فتح مكة
علم الرسول أنه لن يستتب له أمر بالسكون، ولا بد من المحاربة المستمرة وتحمل التضحيات وإرهاب العدو، لقد كانت لموقعة مؤتة آثار مختلفة؛ فالروم رهبوا جانب المسلمين، والطوائف الأخرى من العرب الذين جاءوا معهم انقلبوا؛ لعدم دفع مرتباتهم، وقابل أهل المدينة خالدًا وجيشه بالسخط، ودخلت قبائل كثيرة الإسلام، وظنَّ القرشيون أن هذه الواقعة أضعفت قوة المسلمين من نفوسهم إثر عمرة القضاء، وكان من نتيجة ذلك أن ساعدت قريش بني بكر على خزاعة حلفاء النبي، وبذا نقضوا عهد الحديبية، ذلك أنه في السنة الثانية من صلح الحديبية ثار بنو بكر بن كنانة على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له الوتير يطلبونهم بدماء قديمة، فكانت قريش تمد بني بكر بالسلاح وتقاتل معهم خزاعة مستخفين بالليل حتى جاوزا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قال أبو بكر لزعيمهم نوفل: يا نوفل، إنَّا قد دخلنا الحرم، إلهك! إلهك! فقال نوفل كلمة عظيمة: لا إله له اليوم؛ يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟!
فلما تغلبت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين الرسول من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة وكانوا في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على الرسول المدينة؛ ليخبره بما فعلت قريش، وأنها نقضت عهد الحديبية الذي يوقف الحرب بين المسلمين والمشركين سنواتٍ عشرًا، فلما مثُل الخزاعي بين يدي الرسول في المسجد روى له ما وقع من بني بكر ومن قريش، فقال رسول الله: نُصرت يا عمرو بن سالم.
ولم تكتفِ خزاعة بإرسال عمرو بن سالم؛ بل بعثت بعثة بإمرة بديل بن ورقاء إلى المدينة، فأخبر الرسول بما أيد أقوال عمرو بن سالم ثم قفل وبعْثته راجعًا إلى مكة.
وعلم المكيون ببعثة عمرو بن سالم وبديل بن ورقاء، فدخلهم الرعب والقلق؛ لأنهم أخلفوا العهد ونقضوا محالفة الحديبية، فارتبكوا واضطربوا ولم يجدوا حلًّا لعقدتهم إلا أن يرسلوا أبا سفيان؛ وهو أكبر داهية عندهم؛ ليحاول حل المسألة بالاعتذار تحت ستار شد العهد وإطالة مدته، فقابل أبو سفيان في عسفان بديل بن ورقاء وأصحابه؛ فسأله إن كان قد لقي محمدًا فأنكر بديل، ولكن أبا سفيان عاد إلى عادته القديمة وفحص بعر راحلته فوجد النوى وعرف أنه كان بالمدينة، فقدم على رسول الله المدينة ودخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش الرسول طوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟! قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس ولم أحب أن تجلس على فراش الرسول. قال وهو يحاول التشبه بأهل الخجل؛ لأنه ليس منهم: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر!
والله يعلم أن الشر أصابه هو ولم يصب بنيته التي أصابها الخير كله بزواجها من رسول الله، لم يكتف هذا الرجل بهذا الكسوف الذي لو أصاب الجبل لتصدع وخرج يقصد إلى الرسول فكلمه فلم يرد عليه شيئًا، أليس أبو سفيان هذا هو الذي صرخ بأعلى صوته في موقعة أحد: «اعْلُ هُبَلُ!» ها هو هبل قد علا، ولكنه علاك وركب قفاك وحط بكلكله على ظهرك فاحمله يا أبا سفيان إلى يوم القيامة، «اعْلُ هُبَلُ!» إن محمدًا قد مات وها أنت ترى بعينيك (قبل أن تُفقأ إحداهما) أن هبلًا لم يعلُ، وأن سيدك ومولاك، أستغفر الله، بل سيد الكون، لم يمت، وأنه عاش وانتعش وفاز وانتصر إلى أن عفا عنك وعتق عنقك من النار يا سليل الأوثان وزعيم الشرار! ولعلك تفغر فاك وتتعثر في أذيالك وتتخبط في مشيتك عندما تسمع أن محمدًا قد جعل من يدخل دارك آمنًا، ولكن لا أحسب أن شعاعًا من نور الحق قد وصل إلى قلبك، أو أن ذرة من ضمير حي تعمر قلبك، لقد أسلمت فرقًا وجبنًا وضعفًا وأنت تضمر الكفر والبغضاء، وقد قبل المسلمون خضوعك سياسةً وتأليفًا كما أغدقوا عليك من الغنائم؛ ليملئوا عينك الفارغة وقلبك الظمآن للسلب ونفسك الجاهلية المتعطشة لخطف ما ليس لك بحق، فلم يرك أحد تتعفف ولا تقدم بين يدي الله شيئًا يغفر الله لك به ما جنيته فيما مضى، إن الله ورسوله غنيان عن إسلام أمثالك.
