مرض النبي ﷺ ولحوقه بالرفيق الأعلى
قبل مرض الرسول وبعد الانتصارات العظيمة المتتالية قام بعض السخفاء يدَّعون النبوة؛ ففي نجد قام طليحة زعيم بني أسد وأحد أشاوس العرب في الحرب، وزعم أنه نبي! وأيد ذلك بإدلال قومه على مكان ماء، ولكن لم يجاهر بذلك أثناء حياة النبي، فهزمه خالد بن الوليد في ثورته فتاب وعاد إلى الإسلام. وادعى مسيلمة النبوة وظهر كذبه.
وادعى الأسود العنسي النبوة وظهر كذبه أيضًا، وكان يدعي السحر، ودعا لنفسه خفيةً واستفحل أمره، وطرد عمال النبي في اليمن وتقدم إلى نجران وقتل ابن بدهان ووارث عرشه واغتصب زوجته ونشر سلطانه فتألبت اليمن بأمر النبي عليه، وقتلته زوجته؛ انتقامًا منه لقتله زوجها الأول ابن بدهان.
وبعد حجة الوداع تذكر النبي ﷺ أن العدو القوي هو من الشمال أي الرومان والإمبراطورية المسيحية، وقد حاربهم خالد في مؤتة ولكنه انسحب، فجرد هو عليهم حملة تبوك فانسحب الروم كما تقدم، فجهز الجيش الثالث نحوهم.
وأمر فيه بالمهاجرين الأولين أبي بكر وعمر وأمَّر على الجيش أسامة بن زيد بن حارثة بالرغم من صغر سنه؛ إذ كانت سنه إذ ذاك حوالي عشرين سنة، ومع ذلك فقد خضع له أبو بكر وعمر، والحقيقة أن محمدًا أراد أن يكافئ أسرة زيد بن حارثة الذي استشهد في موقعة مؤتة ورسم له خطة الحرب والنصر ومفاجأة العدو وسرعة العمل والمباغتة.
وخرج الجيش إلى الجرف على مقربة من المدينة يتجهزون، وفي تلك الأثناء مرض النبي ﷺ.
والملاحظ أنه لم يسبق للنبي أن مرض، اللهم إلا فَقْد الشهية أو حاجة إلى احتجام، فحياته ﷺ كانت طاهرة؛ تقية وعفة وزهدًا واعتدالًا وتقشفًا وسموًّا عن عبث الأهواء ورفعة إنسانية واتصالًا دائمًا بالحياة العليا في أعظم الصور وأدق الأسرار، وهذا يمنع المرض، وإذن كان هذا التوعك دليلًا على النهاية في نظر أصدقائه الذين رأوا أنه أتم الدين.
أما المصاعب التي عاناها الرسول في عشرين عامًا؛ فهي: العنت والظلم والإهانة وهجرة أصحابه الأول إلى الحبشة والنفي إلى شعاب مكة عند مقاطعة قريش إياه ودعوة ثقيف وما جرى فيها، ومشاجرات الطريق، وفراره إلى الغار والهجرة إلى المدينة، والغزوات (بدر وأحد وحنين وغيرها)، ووفاة أهله؛ أبيه وأمه وجده وعمه وزوجته وأولاده وبناته ما عدا فاطمة، وشدة نزول الوحي؛ قال — عليه الصلاة والسلام: «شيبتني هود وأخواتها.»
وآلام النفس ومخاوف الحياة مع شدة الأمل في الله سبحانه وتعالى.
وقد أرق الرسول في أول مرضه وأخذ معه غلامه أبا مويهبة، وخرج إلى بقيع الغرقد وقال مخاطبًا أهل القبور: السلام عليكم يا أهل المقابر! ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى.
ثم قال لخادمه: «لقد اخترت لقاء ربي!»
وقد أخر مرض النبي جيش أسامة بن زيد بن حارثة.
والبعض يظن أن بعض المسلمين تذمروا من قيادة أسامة لجيش فيه أبو بكر وعمر!
ولا يستغرب شعوره ﷺ بدنوِّ أجله وحديث أهل المقابر؛ فقد نادى — عليه الصلاة والسلام — من قبل أهل القليب، ولما اشتدت الحمى على الرسول، خرج إلى المسجد، وأوصى المهاجرين بالأنصار، وأمر أبا بكر بأن يصلي بالناس.
وتحدث إلى فاطمة وبشرها بأنها أول من سيلحق به عند الرفيق الأعلى، وشرع يملي كتابًا للمسلمين لا يضلون بعده.
وعاد أسامة بن زيد بن حارثة وجيشه إلى المدينة.
وقد عولج الرسول بوصفة حبشية جاءت بها أم سلمة فعاد وخرج صباحًا إلى المسجد فاغتبط المسلمون بذلك، ولكنه عاد فاشتدت عليه الحمى، فمات ﷺ في يونيو سنة ٦٣٢، فأنكر عمر بن الخطاب موته فدخل عليه أبو بكر وتأكد من ذلك وتلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
فهدأ عمر من رَوعه.
ودفن ﷺ حيث مات، ولم يترك ميراثًا، وإن كان قد ترك أعظم ميراث في العالم، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.