناجاة على لسان هيجو من عظمته وعظمة سيده؛ وهو الذي خاب، فأستمد مناجاتي من فرحتي ونصر حبيبي، ولكن أبلغ وأعظم وأوقع من كل ما أستطيع كتابته أو التغني به تلك الآية الكريمة.
•••
كان بلوغ الجيش حذاء بدر قبيل المساء؛ ولذلك كانت المطر، فبات كل مسلم قرير العين واستولى عليهم نعاس عميق، لعلهم لم يكونوا في تلك الأزمنة يخشون مفاجأة الليل، وكان كلا الجيشين منهوك القوة، فنعس المسلمون، ولكن المشركين لم تغمض لهم عين، ومع أنهم لم يناموا لم يفكروا في حرب خاطفة.
لِمَ لَمْ يناموا؟ لقد غاظتهم الأوحال، ولأنهم فرحوا بقلة المهاجرين والأنصار وحدثتهم أنفسهم بسهولة الظفر بهم لو شاءوا، وفرحوا؛ لأنهم بلغوا بدرًا ولن يقاتلوا؛ لأن نهاية أبي جهل أن يحتفل، وقلقوا؛ لأنهم رأوا أعداءهم فتحركت الأحقاد والأضغان، وحنقوا؛ لأن هذه الحفنة من الرجال أَقَضَّتْ مضاجعهم وأخرجتهم من بلدتهم وكلفتهم نفقات الطعام والسلاح وأجور المرتزقة، ونفقات الإبل والخيل، كان المسلمون عراة حفاة، العاري في القافلة مرتاح مستربح وكانت قريش مليئة هنيئة، وللسعادة ثمن يدفعه صاحبها، فيتقاضاه الزمان بالأرق والسهد وحمل الهموم والتفكير في الغد.
ستظل حال محمد في موقعة بدر خالدة على وجه الدهر؛ فقد كانت حالًا فذة في تاريخ القادة وأبطال الأمم؛ فقد نصبوا له عريشًا فكان مقر القيادة العليا وجعلوا عليه حارسًا؛ هو سعد بن معاذ نفسه.
لقد نام جيشه ولكنه لم ينم، فما كان فيهم قائم إلا هو يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده أن يقول: «يا حي يا قيوم!» حتى أصبح، فلما طلع الفجر نادى للصلاة فنهض الناس من تحت الشجر والجحف فصلى بهم، ثم ألقى خطبة القتال فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله سبحانه وتعالى، أما بعد؛ فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله تعالى به الهم وينجي به من الغم.
ثم خرج يسابق قريشًا على الماء فسبقهم إلى أن جاء أدنى بئر فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المكان اختاره لك الله وليس لنا أن نتقدم عليه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ أي نزولك هذا الماء بوحي من الله، أم من اجتهادك في الخطة الحربية؟
ماذا يقول رجل غير مرسل في موطن كبرياء وصلف يريد أن يُخضع الجميع لرأيه؟ طبعًا يقول: هذا وحي، وهذه خطة الله أمرني بها.
ولكن محمدًا الرسول حقًّا قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. أي هو خطة من عندي لا دخل للوحي فيها. أرأيت أصرح وأصدق من ذلك، وأبعد عن الزهو والغرور وصلابة الفكر والعناد والكبرياء؟
فقال الحباب: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء القوم؛ فإني أعرف غزارة مائه وكثرته بحيث لا ينزح، فننزله ثم نُغَوِّر ما عداه من القُلُبِ ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماءً فنشرب ولا يشربون؛ لأن الآبار كلها تصير خلفنا، ولنا عليها السيطرة. فقال الرسول: لقد أشرت بالرأي.
أراد الرسول أن ينزل ويترك عيونًا وآبارًا بينه وبين العدو فإذا أرادوا شربًا وجدوه، وأراد الحباب أن يصل المسلمون إلى أبعد ماء من الميدان وأقربها لقريش فيملكوها ويضعوا أيديهم على كل ماء وراءها ووراءهم؛ ليمنعوا قريشًا ورودها، فصفق له النبي وأثنى عليه.
وفي نصف الليل نفذوا تلك الخطة وبنوا الحوض حول العين فملكوا زمام الماء ونزلوا بين الأعين الأخرى وبين قريش واستقوا وألقوا بالآنية في الحوض.
انفرد الحباب بتموين الجيش بالماء وقطعه عن قريش، وانفرد سعد بن معاذ بإعداد العريش وهو مقر القيادة وحراسته بشخصه وضمان خط الرجعة فأعد الركائب ببابه؛ لإنقاذ الرسول في حالة الهزيمة، فقال في لطف: «نعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى (أي الهزيمة، ولم ينطق بلفظها) جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من أهل المدينة؛ فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشدَّ لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، إنما ظنوا أنها العير، يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك.» واختار سعد مكانًا عاليًا فوق تلٍّ يشرف على المعركة فبنى عليه العريش.
أرأيت شجاعةً وفطانةً وإخلاصًا كالتي تجمَّل بها ابن معاذ؟
إنه يقدر الهزيمة ويعد الركائب بباب العريش؛ لينجو رسول الله إلى المدينة، ولا يقاطعه الرسول ولا ينهاه ولا يطمئنه ولا يبشره، ولكنه يشكره ويثني عليه، وإن ابن معاذ ليفرغ هذا الخوف كله على الرسول من عاقبة المعركة في قالب الرجاء: «فلو قُتلنا جميعًا أو أُسرنا جميعًا ونجوت أنت ستلقى أنصارًا ومهاجرين يفضلونك على أنفسهم ويجودون في سبيل الحق بأرواحهم.» أليس في هذا الموقف الأعظم تقدمة مباركة للآية الكبرى التي ستنزل في أحد؟
وابن معاذ يقول: نحن في أول الأمر، فلو هلكنا جميعًا وبقيت أنت فسيستمر الأمر ويتم، والله يقول بعد ذلك بثلاث سنين: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ … الآية. أي لقد تربى الجيل وترعرعت الأمة الجديدة؛ فسيان لدى الله ما دام في الإسلام من تشبع بالإيمان وثبت قلبه في العقيدة وإقدامه في الجهاد. بمثل ابن معاذ تقوم الدول، وعلى مناكبه القوية تُشاد الأديان الكبرى والمبادئ العليا، بهذه الشجاعة والصراحة التي اتبعها الحباب بن المنذر وسعد بن معاذ تتقوى القلوب وتشرق وجوه الأنبياء وتضحك أفواههم وتخف عن كواهلهم أعباء الدعوة، لا بالرجال الذين هم أشبه بالنساء، ولا بالرجال أشباه الرجال، ولا بالرجال أشباح الرجال، ولا بالمنافقين والأوغاد، ولا بالحاقدين والحساد، ولا بالطامعين في الأموال، ولا المباهين بالآباء والأجداد، ولا الخائفين الحذرين على النسوة والأولاد، هذه بضاعة زائفة وأعين زائغة وآذان صماء وقلوب مغلقة وهمم ميتة وإرادات خائرة وأرواح حائرة، تضر ولا تنفع، تثبط وتهبط، لا تعين ولا تشجع، تنشر الذعر وتنزع سلاح الرجل الكبير، وتجره من أعلى إلى أسفل، وتعصف بمواهبه وتطفئ سراج عبقريته، وتدعوه إلى الشك في نفسه، فإذا ما شك وارتاب في نفسه اضطرب وارتبك وتسرب الشك من نفسه إلى ربه وزاغ بصره وتخلخلت ركبه وتزعزع عوده ثم هوى، وهذه الأمم التي قرأنا تواريخها، والأخرى التي رأيناها ونراها لم تخلُ من الرجال العظماء والأئمة الأمجاد والأفراد الذين يعدل الواحد منهم ألوف الرجال، ولكن عناصر الشر أحاطت بهم وغلبتهم وتغلبت عليهم، ومن هنا قال محمد عن صالح أو عن هود: هذا نبي ضيعه قومه، أو أضاعه ذووه، أو أهلكته خاصته. وهذا الأمر بنفسه وقع لعيسى من قومه؛ لشدة تواضعه، وقوة روحانيته، واليهود الذين نشأ فيهم لا يعرفون التواضع، ولا يجنحون إليه، ولا يدركون الروحانيات، ولا يؤمنون بها، ألا ترى أن الله؛ إذ أرسل إليهم شريعة أمر بها فحفرت في ألواح الصخر وكتل الحجر رمزًا إلى جمود قلوبهم وتحجر أفئدتهم وصلابة عقولهم التي لا ترى ولا تفهم إلا النقش في الحجر! وهؤلاء اليهود أنفسهم في أول عهدم بالنبوة، ألم يذيقوا موسى وهارون علقمًا حتى أزهقا روحيهما ولم ينل أحدهما أربًا ولم يبلغ موسى أرض المعاد!
•••
أبو بكر وعمر وعلي والمقداد وسعد بن معاذ؛ أسماء يجب أن يرنَّ صداها على أعواد المنابر، وأن يدعى لها ويشاد بذكرها لا بغيرها من الأسماء، ماذا كانت تكون الحال لولا هؤلاء الأماجد الصناديد، وأبو بكر هذا الوديع الودود الهادئ الضحوك ذو الحديث العذب والصوت الموسيقي والحس المرهف، كان أشجع الناس؛ شهد بشجاعته علي بن أبي طالب؛ فإنه لما كان يوم بدر قلنا: من يكون مع رسول الله على العريش لئلا يهوي إليه أحد المشركين. فما دنا أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف خلف الرسول لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه. انظر؛ هو أول من صدق به، وهو معه في الغار وفي طريق الهجرة، وهو خليله وصهره وموضع سره ونجواه، وهو حارس جسمه وشخصه أمام الملأ، والله حارسه، وهو خليفته الأول، وهو العازم على محاربة المرتدين بمفرده مع تثبيط المؤمنين له؛ وفي مقدمتهم سيدنا عمر بن الخطاب. هؤلاء هم الأعوان الذين بدون إخلاصهم لا تقوم نبوة؛ فما حياة الأنبياء كلها دعوة وجهاد وعبوس ومحاربة ووحدة دون أن يتنفس الرجل أو يلقى من يشد أزره ويطمئنه ويبعث فيه الثقة. ألا والله إن الرجل ليفتح الدنيا ويضمن الآخرة لو كان له أصدقاء كمن ذكرنا؛ فبهم يردُّ عاديات الدهر ويهزم الشياطين وينال أسباب السماء.
في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر التي دعا إليها الرسول وبعد ليلة قضاها جيشه في النعاس استجمامًا بعد التروية والتطهر، وقضاها هو ونخبة من القواد والوزراء في المداولة والمشاورة وتبادل الآراء وفي بناء الحوض على عين الماء، أقبلت قريش بالجموع الوافرة في الدروع الساترة والأسلحة الشاكية والخوذ الواقية والرماح العالية والسهام الرائشة، وإنك لتتخيل زهوهم واعتزازهم بقوتهم وعددهم واستهانتهم بعدوهم واطمئنانهم إلى وعيدهم الذي نطق به أبو جهل: «سيُعلم غدًا مَن المقتول: نحن، أم محمد وأصحابه!»
ها هو الغد قد جاء، قالها أبو جهل عند البدء بالسير، واستجدت بعدها أمور وقصر أبو جهل آماله على الاحتفال، فما الذي جدَّ بعد؟ عندي أن المسلمين كانوا مصممين على الحرب لا شك في ذلك، وقد اختاروها وأعدوا لها عدتهم، وقد فوتوا العير قصدًا وكان في وسعهم أن يلحقوا بها.
وأن جيش قريش وسادته نسوا وعدهم بالاكتفاء بالاحتفال والتظاهر، وغلى الدم في عروقهم وأرادوا أن ينالوا من أعدائهم، فهم ليسوا كالحروب التي يحركها الساسة، ولكن لكلٍّ منهم ضغنًا عند من يقابله، فهؤلاء آباء وإخوة وأعمام وخئولة وأصدقاء وأصهار فرَّق الدين بينهم ووقعوا وجهًا لوجه للقتال، فلما رآهم الرسول ناجى ربه وربنا قائلًا: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وعجبها وفخرها تجادلك وتخالف أمرك وتكذب رسولك؛ فنصرك!
وقد اختص الرسول نفرًا من زعماء قريش بسخطه ودعائه عليهم؛ وهم: أبو جهل ووصفه بأنه فرعون قريش، وزمعة بن الأسود، وسهيل بن عمرو.
وردت قريش واطمأنت وأرسلت عمير بن وهب الجمحي من أصحاب القداح وقالوا له: أحرز لنا محمدًا وأصحابه، فصوَّب في الوادي وصعد ثم رجع فقال: لا مدد لهم ولا كمين، القوم ثلاثمائة؛ إن زادوا زادوا قليلًا، ومعهم سبعون بعيرًا وفرسًا، ثم سكت، ثم عقب متمهلًا: يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا؛ نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليست لهم منعة ولا ملجأ لهم إلا سيوفهم، أما ترونهم خرسًا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، فإذا أصابوا منكم عددًا فما خير في العيش بعد ذلك، فَرُوا رأيَكم!
كان تكليف ابن الجمحي أن يستكشف العدو، وقد دل بفراسته على صدق نظر الذي اختاره، فصدق ظنه في تقدير العدد وقياس القوى، ولكنه تطوع بالرأي، عجبًا! أي تقرير الذي رفعه هذا الجاهلي للقيادة العليا؟! وكان خليقًا بجيش فيه هذا الفحل أن ينتصر، أو على الأقل أن يسلك سبيل الحزم ويتبع المشورة، وقد ضننتُ به على المشركين إلى أن قرأتُ أنه أسلم — رضي الله عنه — وحسن إسلامه وجاهد مع رسول الله في أحد.
ألا تراه ألقى نظرة فاحصة شاملة وأبدى رأيًا كاملًا لا تخرُّ منه نقطة شك أو ذرَّة من هفوة؟ تراه يصف النوق بأنها «بلايا»، من فصيلة كأخلص الكلاب، تبرك على قبور أصحابها فلا تُعلف ولا تُسقى حتى تموت، فما بالكم بذويها؟! وهل يرضى الأنصار أن ينقلبوا إلى أهليهم زرق العيون كأنهم الحصى تحت الجحف؟ لا تغتروا بعُددكم وعُددكم؛ فإن الروح المعنوي في القوم قوي، وهم على جانب الإيمان وعلى حافة اليأس، لا أمامهم إلا أنتم، ولا وراءهم إلا اللوم وشماتة الأعداء من اليهود والمنافقين؛ فهم بين النجاح والتضحية من ناحية؛ وبين الخزي والخيبة من ناحية أخرى، ليس لهم تجارة ولا عير ولا ثروة يحملون همها، وليس لهم إلا الله الذي يعبدون، والرسول الذي يمجدون.
فنهض حكيم بن حزام ابن أخي خديجة بنت خويلد، وله في مكة خط يعرف باسم الحزامية فيه البيت الذي عاش فيه الرسول معها ودنا من عتبة بن ربيعة؛ لأن حكيمًا لم يكن خطيبًا ولا مسموع الكلمة ولا مطاعًا بقدر عتبة.
فقال له: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها المطاع فيها، هل لك أن يخلد ذكرك فيها بالخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟
قال: ترجع بالناس. وكأن عتبة لم يكن ينتظر إلا هذا، فقام خطيبًا وقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تَلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه وابن خاله ورجلًا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك أكفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، واعصبوها اليوم برأسي واجعلوا عارها متعلقًا بي (أي كما يقال الآن: امسح هذه السقطة في ذقن فلان أو لحيته)، وقولوا: جبُن عتبة. وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.
بعد أن أنقذ أبو سفيان العير بدهائه وحسن تدبيره لم يبقَ هناك سبب للحرب بحسب القانون الدولي والعرف العربي، والعداء لأجل الدين قد قطع أبعد أشواطه بهجرة المسلمين بعد اضطهادهم، فليست قريش هي الدائنة؛ بل المدينة، وليست صاحبة الثأر؛ بل صاحبه محمد ومن معه، وهذا رأي أبي سفيان على صورة أوضح وأفصح وأكبر تفصيلًا.
وبقيت مسألة صغرى معلقة لا تقتضي قتالًا؛ وهي أن واقد بن عبد الله أحد أفراد سرية عبد الله بن جحش قتل عمرو بن الحضرمي حليف عتبة بن ربيعة وغنموا عيره في بستان قريب من مكة، فلا تطلب قريش من محمد إلا دية عمرو وتعويض العير، وقبِل عتبة بن ربيعة أن يتحمل الدية والتعويض عن المسلمين ويؤديها إلى عامر بن الحضرمي صاحب الدم وولي القتيل، متابعًا في ذلك رأي حكيم بن حزام، ولم يكن لعتبة فضل في هذا التطوع بسداد الدين والحق المدني عن محمد؛ فقد أرسل الرسول عمر بن الخطاب لدفعهما، فأبى عامر بتحريض أبي جهل، ولم تفت هذه النقطة مرغليوث فسردها في صفحة ٢٥٧.
كان عتبة إذ يخطب الجيش يعتلي منكب جمل أحمر يجيله في صفوفهم ويلح عليهم في طاعته وسماع حكمه، والحق أن أفراد الجيش لا يريدون أكثر من هذا، ولكن الكلمة لم تكن ساعتئذ للضعفاء والجنود، ولكن لفئة قليلة من الرؤساء والأمراء مثل أبي جهل، فلم يكن عتبة متفضلًا علينا ولكن على قومه تفضل بالرغبة في حقن الدماء بفض النزاع.
لمَّا لم تُجْدِ خطبة عتبة أدار الكلام على صورة أخرى فملق قريشًا وامتدحهم ونهاهم عن أن ينزلوا إلى درك المسلمين ويقفوا حيالهم، أليس قريش سادة العرب وهؤلاء المسلمون حثالة البشر ونفاية العرب؟! فقال: أنشدكم الله في هذه الوجوه التي تضيء ضياء المصابيح (يعني وجوه قومه) أن تجعلوها أندادًا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات (يعني وجوه الأنصار).
يا ولد! يا عتبة! بسم الله ما شاء الله، ما أقوى بصرك! وما أعجب الأشعة السينية التي ركبت في حدقتيك! وما أعظم خداع العين التي أرتك ضياء المصابيح في وجوه هؤلاء الفساق المعربدين، عباد الأوثان والمال، ضحايا الشهوات وخدام الخمر والنساء والغلمان، ولو كنت صادقًا لصدق المثل القائل بأن القردة في أعين أمهاتها ظباء، والظلمة في نظر الأعمى ضياء. أترى أعين الحيات في وجوه الأنصار، والمصابيح في وجوه المشركين والكفار؟! يا لك من منافق! ثم ترى وجوه الأنصار غير خليقة بأن يقف أمامها وجوه قومك أو ينحدروا إلى مستواها؟! حقًّا؛ إنكم لذوو خيلاء وغرور، ولكن حسن حظنا شاء أن تنتفخ أوداج «المصابيح» التي تزري بأضواء «تنجزرام» و«فيلبس» وتصدق ما زعمه عتبة — حيلة منه ودهاءً — وأن يعرضوا عنه؛ ليقضوا على «عيون الحيات»، وسوف نرى!
يدلك على خير النبي وتمسكه بالحق والنصفة ونشدانه الحقيقة أنى كانت، أنه لمح الجمل الأحمر وراكب الجمل الأحمر فذكر قسَّ بن ساعدة وكان هو الآخر يخطب على جملٍ أحمرَ في عكاظ ويقول خيرًا.
فأراد النبي أن يقف على الحقيقة فنادى على حمزة وكان في أقرب الصفوف إلى المشركين وسأله: من صاحب الجمل الأحمر؟
فقال له: عتبة بن ربيعة ينهى عن القتال. فقال الرسول: إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر. يقصد الخير لقومه؛ لأن الخير للمسلمين في الحرب، ولكن محمدًا لا ينظر إلى الأشياء من ناحية واحدة؛ ولما رأى عتبة عناد القوم وظن لأبي جهل فيه يدًا قال لحكيم: انطلق لابن الحنظلية (وهو أحد أسماء أبي جهل) وقل له. فانطلق إليه فوجده يسل درعًا من جرابها ويستعد للقتال، فلما سمع كلام عتبة على لسان حكيم قال: لقد جبُن، لو كان غيره لأعضضته (وهي كناية عن أقبح الشتم وأفحشه)، وبادر أبو جهل إلى سوء الظن ولم يكتف بسب عتبة؛ بل خونه؛ لأن ابنه أبا حذيفة بن عتبة كان مسلمًا مع الأنصار، ولبنت عتبة أم أبان أربعة إخوة وعمَّان؛ نصفهما مؤمن، ونصفهما مشرك، واستهان أبو جهل بالمسلمين وقال: إنهم قلة بحيث يكفيهم الجزور. وهو ما يكفي مائة شخص.
ولحكمة أرادها الله رأى المشركون قلة المسلمين قبل القتال وكثرتهم بعد الالتحام، ورأى المسلمون قلة المشركين وهم كثر من البداية إلى النهاية.
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ.
حتى قال قباث بن أشيم الوثني: «لو خرجت نساء قريش بأكمتها لردت محمدًا وأصحابه.» مساكين هؤلاء المهاجرون والأنصار قبل الامتحان، فهم تارةً بوجوه كأعين الحيات ويتلمظون تلمظ الأفاعي، وطورًا تغلبهم النساء؛ فليسوا في حاجة إلى قتال الرجال ولا يتحملونه!
ولما رأى أبو جهل أن عتبة قد ينجح في إرجاع قريش استعان بسوءة عامر بن الحضرمي فبعث إليه وقال: حليفك عتبة يريد أن يُخذِّل الناس عن القتال ويزعم أنك قابل الدية من ماله، ألا تستحي وقد رأيت الثأر بعينك؟! وحرضه، فقام عامر وهو رجل أخرق مفحش قليل الحياء فكشف عن سوءته وحثا عليها التراب ثم صرخ: وا عمراه! وا عمراه! فثارت النفوس وبدأت المعركة.
لقد كان في قريش أبطال يبرون بأقسامهم فيا ليتهم عقلوا الحق واتبعوه، ومن هؤلاء الأسود بن عبد الله المخزومي، كان شرسًا سيئ الخلق شديد العداوة للرسول، أخذته الحماسة عندما رأى عامر بن الحضرمي يسد فوهة بدنه بالتراب فأقسم أن يشرب من حوض المسلمين أو يهدمه أو يموت دونه، فلما خرج برز إليه حمزة، فضربه حمزة فقطع قدمه بنصف ساقه فطارت وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دمًا، فحبا إلى الحوض حتى شرب منه وهدمه برجله السليمة يريد أن يبر بيمينه، فأتبعه حمزة بسيفه حتى قتله، إنها لشجاعة معجبة وفروسية نادرة، كأنها ملحمة هوميرية أو فردوسية مما سجله بالشعر هومير في الإلياذة أو الفردوسي في الشاهنامة، وسوف نرى أن أبطال المسلمين في بدر أعظم من أبطال طروادة في اليونان وفارس، ورأى النبي إحكام الماء وسدَّه على المشركين وسيطرة المؤمنين عليه برأي الحباب، فأشفق لما رأى حكيم بن حزام في نفر يَرِدُونَ الماء؛ فنهى الرسول عن منعهم، فما شرب منه رجل إلا قتل مشركًا إلا حكيم بن حزام فإنه لم يُقتل ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وإن كان لقي يوم بدر من الضيق والضنك ما جعله بقية حياته إذا اجتهد في قسمه يقول: «لا والذي نجاني ببدر» فكأنه كان يائسًا من النجاة!
ولا نعلل نكوص أبي جهل عن نية الاكتفاء بالاحتفال دون القتال إلا بحسده عتبة على فصاحته وخطبته وميل قريش إليه وركونهم إلى السلامة، وهذا التدابر بين الزعماء أصل البلاء في كل مجتمع، وإن صُبِرَ عليه في السلم فلا يصح أن يُصبَر عليه في الحرب.
ولكنك أيها القارئ ترى كيف كانت عناصر النصر تتجمع للمسلمين وعناصر الهزيمة والخيبة تتجمع لقريش بفعلهم.
رأت قريش رسول الله يصفُّ أصحابه ويعدلهم كأنما يقوم بهم القدح ومعه يومئذ قدح يشير به إلى هذا: تقدم، وإلى هذا: تأخر، حتى استووا، وهذا يريك أنه لم يركن إلى العريش طول وقته ولم يستخفِ ولم يعمل على نجاة نفسه أو صيانتها من أخطار الحرب.
وعليك أن تذكر موقعة الفجار منذ سبع وثلاثين سنة؛ إذ كان يعين عشيرته بإعداد السهام لهم.
نشبت الحرب وكان عتبة بن ربيعة صاحب أكبر رأس في قريش، فالتمس بيضة (خوذة)؛ ليدخل فيها رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعها فتعمم ببردٍ له ولم يجعل تحت لحيته من العمامة شيئًا وخرج بين أخيه شيبة وابنه الوليد يستعدون للمبارزة.
وجاء عمير بن وهب فناوش المسلمين فثبتوا ولم يزاولوا صفهم، وشد عليهم كاشفُ سوءته عامر بن الحضرمي حتى قتله مهجع مولى عمر بن الخطاب، فتقدمت أسرة عتبة ودعوا المسلمين للبراز وقالوا: يا محمد، أخرج إلينا الأكفاء من قومنا. فقال لعشيرته: يا بني هاشم، قوموا قاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله، فقام حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث؛ فقتل علي الوليد بن عتبة وقتل حمزة عتبة بن ربيعة نفسه صاحب الجمل الأحمر، وهجم شيبة وهو موتور في أخيه وابن أخيه فقطع رجل عبيدة وهو أسن أصحاب الرسول فكرَّ حمزة وعلي على شيبة فقتلاه:
كان عبيدةُ بن الحارث ابنَ عبد المطلب فحمله حمزة وعلي أولاد عمه إلى أصحابه فأضجعوه إلى جانب موقف الرسول، فأفرشه قدمه فوضع عبيدة خده عليها، وقال له: أشهد أنك شهيد. وتوفي بالصفراء ودفن بها عند عودة المسلمين إلى المدينة.
ونزل قرآن في علي وحمزة: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِم.