النبي الذي لم يُعرف عنه أنه ترك سؤالًا بغير جواب لم يرد عليك شيئًا، ثم ذهبت إلى أبي بكر فأبى أن يكلم رسول الله لك، أتدري ماذا كان يريد أبو سفيان من هذه المساعي الخائبة في عاصمة الإسلام في السنة الثامنة للهجرة؟
لقد بعثته قريش كما قدمنا إلى الرسول؛ ليشد عهد الحديبية ويزيد في مدته مع أن العقد لما يقطع سنتين من السنوات العشر المنصوص عليها في صلبه؛ وذلك لأن قريشًا غدرت ونقضت المعاهدة على ما فيها من الضيم للمسلمين والغبن عليهم والنفع لقريش، فرهبت قريش الذي صنعت وأرادت أن تسبر غور المسلمين وتمتحنهم، فأرسلت هذا العتلَّ العتيق في الكفر والطغيان؛ ليعجم عودهم بحيلة شد العهد وزيادة مدته وهو لعشر سنوات لم يمضِ منها سوى اثنتين! فلما أصابه الفشل في بيت بنته وهي إحدى زوجات الرسول وبين يدي الرسول نفسه الذي كظم غيظه عندما رآه ولم ينبس ببنت شفة، وعند أبي بكر الذي أذاقه أبو سفيان الأمرَّين خلال ثلاث عشرة سنة وأرسل في أثر النبي وأثره جواسيسَ يقتلونهما؛ لينالا جائزة مالية كما لو كانا عدوي الشعب المكي عدد ١ وعدد ٢ … ذهب بصفاقته المعهودة إلى عمر فقال أبو حفص الشجاع العادل: أأنا أشفع لكم إلى الرسول؟! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
وسيدي عمر هذا هو الذي أجاب أبا سفيان يوم أحد من أعلى الجبل أن محمدًا لم يمت وأن أبا بكر لم يمت وأن عمرَ لم يمت، فمت أنت بغيظك وسنلقاكم في العام المقبل. فكانت وقعة الخندق التي مزق الله فيها شمل المشركين بقيادة هذا الرجل نفسه، والفضل يرجع إلى فطانة رسول الله ومشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق، وترك أعداءنا يتلوون تلوي الأفاعي من الجوع والبرد وتفرق الكلمة بين القبائل المتألبة على الإسلام.
