حملة تبوك١
وسبب الدعوة إلى تلك الحملة ما رواه ابن سعد من أن بعض تجار النبطيين نقلوا إلى النبي أن البيزنطيين (الروم) قد جمعوا قوة كبيرة من الجند واتحد معهم الأعراب من أربع قبائل معادية للإسلام؛ هي: لخم، وجذام، وغسان، وعاملة، وأن هرقل دفع لجنده مرتبات سنة سلفًا.
وفي رواية أخرى أن سبب ذلك أن متنصرة العرب كتبوا إلى هرقل أن هذا الرجل الذي قد خرج يدعي النبوة هلك وأصابت أصحابه سنون أهلكت أحوالهم، فأرسل بجنده؛ لينتهزوا فرصة فشلهم، فيقضي على دولة الإسلام قبل استفحالها.
ويظهر أن النبأ كان مبالغًا فيه، ويظهر أيضًا أن الدعوة إلى هذه الحملة لم تصادف كل الإقبال الواجب؛ لأسباب طبيعية واقتصادية.
فأولًا صادفت الدعوة زمن عسر وأزمة في الناس وجدبًا في البلاد، وصادفت وقتًا طابت فيه الثمار وجني المحصول الزراعي، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على تلك الحال إلى مكان بعيد مثل تبوك والدعوة إلى الحرب على المتحضرين مثل الأنصار صعبة على النفس في كل مكان وزمان، خصوصًا وأنهم لم يشعروا بخطر مُداهم أو هجوم محقق من الأعداء فاستبعدوا الشقة.
وكانت عادة رسول الله في الدعوة إلى الغزوات أن يلمح إليها ويكني بها، ولكنه في غزوة تبوك صرح بالدعوة، ومن تصريحه أنه لقي الجَدَّ بنَ قيسٍ أحد بني سلمة فقال له: يا جَدُّ! هل لك العام في جِلاد بني الأصفر؟
الجد: يا رسول الله، أوتأذن لي ولا تفتني؟! فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر! فأعرض عنه رسول الله؛ لاعتذاره بعذر أقبح من ذنبه ثم قال له: قد أذنت لك!
ثم إن رسول الله أخذ في الجهاز وجدَّ فيه وحضَّ أهل الغنى على النفقة والاكتتاب في سبيل الله، فحمل رجالٌ من الأغنياء واحتسبوا، فجاء أبو بكر بجميع ماله، وجاء عمر بنصف ماله، وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن، فكان أسرع المكتتبين أبو بكر، وأكرمهم عثمان، وأعدلهم عمر.
وتبرع عثمان بما لم يتبرع بمثله أحد، فقدم ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها، وألف دينار عينًا، فقال النبي: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم.» ودعا له بخير، وبجانب المنعمين وأرباب «المصالح الحقيقية» ودعاة الهزيمة الذين كانوا يتمحلون الأعذار بسبب قرب موسم المحصول أو بسبب الحر كالذين نزلت فيهم آية: وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ، كان جماعة من المجاهدين في سبيل الله ورسوله لا يملكون غير إيمانهم وحميتهم؛ وهم سبعة رجال من فقهاء الصحابة، فجاءوا يبكون إلى رسول الله ويسألونه وأعينهم تفيض من الدمع؛ حزنًا، أن يحملهم معه، فاعتذر لهم: لا أجد ما أحملكم عليه.
وقد أحصى المؤرخون هؤلاء البكائين وذكروا سبعة منهم.
ثم بدأت تظهر ألوان من المعذرين لأسباب مختلفة وعددهم اثنان وثمانون رجلًا، فلم يعذرهم رسول الله.
- (١)
كعب بن مالك.
- (٢)
هلال بن أمية.
- (٣)
مرارة بن الربيع.
- (٤)
أبو خيثمة السلمي.
- (٥)
أبو ذر الغفاري.
ثم لحقه أبو خيثمة وأبو ذر فلم يكن تخلفهما إلا مؤقتًا.
أما كعب بن مالك؛ فقد كان من أعيان الأنصار، وقد شهد بيعة العقبة، ولم يشهد بدرًا ولا تبوك، ولما قدم رسول الله ﷺ المدينة آخى بينه وبين طلحة بن عبيد الله حين آخى بين المهاجرين والأنصار.
أما بدر فلم يعاتب رسول الله فيها أحدًا، وقد تخلف كعب للسرعة، وقيل إن عذر كعب في التخلف عن تبوك كان شدة الحر، وقد نزلت فيه وفي رفيقيه المتخلفين مرارة وهلال آية: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ.