وبعد هذه المنازلة المزدوجة تزاحم الجند ودنا بعضهم من بعض، وأخذ الرسول يعدل الصفوف وفي يده قدح؛ أي سهم لا نصل له ولا ريش أشبه شيء بعصا المشير الأعلى، ثم قال: إن دنا القوم منكم فانضحوهم عنكم بالنبل واستبقوا نبلكم — أي احرصوا على ذخيرتكم — ولا تصوبوا إلا عن قرب ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. وكرر خطبته الأولى، ثم رجع الرسول إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر وسعد بن معاذ على بابه متوشح بسيفه مع نفر من الأنصار.
والآن اشتد بأس المعركة ودنا وقت البطشة الكبرى؛ يوم نبطش البطشة الكبرى، عذاب يوم عقيم، وسيهزم الجمع ويولون الدبر:
كان يوم الموقعة يوم الجمعة ١٨ رمضان، ووادي بدر حيث دارت رحى الحرب يتسع في سفح سلسلة الجبال الغربية التي تحاذي شاطئ البحر الأحمر، وعندها تترك القوافل والسيارة القادمة من الشام طريق الساحل؛ لتتصل بالدروب الموصلة إلى مكة، وهي دروب ضيقة صعبة شديدة المراس على الراكب والراجل، وقد يسهل على المهاجم أن يبطش بمن يسلكها، ولو كان عدد المهاجمين أقلَّ من المدافعين، فلو مر مارٌّ بهذا الوادي في هذا اليوم الضاحي (١٦ مارس سنة ٦٢٤م) في الساعة العاشرة صباحًا يوم صيام لا يصومه أحد، ويوم جمعة يجوز فيه تأخير صلاة الظهر إلى ما بعد المعركة، لو مر مارٌّ لسمع أصوات السلاح ولرأى مثار النقع، ولكنه لن يسمع صوت الناس ولن يرى إلا أطراف الأعلام وسواد الخوذات وحفيف السهام وهي تخترق الفضاء، ولو أنعم ذلك المارُّ المستطلع النظر في المسلمين لرأى صفوفًا متراصة تعودت النظام في صلاة الجماعة وورثت الثبات عن مران سابق واستمدت الشجاعة والإقدام من الإيمان بالله وطاعة الرسول، ألم يصفهم خبير قريش بأنهم سكوت كالخرس يتلمظون تلمظ الأفاعي؛ فقد كانوا يخضعون لإرادة واحدة وعاكفين على تنفيذ خطة واحدة؛ وهي الشهادة، أو الموت، ولا يبالي أحدهم بعد ذلك شيئًا.
لقد كان الرسول في العريش مشرفًا على الموقعة، ولكنه كان ينزل يتجول بين الصفوف يعدلها حينًا بقدحه إن أعياه الكلام ويخطب حينًا إن رآهم في حاجة إلى شد الأزر بالاتصال الروحي الذي تغذيه الكلمة، يقول الواصف: إنهم يتلمظون تلمظ الأفاعي. ونحن نقول: إنهم كانوا في حالة استهواء كالتنويم المغناطيسي، ولعل قدح الرسول فعل بهم فعل عصا موسى؛ فقد لمسهم به فشحنهم بتيار من القوة الروحية التي لا تقاوم؛ لن يفر منهم أحد ولن يتردد أحد ولن يعرض أحد نفسه للقتل دون أن يقتل أضعافًا مضاعفة من أعدائه. إن حلقة الاتصال بينه وبينهم لم تنقطع طرفة عين، فكانوا إذا نظروا إليه وسمعوا صوته جنوا به حبًّا، وتفانوا في الله طاعةً، وتنافسوا في الشجاعة والإقدام إرضاءً لله ورسوله.
ألا تراهم كتلة واحدة وبنيانًا مرصوصًا يصدرون عن فكرة واحدة، ولو أن طبيبًا فاحصًا لمس أيديهم أو وضع أذنه على قلوبهم للمس نبضًا واحدًا وقلبًا واحدًا ينبض ويخفق بنبض الرسول وخفقان قلبه، أتراهم يخيبون أمام هذه القوى المبعثرة المتفككة المفحشة العضاضة المطيبة؟ قد كان في جيش قريش أفراد — لا ننازع — ذوو بأس وبطش وشدة وثبات، موروثة من الآباء والأجداد ومغروسة بفعل الخمر واللحم؛ ففيهم نشوة القتال وحافز الطعن والضرب والهجوم والكرِّ والفرِّ، ولكن لم يكن فيهم قائد، وكان خيرهم للقيادة عتبة بن ربيعة، ولكن أبا جهل (ابن الحنظلية) خذله وأنَّبه وسبَّه فأحقده عليه وعلى قومه، فلم يرَ الرجل إلا أن يبادر فيقدم نفسه وولده وأخاه ليقتلوا فيخلصوا من تهمة الجبن التي ألصقها أبو جهل بزعيمهم صاحب أكبر رأس في قريش، وإلا فأي جيش لا يكون له قائد، وأي قائد يعرض نفسه في أول المعركة فيُذبح ذبح الشاة مستسلمًا، وأي استسلام أكبر من تعريض رأسه للضرب والشج من تحت البرد الذي اعتمَّ به؟! ألم ترَ النبي الذي لم يتعود القيادة يبني عريشًا بأعلى التل؛ ليشرف على المعركة ويجعل ببابه أحراسًا أشداء وقد أعدوا الركائب لركوبه إذا اشتد الخطر، وهو إن عرض نفسه فإنما ليخطب أو ليضم الصفوف أو يواسي شيخًا جريحًا مشرفًا على الموت وهو ابن عمه، فقسم الأعمال في معسكره، ولم يخلط بين الأمور، ولم يشترك في القتال بنفسه، وهذه وظيفة القائد مع حداثة عهده بالحروب، ودهاة قريش قد ألِفوها ودرجوا عليها منذ القدم، وكانت قريش مستهترة مغرورة مغترة بقوتها منهوكة القوة من سهر الليل وربما شرب الخمر والمعانقة؛ لأن أبا جهل وُجد مطيبًا مزعفرًا من آثار فرحه بنجاة العير واستعدادًا للاحتفال بالأورجيا التي سوف يمجد فيها باخوس والزهرة، أما المسلمون فكانوا حفاة عراة جياعًا يمجدون الله ويتمنون الموت؛ ليلحقوا بالجنة، أو النصر؛ ليفوزوا برضوان الله.
فأي قوة في قريش تقف حيالهم أو تصمد لهم، وأي غريب في نصرة بدر الكبرى؟!
حدث بعد بدر معاركُ لا تُعدُّ انتصرت فيها الفئة القليلة المنظمة المتحمسة على الفئة الكبيرة المفككة الفاترة، ومن أخصها بالذكر موقعة بلاسي (١٧٥٧م) بعد بدر بألف ومائة وثلاث وثلاثين سنة، تمكَّن فيها موظف إنجليزي مدني بألفي جندي من سحق عشرات ألوف من جنود سراج الدولة سلطان بنجال في الهند، ولم يكن لديه إلا بضعة مدافع، ولكن خيانة جنود السلطان الهندي لعبت دورها في هلاك جيشه، حتى فرَّ بعد هزيمته وأُسر ومات صبرًا في غابة بيد أحد رعاياه، وهذا الموظف الإنجليزي صار لورد كلايف وسلب مئات الألوف وقتل نفسه في الخمسين من عمره بعد أن أدمن التخدير بالأفيون، وموضع الموقعة نفسه قد طغى عليه نهر الكنج. ولا شأن لنا بهذه الموقعة التي أسست إمبراطورية بريطانيا في الهند، إلا من ناحية واحدة؛ وهي قلة القوة المنظمة، وكثرة القوة المفككة، نعم؛ إن الله أراد نصرة بدر، وأراد إظهار الدين بهذه المعجزة التامة، وأراد إحقاق الحق وإبطال الباطل وقطع دابر الكافرين، ووعد نبيه الفوز، وبر الله بوعده ووفى لعبده، فهي أهم من ألف بلاسي؛ لأن بلاسي وإن أذعنت الهند وأخضعتها، فإن بدرًا أسست الإسلام. وقد أردت أن أكتم الجانب الروحي وأنحي المعجزة في تاريخ الحروب المحمدية على قدر طاقتي؛ لأن الجانب الظاهر فيه الكفاية من الإرهاص والإعجاز والإقناع لكل ذي عقل بغير حاجة إلى الإيمان المستور من أسرار الكون، ولا نزاع في أن الأنصار والمهاجرين حاربوا حرب فناء، أما صفوف قريش بعد مقتل عتبة وأخيه وولده، وأبي جهل وهو مثقل بنشوة الراح له أعين أسد وقلب ذئب وجسم عملاق وقد طمح إلى سيادة قريش بعد مصرع عتبة وأخيه شيبة (وهما اللذان بعثا إلى الرسول بعنقود العنب في صحن عن يد عدَّاس في الطائف يوم عرض نفسه على ثقيف فنبذته) ولكنه تظاهر بالحزن عليهما وعلى الوليد ابن الأول منهما فقال كلامًا فارغًا سئمنا من تكراره يغيظ المسلمين وما يغيظ إلا نفسه: «لنا العزى ولا عزى لكم.»
ونترك أبا جهل يترنح في حب ليلاه وعُزَّاه ونتجه إلى الميدان؛ فقد أصاخ الأنصار والمهاجرون سكوتًا؛ حرمةً لله، وتهيبًا للرسول، وأعملوا السيوف والرماح، وصارت قريش يرثى لحالها وهي تباد تحت التروس.
لأن أعاديهم وإن قل عددهم كانوا:
لجأ الرسول إلى العريش في حرارة المعركة واتجه إلى الله وأخذ يناجيه ويذكره وعده: اللهم أنشدك عهدك. وما الله بمن ينسى عهده أو يُخلف وعده أو يقهر نبيه وعبده، ولكنها حركة اتصال ومظهر عبودية ودعاء وسنة للمضطر يطلب بها الاستجابة إذا دعا، وقد أدرك الرسول المبشر بالنصر المشدود الأزر بالملائكة أن هذه موقعة حاسمة، وليس الله بحاجة إلى الحث أو الإلحاح إلا إظهارًا لتمام العبودية، ومن هذا القبيل نجواه في العريش: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم (أي المسلمون) لا تُعبد في الأرض! اللهم لا تودع مني ولا تخذلني، أنشدك ما وعدتني.
كيف كان محمد يدعو ويستغيث والحرب دائرة الرحى، تخيله — عليه الصلاة والسلام — بقامته المديدة وقده الممشوق ورأسه الجميل وشعره المنسدل على كتفيه وعرقه المتدفق، وقد ارتفع جبينه وتجلت نظرته مصوبة إلى السماء مادًّا ذراعيه مستقبلًا القبلة، يهتز ويرعد ويميل ويتقدم ويخرج الألفاظ متلاحقة بصوتٍ أجش تنبعث منه الزفرات ويصحبه التهدج، ووراءه صحابته ينظرون إليه بقلوب واجفة وخواطر منشغلة وعواطف مشتعلة يخافون على نبيهم شدة انفعاله وخفقان قلبه، وقد سبق أن أعياه التعب في الصباح فأدركته غشية بعد خشية؛ إذ رأى لون الدماء وهي تجري وتسيل وهو الذي أنزل الله عليه لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ألم يكن المهاجرون إخوة للقرشيين؟ ألم يقتلوهم وبسطوا أيديهم لقتل نبيهم في فراشه؟
ولكن رؤية الدماء تزعج خاطره الشريف وتقلق باله وتهز إحساسه المرهف، ألم تره يثني على عتبة؛ لأنه سعى بالخير على جمله الأحمر؛ ليفض النزاع، ويُرجع الجند من حيث أتوا، ويسمح لحكيم بن حزام أن يرِدَ الحوض ومن معه ليشربوا؛ لأن حكيمًا كان صاحب فكرة العودة، بثها في نفس عتبة فحملها ونفذها؟ لأجل هذا أغمي عليه في الصباح فظن خصومه من جهلاء هذا الزمان أنه خاف وتخلخل وضعف؛ لأن أمثال مرغليوث من القصابين والجزارين وقطاع الطريق الذين لا تروق لهم الحياة إلا بعدد من يقتلون، ويرون أن الانزعاج من رؤية الدم خور في العزيمة، ولا يرون فيه رقة في الطبع وأسى على الموتى من المؤمنين على الأقل، وكلما حمي وطيس المعركة ازداد رسول الله تعبدًا وارتفع صوته بدعائه، واهتز جسمه الشريف من هول هذه الساعة وهو بين يدي ربه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأخذ أبو بكر رداءه ورده إلى منكبه ثم التزمه من ورائه يسنده وتجرأ عليه محبة منه وعطفًا؛ فقد كاد هو الآخر يطير فؤاده شَعاعًا، وقال في صوت خافت: «يا نبي الله، كفاك تناشد ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، ولينصرنك، وليبيضن وجهك.»
قالها وقد شق عليه تعب النبي في إلحاحه بالدعاء وهو يعلم أن الله يحب الملحين في الدعاء؛ لأن الإلحاح علامة الثقة وانحصار الأمل فيه سبحانه، وكان أبو بكر رقيق القلب شديد الإشفاق على الرسول وإن كان كلٌّ منهما في مقام وحال خاص، فالرسول في مقام الخوف وخليله وصديقه في مقام الرجاء، والمقامان لا يتفاوتان في الفضل، إلا أن النبي يرى هول الموقف ويعلم بعين اليقين خطورة التبعة وعظم العاقبة. وعجَّ المسلمون بالدعاء فاستجاب لنبيهم ولهم وأمدهم: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ.
نحن حيال نصوص صريحة في القرآن نصدقها ونؤمن بها سواء أكانت تؤخذ على ظاهرها أو لها معنى روحاني دقيق، ولا نلزم أحدًا ممن لا يؤمنون بالتصديق، وإن دلت بحوث العلم الحديث على إمكان المدد بالملائكة؛ فقد تواترت أقوال المشاهدين في بعض مواقع الحرب الكبرى الأولى بظهور أرواح وملائكة وقديسين!
ومع ذلك فليس في القرآن ما يُشعر بأن الملائكة حاربوا مع المسلمين فعلًا ولكنهم جاءوا لينقلوا البشرى وليثبتوا أقدام المؤمنين: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ.
وهناك آية تنقل العمل كله في بدر إلى الله وتنسب إليه الضرب والحرب والقتال والنصر: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أما عن الملائكة في شهادة الذين قالوا إنهم رأوهم؛ فقد جاء في طبقات ابن سعد: وكانت سيماء الملائكة عمائهم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر من نور، والصوف في نواصي خيلهم، فقال رسول الله لأصحابه: إن الملائكة قد سومت فسوموا. فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم، وكانت الملائكة يوم بدر على خيل بلق (ص٥٥، ج٢، الطبقات الكبرى).
وروى حكيم بن حزام أن يوم بدر وقع نمل من السماء قد سد الأفق، وقال جبير بن مطعم: رأيت مثل البجاد الأسود مبثوثًا حتى امتلأ الوادي. فالنصوص صريحة في المعونة الإلهية، وإنها والله لواجبة؛ فكيف لا يمد الله هؤلاء المؤمنين المجاهدين ولو بما يخرق العادات وكلهم وهب روحه لله وفي سبيله فسافروا وجاهدوا وتعبوا وقاتلوا، وإنك لو قاتلت عن فكرة حزبية أو رأي لعظيم لبذل لك ما في وسعه من تعضيد ومدد، والله الخالق أكرم من كل مخلوق.
ولكن أحدًا من المشركين لم يرَ الملائكة وإلا لآمنوا، ولكنهم فرُّوا وولَّوُا الأدبارَ على قوتهم ومع أنهم لم يخسروا إلا سبعين قتيلًا وسبعين أسيرًا، ولا يعقل أن جيشًا يفقد سبعه أو ثمنه ثم لا تصمد بقيته، على ما كانت عليه قريش من القوة والاستعداد.
•••
نترك الرسول في مناجاته وننتقل إلى معسكر قريش فما يزال أبو جهل يتبختر ويصول ويجول يظن نفسه منفردًا بالقيادة؛ فقد خطب يقول: يا معشر قريش لا يهمنكم خذلان سراقة؛ فإنه كان على ميعاد من محمد! ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة والوليد فإنهم قد عجلوا، واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدًا وأصحابه بالحبال، فلا تقتلوهم بل خذوهم باليد!
وفي تلك اللحظة خفق رسول الله خفقة ومالت رأسه للنعاس فأخذته سنة من النوم ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله. ثم خرج الرسول من العريش إلى الجيش فحرضهم وقال: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.
وقد تجلت في يوم بدر للمؤمنين بطولة لا تجاريها بطولة كالتي أظهرها عمير بن الحمام الذي قال وهو يهجم:
وآخر نزع درعًا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل، وأخذ رسول الله حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا ثم قال: شاهت الوجوه. كما فعل في المتربصين به يوم هجرته من مكة، ولعل الرسول قاتل بشخصه مع أبي بكر كما قاتل في أحد، ولكن الروايات الواردة في هذا لم تقنعني وأعتقد أنه لم يأخذ من القتال بنصيب، بل قنع بالقيادة والتحريض والوعد والوعيد والدعاء والمناجاة، ولعله أثناء لحظة النوم رأى علامة النصر واضحة في عالم الغيب والشهادة؛ ليطمئن قلبه، فكل نبي وسيط عظيم، وليس كل وسيط نبيًّا، ومما يؤيد عندي أنه لم يقاتل كونه لم يُجرح ولم يجرح أحدًا، فإن القتلى والجرحى معروفون والضاربون والجارحون معروفون، ولم يقتل الرسول أحدًا بيده إلا أبيَّ بن خلف في أحد. والذي ثبت أنه بعد حصب الحصباء رعب القوم وأركنوا إلى الفرار، فكان النبي في أثرهم يتلو قوله سبحانه: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
وهي نزلت في مكة ونفذ حكمها في بدر.
إن موقعة بدر من أعظم مواقع التاريخ، ونحن نؤمن بالجزء المستور الخاص بالملائكة ورضى الله عن نبيه وعن المهاجرين والأنصار، ولا نقلل من شأن هذا الجزء، ونعتبره فصلًا متممًا لهذه الملحمة الكبرى التي لم يتناولها شاعر نابغ أمثال المتنبي وأبي تمام والبحتري الذين حصروا همهم في المديح للحصول على الأصفر الرنان وألهوا الأمراء والملوك الممدوحين، وقد تغير رأينا في رجال أمثال أبي الطيب؛ لقرب عهده بتاريخ الإسلام الأول، فهل كان سيف الدولة هذا أو فاتك أو حتى ذلك الأسود إخشيد وغيرهم ممن قدح المتنبي زناد فكره لمديحهم أعظمَ من أبي بكر وحمزة وعلي والمقداد وعشرات الأبطال من أهل الصدر الأول؟! كيف لم تشعل تلك المناظر التي كانت موصوفة وصفًا كافيًا في الكتب وعلى ألسنة التابعين وتابعيهم أخيلة هؤلاء الفحول؟! أكان علوج الروم و«جدعان» الفرس أقوى أثرًا في أذهان هومير والفردوسي من أبطال بدر في أذهان شعرائنا؟! وا أسفًا!
أبعث على سنان هذا القلم العاجز على مدى ألف وأربعماية عام أسمى التحيات وأعطرها وأسنى التسليم والتقدير إلى مقام محمد النبي الكريم بطل هذا اليوم العظيم، وأنحني حيال شخصه المقدس، وأنادي بطل الأبطال في كل زمان ومكان لا في كوكبنا الأرضي وحسب بل في سائر الأكوان.
•••
يا لها من ساعة رهيبة جميلة تلك التي شاهت فيها الوجوه واضطربت أذهان المشركين وتبلبلت ألسنتهم وتغلغل المؤمنون في صفوفهم وأثخنوهم طعنًا وضربًا في أعناقهم وأقفيتهم وخرقًا في صدورهم وظهورهم وتقطيعًا في أيديهم وبنانهم وسوقهم وأقدامهم، يا لها من ساعة رهيبة جليلة تلك التي مكن الله فيها لمحمد وأبي بكر وعمر وعلي وحمزة من خصومهم فشفوا الغليل وأخذوا بالثأر وسقوا السيوف والرماح من دمائهم حتى رووها من دمائهم التي جرت خمرًا ورجسًا وفسقًا وظلمًا وعنجهيةً وغرورًا، فهذه أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك؛ فكان الإثخان في القتل أحب إلينا حتى بعد أربعة عشر قرنًا من استبقاء رجل واحد أو الطمع في اتخاذه أسيرًا.
أما أبو جهل فلم يهرب ولم يدبر، فما كان لهذا الفخور المغرور أن يولي أعداءه ظهره، وكان عملاقًا قويًّا عريض الأكتاف كبير الهام، فلما اشتد الطعن والضرب أحاط به رهط من قومه كما كانوا يحيطون به في ساحة المنزل بمكة، يريدون أن ينقذوه من القتل ولو ذبحوا في سبيله وهم ينادون: «أبو الحكم لا يُخلص إليه.» فسمعها معاذ بن عمرو بن الجموح فعمد نحوه وحمل عليه فضربه ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه؛ لأن الدروع لا تترك غير هذا النصف الأسفل معرضًا للضرب، فطاحت كالنواة من تحت مرضخة النوى، فدنا ولد أبي جهل وهو عكرمة للدفاع عن أبيه — وقد أسلم عكرمة بعد ذلك — يضرب معاذًا على عاتقه، فقطع يده ولم يفصلها فتعلقت بجلدة من جسمه، اسمع الآن إلى هذا الوصف المخيف المرعب الذي تقشعر منه أبدان الضعفاء وأهل اللين والنعومة؛ إن معاذ بن عمرو بن الجموح قاتل طول يومه بيد واحدة، ويده المقطوعة معلقة بجلدة وهو يشعر بها وراء ظهره، فلما آذته وضايقته وكادت تعوقه وتعطله وضع عليها قدمه ثم تمطى عليها حتى فصلها عن جسمها! كان أبو جهل قد سقط على الأرض وما زال به رمق فمرَّ به معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وما يزال به رمق حتى وصل إليه عبد الله بن مسعود فوضع رجله على عنق «فرعون مكة» ثم قال له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟
فأجاب أبو جهل: وبمَ أخزاني؟! أعار على رجل قتلتموه؟! لو أن غير فلاح قتلني لكان خيرًا لي! يقصد إلى معاذ بن عمرو؛ لأنه من الأنصار، والأنصار في اعتبار أهل مكة مزارعون، ثم نظر إلى عبد الله بن مسعود وكان أصغر الصحابة قامةً وأصغرهم جسمًا وقد وضع قدمه على رقبة أبي جهل.
وقال له أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقًى صعبًا! أخبرني لمن النصر والظفر اليوم؟ فأجابه ابن مسعود ثم ضربه بسيفه فلم يغنِ شيئًا؛ لأن ابن مسعود كان بحجم الأنملة بالنسبة إلى الرجل الضخم المعفر في التراب الذي ذهب طيبه ونزف دمه وما يزال عقله حاضرًا وبديهته متحفزة، فبصق أبو جهل في وجه ابن مسعود وقال له: خذ سيفي فاحتز به رأسي من عرشي؛ ليكون أنهى للرقبة. والعرش أو التاج عرق في أصل العنق، فهو يشترك في الإجهاز على نفسه بإحكام الضرب في المكان الذي يقضي عليه، ففعل ابن مسعود ما أمر به أبو جهل وهو أول من أشرف على هلاك نفسه بعد أن أنَّب من عجز عن القضاء عليها، وحمل ابن مسعود الرأس وهو ينوء بحملها حتى أتى بها بين يدي رسول الله وقال له: هذا رأس أبي جهل. فقال: الله الذي لا إله غيره. ثلاثًا، وسجد الرسول خمس سجدات شكرًا.
ثم قام يمشي مع ابن مسعود الذي كأنه يحمل عن الأرض من شدة الفرح حتى وقف على جثة أبي جهل فخاطبه الرسول بقوله: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله. وأهدى سيفه إلى ابن مسعود، وكان كالسيف الروماني؛ قصيرًا عريضًا فيه قبائع وحلق فضة، وتذكر النبي أنه أخذ يومًا بمجامع ثوب أبي جهل وقال له: أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى. فأجابه أبو جهل: ما تستطيع أنت ولا ربك بي شيئًا، وإني لأعز من مشى بين جبليها.
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ.
هذا هو أبو جهل وهذه خاتمة أبي جهل، فلا تمكن من ربط محمد بالحبال، ولا سَوق أصحابه إلى مكة، ولا من الاحتفال بالخمر والزمر على ماء بدر، ولم يمضِ عليه نهار بأكمله وذهبت أحلامه أدراج الرياح وطاحت بوعيده يد الأقدار التي خطت مضجعه بالقليب وجعلت آخر زاده ذلك الجزور الذي نحر عشية ١٧ رمضان وآخر طيبه ما تعطر به فرحًا بنجاة العير، فما كان أخزى نهايته؛ وقد فر عنه ولده عكرمة، وجندله حدث أو حدثان من فتية الأنصار، وأجهز عليه رويعي من أهل مكة لو رآه حيًّا لهام على وجهه فزعًا من هول خلقته، ولو لمحه أبو جهل لجعله على كفه فما يبين! كذلك العملاق جوليفار يفحص كائنًا من أرض لولبتان في أساطير الغربيين، ولكن الله جندله وقطع رجله فأثقله وستر عنقه بخوزته فما استطاع أحد قتله حتى أقبل هذا القزم الكريم خادم الرسول الأمين فحزَّ رأسه حتى فصله ثم انحنى عليه فحمله فكان كالطفل يحمل قنبلة!
