غزوة بني المصطلق
كان لغزوة بني المصطلق أهمية؛ فقد كاد الشقاق يفشو بين المسلمين فحسمه الرسول، وفيها تزوج الرسول من جويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق، دخلت على النبي وقالت: «أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخفَ عليك فوقعت في سهم فلان فكاتبته على نفسي فأغلى الفداء؛ علمًا منه بأن أبي قدير على ما طلب، فجئت أستعينك على كتابتي.»
فقال الرسول لها: فهل لك في خير من ذلك؟
قالت: نعم.
قال: أقضي كتابتك وأتزوجك.
فقبلت وأطلق الناس أسرى بني المصطلق؛ إكرامًا لهذه المصاهرة، قالت عائشة — رضي الله عنها: ما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركةً منها.
وفي هذه الغزوة أيضًا كان حديث الإفك وقد أسلفنا الكلام عليه.
لقد وقف الرسول من بدوي على سر بني المصطلق، وهم في حي قريب من مكة يحرضون على قتله، وكان زعيمهم الحارث بن أبي ضرار، فسلم بنو المصطلق جميعهم وأخذوا أسرى، نساؤهم وإبلهم وماشيتهم، وجاء المسلمون بماء المريسيع، واقتتل رجلان على الماء فقال أحدهم: يا معشر المهاجرين! وقال الآخر: يا معشر الأنصار!
وانتهز عبد الله بن أُبَيٍّ، الأفعى العجوز، هذا النداء ابتغاء الغنيمة فقال لجلسائه: «لقد كاثرَنا المهاجرون في ديارنا، والله ما عدنا وإياهم إلا كما قال الأول: سمِّن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.»
وبلغ النبي هذا الحديث.
وسمعه عمر فقال بعد أن هاج: مُرْ بلالًا فليقتله.
فقال محمد: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا: إن محمدًا يقتل أصحابه؟!
(انظر هو يعتبر عبد الله صاحبه!)
وأمر محمد بالرحيل، ولما علم عبد الله بما قاله النبي جاء إليه وأنكر ما نسب إليه وحلف بالله ما قاله ولا تكلم به، وفي المدينة نزل قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا … الآية.
وحسبوا أن النبي سيأمر بقتل عبد الله بن أُبَيٍّ، فذهب ابنه عبد الله بن عبد الله، وكان مسلمًا حسنًا ويأمنه النبي على المدينة، فذهب إلى النبي وقال: «يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبَيٍّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبرَّ بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس؛ فأقتله،؛ فأقتل رجلًا مؤمنًا بكافر؛ فأدخل النار.» وفي كلام عبد الله كفاح بين الإيمان والعاطفة والخلق؛ فقد كان في مأساة نفسية.
فقال له محمد ﷺ: «إنَّا لا نقتله؛ بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.»
وأصبح عبد الله أضحوكة أهل بلده، يقولون له: حياتك هبة من محمد! فقال محمد لعمر: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأُرعدت له أنفٌ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.
فقال عمر: قد والله علمت، لَأَمْرُ رسول الله أعظم بركةً من أمري.