- (١)
حسان بن ثابت، وكان يقبل على الأنساب.
- (٢)
كعب بن مالك، وكان في قصائده يخوفهم الحرب.
- (٣)
عبد الله بن رواحة، وكان يعيرهم بالكفر.
وكان كعب يقول: «ولعمري إن أشهر مشاهد رسول الله في الناس لبدر، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة؛ حيث توافقنا على الإسلام.» وظاهر من نفسية هذا الأنصاري الشاعر أنه كان يفخر بالعقبة، ولا يأسف على بدر (ص٢٤٨، ج٤، أسد الغابة).
أما هلال بن أمية؛ فهو الأنصاري الواقفي، شهد بدرًا وأحدًا، وكان قديم الإسلام، وكان يكسر أصنام بني واقف، وكانت معه رايتهم يوم الفتح، وأمه أنيسة بنت هدم أخت كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه النبي لما قدم المدينة مهاجرًا.
أما مرارة بن الربيع فقد كان من الأنصار وشهد بدرًا.
وأخيرًا المتخلفان النادمان؛ وهما: أبو خيثمة، وأبو ذر.
أما أبو خيثمة فقد رجع إلى أهله بعد أن سار رسول الله أيامًا، وكان يوم رجوعه حارًّا، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه (بيته) وقد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له ماءً، وهيأت له طعامًا، فلما دخل الرجل وقف بباب العريش ونظر إلى امرأتيه وما صنعتا فقال: رسول الله في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء؟! ما هذا بالنَّصَفِ! والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله! فهيئا لي زادًا.
ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل تبوك، فلما لقيه أخبره بما وقع له، فقال له الرسول: خيرًا!
ودعا له بخير.
فهذا رجل تنبه ضميره عندما رأى الراحة والدعة والنعيم وأصلح خطأه، فما أغرب المقارنة بينه وبين الجد بن قيس الذي اعتذر بعدم صبره إذا رأى نساء بني الأصفر، وهو لم يَرَهُنَّ! واعتذر بشدة شهوته وقوة ذكورته (العفو).
أما أبو خيثمة فقد كان مقبلًا على النعيم والراحة وعلى زوجتيه في وقت القيظ والتعب والقيلولة. وبضدها تتميز الأشياء والنفوس.
وقد استحق الجد أن تنزل في حقه آية: وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي وكان هذا الرجل سيد بني ساعدة، وكان مشهورًا بالبخل الشديد، ومات في خلافة عثمان.
أما أبو ذر فسبب تخلفه أن بعيره تلَّوم عليه، فلما أبطأ لم يبالِ به وأخذ متاعه على ظهره، كما يفعل جنود المشاة في عصرنا الحاضر، وخرج يتبع رسول الله ماشيًا، فلما أقبل على معسكر النبي وتبينوه قال الرسول: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده!
(ص١٨٦، ج٥، أسد الغابة.)
ولم يكن رسول الله متشددًا على المتخلفين بعد أن دعا للحملة؛ فكان إذا تخلف رجل فيقولون للرسول: تخلف فلان! فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراد حكم الله منه.
ولما خرج رسول الله من المدينة استخلف عليها محمد بن مسلمة الأنصاري وخلف على أهله عليَّ بنَ أبي طالب.
فتألم علي لذلك فقال له النبي: خلفتك لِما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي؟ فرجع علي إلى المدينة.
ولأجل أن تعلم مقدار ما كان يقاسيه رسول الله من لؤم المنافقين والنمامين، نشير إلى أن عتاب علي لم يكن من تلقاء نفسه؛ بل كان لأن المنافقين أرجفوا وقالوا: ما خلف النبي ابن عمه وصهره إلا استثقالًا وتخفيفًا منه!
وكان علي سليم النية بسيط القلب فصدق وشاية المنافقين، وأراد أن يتحقق بنفسه مبلغ هذا النبأ من الصدق، فأخذ سلاحه وخرج حتى لحق بالنبي وهو نازل بالجِرف وقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني؛ لأنك استثقلتني وتخففت مني؟!
فأجابه: كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟!
فرجع علي إلى المدينة كما قد قدمنا، ولم يتخلف علي في مشهد من مشاهد الرسول إلا في هذه الغزوة.