لقد حارب أبو جهل واثقًا بملته حاسبًا أنها خير من الدين الجديد، وقد أظهر جلَدًا وشجاعةً وكفرانًا بالجبن والضعف، وكان خيرًا له لو أسلم كما أسلم ولده عكرمة، ولكن الله شاء:
فما كان مصيبة الشرك في أبي جهل! وما كان أعظم حزنهم عليه! وما تشتيت جيش أبرهة بطير أبابيل بأعظمَ من تشتيت جيش قريش هناك منذ مائة عام، قال عبد المطلب جد محمد لأبرهة: إن للبيت ربًّا يحميه! وهنا قال حفيده: إن للإسلام والمدينة والأنصار والمهاجرين ربًّا يحميهم، فما أصدق الشاعر حين يقول على لسان قريش:
فما كان الأنصار بكبراء في القرى ولا زعماء في المدن، ولكنهم جندلوا الكبراء والزعماء بقدرة الله وأمره، لقد ضحك أبو جهل على أمية بن خلف وهو يدعوه بسيد أهل الوادي؛ ليستدرجه حتى يخرج للقتال وقال له: اخرج يومًا أو يومين فتتبعك الناس ثم تعود في خفاء، ولكن أمية الشيخ المتثاقل بلحمه وشحمه لم يرجع ولم يمكنه أحد من الرجوع، وكان على دعته ودقة فكره ونعومة أخلاقه قاسي القلب غير رحيم، فهو الذي كان يعذب بلالًا في مكة ويذيقه الوبال ويقلبه على الجمر ويصلبه في وهج الشمس في أشد الأيام قيظًا في بطحاء مكة، ومن عجب أن ترى أقسى الناس أكثرهم نعومةً كالنساء وأعجبهم تفننًا في التعذيب! أدركت الهزيمة أمية وولده عليًّا فثقل عن النهوض ولم يستطع الهرب ولم يتركه ابنه، فمر بهما عبد الرحمن بن عوف يحمل دروعًا سلبها فقال له: هل لك فيَّ؛ فأنا خير لك من هذه الأدرع؛ أي يحرضه على أسره؛ ليجيره من القتل، فيفدي نفسه، ويدفع له ألوف الدراهم، فألقى عبد الرحمن بالدروع وأخذ بيد الوالد والولد، والشيخ يقول وقد توهم أنه نجا من الخطر: «ما رأيت كاليوم قط!» ثم قال لي: من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. أي شهد ببطولته، وخرج عبد الرحمن من معسكر قريش يمشي بأسيريه؛ إذ رآه بلال: رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوتُ إن نجا. فقال له عبد الرحمن: أتفعل ذلك بأسيري؟! قال: لا نجوتُ إن نجا. ثم رفع عقيرته وهو المؤذن المشهور: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا. فأحاطوا بهم، فسل رجل سيفه وضرب رِجل ابنه، فوقع علي بن أمية وصاح أمية صيحة ما سمع أحد مثلها قط لا قبلها ولا بعدها، كفيل أو خنزير بري يصاب في مقتل، إنها صيحة تجمع الفجيعة في الولد وتحقق الهلاك لنفسه بعد أن ظن أنه آمِن وبعد أن انصرف ذهنه للتندر والسؤال عن أبطال الموقعة، ولو ظن يوم يعذب بلالًا أن بلالًا ملاقيه في أحرج ساعة في حياته وحياة ولده لأعتقه وحمله على حمر النعم وردَّه إلى بلده في الحبشة معززًا مكرمًا، هذه الصيحة نتخيلها فلا يسمعها المرء إلا مرة في حياته، لا يذيقها الله للأذن إلا مرة واحدة، حتى إنك لتعجب أن يقدر إنسان على إخراجها وأن يصبر آخر على سماعها، إنها الخوف، إنها صدى صوت الموت المؤكد، إنها الرعب انقلب صرخةً تنطلق ولا حكم لصاحبها عليها، وكأنك سمعتها من قبل وتتوسل إلى الأقدار أن لا تذوقها مرتين، فضربوهما بأسيافهم فهبروهما أي خرطوهما تخريطًا حتى تفتت بدنهما، فأضاع بلال أدرع عبد الرحمن وفجعه في أسيريه، وما دام الأسر مباحًا والفداء مشروعًا فما كان لبلال أن يصمم على قتل الرجلين ولا سيما أنهما في حمى صحابي جليل، وأن أمية لم يخرج إلى بدر إلا مكرهًا.
وفي الظن أنه لم يضرب أحدًا وهو في مكة، وإن عذب بلالًا فلم يقتله، ولكن حقد العبيد على السادة والسود على البيض قديم غير مقصور على جنس أو زمن، وها هو رسول الله يسأل عن بني هاشم وعن ابن البختري ويوصي بأن لا يقتلهم أحد وفيهم عمه العباس؛ لأنهم خرجوا مكرهين وإن كانوا مشركين، وحكم أمية بن خلف حكمهم، ولكن بلالًا — رحمه الله — تعجل وتنمر وراجعته فورة الأحباش وحب الدماء، ونحن نعذره ولا نُقِرُّه، ونكرر قول ابن عوف — رضي الله عنه: «يرحم الله بلالًا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.» ويزيد تبعة بلال في نظر التاريخ أنه قتل أسيرين، وهما منذ سلما نفسيهما وجبت لهما الصيانة، وقتلهما صبرًا مستعينًا برهط من الأنصار وبعد نهاية المعركة؛ لأن ابن عوف كان يجمع الأسلاب، وكل هذه مخالفة لقوانين الحرب، ولكن بلالًا كان له دلال خاص؛ لأنه من أول من أسلموا من الرقيق، وكان الرسول يكثر من اصطحابه في الخلوات والنزهات يسير في أثر الرسول وأبي بكر. وهكذا رأينا نهاية أمية بن خلف الذي ارتفعت ستار هذه المأساة عليه في مكة وهو يجمره أبو جهل؛ تشبيهًا له بالنساء، وحطًّا من كرامته؛ ليقحمه في الحملة وهو لا يريدها، ثم أمر رسول الله بالقتلى من المشركين أن يُنقلوا من مصارعهم وأن يطرحوا في القليب إلا أمية بن خلف؛ فإنه انتفخ في درعه فملأه فحركوه فتقطعت أوصاله فطمروه بالتراب والحجارة.
وكان رجل من بني النجار قد حفر هذا القليب، وكانوا يجرون القتلى إلى القليب فلما ألقي بعتبة بن ربيعة تغير وجه ابنه أبو حذيفة وكان الرسول قد نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه.
وبعد ثلاثة أيام بلياليها أقامها المسلمون في بدر يجمعون الأسلاب ويستريحون ويدفنون موتاهم الأربعة عشر ويكدسون السبعين جثة من المشركين ويشدون وثاق السبعين أسيرًا، أمر رسول الله براحلته فشُدَّ عليها رحلها، ثم مشى وأتبعه أصحابه حتى أقام على شفة القليب وجعل ينادي القتلى بأسمائهم وأسماء آبائهم: هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقًّا؛ فإني وجدت ما وعدني الله حقًّا؟ بئس عشيرة النبي كنتم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. فسأله عمر عن مخاطبة الأشباح بلا أرواح.
فقال له: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئًا.
وأكتفي بأن أقول هنا: إن العلم الحديث في الروحيات أقر النبي على قوله وأيد صحته، وكثير من علماء السلف الصالح على هذا العلم، كالبيهقي في حياة الأنبياء والشمس الرملي والجلال السيوطي ومؤلف الدر المنثور، دع عنك كثيرًا من أقوال الرسول والصحابة كأنهم كانوا يقرءون في كتاب المستقبل الذي كشف عن حقائق الروح بعد وفاتهم بمئات السنين.
وأنكرت عائشة قوله: لقد سمعوا ما قلت. وقالت: إنما قال: لقد علموا أن الذي كنت أقول حق. محتجة بقوله تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ.
وبقوله: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ.
وإني أحترم رأي أم المؤمنين بعد نصوص القرآن، وإن كان لحفيد الحفدة أن ينطق بكلمة فلي أن أقول: إن الله في القرآن شبه الكفار والجاحدين والملحدين والمشركين الأحياء بالموتى في القبور في أنهم لا ينتفعون بالدعوة إلى الإسلام، ومن هذا القبيل:
وإنما هي تهكم وتقريع؛ لأن المنادى في هذه الحال حي حقيقة ولكن لا فؤاد له يعي به ما يقال له.
وأرسل الرسول المبشرين إلى المدينة فذهبت عقول اليهود والمنافقين وكذبوهم وقالوا: لئن قتل هؤلاء الأشراف لَبَطْنُ الأرض خيرٌ من ظهرها! فلم يمهلهم الله طويلًا حتى شرفوا بطن الأرض باختيارهم.
(٣) الشخصيات المهمة في بدر والروح المعنوية
كان جيش المسلمين صغيرًا قليل العدد، ولكنه كان حسن التنظيم، وكان روحه المعنوي قويًّا لا بالنظر إلى حاجة المسلمين إلى الغنائم وشدة تعطشهم للنصر ليستجيب الله دعاء نبيهم الذي وصفهم إلى الله (وهو العزيز الحكيم) بالفقر والجوع والعري، بل لاعتقادهم أنهم على حق وأن قائدهم رجل عظيم جدًّا، مرسل من الله إلى العالمين؛ فلم يرهبوا الكثرة والغنى، ولم يهابوا القوة والعدد، ولم تكن عداوتهم لقريش هي الدافع الوحيد لاستقتالهم؛ فإن عددًا كبيرًا من جيش المسلمين يكاد يكون ثلاثة أرباع الجيش كان من الأنصار من الأوس والخزرج وهم أهل المدينة، ولم يكن بينهم وبين قريش قبل هذه الموقعة عداء شديد؛ لبعد الشقة بين البلدين، وتفاوت الطبقات، وقلة الاختلاط.
وقد بدا لنا أن نلقي شعاعًا هاديًا على بعض الشخصيات الممتازة من الفريقين؛ لما صار بعد ذلك من الشأن العظيم لأهل بدر، ولأن الله قضى على أئمة الشرك من قريش في موقعة واحدة لم تدم سوى ساعات معدودة كانوا مقبلين عليها وهم يحسبونها نزهة عسكرية فانقلبت فناءً لرجالهم وخزيًا لهم في العرب وترتب عليها أهم النتائج.
جعل رسول الله لجيشه ألوية كما رأى في حرب الفجار، ولم تجعل مكة لجيشها ألوية مع أنها عريقة في حروب الميدان وخبيرة بفنون الحرب، بل لم يجعلوا لهم قائدًا في غيبة الداهية أبي سفيان الذي كان ناقمًا على الموقعة؛ بل إن الرجلين اللذين كانا يجمعان كلمتهم؛ وهما: أبو جهل، وعتبة اختلفا فيما بينهما على ما شرحناه، فكان هذا الخلاف أول أسباب الهزيمة.
جعل الرسول للمهاجرين لواء حمله مصعب بن عمير، وللخزرج لواء حمله الحباب بن المنذر، وللأوس لواء مع سعد بن معاذ، وجعل لكلٍّ منهم نداءً أو شعارًا، فكان شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله، وكان للجميع شعار جامع وهو: «يا منصور، أمت!»
فلما رأى المكيون نظام المسلمين جعلوا لأنفسهم ثلاثة ألوية؛ أحدها مع أبي عزيز بن عمير وهو شقيق مصعب، وآخر مع النضر بن الحارث، والثالث مع طلحة بن أبي طلحة، وكلهم من بني عبد الدار؛ لأنهم لم يأمنوا أحدًا من بني هاشم الذين كانوا معهم وفي مقدمتهم العباس بن عبد المطلب.
مصعب بن عمير
كان مصعب بن عمير حامل أول الألوية الإسلامية ممن أسلموا في دار الأرقم، وكتم إسلامه؛ خوفًا من أمه وقومه، فكان من أوائل المؤمنين الذين بكروا باعتناق الدين، فاستحق مجد الصحابة وكرامتها وفخرها، فرآه عثمان بن طلحة فوشى به لأمه وأهله فحبسوه في دارهم، وما زال محبوسًا إلى أن هاجر إلى الحبشة، وعاد من الحبشة إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة بعد العقبة الأولى؛ ليعلم الأنصار القرآن ويصلي بهم، فكان مصعب أول مبشر في المدينة، فنزل على أسعد بن زرارة أحد نقباء الأنصار وكرامهم الذين مهدوا السبيل لهجرة الرسول وإقامته.
ومن حسنات مصعب أنه أول من جمع لصلاة الجمعة في المدينة، وأسلم على يده أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكفى بذلك فخرًا وأثرًا في الإسلام.
غير أن هذا القدر لا يكفي في التعريف بمصعب الذي حمل لواء الرسول في بدر ثم حمله في أحد واستشهد بها.
كان مصعب بن عمير من أجمل شبان مكة وأغناهم وأشرفهم، وكان أبواه من خاصة بني عبد الدار، وهم من الثراء في الذروة، وكان والداه يدللانه وينفقان عليه من المال والبذل والعناية ما جعله في عداد أمراء الأزياء والنعمة والرفاهية؛ كان أنعم غلام بمكة وأجوده حلةً، بل كان يعتبر فتى مكة شبابًا وجمالًا وسيبًا، وكان أبواه يحبانه حبًّا جمًّا، وكانت أمه تكسوه أحن ما يكون من الثياب، وكان أفخر أهل مكة عطرًا، وقد عرفه رسول الله قبل إسلامه فقال: «ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير.»
أترى إلى هذا الشاب المرفه؛ لقد عشق الدين الجديد فاعتنقه وأحب الرسول وصحابته فالتجأ إليهم في دار الأرقم، والإسلام إذ ذاك كما وصفنا «جمعية سرية»، فلما وشى به عثمان بن طلحة من عشيرته حقد عليه والداه وحبساه، وكان رسول الله حريصًا عليه فدبر له طريق الهرب من حبس والديه، وأمره بالهجرة إلى الحبشة وهو شاب لم يبلغ الثلاثين من عمره لم يتعود الأسفار، وإن تعودها فلم يتعود شظف العيش في بلد بعيد غريب لا يعرف لغته ولا أهله، وليس لديه مال قليل أو كثير لخروجه على والديه وعلى أغنياء قريش الذين يمدون أمثاله في الضيق، فتحمل التكتم والإخفاء أولًا، ثم الحبس، فالنفي والهجرة، ولم يُضع وقته في الحبشة ولا بعد أن عاد منها إلى مكة، فتفقه في الدين وأتقن حفظ القرآن، حتى إن الرسول لم يجد رجلًا أليق منه لزعامة الأنصار في الدين عندما طلبوا من الرسول في العقبة الأولى (وكان عددهم اثني عشر رجلًا) أن يبعث معهم من يعلمهم دينهم؛ فقد كان مصعب — عليه رضوان الله — شجاعًا وجيهًا جميلًا سيدًا كيِّسًا مؤمنًا ثبتًا، فصحبه النجاح في رسالته بالمدينة، وكانت له زوجة رُزق منها بنتًا هي زينب بنت مصعب، ولكن قلبه وحبه وعقله لم تتجه نحو أسرته بقدر ما اتجهت نحو ربه ونبيه، فتعلق بربه ونبيه وقرآنه تعلقًا شديدًا وتفرغ لها، شأن الرجال الشرفاء إذا أخلصوا لشيء بالغوا في الإخلاص وعانوا وتعبوا، ولم يكن مصعب قبل الإسلام بذي تجارة أو غاية معينة في الحياة سوى أنه عين ابن أعيان وغني ابن أغنياء، فلما كشف الله له عن غايته جعل الدين الجديد مثله الأعلى بحق، فلم يتخذه تسلية أو ذريعة، ولم يكتفِ بأن يكون في الصفوف الثانوية بل جهد حتى صار في أول الصفوف، فلما أصاب البلاء المسلمين بمكة؛ وهو الاضطهاد والتعذيب، جهد مصعب في الإسلام جهدًا شديدًا حتى كان جلده يتحشف كما يتحشف جلد الحية، وحالة مصعب واحدة من حالات عديدة أصابت المسلمين في فترة البلاء قبل الهجرة، فانظر إلى تلك البَشرة التي تعودت النعومة والطراوة والعطور والأطياب تتحشف كما يتحشف جلد الحية، كان مصعب عفيفًا أبيًّا ولم يكن أحسنَ تجارةً أو صناعةً يمارسها في المدينة، فاستمرت حالته المادية في الهبوط.
روى علي بن أبي طالب: «إنَّا لجلوس مع رسول الله في المسجد (بالمدينة)؛ إذ طلع علينا مصعب بن عمير وما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه رسول الله بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو فيه.» لم يُخفِ رسول الله عاطفته ولم يكتم عن أصحابه سر حزنه وبكائه، وهذا من أدلة صدقه وإخلاصه؛ لأنه يعلم أنه سبب فيما صار إليه مصعب، ولو لم يكن محمد على حق لخجل أن ينظر إلى مصعب ولم يجد مجالًا للتعليق على حالته، ولكن محمدًا مع شدة إشفاقه على مصعب وشدة حبه إياه كان يرى فيما وصلت إليه حالته المادية رفعةً لقدره وتعظيمًا لشأنه؛ لأن الرسول نفسه كان في كثير من الأحوال يعاني بعض ما يعانيه مصعب؛ لأنه لم يكن من الزعماء الذين يُسخِّرون الأفراد؛ ليجلبوا لأنفسهم الخير، ولم يكن ممن يتسلقون إلى المجد والشهرة والمال على كواهل أتباعهم ليرفسوهم بعد ذلك؛ بل كان كل سعيه إلى إيمانهم أولًا ثم إلى رفعتهم في الدنيا والآخرة، فمنهم من مات أثناء الجهاد لم يأكل من أجره شيئًا في الدنيا، ومنهم من أينعت له ثمرته فهو يهديها، فمسلك الرسول في قضية مصعب في المسجد ينطق على الحق والخير ويضيف إلى مجد الرسول وعظمته وصدق نبوته لمن يريد الدليل النفساني.
لم يضرب الرسول صفحًا عن حالة مصعب ولم يدْعه إلى الجلوس، بل جعله مثالًا يُحتذى وتعمق في أمره، فقال لأصحابه ومنهم علي بن أبي طالب الذي روى هذا الخبر: «كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووُضعت بين يديه صفحة ورُفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟» أي إنه جمع لهم نعيم الدنيا في الملبس والمطعم والمسكن، فقالوا: نحن يومئذ خير منا اليوم؛ (لأنهم كانوا يقاسون شظف العيش بنسبة مختلفة تتفاوت بقدر اجتهاد كلٍّ منهم وبقدر قسمته، وهم أبطال الساعة الأولى الذين حملوا العبء الأثقل): «نتفرغ للعبادة ونُكفى المئونة.» أترى في هذا القول المنطقي روحًا للثورة أو التململ أو الضجر أو الاحتجاج؟ لقد كانوا جميعًا من أعزة مكة؛ أرزاقهم متيسرة، وحياتهم ناعمة آمنة، وها هو زعيمهم وبطل العالم يريهم بصيصًا من نعمة الحياة، وهم يعتقدون أنه إذا دعا لهم استجاب له الله، ولكن كيف يجمعون بين نعمة الدنيا والآخرة في لحظة؟ وأي فضل لهم إذا لم يجاهدوا أنفسهم ويقبلوا حالتهم، وهي التربية العليا التي تصهرهم وتصقلهم وتعدُّهم للعظمة الحقة، فما كان من الرسول إلا أن علمهم وأرشدهم قائلًا: «أنتم اليوم خير منكم يومئذ.» وإذن يكون مصعب بن عمير أرقاهم درجةً وأرفعهم شأنًا.
وشاءت الأقدار لمصعب أن يأخذ أجره في الآخرة كاملًا.
كان مصعب في روحه من أرقى الأرواح، وحبُّ النبي له عظيمًا، ولا شك عندنا في أن حادث المسجد كان قبل بدر، ولكن مصعبًا الذي حمل لواء الرسول في بدر لم يكن نصيبه من الغنائم بحيث يغيِّر أو يبدِّل من حالته التي أبكت محمدًا؛ فقد حمل لواء الرسول في أحد؛ أي بعد بدر بعام واحد، فاستشهد في سفح هذا الجبل وهو لم يبلغ الأربعين من عمره، فلم يترك إلا ثوبًا قصيرًا؛ كان إذا غطوا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا به رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله: غطوا رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر، ثم وقف الرسول عليه وهو منجعف على وجهه وتلا الآية الشريفة: مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
ثم قال: «إن رسول الله يشهد عليكم أنكم شهداء عند الله يوم القيامة.»
وهكذا ختمت تلك الحياة المجيدة بآية من القرآن وشهادة من الرسول، ولم يكن مصعب قد بلغ الأربعين، صرف الخمس عشرة سنة الأخيرة منها في الهجرة والتفقه وتعليم الأنصار والجهاد حاملًا لواء الرسول، وختمها بالشهادة الكبرى في أحد، فماذا يهم بعد ذلك تحشف جلده وبردته المرقوعة بفرو؟
الحباب بن المنذر
وكان حامل لواء الخزرج الحباب بن المنذر الأنصاري الخزرجي وكانت سِنه في بدر ثلاثًا وثلاثين سنة، وكان يسمى ذا الرأي؛ لأنه كان من أهل الذكاء والفطنة وأصالة الفكر، وهو الذي أشار على الرسول باجتياز ماء بدر؛ عملًا بمكيدة الحرب، وقد أظهر شجاعةً وإخلاصًا بسؤال النبي: يا رسول الله، منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ وقد عاش الحباب وتوفي في خلافة عمر، وكان على شجاعته وفصاحته وذكائه من أخلص المؤمنين وأطوعهم، وقد ظهرت شجاعته الأديبة يوم سقيفة بني ساعدة عند بيعة أبي بكر يوم وفاة الرسول فقال: «أنا جُذَيْلُهَا المُحَكَّكُ وعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ؛ منا أمير ومنكم أمير.» أي من المهاجرين والأنصار، ولا شك أن الحباب كان من صفوة الصحابة ومن سادة الخزرج؛ ولذا تكلم بلسان قومه، ولعله كان يذكر خدمته للمسلمين يوم بدر بإبداء الرأي الذي وافق عليه الرسول، وقلَّده لواء قبيلته، ولكن أبا بكر وعمرَ رأيا في توزيع السلطة بين المهاجرين والأنصار في الساعة الأولى قد يؤدي إلى الانشقاق، رحم الله الحباب ورضي عنه؛ فقد كان في مقتبل عمره شجاعًا فصيحًا حصيفًا واضح الفكر.
سعد بن معاذ
وكان لواء الأوس لسعد بن معاذ من كبشة بنت رافع، كان زعيم بني عبد الأشهل من الأوس، أسلم على يد مصعب بن عمير، والأشهل صنم كانت تعبده الجاهلية واتخذوه لقبًا لعشيرتهم، ولم نعرف لهذا الصنم الذي ذكره صاحب «تاج العروس» مكانًا ولا زمانًا ولا عُبَّادًا معينين؛ فهو في فترة سابقة للتاريخ، وربما كان مقصورًا على الخزرج؛ كان سعد رجلًا كلَّ رجل، لا يعرف المماحكة ولا المداجاة ولا المطاولة، فلما اقتنع بالإسلام اعتقد أيضًا أن قومه أحق بأن يتبعوه؛ فقد فكَّرَ لهم واعتقد بالنيابة عنهم، والناس على دين ملوكهم وزعمائهم وسادتهم، فليس في حاجة إلى أن يتناول كلَّ واحد منهم بالإقناع، فإن الأعمار لا تتسع لهذا الجدل والأخذ والعطاء؛ فقال لبني عبد الأشهل: «كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تسلموا!» فأسلموا، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق.
رأته عائشة في الخندق عليه درع له مقلصة قد خرجت منها ذراعه وفي يده حربة وهو يقول:
وهو الذي كلمه الرسول في بني قريظة، وهو صاحب الخطبة الرنانة التي عجلت باقتناع الأنصار بخوض غمار المعركة، قُتل في الخندق بسهم قطع أكحله؛ لأن درعه كانت مقلصة، وودت عائشة لو أنها أسبغ، وحثَّته أمه على الإسراع إلى الوغى قائلة: «الحق يا بني؛ قد والله أخَّرت.» ولما حضرته الوفاة بعد حكمه في بني قريظة اختلط بكاء أبي بكر بنواح عمر، ولما انفجر دمه احتضنه رسول الله فسالت دماء سعد عليه فجاء أبو بكر وقال: وا انكسار ظهراه! فقال له النبي: «مهْ»، وقال عمر: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. فلما انصرف الرسول من جنازة سعد جعلت دموعه تحادر على لحيته ويده في لحيته، وندبته أمه كبشة التي كانت تستحثه على القتال فقالت:
فلما سمعها النبي قال: كل نادبة كاذبة إلا نادبة سعد. وكان سعد من أبطال الأنصار وأبطال الإسلام وأبطال المشاهد الكبرى، وكان شهمًا فصيحًا كما وصفته أمه، وهو ممن لم يأكل من أجره شيئًا في الدنيا كصديقه مصعب بن عمير، فلحق به وزاد أنه كانت له أم ثكلته وندبته، وكانت لها صحبة الرسول وصداقة عائشة، أما أم مصعب فقد حبسته بمكة وعذَّبته بعد أن دلَّلته وأسعدته يافعًا وشابًّا؛ ففرق الإسلام بين قلبها وقلبه لسعادة حظه وسوء حظها! رحم الله البطلين.
(٤) شهداء بدر
أما الذين استشهدوا في بدر من المسلمين فكانوا أربعة عشر رجلًا، وهو جزء من عشرة من قتلى قريش وأسراهم، وهذه نسبة غريبة، فكلما فقد المسلمون رجلًا ضاع على خصومهم عشرة؛ إما قتلى، وإما أسرى، وكان المهاجرون بنسبة ربع الأنصار فمات منهم ستة ومن الأنصار ثمانية؛ وهذا يدل على استبسال المهاجرين؛ لأنهم لو حاربوا بنسبة عددهم لمات منهم ثلاثة، وقد حفظ لنا التاريخ أسماءهم؛ وهم: عبيدة بن الحارث بن المطلب من بيت الرسول، عمير بن أبي وقاص، عاقل بن أبي البكير، مهجع مولى عمر بن الخطاب، صفوان بن بيضاء، سعد بن خيثمة، مبشر بن عبد المنذر، حارثة بن سراقة، عوف بن عفراء، معوذ بن عفراء، عمير بن الحمام، رافع بن المعلى، يزيد بن الحارث بن فسحم، حذافة بن أمية بن خلف.
•••
أما المشركون فكانت مصيبتهم كبيرة؛ فقد فقدوا مائة وأربعين رجلًا بين قتيل وأسير، فقُضي على معظم أئمة الشرك ما عدا أبا سفيان الذي لم ينقذه من القتل إلا بلوغه مكة على رأس العير، فلم يدرك الجيش ولم يكن على رأي الحرب، وقد ترك الأمر لأبي جهل وأصحابه، فقُتل: عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، وهما الأخوان اللذان اشتركا في اضطهاد الرسول في الطائف، وكان خادمهما عدَّاس الذي عرف نبوة الرسول واعترف بها وقدم له وعاء فيه عنقود عنب، والوليد ابن عتبة بن ربيعة ثاني الأخوين والعاص بن سعيد بن العاص وأبو جهل بن هشام وأبو البختري (وكان رسول الله يود أن يعفو عنه لو وقع في الأسر؛ لأنه أجاره عند عودته من الطائف ولكنه مات في بدر ولم يسلم)، وحنظلة بن أبي سفيان بن حرب والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي وزمعة بن الأسود بن المطلب (والد سودة زوجة الرسول)، ونوفل ابن خويلد من زوجته العدوية والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط والعاص بن هاشم بن المغيرة خال عمر بن الخطاب وأمية بن خلف وولده علي بن أمية ومنبه بن الحجاج ومعبد بن وهب.
