غزوة الخندق
كان محمد ﷺ شديد الحذر؛ لأنه كان عربيًّا قبل أن يكون نبيًّا، وهو يعرف ويقدِّر ما رُكِّب في غريزة العرب من الغدر والطمع في الضعيف وحب السلب والحرص على الثأر، وكانوا أفرادًا وأسرًا وقبائلَ مضطرين إلى الاحتماء بعاداتٍ وتقاليدَ خاصةٍ؛ فكان يقدِّر ضرورة الحذر والحيطة، وكان دائمًا حذرًا غدرة العدو، وكان دائمًا يبث عيونه وأرصاده في أنحاء الجزيرة ينقلون إليه من أخبار العرب وما يأتمرون به على المسلمين ما يمهد له دائمًا فرصة الأهبة لدفاع المسلمين عن أنفسهم، وكانت خطته أن يأخذ العدو في غرة قبل أن يعد العدة لدفعه، فعلم بشروع غطفان في الهجرة في غزوة ذات الرقاع ودومة الجندل، فكانت القبائل عندما تسمع بمجيئه تولي الأدبار وتترك له المتاع والأسلاب، وهكذا ارتاح الرسول بضعة أشهر فرغ خلالها إلى التشريع.
وبعد خمس سنين من هجرته أصبح الرسول ﷺ من الحول ومن القوة ما جعله مرهوب الجانب من أشد مدائن بلاد العرب ومن أشد قبائلها حولًا وطولًا، وقد كرهه اليهود أشد الكراهية وحقدوا طردهم عليه، وخشوا على مستقبلهم، وكانوا يفهمون قيمة دعوته وانتصاره وإن كانوا موحدين فهو موحد بأقوى وأفصح وأعدل وأنظم من موسى، والنفس السامية تميل إلى كلامه أكثر من كلامهم الذي صار عتيقًا، والمسيح الذي كانوا ينتظرون وأملوا أن يكون محمدًا ظهر أنه لغيرهم.
فبنو النضير بعد طردهم أوفدوا حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس، وأبا عمار إلى قريش وقالوا لهم: تركنا قومنا بين خيبر والمدينة حتى تأتوهم فتسيروا معهم إلى محمد وأصحابه، وإن قريظة تقيم بالمدينة؛ مكرًا بمحمد؛ حتى تأتوهم فيميلوا معكم، فأدركت قريش حيلة اليهود وأنهم يريدون لينتقموا لأنفسهم، فترددت وكأنها هابت جانب محمد؛ لقوته، وأرادوا أن يستوثقوا من اليهود عن قيمة دينه فقالوا: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول وأصحاب العلم مما أصبحنا نختلف فيه ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟!
وهذا السؤال يدل على أن عرب قريش أرادوا أن يعلموا جيدًا من أشباه محمد في التوحيد قيمة دينه، ولا نعلم ماذا كان يترتب على فتوى اليهود بأن دين محمد خير من الوثنية، ولكن اليهود أجابوا: «بل دينكم خير من دينه، وأنتم بالحق أولى منه.» ففضلوا الوثنية على التوحيد! فنزل قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ … الآية.
وخرج اليهود من مكة وطافوا بأعداء النبي؛ غطفان من قيس عيلان ومن بني مرة ومن بني فزارة ومن أشجع ومن سليم ومن بني سعد ومن أسد ومن كلِّ مَن لهم عند المسلمين ثأر وحرضوهم على الأخذ بثأرهم؛ يشجعونهم باتحاد قريش معهم ويمدحون وثنيتهم ويعدونهم بالنصر.
وقد نجحت اليهود في هذه البروباجندا نجاحًا باهرًا، ولا بد أن اليهود مولوا هذه الحملة، أو على الأقل ساهموا في تمويلها بإعطاء الفقراء مالًا كما يصنعون في كل الحروب.
والآن ننظر ماذا حدث …