غزوة خيبر
بعد الحديبية بشهر شرع الرسول في غزوة خيبر؛ ليطهر الأرض من اليهود، على شرط أن لا يخرج معه إلا من شهد الحديبية، وأن يكون غازيًا متطوعًا ليس له في الغنيمة، فخرج معه ألف وستمائة رجل، ونزل قوله تعالى في سورة «الفتح»: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا.
وتم المسير إلى خيبر سرًّا، وبينها وبين المدينة ثلاثة أيام، فرأى يهود خيبر المسلمين فجأة فقالوا: هذا محمد والجيش معه! لقد خربت خيبر! وكانت خيبر تنتظر هذا الغزو؛ فقد كان بعضهم يفكر في محاربة الرسول، والبعض الآخر يفكر في الانضمام إليه، وكان المسلمون قبل الغزو قد قتلوا اثنين من زعمائهم؛ وهما: سلام بن أبي الحقيق، واليسير بن رزام.
ولا نعلم إن كانت غطفان قد ساعدتهم أم أن جيش محمد حال بين الفريقين، ولم يكن أحدهما من القوة بحيث يطبقان عليه جميعًا.
كانت خيبر أقوى اليهود بأسًا وأوفرها مالًا وأكثرها سلاحًا، ووقفت جزيرة العرب تنظر إلى الموقعة الحاسمة بين الإسلام واليهودية، حتى إن قريشًا كان منهم من يتراهنون على نتائج الموقعة.
وكانت خيبر مشهورة بالجبال والحصون، وقد تمرن أهلها على الحرب، وكان زعيمهم سلام بن مشكم، وكان عندهم جملة حصون؛ منها حصن الوطيح والسلالم للمال والعيال، وحصن ناعم للذخائر، وحصن نَطَاة للمقاتلة وأهل الحرب، وحول هذا الحصن الأخير حصلت الملحمة، فقتل زعيمهم سلام بن مشكم ومات من المسلمين خمسون، ومن اليهود مئات، وتولى الحارث بن أبي زينب زعامة اليهود بعد مقتل سلام بن مشكم، وخرج من حصن ناعم فرده الخزرج واستمات اليهود في القتال.
وذهب أبو بكر لفتح حصن ناعم فارتد ولم يفتح، وفي الغداة عجز عنه عمر، وفي ثالث يوم تمكن علي بن أبي طالب من فتحه بعد أن فقد ترسه واستعان بباب استعمله ترسًا، وجعل الباب جسرًا عبر عليه المسلمون إلى داخل الحصن، وقتل الحارث بن أبي زينب، واستولى المسلمون على حصن القموص وجاعوا فأكلوا لحم الخيل، ثم استولوا على حصن الصعب بن معاذ فوجدوا فيه طعامًا وذخيرة.
وبقي مرحب اليهودي مسلحًا يتغنى بأغنية القتال، فقتله محمد بن مسلمة في ثأر أخيه الذي قتل بالأمس.
أما حصن ابن الزبير فقد أتعب المسلمين ولم يفتحوه إلا بتعطيش أهله.
ووصل المسلمون إلى الوطيح والسلالم بعد أن استولوا على حصون الشق ونطاة وكتيبة، فطلب اليهود الصلح، فحقن النبي دماءهم، وسلمهم التوراة التي وجدت أثناء الغزو ولم يعتدِ عليها، وملك أرضهم بحق الفتح، وأعطاهم نصف الثمار مقابل عملهم، وقد رأى ذلك؛ لغنى أرض خيبر وحاجتها إلى اليد العاملة، وضنًّا بجيوشه والأنصار.
ولكن بعد أن فقد أهل خيبر سلطانهم السياسي ضعفت قوتهم المعنوية وانحط نشاطهم؛ فبارت زراعتهم بالرغم من حسن معاملة محمد ﷺ ورسوله عبد الله بن رواحة في القسمة كل عام.
ودان للرسول أهل فدك وأهل وادي القرى؛ نتيجة لشهرة فوزه وانتصاره على خيبر، وكذلك دانت له يهود تيماء، بل دانت له الجزيرة من شمالها إلى جنوبها، وتهاون المسلمون في عودة بعض اليهود منكسرين إلى يثرب. ولما مات عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول رأس المنافقين من الغم والغيظ وقف النبي مع اليهود الذين بكوه! وعزى ابنه عبد الله.
وبالجملة لم يجد اليهود لهم عيشًا في الجزيرة فتضعضعوا وهاجروا، ومن بقي بها منهم عاش ذليلًا يدفع الجزية، ولكن نفوس بعضهم كانت خبيثة.
كان لسلام بن مشكم زعيم خيبر زوجة هي زينب بنت الحارث، فقدَّمت للرسول بعد الصلح بينه وبين أهل خيبر شاة مسمومة فجلس هو وأصحابه ليأكلوها فلفظها النبي وازدردها بشر بن البراء فمات، واعتذرت زينب بغيظها، فعرض عليها ﷺ الزواج والإسلام، وقيل إنه قتلها ببشر. وقيل إنه عفا عنها.
وكانت صفية بنت حيي بن أخطب النضيرية زوج كنانة بن الربيع، وقد أُخذت في السبايا فتزوجها الرسول مثل الفاتحين العظماء، وهي سيدة بني قريظة والنضير ولم تكن تصلح إلا له ﷺ.
وخشي أبو أيوب خالد الأنصاري أن تمثل دور يهوديت مع هلوفزن؛ لأن محمدًا قتل أباها وزوجها وخرب قومها، فبات مسلحًا حول الخيمة التي أعرس فيها الرسول بصفية في طريق عودته من خيبر، ولكن صفية كانت وفية لمحمد ومعجبة به فأخلصت له إلى أن مات، ولما حضرته الوفاة قالت: أما والله يا نبي الله لوددتُ أن الذي بك بي. فتغامز أزواجه عليها! فقال لهن: والله إنها لصادقة.