قتل منهم اثنان صبرًا؛ وهما: النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط؛ مخالفةً لقوانين الحرب، لأنهما كانا بين الأسرى ولم يُذبحا في الموقعة، ولكن هذين الرجلين كانا من أقسى وأفظع وأغشم أعداء الإسلام؛ فقد نكلا بالرسول تنكيلًا شديدًا في مكة كما شرحنا في فترة البلاء الذي أصاب الرسول والمسلمين في البلد الحرام، فمنهما من شرع في قتله وهو يصلي، ومن ألقى عليه الأقذار وهو ساجد، ومنهما من بصق في وجهه، ومن كان يقلده ساخرًا؛ ليُضحك شرار قريش، ولم يكن فيهما خير يرجى ولا يؤمل، وقوانين الحرب الحديثة تبيح مثل هذا الفعل وتقرُّه، أما ما زعمه بعض الرواة من أن الرسول أسف لقتل النضر بن الحارث بعد أن سمع عتاب أخته شعرًا، وقال إنه لو سمع الشعر قبل مصرع الوغد النضر لعفا عنه! فلا نميل إلى تصديقه، وإن كان عليه صبغة من طباع الرسول؛ فقد طبع على الرحمة والشفقة والصفح الجميل، ولكن مقتل النضر وعقبة لم يكن نزوة ولا انتقامًا، ولكن كان حكمًا عادلًا؛ قد سبق للرسول أن استغاث الله من بعض أعدائه؛ عن عبد الله بن مسعود أن الرسول استقبل البيت فدعا على نفر من قريش سبعة فيهم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وعقبة بن أبي معيط (ولعل عبد الله نسي النضر بن الحارث؛ لأنه لم يذكر إلا خمسة من السبعة)، فأقسم بالله لقد رأيتهم صرعى على بدر قد غيرتهم الشمس، وكان يومًا حارًّا.
ومن أمثلة التاريخ القديم والحديث التي ذكرها التاريخ قتل إسكندر الأكبر لأصدقائه؛ لأنه رأى منهم ميلًا إلى الغدر، وقتل إيفان المهول ولده ووليَّ عهده؛ لأنه ظن أنه يتآمر على قتله، وقضت الملكة إليزابث على مارية الإيقوسية؛ لأنها زاحمتها على الملك، وقتل لويس الحادي عشر دوق نيمور لسبب تفهٍ ويتَّم أولاده وأشهدهم مصرع أبيهم، وأمر نابوليون بونابرت بخطف دوق وأنجال ابن برنس كونديه من أرض ألمانية وأمر بإعدامه في غابة فينسن سنة ١٨٠٤ وقامت حول مقتله ضجة كبيرة، ولكن بونابرت عزا حكمه إلى أسباب سياسية عليا، ولو أننا فحصنا كل حادثة من هذه الحوادث على حدتها لا نجد واحدًا من الذين قُتلوا قد استحق القتل إلا لظنون حامت حوله أو شبهات كان يمكن أن تدرأ الحدود، فلم يتعد واحد منهم على شخص الملك ولم يُقبض عليه متلبسًا بجريمة الاغتيال أو التآمر أو حتى الاتفاق الجنائي الذي هو في نظر بعض رجال القانون الحديث «بدعة»، ولم يُعلم عن الرسول أنه انتقم لنفسه من شخص حتى ولا من رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول الذي وصفنا أعماله في المدينة؛ فقد مات هذا الشرير على فراشه ودُفن مكفنًا في قميص الرسول؛ إكرامًا لولده الذي كان من خيرة الصحابة.
ولكن النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قد عملا فعلًا على قتله؛ فقد وضع أحدهما قدمه على عنق الرسول وهو ساجد حتى كاد يزهق روحه لولا عناية الله، فلو اتبع الرسول فيهما معاملة الأسرى وقبل منهما الفداء وهو بضعة دراهم لعادا إلى مكة فرحين ظافرين، ولعادا إلى قتاله في أحد وفي الخندق، غير ما يفعلانه من حبك الدسائس والمكايد، خصوصًا وأن أحدهما زعم أنه كالرسول وجمع حوله الأوغاد والأوشاب يحدثهم بأحاديثَ مفتعلةٍ يزعم أنه يحاكي بها الرسول في تلاوة القرآن وذكر الحديث، وفي هذا من لاذع التهكم وقاذع السخرية ما يمس الدين في أساسه، فالأمر لا يحتاج إلى دفاع، وعمل الرسول ليس مفتقرًا إلى تزكية أو تبرير، فهو عمل من أعمال الدولة كالحرب نفسها، وقد قام علي بن أبي طالب نفسه بقتل النضر بن الحارث، وحاشا لعلي أن يقتل رجلًا صبرًا لو لم يكن يستحق القتل؛ فإنه لم يلبث الرسول في طريق عودته أن بلغ الصفراء حتى مرَّ بالأسرى، فرآه النضر وكان النضر نفسه يعلم أنه يستحق القتل فقال للأسير الذي بجانبه: «محمد والله قاتلي! فإنه نظر إليَّ بعينين فيهما الموت.» فقال له الأسير المجاور: «والله ما هذا منك إلا رعب.» يريد أن يطمئنه، ولعله لم يعلم كل ما فعله النضر، فاتصل النضر بمصعب بن عمير وهو يعلم مكانته عند الرسول فقال له: يا مصعب، أنت أقرب من هذا إليَّ رحمًا، فكلم صاحبك (أي الرسول) أن يجعلني كرجل من أصحابي الأسرى! هو والله قاتلي. فقال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيه كذا وكذا، وكنت تعذب أصحابه. وتوسط له المقداد لأنه أسره، كما توسط ابن عوف لأمية بن خلف وولده عليٍّ عند بلال وهو مؤذن الرسول فقتلهما بلال وهما أسيران، فقال المقداد: أسيري يا رسول الله. فشرح له الرسول بعض ما كان يعمله النضر ويقوله، فصدع المقداد بأمره وهو أحد أبطال بدر وفرسانها، بل فارسها المغوار الأوحد.
أما عقبة بن أبي معيط فقد هلك بعرق الظبية فقال للرسول: من للصبية يا محمد؟! فقال: النار! أي صبية أيها المجرم؟! هل لك صبية؟! وهل تلد الحية إلا حية؟! وهل يصح أن يُكتفى بقتلك دون بقية عشيرتك وأهلك؟! وهل مثلك من يسترحم أو يستعطف؟! نعم، إن مثلك من يجبن ويضعف ويخرُّ إلى الأذقان خوفًا وخورًا وحرصًا على حياته؛ لخلوك من المروءة والشهامة والرحمة، ومثلك من يذل لخصمه ويبذل ماء وجهه لعله ينجو، ولكن مثلك لا يُرثى له ولا يُرثى لصبيته؛ فإنك لم تقدم إلا كل سوء في الفعل وفحشًا في القول، ولم تكن بعد من الشرفاء ولا الأتقياء حتى في الضلالة؛ فلم تُخلص للأصنام ولم تُعرف بفضيلة ولم يؤثر عنك خير للأحياء أو الأموات؛ فقد كنت مأجورًا وأمسيت عند الموت مذعورًا، ولم يكن لديك عذر يبرر تهجمك، ولو تهجمت كان عليك أن تكون معتدلًا لا رحيمًا؛ فإن الرحمة لا تُلتمس من أمثالك. فلما أجابه الرسول بأن لأولاده النار كنصيبه، فلما يئس من استغاثة الرسول ظن أنه في حكم الجاهلية يستنجد قومه وهم أسرى فينجدوه، فلم يخجل أن نادى: يا معشر قريش، ما لي أُقتل من بينكم صبرًا؟! فقال له النبي: بكفرك وافترائك على رسول الله. فلم ينتهز هذه الفرصة؛ ليعلن إسلامه؛ لينجو من القتل، وكذلك النضر لم يُسلم، فلو أسلم لنجا. ولم يكن لأخته أن ترثيه بمقطوعتها القافية التي مطلعها:
كان عقبة يُكثر مجالسة الرسول، فأدب مأدبة دعا الرسول إليها، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن خلف (قُتل في أحد وهو أخو أمية بن خلف الذي قتله بلال في بدر بعد أسره على يد عبد الرحمن بن عوف) فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟! قال: ولكن محمدًا أبى أن يأكل طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له الشهادة وليست في نفسي. وبذا يكون عقبة مرتدًّا؛ فقد أسلم أمام الرسول، وعقوبة المرتد القتل، فقال له أبي بن خلف يتهدده: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدًا فلم تطأ عنقه وتلطم عينه … إلخ.
فوجده ساجدًا في دار الندوة ففعل به ذلك، فقال له الرسول: لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف بكفرك وفجورك وعتوك على الله ورسوله. وقد أنزل الله فيه قرآنًا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ … الآية.
ولم يكن لعقبةَ أن يستنجد قريشًا؛ لأنه كان يهوديًّا من أهل صفورية؛ لأن أمية جد أبيه وقع في الشام على يهودية متزوجة فولدت له أبا عمرو والد معيط على فراش زوجها اليهودي، فاستلحقه بحكم الجاهلية، ثم قدم به مكة وكناه بأبي عمرو وسماه ذكوان، وكان أمية جد أبي معيط أخفشَ أزرقَ ذميمًا يقوده عبده ذكوان وهو أعمى، فصِلة معيط ببني أمية ثابتة، ومعظم أنسابهم مدخولة بالزنا، ولم يكفَّ معاوية نفسه عن استلحاق زياد بن أبيه بوالده أبي سفيان وجعله أخاه؛ ليستعينه في محاربة بيت النبوة! والزرقاء جدتهم كانت من صواحب الرايات، ولهند قصة مشهورة قبل زواجها بأبي سفيان، فهذا الشخص الجبان الذليل المأجور كان دخيلًا وكان سافلًا وكان نذلًا ومرتدًّا، وقد صلبوه على شجرة؛ لأن الصلب عادة يهودية، فعوقب بعقاب أهل أمه.
فهذان الشخصان قد أصاب الرسول في قتلهما كلَّ الإصابة، ولو رأى أحد الصحابة غبارًا على مصرعهما لتوسط لهما، ولكن الحق كان في جانب الرسول، فلا يُعقل أنه ندم لسماعه شعر المرأة ولا انتقم لنفسه، ولم يكن مغيظًا محنقًا كما زعمت في شعرها؛ فقد كان أرفع وأسمى من أن يستمع إلى صوت الغيظ والحقد وهو إلى الرحمة أقرب.
(٥) وقع هزيمة بدر في مكة
بدأت مصائب مكة بحضور ضمضم الذي بعث به أبو سفيان إلى مكة مأجورًا بمثاقيل فضة فشق ثوبه ونقل رحله وحثا التراب على رأسه وجدع أنف جمله وقطع أذنيه، وانتهت بوصول خبر الانكسار الشنيع الذي أصاب قريشًا، فكان أول من قدم مكة بعد هزيمة بدر ابن عبد عمرو، فدخل المسجد وعَدَّدَ أسماء من قُتلوا من أشراف قريش، ولم يكن في مكة بريد منظم يحمل إليهم أنباء الموقعة، وهم الذين ألفوا الانتقال وحمل الأخبار وأحاطوا العير بالمخبرين والبصاصين والعيون والآذان وتكبدوا في سبيل ذلك ما تكبدوا، ولكن المال عندهم أغلى من الأرواح؛ فإنهم لما أحرزوا عيرهم لم يكترثوا لجيش الألف الذي غادر مكة منذ عشرة أيام، فلما سمع زعماء الكفر هذا النبأ لم يصدقوه وظنوا ابن عبد عمرو دسيسة، فقال صفوان بن أمية لأصحابه: لا يعقل هذا، فاختبروه بسؤاله عني. فقالوا: ما فعل صفوان؟ فأجاب ابن عبد عمرو: وهو ذاك الجالس بينكم، وقد رأيت أباه وأخاه حين قُتلا.
كان في مكة مسلمون أخفوا إسلامهم ولم يهاجروا، وكتموا دينهم؛ خوفًا على أعمارهم وعلى أموالهم وأهليهم، وقد أدى بعضهم خدمة جُلَّى للإسلام، ومنهم العباس بن عبد المطلب، وقد تمكن بكتمان إسلامه من تأدية واجبه نحو ابن أخيه وحل محل أبي طالب دون أن يعلم أحد بحقيقته، فلم يكن جاسوسًا على قريش، ولكنه كان معينًا لمحمد وعشيرته، وكان مركزه المالي ومكانته الاجتماعية تمنع قريشًا أن يجبهوه أو يضطهدوه، وإن بسطوا ألسنتهم فيه أحيانًا كما فعل أبو جهل في المسجد قبيل بدر، ولو أن العباس أعلن إسلامه لذهب ماله وجاهه وعجز عن خدمة المسلمين، وقد بلغت به المحافظة على الظواهر أنه خرج مع الجيش المكي، وكانت قريش تخشاه فراقبوه ومن معه من بني هاشم طوال الطريق وأثناء المعركة، فأُخذ أسيرًا ودفع الفداء وأُطلق سراحه وعاد إلى مكة.
ومن هؤلاء المسلمين المتكتمين أبو رافع وهو الذي روى عن أبي سفيان بن الحارث أنه قال يصف موقعة بدر لأبي لهب: «لقينا القوم (أي المسلمين) فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا.» وقد حدث منظر طريف أثناء رواية الخبر ووصف المعركة؛ فقد كان المتكلم أبو سفيان بن الحارث وهو ممن شهدوا القتال وولى الأدبار وأسرع إلى مكة يروي الخبر، وكان المستمع اللئيم أبو لهب والشاهد أبو رافع مولى العباس، ويظهر أن أبا سفيان أعاد وصف المنظر الذي اعتقد الناس أنه ينطوي على معونة الملائكة لأهل بدر، فقال أبو رافع في ذهوله وهو فرح بانتصار المسلمين: «والله تلك الملائكة.» فحنق أبو لهب وكان شديد الحماقة ورفع يده فضرب وجه أبي رافع ضربة شديدة، ثم تواثبا فحمله أبو لهب وضرب به الأرض ثم برك على صدره يضربه، فقامت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب إلى عمود وضربته به ضربةً في رأسه أثرت فيه شجةً منكرة وقالت: استضعفته أن غاب سيده؟!
فقام أبو لهب موليًا ذليلًا كما ولى أبو جهل عندما شج حمزة رأسه في المسجد انتقامًا للرسول، ويظهر على هذه القصة مسحة الصدق؛ لأنه وصف واقعي لمشاجرة عربية في مكة، فإن النساء كن يقمن مقام الرجال أحيانًا في الأخذ بالثأر، وإحدى عمات الرسول قتلت يهوديًّا بعمود بعد أن جبُن حسان بن ثابت عن ضربه دفاعًا عن السيدات، وكُنَّ يشاركن الرجال في الحرب ويرقبن المعارك عن كثب، ومنهن من أصابتها جراح كثيرة في الدفاع عن الرسول في أحد، وما زالت لهن بقية من همة وعزيمة من آثار عهد الكفالة عندما كانت المرأة هي المتحكمة في الرجل، فلا نستبعد دفاع السيدة أم الفضل عن خادمها وخادم زوجها العباس، وأبو لهب أخو زوجها، ولعلها خبيرة بضعفه، ولم يجعل لها حرمة فاهتاج شهامتها وغضبها لزوجها ولنفسها، ولم نكن لنروي هذا الخبر بالتفصيل لو لم تكن عاقبته قاضية على أبي لهب؛ فقد مرض عقيبها ومات ببثرة خبيثة تشبه العدسة من جنس الطاعون، فخاف أولاده العدوى وتركوه ثلاثة أيام، ثم حفروا له ودفعوه بعود في حفيرته؛ فكان هو الآخر من قتلى بدر؛ لأن خبرها أهلكه، وكان لذكر الملائكة الفضل في القضاء عليه، وكانت عائشة إذا مرت بقبره غطت وجهها تشفق أن يقع نظرها عليه؛ لأن النظر إلى قبره مدرجة للمعصية.
فلما تثبتت قريش من صحة الخبر ومن قتل سبعين وأسر أمثالهم وفي القتلى والأسرى فطاحلهم وفحولهم وسادتهم وقادتهم، نصبوا السرادقات وأقاموا المآتم الطويلة وناحوا عليهم وشقوا ثيابهم وجزت النساء شعورها، وناهيك بالحداد الوثني الذي ترى بعض آثاره في مصر الفرعونية إلى يومنا هذا، وكُنَّ يُحضرن فرس القتيل أو راحلته وتُستر بالستور وينحُن حولها في موكب فيه النادبات والشواعر الملهمات بالشياطين، فيرتجلن الشعر فيه تعديد مناقب الهالك الأصيلة والكاذبة، وما زال الناس في عصرنا هذا يسوقون جواد الملك أو القائد في الجنازة؛ لأن الخيل وبعض الإبل والكلاب اشتهرت بالوفاء لأصحابها بعد موتهم، ثم يخرجن إلى الشوارع والأزقة يندبن «أبطال بدر» المقتولين، ولعلك تتخيل هندًا وقد ماتت ثلة من ذويها لم تبرد نارها عليهم حتى أكلت من كبد حمزة الذي قتل بعضهم، فأشار بعض دهاة قريش بالكف عن هذا التمثيل؛ لئلا يشمت المسلمون بهم، وقد فقد الأسود بن زمعة بن عبد المطلب ولدين وحفيدًا، وكان أعمى ويود لو يبكيهم بعد النهي عن البكاء خوف الشماتة، وكان هذا الرجل شديد السخرية من المسلمين، فكان إذا رأى الرسول وأصحابه يقول هازئًا: «قد جاءكم ملك ملوك الأرض ومن يغلب على ملك كسرى وقيصر!» وهو لا يدري أن كهانته وإن كانت ساخرة قد تحققت بعد ذلك بعشرة أعوام، فيا ليته انتظر حتى يرى! ولكن العمي يسمعون بآذانهم وإن لم يروا بأعينهم.
وكان يسهر الليل؛ لثكله المثلث، فإذا سمع في جوف الليل باكية يقول لغلامه: «انظر هل أبيح النحيب؟ هل بكت قريش على قتلاها؛ لعلي أبكي؛ فإن جوفي قد احترق.» فعاد إليه الغلام بنبأ امرأة تبكي بعيرًا ضالًّا فقال شعره المشهور:
وكان زمعة يشير معرضًا بأبي سفيان؛ لأنه اعتقد أن الزعامة قد انحصرت فيه بعد قتل سادة قريش في بدر.
إن كتمان الحزن دليل على نية الانتقام، وهذه الأمة مشهورة بالثأر حتى أحفاد أحفادهم إلى الآن يخفون اسم القاتل وهم يعرفونه؛ ليثأروا بأنفسهم، ولا يُبالون بقوانين الأمم المتمدنة، فيرضع الأحفاد والأبناء حب الانتقام مع اللبن ويجعلونه غاية حياتهم! وليس هذا مقصورًا على العرب؛ فقد وصفه هومير وصفًا بليغًا في الإلياذة عند الثأر لأبطاله آخيل وفرطقل وغيرهما، ووصف شكسبير الثأر للوالد وصفًا قويًّا في رواية همليت، فلا نعيب على العرب في الجاهلية والإسلام هذه الخلة وإن كان فيها خروج على القانون، ولكن نقرر أن طبيعة الإنسان لا تتغير بحكم الحضارة (انظر قصة اللغز القاسي تأليف بول بورجيه)؛ فإنه لا يوجد شيء في الحياة ألذ وأكرم من إهراق دماء من أهرق دماء الوالد، ولا معنى للبنوة ولا شرف إن لم يصحبها هذا الشوق للثأر، ولكن أهل مكة نسوا شيئًا جوهريًّا؛ وهو أنهم هم المعتدون أولًا وأخيرًا، وأن الموتور هو محمد ﷺ وأصحابه الذين عُذبوا وحُبسوا وأُخرجوا من ديارهم! فلو كانت قريش على حق لقلناه، ولكنها كانت في كل أدوارها وأطوارها ظالمة! أيمحون حسابهم في قتل من قتلوا وتعذيب من عذبوا ونفي من نفوا حتى إذا عرضت لهم حماية أموالهم وجردوا جيشًا واستعدوا وساروا وجزروا ثم وافاهم بريد أبي سفيان بأن يكفُّوا أو يعودوا أدراجهم؛ حقنًا للدماء، فلا يعيروه اهتمامًا ولا يستمعون إليه ويعزمون على العربدة والمفاخرة حول ماء بدر؛ لتهابهم العرب، فإذا فعلوا والتقى الجمعان وتحمسوا فأعطوا أقفيتهم ومنحوا رءوسهم الصلعاء للسيوف والرماح فهلكوا، عادوا يطلبون بالثأر؟!
لقد كتموا رغبة الثأر، ثم تواصلوا على أن لا يعجلوا في طلب فداء الأسرى؛ لئلا يتغالى محمد وأصحابه في الفداء، ولكن بعض أهل مكة لم يلتفت إلى نهيهم؛ لأنهم نزلوا إلى درك المساومة على حياة أقاربهم، وكان قيمة الفداء تتراوح بين ألف وأربعة آلاف، حسب مكان الأسير، أما أبو سفيان فما يزال التاجر الحريص على ماله ولو كان في حرصه ضياع ولده؛ فقد أُسر ولده عمر وطُلب إليه أن يفديه فقال: أيجمع علي دمي ومالي؛ قتلوا حنظلة (شقيق حبيبة زوجة الرسول) وأفدي عَمْرًا؟! دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم! وترقب أبو سفيان حتى تمكن من اعتقال سعد بن النعمان وقد وفد مكة معتمرًا، فاستبقاه حتى استبدل ابنه به، وكان سعد أغلى؛ لأنه مسلم من الأنصار، أما ابن أبي سفيان فقد هلك مشركًا.
وكان أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله وزوج ابنته زينب وابن خالتها هالة، زوَّجتها منه أمها خديجة أم المؤمنين في حياتها وبقي على شركه، وقد رزقت منه زينب بنت محمد بن عبد الله عليًّا الذي أردفه الرسول خلفه يوم فتح مكة، وأمامة التي كان يحملها الرسول أثناء الصلاة على عادته البر بأحفاده، وتزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة خالتها فاطمة، ثم المغيرة بن نوفل بعد وفاة علي بن أبي طالب، فبعثت زينب إلى أبيها في فداء زوجها أبي العاص قلادة كانت أمها خديجة أهدتها إليها ليلة زفافها، فلما رأى الرسول هذه الحلية تذكر زوجته الأولى وابنته فرقَّ لها رقة شديدة، فطلب من الصحابة أن يطلقوا الأسير ويردوا القلادة إن شاءوا، فقالوا: نعم. وشرط الرسول عليه أن يعين زينب على السفر إلى المدينة فوعده خيرًا، ولما بلغ أبو العاص بن الربيع مكة أمر زوجته زينب بنت الرسول باللحاق بأبيها بالمدينة (بعد بدر بشهرين) فتتبعها شرار قريش بذي طوى وتقدم مجرم منهم اسمه هبار بن الأسود ضرب الهودج ونخس البعير بالرمح فوقعت وألقت حملها، وهذا المجرم هبار يقول عنه المؤرخون: رضي الله عنه؛ لأنه أسلم بعد ذلك، رجل يعتدي على امرأة راكبة (دع عنك أنها بنت الرسول)؛ ليلقي بها ليلًا فتجهض وتمرض حتى تموت، يقال رضي الله عنه؛ لأنه أسلم، وفي العالم مئات الملايين أسلمت ولا يلحق اسمهم بعبارة الرضا! وقد علم الرسول بهذه الحادثة وقال: زينب أفضل بناتي أصيبت بي (أي بسببي). غير أن الذي حدث بعد ذلك أعجب، فإن الرسول قال: إن لقيتم هبارًا هذا فاحرقوه بالنار. والرسول يعرفه جيدًا؛ لأنه من أحفاد قصي وقد وصل هذا الرجل القاتل إلى المدينة بعد أن ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، كما حدث لوحشي الذي اغتال حمزة مأجورًا من هند، ودخل المسجد وسلم على الرسول وأسلم وقال: لقد هربت منك في البلاد فأردت اللحوق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك وصفحك عمن جهل عليك، فاصفح عني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي. فقال الرسول: قد عفوت عنك، والإسلام يَجُبُّ ما قبله.
أقول: والله أنا مندهش من مكارم أخلاق هذا النبي الأعظم؛ فقد تعادي لحبك إياه أعداءه بعد هلاكهم بألف وثلاثماية سنة، وتحقد عليهم كأنك تراهم وتود تلقاهم لتأخذ بثأره منهم، وما ترى من أفعالهم ولا تسمع من أقوالهم إلا ما تقرؤه في الورق، ثم تراه بعد ذلك يتلمس أوهى الأسباب للعفو عنهم، وما على الرجل منهم إلا أن يُسلم ويعتذر ويندم ويعترف بذنبه بلباقة وفصاحة، كما فعل هذا الماكر هبار حتى يعطف عليه الرسول ويقول له: «قد أحسن الله إليك؛ حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يَجُبُّ ما قبله.» حتى وحشي الذي قتل حمزة غيلةً لم ينتقم منه، بل أمره بالانصراف من وجهه!