صُفع أبو سفيان على وجهه من عمر فجرر أثقاله إلى علي وعنده فاطمة وابنهما الحسن بن علي فتذلل الشيخ الخبيث (حينئذ؛ لأنه أسلم بعد ذلك والسيف على عنقه وعنق المرأة هند أنثاه آكلة الأكباد) وكان يعرف كيف يتذلل؛ لأن الكرامة بريئة منه، فقال لعلي بن أبي طالب وهو أحد ضحاياه قبل الإسلام وضحية ولده معاوية، وكما سوف يكون الحسين ضحية حفيده يزيد (زاده الله عذابًا) تذلل الرجل وقال لعلي: إنك أمسُّ القوم بي رحمًا (؟!) وإني قد جئت في حاجة فاشفع لي إلى رسول الله: فقال علي: ويحك يا أبا سفيان! فالتفت إلى فاطمة متوسلًا وقال في ذلة الشيخ الخرف: هل لك أن تأمري بُنَيَّكِ هذا (الحسن) فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟! فقالت: والله ما بلغ ابني أن يجير الناس! فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس. كل ذلك الهوان لينجو بجلده النجس (كما وصفته ابنته أم حبيبة)، وخوفًا على دمه المهراق، ولك أن تتخيل كيف قابله الناس في المسجد وكيف تقبلوا استجارته واستشفاعه، وركب بعيره وانطلق في طريقه إلى مكة ولعله تذكر عودته من أحد ظافرًا منذ خمس سنين وهو يحسب إذ ذاك أنه قضى على المهاجرين والأنصار وقتل الإسلام في مهده، فما كان أذله هذه المرة وأحقره وأوجده وأضعفه، لقد سرَّته السنة الخامسة للهجرة فساءته الثامنة أضعاف ذلك، لقد سُرَّ في الحرب وساءه الله في السلم وأذله حتى التمس جوار طفل يحبو، وحتى زعم في عمى الوجل والاضطراب أن عليًّا أمسُّ القوم به رحمًا، ونسي أن أمس القوم به رحمًا حقًّا وهي ابنته من صلبه أم حبيبة قد خذلته وطردته من بيتها، وكانت امرأة ذات فضل وعقل مسموعة الكلمة عند النبي، وقد هاجرت الهجرتين وجهزها النجاشي لرسول الله وزوجها منه وأحبها الرسول لإخلاصها وعلمها ومكانتها، وهي التي أنقذت موقف المسلمين في الحديبية وأسدت إليهم النصح بأن يحلقوا شعورهم ويطيعوا الله ورسوله فعملوا بنصحها.
وإني لا أنكر أن هذا البيت الأموي قد حبَته الطبيعة بأفراد من ذوي الرأي الراجح وفي مقدمته هذه الفضلى، ولكن عنادهم في الشرك وقسوتهم في المعاداة وجحود قلوبهم وعجزهم عن تصديق الصادقين ذهبت بفضائل العقل وحسن التدبير، فلم ينالوا من الدنيا شيئًا إلا اختلاسًا وغدرًا، وإنك لتجد من في قلوبهم مرض يزخرفون القول ويدسون عليك شظايا اليقين بقولهم: ألا تعجب بهذا التمسك بالمبدأ حتى ولو كان باطلًا؟ ألا ترى قوة الخلق والإرادة متجليتين في أبي سفيان وهند، فلما أسلما حسن إسلامهما؟! ألم يكونوا سراة البلد وأحق الناس بالاحتفاظ بالعقيدة والتقاليد؟! إلخ.
هؤلاء لا كلام يقنعهم؛ لأنهم أمويون وسفيانيون قلبًا وقالبًا! أترى أبا سفيان أعظم من أبي بكر ومن عمر بن الخطاب ومن عبد الرحمن بن عوف ومن العشرة المبشرين بالجنة؟! إن أبا سفيان لم يتمسك إلا بمطامعه وشهواته وأمواله وجاهه، لا بعقيدته ولا تقاليد قومه، نعم إن هندًا فقدت أعز الناس عليها في بدر ولم يبقَ لها إلا زوجها، ولكن ما ذنب المسلمين وقد كان قومها أئمة الشرك وقادة كفار قريش، وما ذنب المسلمين وقد كانوا ثلاثماية وأهل مكة ألف رجل فأراد الله أن ينصر الفئة القليلة على الفئة الكبيرة، وماذا تقول هند في أن قومها الذين ندبتهم ولطمت خديها عليهم وشقت ثيابها حزنًا لمصابهم مذ انقلبوا في القليب، أخرجوا المسلمين من ديارهم وقتلوا وعذبوا وسجنوا وقيدوا من قدروا عليه من رجال ونساء ثم تآمروا على قتل النبي؟! أهذه كلها تُنسى لأن المسلمين فقراء، وتذكر تلك المرأة ما أصاب قومها في بدر؟! ألم تكن بدر موقعة حرب بين صناديد قريش الذين يلبسون جلود النمور وبين ضعفاء الإسلام الذين كانوا حفاة وعراة وجائعين حين انتصروا على الأقوياء الطاعمين الكاسين المنتعلين المسلحين بخير الأسلحة؟!
هذا هو أبو سفيان الذي ما زالت مكة محتفظة بداره.
أخذ محمد ﷺ يستعد ليأخذ قريشًا على حين غرة، وأرسل حاطب بن أبي بلتعة خطابًا مع امرأة اسمها سارة إلى قريش يخبرهم باستعداد النبي، فأدركها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وأخذا منها الخطاب.