أما عدد جيش الرسول في هذه الحملة، وهي آخر مشاهده في الجهاد ضد العدو الأجنبي وضد الاستعمار البيزنطي، فكان ثلاثين ألفًا من الناس والخيل؛ عشرة آلاف فارس بقيادة خالد بن الوليد قائد الفرسان الذي لعب الدور المشهور في واقعة أحد، ثم خدم الإسلام في فتوحه أجلَّ خدمة.
وكان النبي بعث إلى مكة وقبائل العرب؛ ليستنفرهم.
-
القيادة العليا للنبي ﷺ.
-
اللواء الأعظم لأبي بكر.
-
رايته ﷺ العظمى للزبير.
-
راية الأوس لأسيد بن حضير.
-
راية الخزرج للحباب بن المنذر.
-
قيادة الفرسان لخالد بن الوليد كما قدمنا.
-
واستعمل الرسول على حرس العسكر عباد بن بشر.
وكان حزب المنافقين في المدينة قويًّا، ولكن عبد الله بن أُبَيٍّ رأس المنافقين لم يتحرك في هذه المرة، وقد كان أعقل من أن يعيد تمثيل الدور الذي مثله في أحد، وإن كان بعض المؤرخين صنع أسطورة تعيد إلى الأذهان ما سبق له من خيانة وغدر، ولعله اشتغل من وراء الستار، ولكن جماعة المنافقين — وكان معظمهم من اليهود — التفوا حول رجل منهم اسمه سويلم واتخذوا بيته وكرًا لاجتماعات سرية؛ للتدبير ضد النبي فعاقبه النبي بعد ذلك بإحراق بيت المؤامرة، فهلك في الحريق منهم من هلك.
ومن طريق الدعاية العدائية التي قام بها المنافقون أنهم قالوا للمجاهدين؛ إرجافًا وترهيبًا: أتحسبون جلاد بني الأصفر (الرومان) كقتال العرب بعضهم لبعض؟! والله لكأنكم غدًا مقرنين في الحبال!
فأرسل الرسول أحد رجاله يعنفهم ويكذبهم فأتوا الرسول يعتذرون وقال أحدهم؛ وهو وديعة بن ثابت: كنا نخوض ونلعب!
•••
- (١)
أنها حملة ضد العدو الأجنبي.
- (٢)
أنها بعيدة الشقة.
- (٣)
كانت تحت قيادة النبي نفسه.
- (٤)
أنه استنفد فيها جميع الوسائل، فبذل كل ما كان يملك هو وأصحابه الأقربون.
- (٥)
كانت آخر غزواته ﷺ.
المرور بآثار ثمود
ولما بلغت الحملة آثار ثمود الذين ورد ذكرهم في القرآن في مواطنَ عدةٍ، أصدر النبي أمره لجيشه فقال: لا تشربوا من مائها شيئًا ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئًا، ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له.
ولما مر رسول الله بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال: لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون خوفًا أن يصيبكم ما أصابهم.
فقام رجل فيه روح السياحة وحب الاستطلاع وزيارة الآثار وقال: نعجب منهم يا رسول الله!
فأجابه: ألا أنبئكم بما هو أعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم! استقيموا وسددوا، فإن الله — عز وجل — لا يعبأ بعذابكم شيئًا، وسيأتي الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئًا.
وظاهر أن الرسول أمر جنوده بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه.
ويريد مرغليوث أن يقلل من شأن هذه الحادثة ويشكك في خبر ثمود فيزعم (ص٤٢٠) أن بعض المكتشفين حققوا أن ما ظنه النبي آثار بيوت إنما كان قبورًا! ولكنه لم يجرؤ أن يذكر أسماء هؤلاء المكتشفين، ولم يقل لنا: إن كانت هذه الآثار سواء كانت بيوتًا أو قبورًا لثمود أو لغير ثمود، فزعمه باطل وحجته ضائعة، ولا يبعد أن تكون الديار التي مضى على خرابها مئات السنين أشبه شيء بالقبور، أو على الأقل لا يمكن تمييزها عن القبور، وهذه ديار قدماء المصريين وقبورهم في أرض مصر متشابهة.
وقد أصاب رسول الله في الجمع بين حكمة الجهاد وموعظة أمته لدى مرورهم بآثار ثمود البائدة.
وليس في كلام مرغليوث ما يدعو إلى تصديقه.
•••
فقال رسول الله: لو أمرت بالسير لم أستشركم فيه!
فأجاب عمر: إن للروم جموعًا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا، وأفزعهم دنوُّك، فلو رجعنا هذه السنة حتى نرى، أو يحدث الله أمرًا.
فانصرف النبي قافلًا إلى المدينة.