كان يجب علي أن لا أكون أكثر غيرةً على الله ورسوله من الرسول نفسه، ولكن قلبي لم يهاودني قط؛ فالرسول من حقه أن يعفو عمن أساء إليه، ولكن أليس له محبون يتجاوز حبهم إياه قدرته على الصفح؟! أستغفر الله؛ فقد كان المثل الأعلى في كل شيء، وإنما لا يهون على النفس أن تترك أزكى نفس في العالم نهبًا لمن ينال منها، ثم يعفو عنهم، والإسلام غني عن أمثالهم، وأيديهم ملطخة بدماء الأبرياء، فلا بد أن جرائم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط مما لا يقبل الصفح ولا سيما أنهما لم يسلما، فلو أسلما فلا بد أن يعفو عنهما؛ فقد كان إسلام الرجل أعظم في نظره من أي أذى يلحقه أو يلحق ذويه، ولذا كان على حق في قتلهما، لا لأنهما آذياه وأهاناه؛ بل لأنهما لم يؤمنا، وأحدهما مهرج، والآخر يهودي مأجور، وقد وجب علي أن أتبع السنة المحمدية فلا أسرف في نقد أعدائه الذين أسلموا بعد ذلك، وأن أُلحق أسماءهم بدعوة الرضا الإلهي إذا كانوا من الصحابة، فإن وجد القارئ غير ذلك، فزلة سبق بها القلم، وحكمة من القضاء لم يلحقها الاستغفار والندم. وقد كانت لأبي سفيان يدٌ في مؤامرة هبار، فإنه بعد سقوط زينب — رضي الله عنها — ظهر أبو سفيان وقال بمكر ودهاء لحارس الهودج الزينبي: ردها وسر بها سرًّا فألحقها بأبيها. فنزل الحارس على إرادته. وعلى كل حال فقد كان مسلك قريش مع بنت الرسول وهي سيدة حامل خارجة من وطنها؛ لتصل إلى أبيها مسلكًا شائنًا لا يجدر بشريف، وقد فعلوا من قبل مثله مع أم سلمة ففرقوا بينها وبين ولدها وزوجها وخلع أحدهم ذراع سلمة الصغير، ولكنهم لم يعتدوا عليها، وكان هذا قبل بدر.
وكان بين الأسرى سهيل بن عمرو العامري وكان من أشراف قريش وخطبائها المفوهين كالأسود بن عبد المطلب ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن الزبير وعتبة بن أبي سفيان، فاقترح عمر بن الخطاب نزع ثنيتي سهيل؛ ليبطل نطقه ويفسد بيانه فلا يخطب ضد النبي، فقال الرسول: لا أمثِّل به فيمثِّل الله تعالى بي وإن كنت نبيًّا، وقبِل فيه الفداء، وقد وقف سهيل بن عمرو موقفًا محمودًا أيام الردة، ومن خطبته يومئذ في مكة: «والله إني أعلم هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها وغروبها (ما أقرب هذا إلى القول الحديث: دولة لا تغيب الشمس عن أراضيها!) فلا يغرنكم هذا من أنفسكم (يعني أبا سفيان)؛ فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربكم؛ فإن دين الله قائم وكلمته تامة وإن الله ناصرٌ مَنْ نصره ومقوٍّ دينه.» ومعنى هذا أن سهيل بن عمرو أسلم بعد افتدائه وعودته إلى مكة وأقام بها إلى خلافة أبي بكر، فلما هم الناس بالردة بتحريض أبي سفيان واختفى عتاب بن أسيد أمير مكة؛ خوفًا، وقف سهيل هذا الموقف، فحقق الله نظرة الرسول، فلم يحرم الرجل من منطقه وفصاحته، فخدم بهما دينه وأمته واندحر المحرضون على الردة بمكة، وكف الناس عما هموا به، وظهر الأمير بعد أن انحاز إليه الرأي العام.
وتآمر صفوان بن أمية (قبل أن يسلم رضي الله عنه) وعمير بن وهب — رضي الله عنه — (لأنه أسلم بعد ذلك) وهما جالسان في المسجد على قتل الرسول بسيف مسموم بعد بدر، وتعهد صفوان لعمير بسداد دينه ومراعاة عياله، وانطلق عمير — رضي الله عنه — إلى المدينة؛ ليقتل الرسول في مسجده بسيفه المسموم، فرآه عمر بن الخطاب متوشحًا سيفه ينيخ راحلته على باب المسجد، فقال: هذا الكلب عدو الله ما جاء إلا بشرٍّ (هذه ألفاظ عمر). فدخل على رسول الله وأخبره، فأدخله آخذًا بحمالة سيفه في عنقه، فقال الرسول: «أرسله يا عمر، ادن يا عمير.» فدنا ثم حياه بتحية الجاهلية: أنعموا صباحًا. فقال له الرسول: ما جاء بك؟ قال: جئت لهذا الأسير ولدي وهب! قال الرسول: فما بال السيف؟! قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا؟! فكلمه الرسول بكلام لا يعلمه إلا هو وصفوان، فأسلم عمير بن وهب وأطلقوا له ولده فأسلم. وهذا حديث دعانا إليه أحد أسرى بدر؛ وهو وهب بن عمير حامل أحد ألوية قريش يوم بدر وهو ليس أخًا لمصعب بن عمير حامل لواء المسلمين ببدر؛ فإن مصعب بن عمير كان له أخ هو أبو عزيز بن عمير كان من أسرى بدر، فلما رآه مصعب قال لآسره: شدَّ يدك؛ فإن أمه (وهي أمهما) ذات متاع؛ لعلها تفديه منك!
وكان أبو الفضل العباس بن عبد المطلب عم الرسول بين الأسرى؛ فقد قدمنا أن بني هاشم لم يستطيعوا التخلف عن السير في جيش قريش وجعلوا لواءهم وهو راية العقاب خفاقًا رغم إرادتهم؛ لأن منهم من كان يأبى الحرب، فكانوا مكرهين موروطين؛ لقلتهم في قريش وعداوة قريش لهم؛ لأن محمدًا منهم، والذي أسر العباس أبو البشر كعب بن عمرو، فشد وثاقه حتى أَنَّ وسمع الرسول أنينه فأمر بتخفيف وثاق الأسرى جميعًا؛ إكرامًا له، ولكنه لم يُعفِه من الفداء، فدفع عن نفسه وعن عقيل بن أبي طالب أخيه وكان من أراذل الناس في معاملة الرسول وقد اغتصب بيوته في مكة وصادر أمواله.
وعاد المؤرخون فقالوا: إن العباس احتج بإسلامه سرًّا وكتمانه خوفًا من قريش كما رواه غلامه أو مولاه أبو رافع في عرض الشجار الذي انتهى بمرض أبي لهب وموته، فحدث ما يدل على أنه لم يسبق تفاهم بين الرسول وعمه العباس؛ ليكون عينه وأذنه في مكة، إنما كان العباس يدافع عنه بصلة الرحم وكرامة العشيرة؛ فقد علمنا أن أبا طالب عاش إلى السنة العاشرة من البعثة ولم يُسلم، وكان أحق من العباس بالإسلام؛ لأنه كان ولي أمر الرسول وكفيله في صغره، وقاسى بسبيله ما قاسى وأنفق من ماله ما أنفق، فلا ندهش لبقاء العباس على ملة آبائه، ولا سيما أنه كان من أرباب الأموال ومن أهل الربا، وميله إلى الدنيا أشد، فهو يجاري قريشًا على الأقل احتفاظًا بثروته، وقد رأينا رجال المال في هذا العصر لا يدينون بدين ولا يضالعون مع حزب سياسي؛ خشية أن ينفروا الناس منهم، وهم لا يكتمون عقيدة؛ لأنه لا عقيدة لهم إلا عبادة المال! ولا يُنتظر منهم أن يكونوا من رجال المبادئ، وهكذا كان العباس، فإذا احتج بين يدي الرسول عند طلب الجزية بأنه مسلم ويخفي إسلامه فإنما هو احتجاج ليتقي به الدفع، فقال له الرسول وهو حديث يقطع كل قول: «الله أعلم بما تقول، إن يك حقًّا فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا.» وتلا الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ، وكان العباس خرج من مكة يحمل عشرين أوقية من ذهب؛ ليُطعم بها الجيش، فأُخذت منه في الحرب، فلم يفُته وهو المالي الكبير والمرابي الشهير أن يفرض طلب المقاصة لتحسب له الأوقيات العشرون من أصل مال الفداء، وهذا يدل على شدة تمسكه بالنقد ومكافحته للحظة الأخيرة في سبيل الاحتفاظ بالمال، ولكن الرسول كان بنور الله وشدة الذكاء أقدر منه وأكفأ وأقنع بالحجة وأنصع، فقال: أما شيء خرجت به تستعين علينا فلا نتركه لك. وقد صدق محمد؛ لأن العباس لم يدفعها لأحد معين، ولكنها أُخذت في الغنائم والأسلاب وهي أصلًا منقولة من مكة؛ لتقوية جيش مكة على جيش المسلمين، فكيف تعمل هذه الأوقيات أعمالًا شتى ويصل صاحبها إلى غايات متعددة ويفيد بها فوائدَ كثيرة حتى يشركها في خلاصه من يد آسريه، ومما يؤيد عندنا أن العباس لم يُسلم سرًّا ولا جهرًا إلى أن وقع أسيرًا في بدر أن وجوده بين الأسرى في المدينة أحدث ضجة هائلة، فلم يجد رجلًا يعيره قميصًا يلائم جسمه الضخم سوى عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول رأس المنافقين، ولو كان الرجل مسلمًا حقًّا لأقبل عليه المهاجرون والأنصار يخلعون عليه ويطلقون سراحه ويفكون وثاقه، ولكننا نرى النقيض أن وثاقه قد شُدَّ حتى أَنَّ، وأن الأنصار عزموا على اغتياله، وأن الرسول شدد في طلب الفداء ودحض حجة العباس، وأن أعيان المهاجرين التفوا حوله؛ ليؤنبوه، وجاء علي يعيره بالكفر وقطيعة الرحم، فدافع العباس عن نفسه بتعمير المسجد والسهر على الكعبة ومنع التشبيب والهجر في المسجد وسقاية الحجيج إلخ، وكلها شعائر وثنية لم يزد العباس أو غيره عليها شيئًا، وهي المظاهر التي جاء الإسلام لمحوها، فلا يجوز الاحتجاج بها على الإسلام نفسه، وأن القيام بها يعد محاسنَ تمحو سيئة البقاء على الشرك، فجاءت آية: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ.
وآية: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ.
ولا يظن عاقل أن العباس يكون مسلمًا في الباطن ثم تنزل فيه هذه الآيات ردًّا على حجته التي يتقي بها نقد المهاجرين والأنصار، والثابت أن هذا الرجل أعلن إسلامه يوم الفتح، والذي ينسب إليه من خدمة النبي سرًّا غير مقطوع به، ولعله دُسَّ بعد ذلك في كتب التاريخ في عهد الدولة العباسية، ولا أعلم مكان الرواية التي نسبت له استئذان الرسول في الهجرة إلى المدينة فأجابه كتابةً: «يا عم، أقم مكانك الذي أنت فيه، وإن مقامك بمكة خير لك.» ولكننا دائمًا نراه ونسمعه يعتذر عن الإسلام ويحتج بديونه المتفرقة في قريش وخوفه إن أظهر إسلامه من ضياعها، فعقليته وتفكيره وإحساسه هي عقلية الرأسمالي وتفكيره وإحساسه، وعقيدته بعيدة عن الإسلام؛ فإن المسلم إذا آمن حقًّا لا يكترث للمال، أو يدبر أموره على مدى أشهر؛ ليستخلص نقوده.
وإن كان العباس أكثر مالًا من أبي بكر وعمر وعثمان وابن عوف وابن معاذ وابن أبي وقاص ومصعب بن عمير وغيرهم فهو أقل فضيلةً وشرفًا وإخلاصًا وتوكلًا على الله، بل إن الله لم يرد على خاطره مطلقًا؛ لأن حياته كانت تدور حول ماله وديونه وخوفه من الإفلاس، حتى إنه لما طُلب إليه أن يدفع مائة أوقية لفدائه ومن معه من أهل بيته قال للنبي كذبًا: «تركتني فقير قريش ما بقيت أسأل الناس في كفي.» وهذا كذب ولكنه ينطبق على عقلية الغني البخيل يتظاهر بالفقر ويستميت؛ لينجو من الدفع، ويزعم الفاقة غير حريص على كرامته؛ لأن الفقير الصادق لا يرضى بذل الاعتراف، ولكن الغني المخفي أمواله لا يكترث لهذه المهانة ويحسبها مهارة وحذقًا، والحقيقة أن العباس قبل أن يغادر مكة استودع بنادق الذهب زوجته أم الفضل وقال لها: «إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيتِ!» وقد دفنا مالهما معًا، فنفسية العباس إلى أن أُسر في بدر (رضي الله عنه؛ لأنه أسلم فيما بعد، والإسلام يَجُبُّ ما قبله) كانت نفسية منحطة لاصقة بالتراب، حريصة كل الحرص على الذهب والفضة، مرتابة كل الريب في صدق وعود الله ورسوله، شاكة كل الشك في حسن الجزاء الذي ورد في القرآن في عشرات الآيات، وأقل ما يقال فيه: إنه كان ينافق لقريش ويحارب المسلمين في الظاهر؛ لينجو بجلده وماله، فلم يعلن إسلامه إلا بعد أن وثق من نجاح ابن أخيه، وقد كان سببًا في إنقاذ أبي سفيان؛ فقد احتال حتى أدخله على الرسول وضمن العفو عنه، وكان خيرًا للإسلام أن يُذبح هذا الرجل؛ أبو سفيان (رضي الله عنه؛ لأنه أسلم فيما بعد والإسلام يجب ما قبله)، فإن هذه سنة الرسول، ولكن للتاريخ حكمًا آخر، ونحن نحاول تحليل هذه الشخصيات الأولى التي كافحها محمد حتى قهرها وغلبها، وقد لازم الحرص والشح روح العباس وعقله وقلبه حتى بعد إسلامه؛ فقد روى البخاري عن أنس؛ جاءه من خراج البحرين مائة ألف درهم فقال: انثروه في المسجد فكدسوه حتى يرى الرسول رأيه فيه، فخرج للصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جلس إلى المال فكان لا يرى أحدًا إلا أعطاه، فجاء العباس وقال: «يا رسول الله، أعطني؛ إني فاديت نفسي، وفاديت عقيلًا.»
لم ينسَ الرجل حتى بعد إسلامه وبعد الفتح ومجيئه إلى المدينة واسترداده ديونه من أهل مكة أنه دفع مال الفداء؛ وهو أوقيات معدودة قاسى في سبيل التخلص من دفعها المر، فقال له الرسول: خُذْ. فحثا في ثوبه ثم شرع يحمله فلم يستطع، فقال للنبي: مر بعضهم يرفعه من الأرض إلى كتفي. قال محمد: لا. قال: فارفعه أنت عليَّ! قال: لا. فارتبك الرجل؛ لأنه كان بين أمرين: إما يبقى كالجمل البارك تحت حمله، وإما يخف حمله، فنثر منه وما زال يفعل حتى بقي ما يقدر على حمله، فرفعه على كاهله وهو ينظر تحسرًا وأسفًا على ما لم يقدر على رفعه، ثم انطلق إلى أم الفضل وهو يقول: «إنما أخذت ما وعد الله، لقد أنجز!» فما زال رسول الله يتبعه ببصره؛ عجبًا من حرصه، حتى خفي.
هذه درة من دراري الحديث في البخاري وأعجوبة من أعاجيب التاريخ الشخصي في ثنايا كتب السنة ودليل على دقة الملاحظة وقوة الذاكرة التي انفرد بها رواة الحديث الصادقين أمثال أنس بن مالك، سجلها البخاري، وهي حاسمة في أخلاق العباس.
لقد أفدى العباس نفسه في بدر وابن أخيه عقيلًا بعد أن سال عرقه اجتهادًا في التخلص وديست كرامته تحت مناسم التأنيب والتعيير، ثم تم الفتح وأسلم؛ كأحد وسطاء وول ستريت بنيويورك أو بوند ستريت في لندن، ولَمَّ ماله وانتقل إلى المدينة؛ لا حبًّا بالإسلام ولا بمحمد، ولكن لانتقال الحركة المالية ونشاط الأسواق فيها بعد أن صارت عاصمة الإسلام، وتوارت مكة إلى الصف الثاني، ولم تبقَ لها إلا كرامة المسجد والبيت الحرام، وأمثال هذا الرجل يشتمون ريحة المال وتصدق أحداسهم ويصح تخمينهم بالفطرة وطول الاختبار. فلما جاء المال من البحرين كان المنتظر أن يعطى لفقراء المهاجرين والأنصار الذين أبلوا بلاءً حسنًا في المغازي، والذين تركوا ذريةً ضعافًا أحق من العباس وأبي سفيان الذين كانوا أمراء بأرواح متسولين، وكانوا سائلين مستجْدِين في صورة سادة، واستغلوا إسلامهم؛ لأنهم علموا أن الرسول يسلك سبيل تأليف القلوب، فلم يتنحوا عن أموال المسلمين؛ بل كانوا أشد الناس جشعًا وطمعًا، وقد نال أبو سفيان من أسلاب حنين أضعاف ما يستحقه، وكان الرسول لا يمنع أحدًا، ولكنه عامل العباس الذي لم ينسَ مال الفداء معاملة مدهشة؛ فأباح له أن يأخذ ما يطيق حمله وأبى أن يعينه أو يأمر أحدًا بعونه، والعباس لا يظن إلا أن الله أنجز وعده، فأثنى عليه ثناءَ الدائنِ على المدين الأمين الذي يوفي ويدفع في الميعاد.
ألا تسمع لقوله: «إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز.» وكان يتحرق على اضطراره لترك ما لم يطق حمله، ولو علم ما يخفيه الرسول لدعا أهله وأولاده وزوجته وخدمه؛ ليحملوا ما يقدرون على حمله، ولو كانت المائة ألف كلها! فدهش الرسول وهو يتبعه بنظره، ففي يقيني أن هذا الرجل لا يصلح لخدمة الإسلام سرًّا أو يكتم دينه لينفع ابن أخيه أو سواه، وأن كل ما قيل في هذا المعنى منتحل وموضوع ومدسوس بأقلام أعوان الدولة العباسية؛ نوعًا من الدعايا السياسية، وبقي في الكتب إلى اليوم؛ لأن المؤرخين لم يغربلوا ولم ينتخلوا، بل ساقوا الأخبار معتمدين على النقل دون تمحيص.
فإذا نظرنا في التاريخ عندهم وقلبنا صفحات مؤلفاتهم (ما عدا مقدمة ابن خلدون، وبعض الرحلات كرحلتي ابن بطوطة وابن جبير، وابن مسكويه والكندي)، فإنها تدلك على أن فكرة النقل والتقليد قد تملكتهم فلم تترك لغيرها من مجال؛ حوادث متتابعة على حسب ترتيب السنين لا تواصل بينها ولا علاقة تربطها، فهي في الواقع مدونات حوادث لا كتب تاريخ، قيمتها تنحصر في أنها كُتبت في عصر قريب من العصر الذي وقعت فيه الحوادث التي ترويها، فهي مآخذ للتاريخ وليست تاريخًا، مراجع يصح أن يُعتمد عليها في كتابة التاريخ بعد النقد والفحص والتحليل؛ لأن فيها من النقائض ما يُدهش، وقد يُدهشك أن علماء العصر الحديث يرون أنه يجب أن يعاد تدوين التاريخ والنظر فيه من حين إلى حين، لا لأن حقائق كثيرة تكون قد عُرفت على مر الأيام، بل لأن أوجهًا من النظر قد تظهر في أفق البحث العقلي، ولأن المعاصرين الذين هم ذوو ضلع كبير في تقدم عصورهم وارتقائها يساقون دائمًا إلى غايات ينتهون بها إلى حيث تصبح ذات صبغة يُقتدَر بها على تدبر الماضي والحكم عليه بصورة لم تكن معروفة من قبل.
هذه آراء العلماء في التاريخ الصحيح المترابط الأطراف المتواصل الأسباب المحبوكة سلسلته حول فكرة بعينها، فما بالك بحكمهم على بعض كتب السيرة وعلى بعض كتب ابن الأثير والطبري والمسعودي؛ وهي مؤلفات لم تتعدَّ أنها مدونات حوادث وقعت في عصر من عصور الحياة وفي بقعة خاصة من بقاع الأرض لم يتناولها الفكر بنظر أو تحليل.
نعود إلى أسرى بدر الذين كان منهم العباس سبب هذا الاستطراد فنقول: إن الرسول عفا عن بعضهم بغير فداء؛ منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر، وكان في مكة يؤذي المسلمين بشعره ويهجو النبي، فتقدم إلى الرسول وقال: «يا رسول الله، إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها؛ فامنن عليَّ، وإن لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن.» فتأثر الرسول وأعتقه وأخذ عليه عهدًا أن لا يظاهر على المسلمين أحدًا، والرسول يعرف شخصه وأخلاقه وتاريخه ويعرف أنه كان مأجورًا على هجو المسلمين، ولكنه أشفق عليه وأضمر له العقوبة إن خان عهده؛ فقد منحه فرصة التوبة، وكان الرسول أحن ما يكون على رب الأسرة ووالد البنات.
فلما بلغ شاعر السوء عمرو الجمحي مكة قال لقومه: «سحرت محمدًا.» ولو صدق الجمحي فما يكون هذا النبي الذي يسحره هذا الهلفوت بين البشر؟! ولكنه الغرور والشر وجحود النعمة، وسيرى القارئ عاقبة هذا النظام الوقح في أحد؛ فإنه خان عهد الله وخرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعره، فأُسر وقُتل صبرًا كالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وحُملت رأسه إلى المدينة. وعفا الرسول بغير فداء عن أبي العاص زوج زينب ووهب بن عمير؛ لأسباب ذكرناها.
لقد أُهرق مداد كثير فيما يتعلق بمسألة الأسرى واختلاف الصحابة في أمرهم: أيُبقون عليهم ويقبلون مال الفداء فيهم، أم يقتلونهم؟ فكان عمر وسعد بن معاذ وغيرهما من أنصار فكرة القضاء عليهم، وكان أبو بكر ميالًا إلى الفداء؛ أبو بكر يريد أن يأخذ مالًا وقوةً منهم، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام بعد ذلك، وابن الخطاب يذكر المظالم والقسوة الوثنية والاضطهاد والقتال والتشريد والإرغام على اللجوء إلى الهجرة والنفي، فقال الرسول لهما: «لو توافقتما ما خالفتكما، فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق.» ولكن القرآن جاء بما يؤيد رأي عمر: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
وكان سعد بن معاذ وابن رواحة على رأي عمر، ولكن رحمة الله ورحمة الرسول سبقت؛ فكان العفو والفداء، بل إن محمدًا — عليه الصلاة والسلام — لما رأى جبير بن مطعم في المدينة يسأل في أسرى بدر قال له: «لو كان شيخك (أي أبوك) حيًّا فأتانا فيهم لشفعناه»؛ لأنه كان أجار النبي لما قدم من الطائف، وكان ممن سعى في نقض صحيفة المقاطعة، فلا حيلة لأحد مع حنان هذا النبي وعطفه وميله إلى الرحمة والصفح، ولله وحده حق التمجيد والتسبيح الذي خلقه وجعله على هذا المثل الأعلى والنموذج الأكمل.
وعلى كل حال فقد كانت خطة العفو والفداء سليمة العاقبة، فإن أكثر من الأسرى السبعين الذين أطلق سراحهم أسلموا، وقام بعضهم بتعليم أطفال المدينة القراءة والكتابة، فاحتكوا بالمسلمين أثناء أسرهم في مدينة حرة لهم فيها كل سلطة، يعبدون فيها ربهم في غير خوف أو رعب أو حذر فأثرت هذه المناظر في أنفسهم، وقد رأوا النبي كل يوم في المسجد وسمعوا أقواله وشهدوا أفعاله فكانت دعاية قوية للإسلام، ومن هؤلاء الأسرى سهيل بن عمير الذي خدم الإسلام بعد الردة، ولو أنهم قتلوا لزادت الأحقاد واتسع نطاق الخصومات وفقد المسلمون أدوات إعلان حية ناطقة تذيع فضل الدين الجديد، وفوق هذا كله فإن العفو وافتداء الأسرى كان عملًا ينطبق على خلق النبي وطبيعته في كل أدوار حياته.
•••
وكان لانتصار بدر أثر كبير في بلاد الحبشة؛ فإن قريشًا حاولت الانتقام من المهاجرين المسلمين الباقين فيها من الهجرة الثانية، فأرسلت عمرو بن العاص ووفدًا يحمل هدايا للنجاشي يطلب تسليم المهاجرين من أتباع محمد، وأن يمكنهم من قتل رسوله إلى النجاشي وهو عمرو بن أمية الضمري، وكان رجلًا ذكيًّا نشطًا يصلح لأداء المهمات في البلاد البعيدة ويخلص في تنفيذها، وقد علم الرسول بالمدينة بما عزم عليه أهل مكة، فأسرع في إرسال مبعوثه بخطاب إلى النجاشي؛ ليبلغه خبر النصر في بدر، ويوصيه بالمهاجرين عنده خيرًا، ومع أن المدينة أقصى من مكة بالنسبة إلى الحبشة فقد وصل إليها عمرو بن أمية الضمري مبعوث النبي قبل وصول الوفد المكي، فحقد ابن العاص عليه وحنق حنقًا شديدًا ولكنه كتم غيظه وكظم حقده واستأذن على ملك الحبشة فأذن له فقدم له الهدايا التي يحملها، ثم سأله أن يسلمه مبعوث النبي وبقية المهاجرين؛ لينتقم منهم مقابل هزيمة بدر، فكبر الأمر على النجاشي، وقيل إن النجاشي ضرب أنف عمرو بيده حتى أسال دمه. وقيل إنه ضرب أنف نفسه؛ لأنه لا يستطيع أن يهين الضيف والرسول الذي يحمل إليه هدايا قريش. وقد يحنق بعض الكبراء فيتحامل على نفسه فيؤذيها؛ ليكون ذلك أوقع في نظر الشاهد إذا كان من فصيلة ابن العاص الداهية المرهف، فأصاب عمرًا من الذل والاستكانة والأسف ما لو انشقت الأرض وابتلعته لدخل فيها فرقًا وندمًا، فلما رأى منه النجاشي صغاره وتضاؤله قال له: أمن الجائز أن تطلب مني تسليم رسول رجل كمحمد والمهاجرين اللاجئين إليَّ بسبب اضطهادهم لدينهم الذي يقرب من ديني ولا يكذبنا؟! فنهض ابن العاص يعض بنان الندم وأخبر أعضاء الوفد الذين كانوا بانتظاره عذرًا مختلقًا كعادته قبل أن يسلم ووضع ذيله في فكه وطار إلى الميناء ومرسى السفن فركبها ومن معه إلى الشعبية، وهي الثغر الذي كان يوصل إلى ساحل جدة قبل وجودها.