وكان حاطب ممن شهدوا بدرًا، فأشار عمر بن الخطاب بقتله، ولكن النبي سأله في رفق، فقال: أصانعهم لأجل ولدي وأهلي الذين بين أظهرهم.
فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ….
وقال محمد: لقد غفر الله لأهل بدر ما شاءوا.
•••
في رمضان خرج الرسول يريد فتح مكة جزاءً بما غدر القرشيون، وقد عاد أبو سفيان وهو يعلم أن رسول الله ينتظر هذا اليوم الذي هيأه الله، فإنه بعد أن وصل مكة على بعيره قالوا: ما وراءك يا أبا سفيان؟ فقص عليهم ما جرى، فقالوا: ذلك لا يغني شيئًا. قال: ما وجدت غير ذلك. فأعلن فشله وأشهر خيبته بعد أن أظهر الله جبنه وذله في المدينة التي كان يود أن يدخلها منذ بضع سنين فاتحًا مرتين فلم يوفق في الأولى وانكب على منخاره في الثانية.
وعندما علم بنو هاشم بقرب محمد من مكة فرحوا ليسلموا؛ وهم: العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه — عليه الصلاة والسلام — وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عمة الرسول، فرفض الرسول لقاء أبي سفيان وعبد الله عندما حضرا إليه بنبق العقاب؛ لأنهما كانا قد آذياه في مكة، ولكن أبا سفيان هدد بالهيام على وجهه هو وابنه حتى يموتا عطشًا وجوعًا؛ فرقَّ له الرسول ﷺ.
والمشاهد في أخلاقه — عليه الصلاة والسلام — دائمًا أنه كان يقسو في أول الأمر مع العدل ثم يلين، وكان هذا دأبه في أشد المواقف، فكان قلبه يرق دائمًا بعد أن يصدر العقل حكمه، فصفة الرحمة والشفقة كانت أظهر صفاته حتى على أشد أعدائه وخصومه.
أما العباس فقد لعب دورًا مهمًّا؛ وهو أنه بعد أن زار الجيش الإسلامي عاد إلى مكة وأدخل في قلوب المكيين الرعب.
وبلغ المسلمون مر الظهران على بعد أربعة فراسخ من مكة، وكاد المكيون يؤخذون على غرة، ولكن محمدًا ﷺ أراد أن يدخل وطنه بدون إهراق دماء.
وأرسلت قريش ثلاثة يتجسسون الأخبار وعند اللزوم يكونون سفراء؛ وهم: أبو سفيان الخصم الألد وكنيته أبو حنظلة، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حكيم قريب خديجة وصهر النبي، وعثر العباس على أبي سفيان فاستغاث به وقال: لله فداك أبي وأمي يا أبا الفضل! ما الحيلة؟ فقال له العباس: والله لئن ظفر الرسول بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة أصل بك إلى رسول الله فأستأمنه لك. حتى بلغا مقر عمر بن الخطاب، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله؟! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج عمر يشتد نحو الرسول وقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه، رضي الله عنك يا سيدي عمر؛ لقد أثلجت صدور المسلمين بهذه العزيمة.
فقال العباس: إني قد أجرته يا رسول الله.
فقال الرسول: يا عباسُ، اذهب به إلى رحلك؛ فإذا أصبحت فأتني به.