ومن أغلاط المؤرخين القدامى في هذه النقطة، والله يعلم أنني لا أتتبع أخطاءهم إلا احترامًا للحقيقة وجعل تاريخ النبي جديرًا بكرامته، من أخطائهم زعمهم أن عمرو بن العاص طار إلى المدينة المنورة؛ ليعلن إسلامه، فلقي بمحطة «الهداة» خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة (الذي وشى بمصعب بن عمير لوالديه فكان سببًا في تعذيبه وحبسه) يقصدان إلى المدينة ليسلما، فاجتمع ثلاثتهم وساروا إلى هذه الغاية، وهذا كله محض اختلاق وخلط؛ لأن خالد بن الوليد سيف الله بقي في غمد الكفر والشرك إلى أن حارب الرسول في أحد وفي الخندق وكان ينوي الغدر بالمسلمين في الحديبية وهم قائمون للصلاة، فلا يُعقل أنه أسلم بعد بدر بشهرين، وكذلك ابن العاص، لم يسلم أحد من الثلاثة إلا قبيل الفتح بقليل لما ضمنوا أنهم يكونون في الكفة الراجحة والصف الظافر، ولكن المؤرخين القدامى لا يعرفون التواريخ ولا تسلسل الحوادث ولا نفي النقائض، رحمهم الله رحمةً واسعة ورضي عنهم وغفر لهم.
(٦) عودة الرسول إلى المدينة بعد بدر
كان الرسول قد استخلف على المدينة عمرو بن أم مكتوم (الضرير صاحب سورة عبس)، وأقام الرسول بعد الموقعة يومًا وبعض يوم؛ لأن الحر كان شديدًا وروائح الموقعة بعد القتال ودفن أصحاب القليب لا تطاق، فقفل راجعًا هو وجيشه عدا من دُفنوا من الشهداء، واكتسبت بدر شهرة عالمية، وكانت المسافة بينها وبين المدينة خمسة أيام فقطعها المسلمون في ثلاثة وهم يسوقون الغنائم والأسلاب والنعم، وقد استجاب الله دعوة النبي لهم.
بين ساعة وأخرى، فلم يمضِ نصف نهار حتى اغتنوا واكتسوا وتزودوا، وفوق هذا وذاك انتصروا على خصمهم العنيد القوي ودحروه وأعملوا السيوف في أقفية «سادة» قريش وزعمائها.
فلما قرب الرسول من المدينة خرج المسلمون للقائه وتهنئته فتلاقوا بالروحاء، فقال لهم سلمة بن سلام متهكمًا على قريش ومستهترًا بالنصر على جماعة عجزة: ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله ما لاقينا إلا عجائز صلعًا كالبدن المعقولة فنحرناها. وهو تهكم لاذع وتقليل من غرور المنتصر ووضع للأشياء في موضع يمنع الحسد ويصرف الأذهان عن مظنة السوء بأهل بدر، فلم يعودوا منتفخي الأوداج إعجابًا وصلفًا.
ولم يكن غير الرسول ليفطن إلى ما انطوت عليه كلمة سلمة بن سلام فتبسم وقال: «أولئك (أي العجائز الصلع) الملأ من قريش.» وهذا حق؛ فقد فقدت قريش أقوى أئمتها وسادتها سواء كانوا عجائزَ صلعًا أم شبابًا ناهضًا.
وقابلته الفتيات بالأناشيد:
وهؤلاء الفتيات ما زلن بأبواب المدينة يستقبلن القادم ويودعن الراحل وقد رأيناهن في زيارتنا لمدينة الرسول ﷺ وتأثرنا لنشيدهن وتغرغرت أعيننا بالدموع في الذهاب وفي العودة، وذكرنا مواقف الرسول حين قدومه من كل موقعة …
وبعد الأناشيد تقدمت إليه امرأة يهودية (دائمًا نعثر على يهوديت متربصة، وما أكثرهن في حياة النبي!) على رأسها جفنة فيها جدي مشوي، وكان الرسول جائعًا بعد سفر طويل، فقالت بلسان عربي فصيح: «الحمد لله يا محمد الذي سلمك الله! كنت نذرت لله إن قدمت المدينة سالمًا لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكل منه.»
فنظر إليها الرسول نظرة فاحصة وألقى على شوائها نظرة أخرى ففاح ريح السم من لسانها ومن كتف الجدي، ولو كان للجدي لسان لنطق بتحذير الرسول قبل أن يأكل، فحماه الله وصرفها ولم يوقع بها، وكفاها خسرانًا جديها الحنيذ وثمن السم وأجر الشواء، فلتطعمه أبناءها وحلفاءها المنافقين! وهكذا خطة هؤلاء القوم لا تختلف على مر الدهور؛ فقد قامت حياتهم العامة والخاصة على القتل بالاغتيال وإهراق الدماء إن عجزوا عن امتصاصها من عروق الأحياء.
وعاد الرسول إلى بيته ومسجده واستقبل أحبابه، وخطب أسيد بن الحضير أحد سادة الخزرج في المسجد فقال: «الحمد لله الذي أظهرك وأقر عينك.» واستوصى الرسول بالأسرى خيرًا بعد أن فرقهم على الصحابة، ولم يظهر أحد من المنافقين ولا اليهود غير صاحبة الجدي المسموم؛ فقد اكتفوا بها تحيةً للقائد الظافر، وكيف يظهرون وهم الحاسدون الحاقدون الذين غشيهم من الغم ما غشيهم، وأصابهم من الهم والغيظ ما أصابهم، وقد أيقن اليهود والمنافقون أن خطة الرسول ستتبدل بعد انتصاره، فإن العدو الألد الذي كان يحسب المسلمون حساب هجومه قد هلك واندحر، وقد مات من زعمائه من مات، وأرغمت أنوف الأحياء منهم في تراب بدر حتى تعفرت، وماء بدر الذي كان أبو جهل يؤمل أن يرقص حوله ويأدب المآدب ويمزج به الخمر لا يكفي لغسل العار الذي لحق قريشًا أبد الآبدين ودهر الداهرين.
(٧) محمد واليهود
كان دخول الرسول إلى المدينة بعد بدر دخولًا عظيمًا، لا يقل عن دخوله يوم شرفها بهجرته، ولكن يوم هجرته كان استفتاحًا لقادم؛ أما اليوم في العشرين من رمضان من السنة الثانية الهجرية، فكان دخول الظافر المتواضع لله المطمئن لنصرته، الآمن على مستقبل رسالته راجيًا في الله أن يتم عليه نعمته، لا يخشى شيئًا إلا إعجاب المسلمين بقوتهم أو حسن ظنهم بأنفسهم، فكم جلب الغرور بعد النصر بلاءً على صاحبه.
ولكن جيش بدر كان من أفضل الرجال؛ لقد دخل الرسول المدينة أول مرة في صحبة أبي بكر لا يعرفه إلا مائتا رجل في بلد يسكنه ألوف معظمهم مشركون ومنافقون ويهود، وكان كلهم يترقب وينتظر ويتحفز للنقد والاعتراض ولا يعرفون — إلا قليلًا منهم — أن دولة جديدة تؤسس وشعبًا فتيًّا ينشأ ويُربَّى وقوة حربية مهولة تُعدُّ لتثب، ونظمًا اجتماعية لا تحصى ولا تعدُّ تُغرس بذورها لتتعهدها أمة أراد الله لها الحياة، ونورًا جديدًا يُشعل سراجه ولن يُطفأ أبدًا؛ أما اليوم فقد دخل الرسول على رأس جيش منتصر على جيش أكثر منه عددًا وأكثر مالًا وعضدًا، كان مدخل محمد منذ سنة ونصف «أملًا»، أما اليوم فقد صار حقيقةً وقوةً ذات بأس يُخشى وبطش يُحسب له حساب، فاصفرت أوجه اليهود وارتسمت على تقاطيعهم صورة الرعب والوجل فلووا ألسنتهم في أفواههم بين أسنانهم الصفراء النخرة وتضاءلت أحشاء أحبارهم، وتحشفت جلود وجوههم وأخذوا يسألون أنفسهم: أليس هذا الرجل نبيًّا كموسى وداود وسليمان ذوي البأس الجبابرة؟! ألم يحطموا جيش سادة قريش ويقتلوا ويأسروا ما شاءوا من قتل وأسر وغنموا الغنائم والأسلاب التي سوف تغنيهم عن الاقتراض، وكيف بعهدنا معهم؟ إنه يقول قول الأنبياء ويعمل فعلهم ولا يجرؤ أحد عليه، وقومه أكثر ما يكون القوم طاعةً لنبيهم ورئيسهم وزعيمهم.
كنت تراهم يسيرون متوارين مسرعين في شوارع المدينة وأزقتها يكادون يطلبون إلى الأرض أن تنشق لتبلعهم، فلا أفجع لقلب العدو من أن يرى انتصار عدوه انتصارًا حاسمًا ويتوقع أن يتحكم فيه ذلك العدو!
وقد حُرموا لذة التهكم عليه وعلى أصحابه، وحُرموا لذة امتحانه وسؤاله واستدراجه كما استدرج أجدادهم الخبثاء نبيهم عيسى ابن مريم حتى أصعدوه إلى خشب الصليب بعد أن استعْدوا عليه الحاكم الروماني: يا عيسى، ما تقول في هذا؟ دعوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر. أما هذا العربي المكي فلا يتذوق المزاح ولا يرضخ للهوهم الذي ظاهره مرح وباطنه سم زعاف وفتنة نائمة.
وهنا لا يوجد بيلاطوس المندوب السامي الروماني؛ ليطيعهم في ذبح نبيهم، ليلطخوا يديه بدمه بعد أن غسلهما من جريرة صلبه. فالحاكم هو محمد والوزراء صحابة محمد وسلطة التشريع هي لله وسلطة التنفيذ جيش محمد والقضاء مجلس محمد، ومجلس الشورى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن معاذ وعبد الرحمن بن عوف والحباب بن المنذر ومصعب بن عمير ومن بلغوا درجتهم، فيا ويل يهوذا! ويا سوء حظهم! فليجتمعوا في آطامهم ليدبروا أمورهم، وليطيلوا النظر في كتابهم؛ لعلهم يجدون فتوى تدلهم على مخرج من مأزقهم، فذهبوا إلى لبيد بن الأعصم؛ ليسحر الرسول، ولكن سحر لبيد لم يؤثر في هذا الرجل العجيب مهما صنع لبيد للرسول من تماثيل الشمع ليغرز فيها الإبر أو يجعل معها وترًا يعقد فيه إحدى عشرة عقدة، فإن زمن السحر الأسود قد ولى كما ولى عهد الكهانة والكهان، فليتركوا إذن ساحرهم لبيدًا وليتجهوا إلى أعلمهم بأحكام التوراة وهو ابن صوريا، وكان شابًّا أمردَ أبيضَ أعورَ يسكن «فدك»، ألا تقول يهود: إنه أعلم أهل الأرض بما أنزل الله على نبيه موسى؟ ولكن ابن صوريا قد صدق عندما استحلفه الرسول بأغلظ الأيمان أن يصدق، حتى وثب عليه سفلة اليهود من قومه، فقال لهم: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. والتفت إلى الرسول وقال: لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبتك ما اعترفت لك!
وما محمد بصاحب مال وإن كان صاحب دولة ناشئة وجيش شديد وشرع جديد، فلا يخضع لهم كما خضع أصحاب الدول وأرباب المنافع في كل عهد وكل جيل إلى أن يشاء الله فيجعل الكرة الأرضية مربعًا أو مثلثًا أو ذات شكل مستطيل، وما محمد بزير نساء يستهوي برفقة إستر ويهوديت من اللواتي اتجر بهن رجالهن وجعلوهن شباكًا وحبائلَ لعظماء الرجال، ولا بذي نهم يلبي الدعوة إلى مآدب كوهين وصمويل، والمآدب مصايد الرجال.
فمن أين يؤخذ هذا الرجل العجيب؟! يا خيبة بني إسرائيل! لقد تبدل أمنهم خوفًا، وراحتهم تعبًا، وسرورهم غمًّا، وطمعهم في أهل المدينة رعبًا وجزعًا، ويل لكم ووبال عليكم! ما أجدركم بالنواح على ما ينتظركم! وما أخلق أن تندبوا على أنغام المزامير التي كانت تشق أكباد أجدادكم في عهد داود! هذا نبي لم يبلغ شأوه أحد من أنبيائكم ولن يبلغوا شأوه، وهذا قائد لا يعرف غير النصر، وحكيم مرسل لا ينطق عن الهوى، وعادل مذاب في وعاء من الرحمة والرقة، ولكنكم سلكتم معه وأصحابه مسالك الجفوة، فلن تعرفوا الراحة بعد اليوم ولن تذوقوا للسعادة طعمًا، فحطموا أوعية الذهب والفضة التي اتخذتموها من دماء الأمم؛ لتأكلوا فيها وتشربوا، واحرقوا فراشكم وقطائفكم، واهدموا حصونكم وآطامكم، فلن يعصمكم من الله ورسوله بعد اليوم عاصم، فرُّوا بجلودكم وهيموا في الأرض على وجوهكم والتمسوا في غير هذه البقعة الطاهرة مباءة لسروركم وجرائمكم وخبائثكم، ولكن أنى لكم أن تفرُّوا وقد فقدتم رجولتكم وتعودتم الدَّعة والنعومة وعنيتم ببطونكم وفروجكم وخزائنكم، وأمنتم فنمتم؟ لقد سُدَّت الدنيا في وجوهكم وضاقت عليكم مسالكها جزاءً وفاقًا بما فعلتم، لقد فُلَّت أسلحتكم وانثلمت أسيافكم وصدأت رماحكم وأصاب العوج دروعكم وتَرِبت أيديكم فما عدتم تلبسون خوذة ولا تتخذون بيضة، وألفتم أن تندسوا في فرشكم وقد شبعتم وإن سهد الناس وجاعوا، وأن تغلقوا أبوابكم وإن بات الناس في العراء وجزعوا، وأن تطربوا لأنين المريض وبكاء الطفل وصيحة المظلومة وصرخة المستغيث ما داموا ليس من لحمكم ودمكم!
أتظنون أن الله لا يعلم ورسوله لا يعلم … أتحسبون الله لكم وحدكم أم خلق الأرض لتستأثروا بها وخيراتها دون سواكم ثم تهزءون وتتهكمون وتغتابون وتحرضون وتحالفون المنافقين وتضعون أيديكم في أيديهم وكنتم من قبل تقتلونهم؟
•••
لما قدم عبد الله بن رواحة على المدينة من بدر ينبئ بالنصر العظيم، تصدى له ليفي وكوهين وصمويل بالتكذيب، وقالوا: هارب مسكين من جيش مهزوم والبقية الباقية ممن ساقهم محمد للذبح حيال جيش قريش المتين. ولم يقنعوا بالتكذيب بل زادوا عليه التهكم الأليم، وقضوا يومًا وليلة في مرح قصير الأجل وسبوا المسلمين وقال قائلهم: كلوا واشربوا واطربوا على أنغام الانكسار لهؤلاء الدخلاء الفقراء، واخرجوا وغنوا وارقصوا تغنموا تشفيًا، والعنوا واقذفوا ما شاءت ألسنتكم، كيف يُعقل أن يُعقد النصر لهؤلاء الحفاة العراة الجياع وقائدهم لا يعرف من فنون الحرب حرفًا، وفي قريش أبطال صناديد؟! وكيف يعقل أن يتقدم رجل ليس بيده دليل؟! إنهم ليبغضون أن يفوز، وبغضهم غذى حقدهم وفتح أفواههم كأبواب المجاري، لقد اقترفوا في السبعة عشر شهرًا الماضية ما جعلهم يحكمون على أنفسهم ويعلمون ما ينتظرهم عندما يطلع البدر على ثنيات الوداع، فأفرغوا حشو صدوهم وأخرجوا عصارة القرح التي تنز ولا تندمل، فما هالهم بعد ليلة قضوها في أحلام العصافير بين هوسة المحنق اليائس ورعب الجازع المهيض إلا ظهور صفوف الأسرى تتقدم الجيش الرهيب، وإذا بالرسول نفسه يحف به وزراؤه وصحابته وقواده، وقد خلع الله عليهم حللًا من المجد الخالد يزينها التواضع له سبحانه وتعالى، وإذا بسورة الأنفال تُتلى في المسجد وفيها من رحمة الله وعزته وحكمته ما أخرس لسان كل هماز مشاءٍ بنميم:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ.
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ.
وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ.
فما أروع الاستقبال الذي أعده الله للمؤمنين؛ ولكن اليهود عموا عن وحدة المدينة التي ولدها النصر، فزعموا أن الرسول فرق بينهم وحاد بهم عن الصراط المستقيم، ودفعوا بشواعرهم وشعاريرهم لهجاء الرسول، لقد كان الرسول قبل بدر سائدًا بنفوذه وقوة شخصيته حتى أجبر اليهود على أن يحتكموا إليه في قضاياهم فيحكم لهم بنصوص التوراة، وكان المهاجرون والأنصار يطيعون الله ورسوله وأولي الأمر منهم، ولم يتذمر أحد ولم يَثُرْ أحد ولم تتيقظ فتنة على ما كانوا عليه من شظف العيش وضيق أعطان الحياة، فما الذي دعا اليهود إلى تلك الدعاية الظالمة وتحريض النساء والرجال على نظم الأشعار الخبيثة؟! إنه بلا ريب انتصار بدر الذي كمد نفوسهم وحرق أكبادهم فاستأجروا من يحرض بشعره على قتل النبي، وما يزالون في كل زمان ومكان يشترون الأقلام والألسنة التي جعلها أصحابها ذريعة ووسيلة للكسب من أدنأ الطرق، وإن شاعرًا واحدًا في بلاد العرب لأكبر أثرًا من صحيفة يومية ذائعة الصيت سريعة الانتشار، وما يزال ذيوع الأخبار بسرعة البرق في أنحاء الجزيرة سرًّا عميقًا ولغزًا محيرًا!
لقد ضاق المسلمون ذرعًا بعصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، وكانت زوجة يزيد بن زيد بن حصن الحطمي، وكانت امرأة فرعاء هيفاء فصيحة بذيئة اللسان ذات جمال وقدرة على المعاني والألفاظ، ولكنها أُشربت كراهية المسلمين، فاستأجرها اليهود وحسنوا لها المزيد فأخذت قبل بدر وبعدها تؤذي النبي وتحرض على قتله شعرًا، فتطوع عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام وكانت ولودًا للذكور والإناث وولادة للقوافي المقذعة تضع حملها من رحمها وتنفث السموم من فمها، وكانت امرأة شبقة هووية المزاج لا تشبع من نهم الطعام والشهوة، وكان شعرها نوعًا من اللذة التي تعتريها فتطيب نفسًا بعد أهاجيها وتلقى اليهود فرحةً بما تقول مما تقر له أعينهم، وكانت على ود وخلوة بكعب بن الأشرف شاعر اليهود الهجاء الذي اتخذ التحريض على قتل النبي صنعةً وفنًّا وغوايةً كصاحبته عصماء التي لم يكن لها من اسمها نصيب، وأعجب ما في أمر عمير بن عدي أنه كان أعمى، فجسها بيده ونحَّى صبيًّا كان يرضع من أحد ثدييها وهي نائمة ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من صدرها، ثم صلى الصبح بالمدينة، ثم سأل الرسول: قتلت ابنة مروان فهل عليَّ من شيء؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان. وهكذا امتزج دم هذه الفاجرة بلبن أولادها ومات شيطانها الذي كان يعلمها وينطق بلسانها، ولم تنطفئ جذوة غرامها حتى يلحق بها كعب، ولكن قبل كعب توجه سالم بن عمير العمري إلى شاعر آخر هجاء محرض على القتل هو أبو عفك اليهودي وكان من بني عمرو أبي عوف وقد عمر عشرين ومائة سنة، وكان سالم ممن شهد بدرًا وعليه نذر أن يقتل هذا الأفاك أو يموت دونه، فانتهز غرته في ليلة صائفة وهو نائم بفناء داره، فأقبل البدري الناذر ووضع سيفه على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش في الفراش، وصاح الشاعر الفاني بالعبري فثاب الناس إليه فأدخلوه منزله وقبروه.
وحان حَين كعب بن الأشرف، وهو صاحب عصماء، يهجو النبي وأصحابه ويحرض على قتلهم ويؤذيهم، فلما انتصر الرسول في بدر كُبت وذل وقال: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها. ولم يطق العيش بالمدينة؛ لأنه علم أنه لن يتمكن بعد اليوم من إفراغ سمومه، فخرج طريدًا حتى قدم مكة فبكى قتلى قريش وحرضهم بالشعر على الرسول وأصحابه، ثم قدم المدينة فقال الرسول: «اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار!»
وكان بين المسلمين أبو نائلة سلكان بن سلامة، أخًا لكعب من الرضاعة، فأتى كعبًا من موضع هواه وتظاهر بالطعن في النبي، وفي ليلة مقمرة قصد إليه أبو نائلة ومحمد بن مسلمة ونفر من الأوس حتى انتهوا إلى قصره بالعوالي وكان منذ قتلت عصماء قد تزوج، فلما نادوه لينزل إليهم ويعقد صفقة بيع تمر وسلاح ويرتهن أولادهم أو نساءهم، أخذت عروسه بملحفته وقالت: أين تذهب؟ وتشبثت به؛ فقد أوجست خيفة وأنكرت النداء وذعرت، وكان على كعب مسحة من شجاعة وضرب بيده الملحفة وقال: «لو دعي الفتى لطعنة أجاب.» ونزل إليهم يفوح ريحه فقالوا: ما هذه الريح يا كعب؟ قال: عطر أم فلان، زوجته، ثم قال: ترهنوني نساءكم؟ قالوا: أنت أجمل الناس ولا نأمنك عليهن، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! فقال معجبًا: صه صه؛ لئلا تسمع أم فلان، ثم دنا بعضهم ليشم رأسه فاعتنقه وقال لأصحابه: اقتلوا عدو الله. فطعنوه بسيوفهم، فصاح الشاعر الهجَّاء المحرض صيحةً ما بقي أطم من آطام يهود إلا أوقدت عليه نار علامة الخطر، ثم حزوا رأسه وحملوه معهم، وولولت عروسه من شرفة بيتها وناحت كأنها بجدار المبكى؛ فقد أرقت ونبذت فراشها وتأيمت في ساعة واحدة، فخافت اليهود، فلم يطلع منهم أحد ولم ينطقوا وخشوا أن يُبَيَّتُوا كما بُيِّتَ ابنُ الأشرف، ثم جمعوا شجاعتهم وذهب وفد منهم إلى الرسول فقالوا: قتل سيدنا غيلةً، فذكرهم النبي صنيع قتيلهم وما كان يحض على المسلمين ويحرض في قتالهم ويؤذيهم به ثم دعاهم إلى أن يكتبوا بينه وبينهم صلحًا، وكان ذلك الكتاب مع علي — رضي الله عنه — بعد تلك الحوادث، وهو غير الصحيفة التي نقضها كعب هذا نفسه يوم مزق شراك نعله.
وكان كعب رجل شر وسوء حتى نزل فيه قرآن: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا (آل عمران: ١٨٦).
وكانت عروسه شديدة الحب له والغيرة عليه؛ لأنه كان ذا شباب وجمال وشهرة، ولذا حدثها قلبها بما يضمر له الطارق ليلًا فقالت له: ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب. والمرأة العاشقة كثيرة الظنون، وقد يكون عندها شعاع من جلاء البصيرة، ولكن ابن الأشرف كان يطمئن لكلِّ من يطعن له في النبي، فلما احتالوا عليه بالطعن وشكوا إليه فقرهم وحاجتهم إلى قرض برهن قال: «لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل.» وهو لا يعلم أنهم جاءوا ليقوا «هذا الرجل» شره وشعره.
أيجوز لنا أن نرثي لعصماء أو صاحبها كعب أو وليهما أبي عفك؟ وقد تطوع رجال من الأوس والخزرج في قتلهم؟
لا ينتطح فيها عنزان، لقد أسلمت قبائل عصماء وأبي عفك وكعب بن الأشرف، وهذا اعتراف صريح بأن الذين أراحوا منهم المدينة كانوا على حق، ولا يقال إن تلك القبائل والعشائر أسلمت رهبةً وخوفًا؛ لأن كل واحد منهم لم يكن شاعرًا هجاءً ولم يكن بينه وبين المسلمين ضغينة، ولو أن حادثًا كهذا حدث في دولة عصرية لاعتبره الرأي العام وأولياء الدم عملًا مشروعًا وتنفيذًا لحكم أمر به الحاكم صاحب السلطة التنفيذية، فإن عصماء قد حرضت أهل المدينة على قتل النبي تحريضًا صريحًا، فليس قتلها أمرًا تعسفيًّا ولا ظلمًا تؤخذ به الدولة، فالتحريض على قتل الحاكم جناية يعاقَب عليها بالإعدام ولا سيما إذا كانت أداة التحريض هجاءً لاذعًا وشعرًا مسموعًا مرويًّا يؤثر في بلادٍ حياتُها وتاريخها وحروبها وأفراحها وأحزانها في الشعر، غير أن القتل بغير محاكمة قد يهز النفس، ولكن ما الفرق بين القاتل والجلاد إذا صدر الحكم، وأي فرق بين الشنق وقطع الرأس بالمقصلة والرمي بالرصاص والجلوس على كرسي الكهرباء؟!
وعذر الحكومة في المدينة أن هؤلاء المشركين واليهود لا يمكن إعدامهم بيد الجلاد أو صلبهم في ميدان المسجد؛ فلو كانوا مسلمين كخادمي أخت ورقة بن نوفل اللذين خنقاها ليسرقا مالها لأعدموا كما أعدمها عمر إعدامًا علنيًّا، وإن حفظ النظام بين المشركين واليهود يقتضي استعمال القوة مجردة من مظاهر السلطة التنفيذية، فكان الحذق في اختيار الزمان والمكان والمنفذ للوصول إلى الغاية في حكومة ناشئة لم يتم تنظيمها خيرَ بديلٍ للإجراء القانوني من محاكمة واتهام ودفاع وحكم ونفاذ في حكومة تامة النظام، أضف إلى هذا أن الجاني وحده هو الذي دفع ثمن جريمته، فلم تمتد يد العقاب إلى أحد من قومه وعشيرته، وهو تقدُّم ظاهر وتحسن عظيم؛ فقد كان هجاء الفرد داعيًا للحرب بين قبيلتين فأكثر، فبدأ المسلمون بتطبيق قاعدة المسئولية الفردية؛ لئلا تزر وازرة وزر أخرى، ولئلا يؤخذ بريء بذنب مذنب، فكان قتل الشاعرين والمرأة خيرًا وبركةً على مبادئ قانون العقوبات في المدينة (انظر هذه النظرية الصحيحة، في مرغليوث، ص٢٧٩)، لقد خمدت ثلاثة أنفاس وقُطعت ثلاثة ألسنة مع أنها كانت تحرض على قتل مئات الناس من المسلمين وعلى رأسهم حاكم المدينة وقائدها الأعلى.
هذا بعض ما جناه اليهود على أنفسهم قبل بدر وبعدها، فلما حزت السيوف أعناق الثلاثة المجرمين خضعوا كعادتهم حيال القوة واعترفوا بأخطائهم وكفوا ولو إلى حين عن نفث سمومهم.
كان أكثر الذين اشتركوا في قتل الشعراء المحرضين ممن شهدوا بدرًا، وقد اتخذ أبطال بدر شهرةً عظيمةً ونالوا فخرًا كبيرًا فما زادهم إلا خضوعًا لله وتواضعًا وطاعةً، حتى قيل إن الله غفر لهم ذنوبهم غفرانًا شاملًا، وكان الرسول يكره أن يُشتم أحد رجال بدر في حضوره أو في غيابه، وكان يعدل جهادهم يومًا واحدًا بعبادة أربعين عامًا، وكان يكرمهم ويقدمهم على غيرهم، كما يفعل المعاصرون للمحاربين القدماء وللسابقين من الجنود الظافرين في جيوش أعاظم الملوك، أو كما فعل الإنجليز لجنود وترلو بعد هزيمة بونابرت، أو كما فعل الإسكندر بتوزيع ملكه بين قوَّاده. جاء جماعة من أهل بدر للنبي وهو جالس في مكان ضيق ومعه جماعة من أصحابه فوقفوا بعد أن سلموا؛ ليفسح لهم القوم، فلم يفعلوا، فشق وقوفهم على النبي فقال لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين: قم يا فلان، قم يا فلان، بعدد الواقفين، فرأى الرسول الغيظ في وجه من أقامه، فقال: رحم الله رجلًا يفسح لأخيه. فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا … الآية.
فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك.
ولم تكن في المدينة نياشينُ ولا أوسمةٌ ولا درجات ولا رتب ولا علاوات ولا معاشات رسمية ولا مرتبات تُدفع بنظام، فخص الرسول أهل بدر بهذه الكرامة وأمثالها؛ كأن يُزادوا في الجنازة على أربع تكبيرات؛ تمييزًا لفضلهم على غيرهم، وأئمة المسلمين على أن الله لم يسخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم.
قد يشعر قارئي بملل أو كلل لإسهابنا في هذه المعركة، مع أنه لم يحدث في تاريخ الإسلام حادث أهم منها؛ فقد كانت معركة النجاة وحرب الخلاص، وأجدت على المسلمين قوة بعد ضعف وشهرة بعد خمول وحياة بعد موت وسلطانًا بعد ذل، كانت الأقدام التي وقفوا عليها ليسعوا، والأيدي التي بطشوا بها ليفوزوا، والألسنة التي نطقوا بها ليُسمعوا، والصولجان الذي قبضوا عليه ليطاعوا. أما قيمتها للرسول نفسه فلا يمكن تقديرها مهما بالغنا أو أغرقنا وغالينا في التقدير؛ فقد كانت معجزة ظاهرة لا ريب فيها، ولم يرتَبْ في ذلك أحد من رجاله أو من خصومهم الذين دبَّ في قلوبهم الرعب فولوا الأدبار، فوقع منهم من وقع، وفرَّ من فرَّ، وأُسر من أُسر بأسهل مما لو كانوا قطيعًا من غنم حكم عليهم القصاب بالذبح، ألا تسمع: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ.
فلم يكن للرسول من الأمر شيء إلا إحكام الخطة وطاعة أمر الله: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ.
ويصف مرغليوث موقعة بدر بأنها معجزة كاملة تامة فيقول: «الآن قد زالت من طريقه العقبة وتمت المعجزة» (ص٢٦٩). ولكن رسول الله لم يستغل نصره لمصلحته أو مصلحة أصحابه، وإنما اعتز بالنصر للإسلام دون سواه، لقد عُرض عليه المال والملك والقوة والحكم في مكة فرفض وأبى وبكى عندما ألحَّ عليه أبو طالب، والآن جاء المال والشهرة والمجد والقوة والحكم، فلن يمدد إليها يدًا إلا لمجد الإسلام، ولو رأى العرب غير ذلك لثاروا واهتاجوا، ألا تراهم يكرهون أن يقوموا لأهل بدر حتى يجيء قرآن في تأنيبهم، فكيف يصبرون على استغلال النصر لصالح أحد؟ صار نصيب أهل بدر خمسة آلاف درهم في العام في عهد عمر بن الخطاب، وكان أطولهم عمرًا سعد بن أبي وقاص فعاش حتى قبض هذا المرتب مساناة.
وعقب بدر أقبلت القبائل المجاورة بهداياها ونعمها تتقرب إلى الرسول فأبى أن يقبل ما لم تعتنق الإسلام، فأذعن من أذعن وأعرض من أعرض، فندم المعرضون وفاز المذعنون.
وفي المدينة نشطت الحياة الاقتصادية وتحركت التجارة ونفقت البضاعة وأقبل الناس على الشراء والبيع، كما حدث في لندن بعد وترلو من ارتفاع أسعار الأسهم والقراطيس، وشُغل بعض الأسرى المعدمين بتعليم أولاد المسلمين في المدينة بدل الفداء، ونزلت آيات محكمات في كتابة العقود وتوقيع الطرفين والشهود، وتجددت فنون المحاسبة، فكان تدوين الدواوين الأولى، وربط المعاملات وتوضيح الالتزام، والتفريق بين الحقوق العينية والشخصية، وكأن المدينة تنتقل بالتدريج ولكن بسرعة خاطفة من طور الزراعة إلى التجارة تاركة الصناعة لليهود الذين حان حَينهم ودق ناقوسهم.
ولأجل أن يعلم القارئ أن بدرًا معجزة ساقها الله إلى المسلمين فليُقدِّر لو أن أبا جهل وأصحابه أطاعوا نصيحة أبي سفيان وردوا عقولهم إلى رءوسهم وعادوا من حيث أتوا، فما كان يفعل الرسول غير العودة إلى المدينة للمرة السابعة أو الثامنة بغير حرب ولا غنيمة، وإن عودة كهذه لخير منها موقعة خاسرة.
أراد أبو جهل أن يخوض الحرب بعد أن وعد بالاكتفاء بالغناء والرقص والسكر وأكل اللحم والاستمتاع بالقيان على ماء بدر؛ لأنه أحسن الظن بنفسه وأساء الظن بقدرة النبي على الحرب، ولكن أصحاب النبي أنفسهم لم يعرفوا عن شهرة حربية ولا قدرة الوقوف في الميدان، ورأى أبو جهل من الرسول في مكة صبرًا وحلمًا وتحملًا وصفحًا، فهل ينقلب هذا الرجل في عام ونصف عام قائدًا محنكًا يقود جيشًا ويضمن نصرًا، أيقف هذا المهاجر وهم بالعدوة القصوى أوطأ منا موطنًا في الوادي ونحن أعز عددًا وأحدُّ سلاحًا؟! وفيم التقهقر وما يلازمه من عيب ولعلنا نظفر بالمسلمين ونقتل محمدًا؟! فلو تركناهم يفلتون منا لعلَّنا نندم على هذه الفرصة السانحة وقد تولي فتُعقبنا حسرة.
هكذا وعلى هذا النمط كان أبو جهل وعتبة يكلم أحدهما نفسه مردِّدًا رأيه معددًا عوامل النجاح لصفه، فكان حتفهم في تصميمهم، وفناؤهم موكولًا بأقدامهم ولو أنهم رجعوا ما كان حظهم ليحسُن أو نجمهم ليعلو أو يصعد متلألئًا في سماء الجزيرة؛ فقد آذنت شمسهم بالمغيب حقًّا منذ حجل ضمضم في أم القرى على ظهر جمله المجدوع الأنف المقطوش الأذنين وراكبه القدير على سير الهَيْدَبَى أو القهقرى بعد أن شق قميصه وحثا التراب على رأسه وصبغ وجهه بالنيلة، لقد كان في مجرد ظهوره صائحًا مستنفرًا علامة النهاية، كالمدافع التي تُطلق عند قبر العظيم المدفون، وفي هذا اليوم وُورِيَتْ مكة التراب حقًّا، فيا لها من حيلة أموية صاغها خيال أبي سفيان، فبعث زعماء قريش إلى المجزرة؛ ليخلو له الجو فيصبح سيدها غير منازع! أيكون أبو سفيان قد تواطأ مع المسلمين على قتل إخوانه؛ ليكون ملك مكة وسيدها المطاع؟! ولكن هل تواطأ الجيش نفسه مع المسلمين على أن يُهزموا ويمتنعوا عن الدفاع عن أنفسهم وشرفهم وأعراضهم؟! إنه لغز عميق تفسيره سهل، وهو أن مردَّ النصر والظفر ليس كثرة الجيوش وقوة العدد، وأن مردَّ الهزيمة ليس قلة العدد وضعف التسليح، فهناك قوة أخرى هي الروح المعنوية والعزيمة الصادقة والإرادة القوية والثقة بالنفس والإيمان بالنصر وامتلاء النفس بالتفاؤل والأمل؛ فتدفع الروح المعنوية الجيوش إلى الاستبسال في القتال وتملأها بأمل الغلبة، فلا يتخذ اليأس إلى قلبها سبيلًا ولا تجد خيبة الرجاء في قلبها موضعًا.
وقد كان الرسول حريصًا على تسليح جيشه بتلك الروح، حتى إنه لم يوجه خطاهم إلى العدو ولم يأمر بالمسير إلا بعد أن تعرف فيهم تلك الروح ولمسها واطمأن إليها، وهو ما تم في مجلس الحرب الذي عقده وخطب فيه المهاجرون والأنصار، ولا تنسَ أبدًا خطبة المقداد وهو من أبطال الساعة الأولى في الإسلام، وخطبة سعد بن معاذ، وهما خطبتان أين منهما خطبة طارق بن زياد وإن كانت هي الأخرى من آيات البلاغة، ولكنه كان مقتديًا ومقلدًا لا مهتديًا ومبتكرًا، وقد زاد على خطبته تهديد جنده بانقطاع الأمل من الرجعة فأوجد عنصر اليأس من النجاة في حالة الهزيمة، أما الرسول فقد أفرغ الأمل الضحاك في أنفسهم وبشرهم بالنصر والظفر؛ ليزيدهم قوةً إلى قوتهم ويبعثهم على التضحية والفداء، فقال لهم: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين: العير أو الجيش.» فأنار لهم الطريق وأوضح المحجة وعرفهم إلى خططهم ونتيجة جهادهم، فلن يقف في طريقهم جيش ولا جبل ولا سلاح ولا عدو، وسيغلبون وهم لا يملكون غير فرس واحدة جيشًا له من رباط الخيل مائتا جواد بفرسانها.
كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ۗ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
•••
اتخذ المسلمون المسجد الأقصى قبلةً، فزعم اليهود أنه تقليد واقتداء يدل على افتقار الدين الجديد إلى العهد القديم، فأمر الله باتخاذ الكعبة قبلة، فندم اليهود وعرضوا على المسلمين أن يعودوا إلى القبلة القديمة فيدخلوا كلهم في الإسلام، وهذا كلام مصدره الخوف والرعب وحقيقته الخداع والحيلة، أظنوا أن محمدًا حرٌّ في اتخاذ القبلة التي يريدها وأنه يتقلب بالمسلمين كطاحون الهواء بين عشية وضحاها؟! وهل بيده أن يعود إلى قبلة أورشليم بعد أن أمره الله بتركها، ولو فعل ذلك ولو كان بأمر الله لأصبح أمره منتقدًا. كانت القبلة إلى المسجد الأقصى ما دام المسلمون في مكة، فلما نزحوا وهاجروا جعل الله الكعبة هدفهم الأسمى وبشرهم بأنهم سيدخلونه، فوجههم إليه في الصلاة، وأمر الله الرسول بالتخلي عن كل ما يربط الشريعتين بشبه أو مناسبة في الصلاة والصوم والزواج والطلاق والطهارة والطعام والأعياد والقضاء والعقوبات والربا وسائر المعاملات، حتى قال أحبارهم: ما نرى هذا الرجل إلا يخالفنا في كل ما نحن عليه! حتى ترجيل شعر الرأس وتصفيفه وفرقه وتدليته وخضابه خالف المسلمون فيها اليهود، وحتى تغسيل الميت وتكفينه ودفنه وتشييع جنازته لم يكن بين اليهود والمسلمين فيها ما يتشابه.
ولو زعم أحد أن الرسول اتخذ مرشدًا أو معلمًا أو ناموسًا من بني إسرائيل ما كان أمره ليخفى وهو يعيش في المدينة، وهي مجمعهم ومدرستهم ومقرهم ومستودعهم وحصنهم وركنهم ومثواهم، يدبرون فيها مؤامراتهم، ويحشدون في آطامها جموعهم، فلو وجدوا خرم إبرة في حياته أو تعليمه أو آيات قرآنه أو حديثه لاستلُّوا ألسنتهم من أغمادها وأقلامهم من محابرها وأقاموا عليه حربًا عوانًا، وقد سمح لهم الرسول في أول الأمر أن يجالسوه ويناقشوه في الطبيعة وحركة الأرض وسر الخليقة ومساتير الأديان واللاهوت والفلك وما وراء الطبيعة والروح والأهلة وغاية الإنسان من الوجود والحساب والثواب والعقاب، وقد كانت هذه المسائل الثلاث الأخيرة خفية عليهم؛ لأن توراتهم خلو من ذكر القيامة والبعث والنشور وتواريخ الأنبياء القدامى وقارون وهارون وجالوت وهاروت وماروت والإنباء بالغيب والزنا والخنا والزواج والطلاق وطمث النساء والذبح والفوائد والربح والخمر والقمر والنرد والشرد، ولم يتركوا مسألة عرضت لآبائهم وأجدادهم على مدى مائتي وألفي سنة حتى سألوه عنها ودققوا وحققوا بعد أن جهزوها في معابدهم واستعدوا لها، فكان يجيبهم على الفور بأحكم الإجابات وأسدِّها وأوسعها.
وهؤلاء الناس لا تلين قلوبهم ولا تقتنع عقولهم، وصدق من قال: إن أشد الآذان صممًا أذن لا يريد صاحبها أن يسمع.
وهناك إجماع على أن من دعوات اليهود قبل مبعث الرسول إذا قاتلوا مشركي العرب في يثرب كأسد وغطفان وجهينة وعذرة أن يقولوا: «إنَّا نستنصرك بحق النبي الأمي الذي وعدت أنك باعثه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم.» فلما أغلظوا على الرسول وتناسوا قولهم ودعاءهم جاء القرآن يدمغهم بنصه: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ.
وهذا التحدي ظاهر جليٌّ، فلو كان مخالفًا للحقيقة لردوا عليه واحتجوا، ولكنهم خرسوا وأخذوا يسألون الرسول عن أشياء — ذكرنا بعضها — ليلبسوا الحق بالباطل، وإنما سألوه لا ليستفيدوا، ولكن تعجيزًا وتغليظًا، وكانوا يكمنون له فإذا رأوه يمشي مع أحد أصحابه في حرث أو حقل أو تحت ظلال النخيل يتوكأ على عشيب هاجموه وأمطروه وابلًا من الأسئلة العنيفة، وإليك أنموذجًا من جدلهم لما نزلت في حقهم آية: وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
قالوا: أوتينا علمًا كثيرًا — التوراة — ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا! فتلا عليهم: لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا.
قالوا: نحن مخصوصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ قال: نحن وأنتم لم نُؤْتَ من العلم إلا قليلًا. قالوا: ما أعجب شأنك (كذا!) ساعة تقول: ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، وساعة تقول هذا؟!
وسألوه عن الساعة وموعد قيامها، وعن الفرق بين جبرائيل وميكائيل، وأن الأول ملاك الحرب والثاني ملاك الرحمة؛ فلِمَ نزل عليه الأول ولم ينزل عليه الثاني؟! ولو نزل الثاني لآمنوا به … وعن آيات موسى التسع وهي المسماة عندهم «العشر كلمات»، فسردها الرسول سردًا، وسألوه عن خلق السموات والأرض وما بينهما، وتجرءوا يومًا فسألوه عن خلق الله نفسه ومن أية مادة هو بما أنه خلق الملائكة من نور الحجاب وآدم من حمأ مسنون وإبليس من لهب النار والسماء من دخان والأرض من زبد الماء؟ فغضب رسول الله حتى امتقع لونه، أتراهم يدسون وينافقون، إذا كان الله قد خُلق من مادة فمن خالقه؟ فإن كان له خالق فكيف يُعبد المخلوق ويهمل الخالق؟! ألا يغضب رسول الله من تلك الفتنة وتلك الحماقة؟!
يا محمد، ما أول أشراط الساعة؟ ما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ما بال الولد ينزع إلى أبيه أو أمه؟ (قوانين الوراثة في التناسل) فأجاب، ودل بإجابته على أنه أعلمُ من أعلمِ أحبارِهم، وأنه ينبئهم بغيب الأمور ويخالفهم من الساعة الأولى في كل شيء من عبادتهم، حتى قالوا: «ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئًا إلا خالفنا فيه!» فأثبتوا غناءه عنهم، وسألوه عن السواد الذي يُرى في القمر فقال: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.
وهو جواب صحيح في العلم الحديث؛ لأن القمر جرم خامد لا حياة فيه.
فانمحاء آيته خير تعبير عن انطفائه، وسألوه عن البرق والرعد وعن كل ظاهرة في السموات والأرض، فلم يتركوا شاردة ولا واردة، فإن سلموا به أنه أمي؛ وهو أمر لا شك فيه، فمن أين يأتيه هذا العلم كله، ما داموا هم يمتحنونه ولا يمدونه، وما دام قد سلك مع نصارى نجران وأساقفتهم ومطرانهم وبطركهم هذا المسلك فأسكتهم.
فما كان أطول صبره وأفسح صدره وأعمق حلمه وأوسع عطفه! ولو أنهم سألوا ليقتنعوا ليُسلموا لكان خيرًا، ولكنهم سألوا ليُغلظوا ويُوقعوا، فهم على كل حال عناصر سوء وشر ونكاية وغيظ.
وكان منهم من يأتي ليقبِّل يديه ورجليه ويقول: أخاف أن أسلم فيفتك بي قومي! ومنهم من يطلعه على دسائسهم ونياتهم، ومنهم من ينتصر للحق حنقًا على قومه، وكلهم متقلبون كالأفاعي، متحايلون لؤمًا، لا يستقرون على رأي، ولا يتنحون عن باطل، ولا يثبتون على حق.
•••
ووراء هؤلاء جميعًا ومن أعظم أعوانهم حزب المنافقين وعلى رأسه عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول الذي وصفناه في كلمتنا العاجلة على المنافقين. مَن كان ابن أبي الذي رشحته قبائل يثرب للملك قبيل وصول النبي إليها؟
في يوم بعاث الذي تكلمنا عنه رفض عبد الله بن أُبَيٍّ الخزرجي أن يفتكوا برهائن من الأوس، ووصفه صاحب الأغاني بأنه كان «سيدًا حليمًا»، وأثبت قوله لعمرو بن النعمان: «هذا عقوق ومأثم وبغي، فلست معينًا على سليمان بن أسد القرظي (يهودي حليف للأوس) ولا أحد من قومي أطاعني.» فخلى عنه وأطلق أناس من الخزرج نفرًا فلحقوا بأهليهم.
واجتمعت الخزرج وجاءت إلى زعيمها عبد الله بن أُبَيٍّ وعرضوا عليه مقاتلة الأوس المنضمين إلى قريظة والنضير (أشهر قبائل اليهود) قتال فناء، فخطب فيهم عبد الله وقال: إن هذا بغي منكم على قومكم وعقوق، ووالله ما أحب أن رجلًا من جراد لقيناهم، وقد بلغني أن الأوس يقولون: هؤلاء قومنا منعونا الحياة، أفيمنعوننا الموت؟! والله إني أرى قومًا لا ينتهون أو يهلكوا عامتكم، وإني لأخاف إن قاتلوكم أن يُنصروا عليكم لبغيكم عليهم، فقاتلوا قومكم كما كنتم تقاتلونهم، فإذا ولوا فخلُّوا عنهم، فإذا هزموكم فدخلتم أدنى البيوت خلَّوا عنكم.
هذه الخطبة تدل على العقل والزعامة والجنوح إلى السلم، فهو يقر بأن الأوس يظلمون وأنهم مستقتلون، فإذا كان لا بد من حربهم فلا تكون حرب فناء، بل ينتهي النضال إذا أظهر فريق عجزه عن الاستمرار، أي إنه يجعل الحرب في أضيق مجال، ولكن بعض قومه اتهموه بممالأة اليهود، فقال له عمرو بن النعمان الخزرجي: «انتفخ والله سَحْرُك يا أبا الحارث حين بلغك حلف الأوس قريظة والنضير.»
فغضب ابن سلول وقال: «والله لا حضرتكم أبدًا ولا أحد أطاعني أبدًا.» ثم مرت به نسمة من الكهانة والدعاء على صاحبه الذي غاظه فقال: «ولكأني أنظر إليك قتيلًا تحملك أربعة في عباء.»
وانشق حزب الخزرج، فريق تبع ابن سلول وانسحب، وفريق تبع عمرو بن النعمان البياضي وولوه أمر حربهم.
وإذن يكون ابن سلول صاحب رأي وصاحب أتباع وذا إرادة ينفذها وذا نظر بعيد في الحوادث وله ضلع مع اليهود حتى أبى أن يقاتلهم ولو شاء قومه قتالهم، فهو إذن زعيم سياسي يطاع.
وكان أبو أسيد حضير الأوسي سيدًا مطاعًا، ويسمونه حضير الكتائب الأشهلي، وهو والد أسيد بن حضير الذي استقبل النبي على باب المدينة بخطبة يهنئه بظفره وعوده سالمًا. وكان سيدًا نَدْبًا خطيبًا فحرض الأوس على الحرب فصام واعتزل الشراب والطعام، وأقسم حضير الكتائب أبو أسيد ألا يشرب الخمر أو يظهر ويهدم «مزاحمًا» أطم عبد الله بن أُبَيٍّ؛ لأنه سيد الخزرج، فلما التقى الجمعان؛ الأوس ومعهم قريظة وبنو النضير، والخزرج وحلفاؤهم، فانهزمت الأوس، فطعن حضير بسنان رمحه فخذه ونزل وصاح: وا عقراه! والله لا أَرِيم حتى أُقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تُسْلموني فافعلوا. فتعطفت عليه الأوس قومه، والتفوا حوله، وأصاب سهم من الأوس عمرو بن النعمان رأس حزب الحرب الخزرجي فقتله، زعمت بنو قريظة أنصار الأوس أن أبا لبابة هو الذي أصابه.
أين كان ابن سلول في تلك اللحظة الحامية التي يُفصل فيها بين فريقين من قومه؛ أحدهما أقرب إليه وقد خرجوا عليه؟ كان يتردد على بغلة له قريبًا من بعاث يتجسس الأخبار؛ إذ طُلع عليه بعمرو بن النعمان ميتًا في عباءة يحمله أربعة إلى داره، فلما رآه قال: من هذا؟ قالوا: عمرو بن النعمان. قال: ذق وبال العقوق! لأنه كان نصحه بالمسالمة فسبَّه، فأنذره ابن سلول بهذه الخاتمة، فشمت به ولم يعفُ عنه حتى بعد أن رآه محمولًا في عباءة كما تكهَّن.
انهزمت الخزرج ووضعت الأوس فيهم السلاح، وسلبتهم قريظة والنضير، وحملت الأوس بطلها حضيرًا من الجراح التي به وهم يرتجزون أنشودة النصر:
وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها، ولم يفز بالغنيمة إلا اليهود الذين يودون أن يهلك الحزبان فيخلو لهم الجو.
وأقسم كعب بن أسد القرظي اليهودي ليُذلنَّ عبد الله بن أُبَيٍّ وليحلقن رأسه تحت أطمه (مزاحم)، وهذا اليهودي من بني قريظة حلفاء الأوس تجاهل الدور الذي قام به ابن سلول لمنع الحرب؛ لأن اليهود كانوا يريدونها؛ ليهلكوا الأوس والخزرج جميعًا! وكان عبد الله بعد انتهاء المعركة وانتصار الأوس على قومه الخزرج قد لاذ بالفرار ولجأ إلى حصنه وأقفل أبوابه، وهذا الحصن من آطام المدينة واسمه مزاحم، كما تسمي أعيان أوروبا قصورهم في الريف.
ولكن الأوس أجمعوا على أن يهدموا حصن ابن سلول؛ تنكيلًا بسادة الخزرج، وحلَف حضير ليهدمنه، فذهب إليه كعب بن أسد القرظي ونادى ابنَ سلول: انزل يا عدو الله!
فأطل عليه عدو الله أو عبد الله فقال: أنشدك الله وما خذَّلت عنكم. أي وما فعلته مع قومي حتى كدت أمنعهم عن حربكم (وهو الشجار الذي نشب بينه وبين عمرو بن النعمان حتى تكهن بموته وحمله في عباءة)، فسأل كعب عمَّا قال فوجده حقًّا فرجع عنه.
وكان أبو عامر الراهب الوثني الأوسي الذي قام بدور ذميم في موقعة أحد قد حلف ليركزن رمحه في أصل مزاحم أطم عبد الله، فأحاطوا به وكانت امرأته بنت ابن سلول نفسه فلم تمنعه هذه المصاهرة، فأطل عليهم عبد الله وقال: إني والله ما رضيت هذا الأمر ولا كان عن رأيي، وقد عرفتم كراهتي له؛ فانصرفوا عني. وكان حنظلة بن الراهب في حصن جده لأمه جميلة زوجة الراهب وبنت ابن سلول، فلما رأى أن أباه لا ينصرف قال لجده: إن أبي شديد الحب لي فأشرفوا بي عليه ثم قولوا: والله لئن لم تنصرف عنا لنرمين برأسه إليك. فقالوا له ذلك، فركز رمحه في أصل الأطم؛ برًّا بيمينه؛ هذا الخاسر الذي لا يمين له، ثم انصرف عنهم.