كيف قضى أبو سفيان هذه الليلة؟ إنه يدري ولا يدري، يدري مكانة العباس عند رسول الله وهو ابن أخيه، ولا يدري إن كان صوت عمر ورأيه ينفذان عند محمد ﷺ فيصبح مقطوع العنق، انظر إليه وهو بعد هذا كله لا يسلم ولا يبالي ولا يعترف بهزيمته، وغن لي أغاني قوة الإرادة والتمسك بالعقيدة، بل إنهم ليلتهم النيران في جوفه؛ ليغذي أتون البغضاء والحقد على النبي، وإنه في ليلته ليرى الرؤى المزعجة ويذكر نمارق هند وعناقها تلك الحجمرش الدردبيس من عجائز قريش التي لم تستحِ أن تنشد أناشيد الغرام في ميدان أحد؛ إغراءً وترغيبًا، وإنه ليرى في صحوه أو في غفوته سقوط هبل كأنه ينحط من أعلى الجبل فيدق عنق عابده ثم يقع وقعة لا قيام بعدها ووراءه بقية الأصنام التي لا نفع في ذكرها، وتداس بالأقدام وتجعل عتبات للمساجد ويطأها الناس في دخولهم إلى الصلاة وخروجهم منها، فتنهار آمال الشيخ التعس الذي تفرق بيته بين الإيمان والكفر، بين الإسلام والشرك، فإنه بينا كان أبو سفيان أسير حرب قد وضع رأسه في فم الأسد؛ طمعًا في النجاة بجوار العباس؛ فقد كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو قد جمعوا حثالة الناس بالخندمة أحد جبال مكة، ومن هذه الحثالة حماس بن قيس من بني بكر بن كنانة حلفاء قريش، ولكن حديث هؤلاء الناس يخرج عن نطاق هذا الموضوع ونحن هنا لا نتكلم إلا عن أبي سفيان وتفصيل نجاته من القتل وإسلامه رهبةً لا رغبةً، ورعبًا لا حبًّا، وخوفًا لا شوقًا، وخداعًا لا اقتناعًا، ونفاقًا لا اتفاقًا، فإنه بعد أن قضى هذه الليلة في رحل العباس؛ رجاء أن يهديه الله ليسلم من تلقاء نفسه أو ليراجع ضميره المظلم قبل أن يُجبَر ويُرغَم، عاد به العباس إلى الرسول فلما رآه قال له: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ فقال المشرك الهرم: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا بعد!
فاعتبر النبي هذه الكلمة تسليمًا بالتوحيد، فقال الرسول: ويحك يا أبا سفيان ألم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا!
انظر تمسك هذا الرجل بالباطل وسماحة رسول الله! فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تُضرب عنقك! فشهد (حيال هذا التهديد) شهادة الحق فأسلم (أكتب بين قوسين: مكرهًا) وأمَّن رسول الله داره؛ إجابةً لالتماس عمه العباس.
فلما ذهب أبو سفيان لينصرف قال الرسول: احبسه يا عباس بمضيق الوادي عند خطم الجبل؛ حتى تمر به جنود الله فيراها. قال فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حتى مر رسول الله في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار لا يُرى منهم إلا الحدق من الحديد. فقال مشرك الصبح مغرمًا ومسلم الضحى مرغمًا: سبحان الله يا عباس! مَن هؤلاء؟ (وهو يعرفهم كأبنائه؛ وهل يخفى القمر؟!) قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة (الحمد لله، يقولها كاتب هذه السطور لا الجَحود أبو سفيان) والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا! قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة لا الملك. قال: فنعم إذن. قلت: النجاة إلى قومك. فلما جاءهم يهز عجيزته ويهرول رعبًا ويتيه فخارًا للشرف الذي ناله، صرخ بأعلى صوته، لم يقل: «اعلُ هُبلُ» في هذه المرة، بل قال: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبل لكم به.
وأذاع فيهم ما جعل له الرسول فخرًا، فتطرق أهل مكة إلى دورهم وإلى المسجد آمنين كالأرانب والسنانير والذئاب والثعالب التي فرت من قسورة، دخلت هذه الحشرات إلى أوكارها من هيبة ذلك الذي اضطهدوه وعذبوه وسبوه وضربوه وشجوا رأسه!
اسمع إلى قول هذا الذي أسلم: لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا! ولم يقل: «رسول الله»، وهو الذي استجار بعمه وببغلته البيضاء التي أردفه عليها العباس؛ ليمرق به في الظلام إلى خيمة الرسول، فجازت الحيلة إلا على عمر بن الخطاب، هذه الكلمة: «ملك ابن أخيك» قد أورثها ولده معاوية الذي لم يكن في قلبه من الإيمان بقدر ما كان فيه من حب السلطان والطغيان! «ملك ابن أخيك» نزلت في صلب معاوية إلى بطون أولاده وأحفاده فأشعلتها غيرةً وحسدًا وطمعًا فتهافتوا على العرش والصولجان ولم يكن للنبي ولا لخلفائه الأربعة شيء منهما.