•••
هذه صورة واضحة جلية لأخلاق عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول الذي كان مرشحًا للملك قبل قدوم النبي والذي انقلب رأس المنافقين؛ كان يتفانى في حب اليهود ويتفانى في الجنوح إلى السلم، يدفع له أي ثمن ويشمت بقومه الذين أرادوا الحرب؛ زعمًا منه أن الأوس مظلومون، ويتمنى الموت لمن يخالفه في الرأي، ويشمت به إذا رآه ملفوفًا في عباءة ومحمولًا قتيلًا مرابعةً إلى بيته، فلم يُنسِه الموت حقده، وقد اتَّجر بعد ذلك بمسلكه، ووصفه عند اليهود والأوس بأنه تخذيل لقومه، والصورة صادقة؛ لأنها مدونة قبل الإسلام يؤيدها الشعر وتاريخ يوم بعاث.
وهذا هو الرجل الذي وقف للنبي واضطهده وحالف عليه اليهود وأعانهم وأعان قريشًا وانسحب بجيشه وجيش حلفائه اليهود يوم أحد، فلما دارت الدائرة على المسلمين شمت بهم، ولما عاد النبي وأصحابه إلى المدينة تملقهم.
تكاد تكون صورة لبعض رجال السياسة في عصرنا الحديث عندما تدول دولة، كأنك تصف أخلاق وزير عثماني في عهد عبد الحميد أو فارسي في عهد مظفر الدين شاه، أو أرمني في عهد إسماعيل!
وإذن لن تُدهش للدور الذي مثله رأسه المنافقين مع المسلمين منذ وصولهم إلى أن هلك.
(٨) القضاء على بني قينقاع في المدينة
كل الذي دونه المؤرخون عن سبب القضاء على تلك العشيرة مختلق؛ فقد زعموا أن امرأة عربية قدمت المدينة بعد بدر بشهرين بإبل وغنم تبيعها، فباعته بسوق قينقاع وجلست إلى صائغ منهم فجعل اليهود يراودونها عن كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ كل فريق قومه فوقعت الموقعة.
هذه القصة المنتحلة مأخوذة بحذفارها من أسباب حرب الفجار الأولى، وهذا يشككنا فيها، ويظهر أنها «عقدة» كل رواية حربية لا يُعرف أصلها؛ سهلة، مؤثرة، امرأة وحيدة ذات جمال وشباب ومال تقصد إلى دكان صائغ، فيمزج بين الغزل والتجارة، كما يحدث كل يوم في دكاكين صاغة القاهرة ونراه بأعيننا، واليهود أهل فجور وفسق ولا كرامة للأعراض عندهم، فلا غرابة أن يفعلوا هذا، وكانت قينقاع صاحبة السوق وكلهم صاغة، ولكن هذه القصة منقوضة ومرفوضة؛ لأنها مختلقة ومُعادة.
والحق أن النبي حارب بني قينقاع؛ لأنهم أبوا أن يعترفوا بانتصاره في بدر، لم يتحرش النبي بهم، ولكنهم قالوا وهو عائد من ظفره المعجز: «ولو!»؛ ولو أنك انتصرت بفئة قليلة على فئة كبيرة، ولو أنك قهرت قريشًا التي كنت تخشاها، ولو أنك صرت سيد المدينة وملكها، فلا نخضع لك ولا ندخل دينك ولا نحترمك. وبلغة سياسية أظهروا البغي بعد بدر والحسد ونبذوا العهد المكتوب في الصحيفة فغدروا بالعهد؛ فكان مسلكهم سببًا لتوتر العلاقة.
وكان النبي قد ضاق ذرعًا باليهود والمنافقين، وبنو قينقاع شوكة في جنب المسلمين؛ لأنهم في المدينة نفسها، وقد رأينا الشارع الذي كانوا يحتلونه ولعله لم تتغير أوضاعه وإن تغيرت مبانيه، ولا يزال مشغولًا بصاغة وتجار من الهنود والجاويين والغرباء عن المدينة. لم يحتفلوا به ولم يهنئوه ولم يظاهروه، بل تظاهروا بالشجاعة والازدراء للنصر العظيم، وحقهم لو كانوا على العهد أن لا يكونوا له أو عليه، فكانوا عليه بأقوالهم وفعالهم.
كان عدد قينقاع أصحاب أغنى أسواق المدينة ثلاثمائة محارب وأربعمائة أعزل، أغنى أهل البلاد؛ لأن تجارتهم الذهب والفضة والإقراض بالربا والرهون، وقد فُطروا على خلة المعاكسة المحنقة لغير غاية، المعاكسة والمكايدة لأجل المعاكسة والمكايدة، والنفخة الكاذبة والظهور بما ليس فيهم، والكلام الجارح والتهكم المرسوم على الوجوه والأحقاد الكامنة في القلوب التي تطفح أحيانًا وتطغى على الألسنة والأعين. كانوا ينتظرون معجزة؛ ليؤمنوا بمحمد كالتي تمت لأحد أبنائهم على جبل الكرمل، فظن الرسول أن في بدر معجزة كافية لإقناعهم، فقصد إلى سوقهم وسار بين ظهرانيهم يحييهم ويتودد إليهم ويسألهم رأيهم في ذاك الذي أتمه الله على يديه، ألا يعدل انتصاره قبول الضحية والتهامها بالنار المقدسة؟! طبعًا إنها لمعجزة أعظم ألف مرة من التهام قطع من الغنم بنار من السماء، فكان جوابهم جواب المخنَّثين الثقلاء، فوصفوا قومه من قريش بالجبن والضعف، أي إنهم استصغروا شأنه ونسبوا النصر لا لله ورسوله والمؤمنين من أهل بدر، ولكن لخيبة قريش وعجزهم، وتباهوا بقومهم لو أن محمدًا تصدى لحربهم، والله يعلم ورسوله أنهم أجبن من الجبن، وأنهم أشد الناس حرصًا على حياة، وأن عهد حروبهم قد انقضى وقد صاروا صناعًا قاعدين لا رجال حرب وكفاح، وما أبعدهم الآن عن يوم بعاث آخر أيام حروبهم، وقال الله ساعتئذ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ الآية.
لم يكتف بنو قينقاع بتهديد خفي بالحرب وتصغير شأن بدر، بل قاطعوا الذين أسلموا من ملتهم؛ مثل عبد الله بن سلام وكان من أحبارهم، وسخروا من شعائر الإسلام سخرية جارحة، وغاظهم أن الله حرم الخمر في تلك الأيام فجرت شوارع المدينة بالنبيذ المسفوك والدنان المحطومة، وقد عزا اليهود هذا التنزيل إلى شجار نشب بين بعض الصحابة وعقر بعيرين لعلي بن أبي طالب.
فتأثرت تجارة اليهود عامةً وبني قينقاع خاصةً؛ لأنهم كانوا يجلبون الأنبذة من الشام ويربحون بها أرباحًا طائلة، وما كان منه جيدًا يُستخرج من نخيل المدينة ومعظمها مرتهن لديهم، وتحريم الخمر يقضي على هذه الصناعة ويجعل التمر مأكولًا لا مشروبًا، وهو أقل ربحًا من «نبيذ البلح»، واليهودي يرجو أن تعض قلبه قبل أن تعض درهمه وديناره! فغالوا في خصومتهم وأظهروا العصيان والغدر؛ لئلا يطمع المسلمون في ضعفهم، ولكن المسلمين كانوا يعدونهم أشجع اليهود وأغناهم حيازة أسلحة؛ فمتاجرهم عامرة بالدروع الفاخرة وبيوتهم تكاد تكون حصونًا مقفلة، بيت اليهودي حصنه وقلعته كبيت السكسوني.
فقال النبي: «ما على هذا أقررناهم.» أي إنهم خالفوا شروط الصحيفة وهي المعاهدة، فتبرأ حليفهم عبادة بن الصامت، وكان رجلًا جسيمًا جميلًا أصيلًا في الجاهلية والإسلام، مات في العقد الثامن بعد حياة مباركة، وهو أنصاري خزرجي ومن نقباء الأنصار، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع الرسول، واستعمله النبي على بعض الصدقات، وكان من الخمسة الذين جمعوا القرآن في زمن النبي، وكان يعلم أهل الصفة، وأول من تولى قضاء فلسطين، ونصره عمر على معاوية، وكان في البيعتين الأولى والثانية، وعاهد الله على ألا يخشى في الحق لومة لائم؛ فلما رأى الحق في جانب المسلمين وكان حليفًا لقينقاع قال للرسول: «أبرأ من حلف هؤلاء الكفار.» ولكن رأس النفاق تشبث بهم ولم يتبرأ من حلفهم، ونزلت فيه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الآية.
ولكن لا حياة لمن تنادي، فلم يكن رأس المنافقين ليسمع أو يعي، وكان يموت حبًّا في اليهود، ولما كان الرسول أشرف وأسمى وأعدل من أن يقاتل قومًا قبل أن ينذرهم ببلاغ أخير، وقد أنزل الله: قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ الآية.
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ.
ردًّا على أنهم نسبوا نصره ببدر لجبن قريش؛ إذ قال قائلهم والرسول يدعوهم للصلح والإسلام: يا محمد، أتظن أننا قومك؟! فلا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبت لهم فرصة، إنَّا والله لو حاربناك لتعلمن أنَّا نحن الناس!
فما تظن هؤلاء الشجعان قد فعلوا بعد هذه الطنطنة والشنشنة؟ إنهم لاذوا ببيوتهم وأغلقوها عليهم، فحاصرهم أسبوعين فلم يبرز منهم أحد ولم يبادلوا نبلًا ولم يُلقوا حصاة! ونسوا ما تهددوا به وما نوهوا به من علم الحرب والشجاعة! ولم يستعملوا درعًا ولا خوذةً ولا سيفًا، وكانوا سبعماية؛ بين دارع وحاسر، ولكن قذف الرعب في قلوبهم وعرفوا بالتجربة كيف هُزمت قريش لا جبنًا ولا وهنًا، وفي ختام الأسبوعين عندما بدأت مخازن أقواتهم في بيوتهم تخلو وضاقت أنفاسهم من سجنهم الاختياري، ولم يمد أحد من بني جلدتهم يد المعونة؛ لأن الشقاق دبَّ من قديم بينهم؛ لانقسامهم في الدين، وتزاحمهم في التجارة واختلافهم في الرأي في معاملة المسلمين، عرضوا شروط الصلح وطلبوا من الرسول أن يجلوا عن المدينة بنسائهم وأولادهم، وله الأموال والسلاح والبيوت، ولم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع كعادتهم في كل بلد، يملكون المنقول ويرهنون العقار، فإذا صفَّوا مراكزهم باعوا ديونهم وعقودهم ورهونهم لمن يشتريها، أما البيوت فلا حيلة فيها، فأرادوا أن ينجوا بجلودهم، ولا بأس أن تكون نساؤهم قد أخفت كثيرًا من المصوغ فيما ستر الله من أبدانهم، ولا نرى الرسول قد أمر بتفتيشهن أو فحصهن؛ فقد كان أعلى وأكرم من أن يفعل، ولكن كل خروج لليهود من أي مكان لا يخلو أن يصحبه إخفاء الذهب، فلما نزلوا من بيوتهم أمر الرسول أن يُكتَّفوا فكُتِّفوا، فأراد قتلهم فكلمه فيهم نصيرهم وبوقهم ورأس المنافقين ابن سلول وألح عليه فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع الرسول من خلفه فقال: «ويحك أرسلني.» وغضب الرسول حتى رأوا لوجهه سمرة؛ لشدة غضبه وقال: ويحك أرسلني! فقال المنافق: والله لا أرسلك حتى تحسن في أوليائي؛ فإنهم عترتي (كذا!) وأنا امرؤ أخشى الدوائر! فقال الرسول: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم. خذهم لا بارك الله لك فيهم، وأمر بإجلائهم عن المدينة، ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت حليفهم السابق، ولم يكتفِ المنافق الأكبر بمضايقة الرسول، أحلم أهل الكون وأصبرهم على أذى، بما فعل من توريطه وتضييق الخناق عليه، وهو عداوة مكتومة وغل مستور وراء «القسم الكاذب»، ولم يتقدم أحد من الصحابة بضرب عنق ابن سلول؛ خوفًا على الرسول، ولأنه لا يرضى أن يقتل أصحابه؛ ولو كانوا من هذا الصنف المزيف الزائغ الخسيس المراوغ، لم يكتفِ بهذا بل قصد إلى بيته ليراجعه في إقرارهم (أي يلغي قرار الإجلاء!) فرفض لقاءه وحُجب عنه، فأراد الدخول عليه عَنْوَةً؛ ليمثل دور إدخال اليد في الدرع، فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه فانصرف مغضبًا، ولم تكن إصابته بإذن الرسول ولا بقصد الصحابي ولكنها جاءت لمقاومته وكان بادنًا دموي المزاج ثقيلًا، فلما رآه بنو قينقاع ملطخ الوجه بالدم قالوا: «لا نمكث في بلد يُفعل فيه بأبي الحباب هذا ولا ننتصر له.» وتأهبوا للجلاء، كأنهم يستطيعون الانتصار لأحد! ولو تمكنوا لانتصروا لأنفسهم، شنشنة نسمعها من أخزم! وقسم الرسول غنائمهم على أصحابه ولا سيما سلاحهم الشهير بالجودة وغلاء الثمن.
خرج بنو قينقاع على ركائبهم كاسفي البال نادمين على طغيانهم وبغيهم إلى أذرعات أحد بلاد الشام بوادي القرى، ولم يَدُرِ الحولُ عليهم حتى هلكوا جميعًا إلا رجلين ورد ذكرهما في الواقدي (ص٣٩٨) تمكنا من البقاء في المدينة، وليس غريبًا أن يبقى رجلان من سبعماية؛ أولهما: رفاعة بن زيد، استمر يحمل لواء الناقمين من اليهود سرًّا إلى السنة الخامسة هجرية، وزيد بن اللكيب أقام إلى السنة التاسعة.
فأي خير أفاده بنو قينقاع من العلم والشجاعة وهم لم يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم؟! إن علمًا وشجاعةً لا تؤيدهما قوة البقاء والكفاح لا خير فيهما، كانت قينقاع أغنى اليهود وأقواهم، ولكن المسلمين لم يطمعوا في أموالهم، وإنما صادروها كما تفعل أي دولة حديثة في فريق من السكان لم يرعوا حرمة الجوار ولم يحفظوا العهود المعقودة، فلا أقلَّ من أن يعيشوا في كنف رجل قوي صبر معهم وتحمل أذاهم وانتصر على خصومه؛ فأرادوا التقليل من نصره!
وترى المستشرقين يُقرُّون الرسول على فعله؛ يقول مرغليوث: «لم يكن هذا الفعل في تلك الفترة مخالفًا للسياسة» (ص٢٨٦). ولا يملك أحد غيره أن يقول غير ذلك مهما كان متحزبًا لليهود، حتى ولو كان رأس النفاق نفسه الذي تتكشف حقيقته يومًا فيومًا.
وفي هذه الفترة انتهز علي بن أبي طالب فرصة الرضا وهو أحد أبطال بدر فخطب إلى الرسول ابنته فاطمة الزهراء، وكان عمره إحدى وعشرين سنة، وهي أصغر منه بست سنين فأصدقها أربعماية درهم، وأولم لها وليمة فاخرة، وباركها الرسول، وفرحت المدينة بأفراح الأنجال، وأقامت معالم الزينة، وأطعموا الفقراء، وبارك الله في الختن، لعلي أبي الحسين والحسن، وفيها أن عليًّا شرع في بيع درعه؛ ليحصل على الصداق؛ لأنه من غنائم بدر بأكثر من جملين اثنين، فرآها عثمان تعرض في السوق فأدركته نخوة النسب والصحبة وقال: هذه درع عليٍّ فارس الإسلام لا تباع أبدًا. ورد الدرع والمال وأخذ عهدًا على غلام علي أن لا يبوح بأمره. وكان عثمان من أهل المروءة والنجدة، وقد اشترى أرضًا مرتين بألوف الدراهم؛ لتوسعة المسجد، واشترى بئر أريس؛ ليشرب منها المسلمون، وكان له جانب من الخير العام لا يُنكَر. وأقام علي وفاطمة في بيت الرسول، وما يزال بيتهما داخل مقصورته حتى اليوم، وقد نزلت في علي ثلاثماية آية من القرآن الكريم، وأكثر ما أخذه المفسرون منه، وكان من أشجع المسلمين وأخطبهم وأبلغهم حجةً وأصدقهم وأطولهم صحبةً؛ بل كان بمثابة الابن الصحيح للرسول، وهو ابن عمه وختنه وربيبه وبطل جيوشه في جميع المواقع كلها.
وكان الرسول شديد الحرص على شعور فاطمة، وهي وأخواتها وأولادهما أحب الناس إليه، وهم وعلي أهل البيت بنص القرآن وحديث الرسول وفعله. وكان يحرص ألا تغار ولا تُغاظ ولا تهتاج؛ فقد استأذنه بنو هشام بن المغيرة في أن يزوجوا ابنتهم من علي بن أبي طالب مع فاطمة فقال: «لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم؛ فإنما هي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.» ومن ذلك اجتماع الضرة.
كان رسول الله صريحًا في مسائل القرابة والأسرة؛ فقد ظن بعض بني شمس ونوفل أن فضل بني هاشم عليهم في غنائم قينقاع مع أنهم ينحدرون جميعًا من أصلاب عبد مناف، فقال لهم: «إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد هكذا (وشبك بين أصابعه)، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام.»
فهذه المسائل الثلاث؛ تصريحه بأسماء أهل البيت وتحديدهم على سبيل الحصر بمسمع ومرأى من إحدى زوجاته — سودة بنت زمعة، وغضبه لزواج علي من فتاة أخرى مهما بلغت في الغنى والشهرة فلن تبلغ شأو فاطمة الزهراء، وتعريفه بفضل بني هاشم. هذا لا يمنع أنه خلع لقب السيادة على سلمان الفارسي عندما قال: «سلمان منا آل البيت.» فلم يكن إلا لقبًا كبيرًا، كما جعل بسمرك برنسا؛ جزاءً له على خدمة وطنه ومولاه.
كانت الغزوات اللاحقة سرايا تأديب وحماية للمدينة من أعراب يطمعون في أطراف العاصمة لا ليغزوا ولكن ليسلبوا، وكان معظم أعمالهم باتفاق مع اليهود أو أبي سفيان الذي لم يكن قد استعد بعدُ لموقعة أحد، ولكن الرسول كان يخرج فيها جميعًا بفِرق لا تزيد عن نصف ألف رجل ويترك على المدينة رجلين من خيرة الصحابة كعثمان وابن أم مكتوم، فإن لقي جيشًا حاربه أو غنيمة ظفر بها على أنها عقوبة لقطاع الطريق والجناة الذين يقتلون رجلًا أو يحرقون نخلًا وعنبًا، كما فعل أبو سفيان، ولا نرى ضرورة لذكر هذه المغازي بالتفصيل، إلا أنها كانت في كل شهر تقريبًا، وقد قصد الرسول بها إلى تدريب جيشه وتدريب صحابته على الحكم في غيبته، وإدخال الرعب على من يجترئ على عاصمته والضرب على أيدي الخطافين، إلا أن واحدة منها تستحق العناية؛ لأنها دالة على حماية الله لشخصه وعلى شجاعته النادرة وقدرته وهو في منتصف العقد السادس على حركات الفروسية والدفاع عن النفس حتى لو أخذه العدو على غرة؛ ففي الشهر الخامس من هجرته أي أول السنة الثالثة ﻫ، خرج إلى غزوة تعرف بثلاثة أسماء (ذي أمر، أنمار، غطفان) فلما سمعت به الأعراب من المشركين وأحلاف اليهود وقريش لحقت بذُرى الجبال، فعسكر بذي أمر وخرج يتمشى بمفرده كعادته، فأصابه مطر فبل ثوبيه فخلعهما وعلقهما على شجرة حتى يجفا، فرآه نفر من قبيلة غطفان فقالوا لسيدهم وقائدهم دعثور بن الحارث الغطفاني: «انفرد محمد عن أصحابه، وأنت لا تجده أوحد منه هذه الساعة فانتهزها لتقتله.» فأخذ سيفًا صارمًا ثم انحدر ورسول الله مضطجع ينتظر جفاف ثوبيه، فلم يشعر إلا بدعثور واقفًا على رأسه بالسيف وهو يقول: من يمنعك مني يا محمد؟ وكان دعثور شجاعًا نبيلًا لم يقدم للاغتيال ولكن للمحاربة، وكان الرسولُ أعزلَ، فنظر إليه نظرة أفقدت دعثورًا توازنه فوقع السيف من يده، فأخذه الرسول وقام على رأسه وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، فقال الرسول: قم فاذهب لشأنك. فقال له: أنت خير مني. قال الرسول: أنا أحق بذلك منك. ثم رجع دعثور إلى قومه فلقوه بضجة من التأنيب والعجب: ما رأينا مثل ما صنعت! وقفت على رأسه بالسيف؟ فقال: والله لا أكثر عليه جمعًا. وذكر القصة ثم أسلم، وفي اسم دعثور بعض خلاف؛ فقد ذكره بعضهم غورث بن الحارث وربما تصحف أحد الاسمين من الآخر، ولكن الإجماع على الواقعة بتفصيلها.
(٩) شخصية النبي بعد بدر
سافر الرسول من المدينة إلى بدر مثقل الكواهل بالهموم، وبذل من جهد الجسم والنفس ما بذل في الاستعداد إلى النصر، وعاد آمنًا مطمئنًّا، وقد أدخل على المدينة بدخوله حيوية جديدة كانت في حاجة إليها، ولكن اليهود كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، ولم يكونوا على شيء من حذق أحفادهم الذين جاءوا بعدهم بمئات السنين، يضاربون على الحرب والسلم ويضاربون على الرجال ويقامرون على الحظوظ المرتقبة وكثيرًا ما يربحون، فلو أنهم فطنوا إلى فرصة المضاربة على بدر وتعقبوا الموقعة وتجسسوا أخبارها كما صنع عبد الله بن أُبَيٍّ يوم بعاث، وسارع المراقب إلى قبائلهم يخبرهم بما رأى وسمع، إذن لعلهم عدَّلوا خططهم وحولوا عجلتهم عن مآزق الطرق وسلكوا مسلكًا حسنًا لأنفسهم، ألا ترى في التاريخ كيف فاز روتشيلد في موقعة وترلو بأموال طائلة؛ لأنه عرف خبر الهزيمة قبل غيره، وفاز قبل ذلك لأنه عرف انتصار أوسترليتز قبل غيره، وفاز هو وإخوته كلما خطا الفاتح المنصور خطوة في الغرب والشرق؛ إذ لم يكن لهؤلاء الصائدين المهرة إلا الصيد في الماء والهواء وتنسُّم الأخبار؛ لتسنم ذروة الأسواق، ولكن يهود المدينة ألِفوا الرقاد وارتهان النساء والأولاد ومكايدة المسلمين، ولم يعيروا نفعهم الذاتي جانبًا من الالتفات.
ماذا يكون تاريخهم لو أنهم أخلصوا لأنفسهم وعهدهم المدون في الصحيفة، ثم أسلموا وخدموا الدولة في شئون المال والإدارة وتشجيع الصناعة في مهدها؟! ألم يرَ اليهود كيف نظم الرسول حياة المدينة الداخلية والخارجية، وأنه إذ يجرد الجيوش ويحشد الحملات ويوجِّه السرايا لا يحتاج إلى معونتهم ولا يقصد إليهم في قرض؟ ألم يدهشهم أن رجلًا واحدًا يُسيِّر دفة الأمور في بلد كبير ولا مال لديه مما يُحسب مالًا تُدوَّن له الدواوين ويُستوزر له الوزراء، وأنه لم يمضِ عليه عامان وشهران حتى استغنى أهل المدينة من مهاجرين وأنصار، وقد اتسعت أمامه الآفاق وتفتحت أبواب النجاح وسددت خطاه وتحققت آماله وأحلام المسلمين، ولكن اليهود ازدادوا عمًى وصممًا كأنهم يسعون إلى حتوفهم بأظلافهم ويرون أقدامهم تريق دماءهم، فكلما نزلت آية فيها إنذار ووعيد استهزءوا بها، وكلما استكمل الرسول تشريع المسلمين غمزوا بأعينهم ورفعوا حواجبهم وأشاروا ببنانهم؛ ليوهموا أن ما جاء ونزل إنما ذنَب وذيل من شريعتهم الشوهاء المحرفة التي أكل عليها الدهر وشرب، وأدركتها العفونة بعد أن لبثت في معاطن الأحبار ومزابل الهياكل المنتنة بروائح الضحايا البشرية وغيرها أكثر من ألف عام.
وإن المرء ليحمد الله ويثني على تعصب اليهود وجمودهم، فإنهم لو دخلوا في الإسلام جملةً لأفسدوه بدسِّهم وخبثهم، ولجعلوا من إسلامهم الظاهر مؤامرة خفية يقضون بها على الحياة الجديدة، وإنهم أول من يشترك في جرائم الاغتيال السياسي، وأول من يدس السم في الطعام، وأول من يبيع أسرار الدولة بالدرهم والدينار، وأول من يفرط في الفرائض ويتهاون في العبادات، ويقاوم أداء الزكاة ويتحلل من أشراط الصدقات، ويبيع أحكام القضاء بيع السماح، ويختلس في المواريث، ويغتصب أموال القُصَّرِ، ويأكل أموال اليتامى والضعفاء، فلا يأسف المؤرخ على أن اليهود استمروا في طغيانهم، ومد الله لهم في بغيهم وكبريائهم وغرورهم؛ فقد كان هذا وقاية للإسلام منهم وحمايةً للمؤمنين وبعدًا لهم وإقصاءً، كبعد الجراثيم المهلكة والأمراض الفتاكة؛ فلا أخلاق يُقتدى بها ولا عقول ناضجة تثمر ثمرًا يانعًا ولا قلوب خالصة ولا أجسام قوية تتحمل مصادمة القتال ولا مال حلال يدخله المسلمون في صلب دولتهم فيبارَك لهم فيه.