ولم يُخلص أبو سفيان للإسلام وإن كان اشترك في بعض حروبه؛ فإنه فرح باضطراب صفوف المسلمين في حنين وظن في لحظات أنه يعود إلى مجده القديم! ولكن الله خذله؛ لأنه بدأ في تخذيل المسلمين ولم تملأ عينه الثانية كل الغنائم التي رمى الرسول بها إليه كما ترمى الرمة إلى … الجائع النهم!
لنترك هذا الشيخ الطموح في انطفائه ونحوس كوكبه الكفري، وصعود النجم المحمدي في أجواز الفلك.
ولننظر ما صنع الرسول بعد فتح مكة والأمن الشامل الذي نشر لواءه؛ فقد ضُربت له قبة في أعلى مكة، وكان قد جاءها من وادٍ قريب عند مر الظهران، فجاء البيت الحرام فطاف به سبعًا طواف القدوم على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، ولما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففُتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ومحا صور الشرك من جدرانها وقال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ فقالوا: خيرًا؛ أخٌ كريم، وابنُ أخٍ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فكان العفو الشامل الذي تلا التأمين والتطمين، ورد مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة قائلًا: اليوم يوم بر ووفاء.
أترى قد قنع المكيون؟ كلا! لقد أراد المجرم السخيف فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أن يغتال رسول الله وهو يطوف بالبيت في يوم هذا الفتح والعفو، فلما دنا منه قال الرسول: أفضالة؟ قال: نعم؛ فضالة يا رسول الله. قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء؛ كنت أذكر الله عز وجل! فضحك النبي ثم قال: استغفر الله. وقد عصمه الله من يد هذا القاتل الذميم كما عصمه من جميع الناس في الحرب والسلم.
وخاف الأنصار أن محمدًا ﷺ يقيم في مكة بعد الفتح وسمع همسهم فقال: معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم!
وأذن بلال على الكعبة، وما يزال الأذان ينطلق خمس مرات منذ ألف وثلاثماية وخمسين عامًا.
واستثنى الرسول سبعة عشر من أهل مكة من عفوه العام وأمر بقتلهم وهم: عبد الله بن أبي السماح، الذي أسلم وكتب الوحي ثم ارتد، وزعم أنه كان يزيف الوحي حين يكتبه (وهذا دليل قاطع على أن محمدًا كان أميًّا)، وعبد الله بن خطل الذي أسلم وارتد وقتل مولاه ثم أمر جاريتين بالغناء بهجو النبي، وعكرمة بن أبي جهل وهو من أشد أعداء النبي، وهند آكلة الأكباد، وصفوان بن أمية، والحويرث الذي أغرى على زينب بنت محمد حين رجوعها من مكة إلى المدينة، ورجلين كانا قد أسلما ثم ارتكبا قتلًا في المدينة ثم ارتدا عن الإسلام وفرا إلى مكة، وقينة ابنِ خطل التي كانت تؤذي النبي بغنائها.
ولكن النبي عاد وعفا عن هؤلاء جميعًا ولم يأمر إلا بقتل أربعة منهم. وأراد الرسول أن يؤكد حرمة مكة والبيت الحرام فخطب: يا أيها الناس، إن الله حرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا أو يعضد فيها شجرًا، لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة؛ غضبًا على أهلها ثم رجعت كحرمتها بالأمس. وكانت خزاعة قد عثرت على رجل من هذيل مشرك فقتلوه، فغضب النبي ثم ودى القتيل.
فدهش أهل مكة من عفوه ﷺ وسماحه ودفاعه عن حرمة مكة، فدخلوا في الإسلام أفواجًا: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.
ثم أمر النبي بتحطيم أصنام المنازل، وأحضر أبو بكر أباه الأعمى فأسلم بين يدي الرسول، وأسلمت قريش وبايعته وأقام بمكة أسبوعين، وحدث أن قتل خالد بن الوليد رجالًا من بني خزيمة بعد أن وضعوا سلاحهم، وعلم الرسول بذلك، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.
ثم بعث إليهم عليَّ بنَ أبي طالب بالدية والترضية.
ومحا الرسول كل وظائف مكة الجاهلية فيما عدا السدانة وجعلها لعثمان بن طلحة، والسقاية وجعلها لعمه العباس.
ثم أرسل الرسول يجمع الزكاة من القبائل؛ لأن الدولة الناشئة تحتاج إلى المال، فلم يشذ في ذلك إلا قليل خضعوا بعد ذلك.