الأمم والدول العربية البائدة
قامت لبعض قبائل العرب البائدة دول فطرية قبلية فاشتُهر منهم أقوام عاد وثمود والعمالقة وطسم وجديس وأميم وجرهم وحضرموت بتأسيس دول لها ملوك يتوارثون العروش، ومدنية مناسبة للزمان الذي وُجدوا فيه، وقد بالغ بعض المؤرخين في وصف تلك الممالك وآثارها، ولكن معظم ما روَوْه ونقلوه سماعي لا يؤبه له. وقد سُميت هذه الطبقة الأولى من العرب بالبائدة لأنها انقرضت منذ زمانٍ بعيد، وغمض تاريخها إلى حد أن العرب أنفسهم لم يعرفوا منه شيئًا يُذكر غير مبالغات وخزعبلات تخيلها الخراصون، وقد ظل العرب يجهلون أنه قامت في اليمن في بعض عصورها دولة يقال لها المَعينية، حتى قام المستعرب هاليفي الفرنسي مستهديًا بما ورد عنها في كتاب المؤرخ اليوناني القديم «استرابون»، فارتاد بلاد الحوف شرق صنعاء، واكتشف أنقاض مَعين، ووجد بها كتابات بالقلم المسند دلته على أسماء ٢٦ من ملوكها، فنقلها بنصها ورسومها.
فتاريخ هذه الطبقة البائدة من العرب يجب أن يغفل في بحث حالة العرب قبل الإسلام؛ لغموضه وتغلغله في القدم، ولما حدث من الانقلاب الذريع في كيان الأمة العربية بعده، حتى سُميت تلك الطبقة بالبائدة، ومن بقي بعد تلك الانقلابات سُمُّوا بالعرب المستعربة؛ كما سيجيء.
وما انفكت الأمة العربية ملازمة في كل عهودها للحالة القبلية حتى ظهرت ثورة الإسلام فوحَّد بينها وجعل منها أمة.
قال الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا (سورة آل عمران).
وقد لازمت العرب البداوة والأمية في كل أدوار حياتهم قبل الإسلام، وحتى القبائل أو الطوائف التي أسست ممالكَ وانقرضت قبل الإسلام لم يصلنا عن إحداها كتاب مخطوط، ولا خبر مكتوب عن وجود أثارةٍ من علمٍ فيها، مع أنه قد وصلنا عن أمم كثيرة غيرها مؤلفات قبل ٦٠٠٠ سنة، وأسماء علماء وفلاسفة وفنانين كانوا عائشين في تلك العصور البعيدة، كالسومريين والأكاديين (كتاب ل. كنج).
لقد كانت البداوة والأمية أثيرتين عند العرب إلى حد أنهم على مجاورتهم الفرس والرومان ووقوعهم تحت نيرهم أجيالًا؛ لم يأخذوا أخذهم في العلوم والفنون، ولم يُشتهر فيهم فلكي أو فيلسوف أو فنان، ولم يصلنا منهم صفحة واحدة باللغة العربية حتى مما له علاقة بالدين، وهو أقل ما تهتم به الأمم القديمة. قال الله تعالى: وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ۖ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِير (سورة سبأ).
وقال: أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (سورة ن).
فلو كان عند العرب كتاب كالذي زعم القائلون بوجود النثر الفني قبل الإسلام، لأبرزوه ليردوا على الوحي الذي تحداهم في آياتٍ معدودة.
أما بقية العرب — وهم السواد الأعظم في سائر الجزيرة — فكانوا يعيشون على حالة بداوة وأمية بأوسع معاني هاتين الكلمتين من يوم خلْقهم إلى البعثة المحمدية (الأستاذ محمد فريد وجدي).
وجزيرة العرب تبلغ مساحتها ستة أضعاف فرنسا، وليس منها من المدن إلا ما يعد على الأصابع، كمكَّة والمدينة والطائف. ولم يكن لديهم زراعة ولا صناعة ولا تجارة ولا علم، إلا ما يقيمون به أَوْدَهُمْ، وغاية جهدهم اشتغالهم بالنقل البري إلى مطارف الشام على ظهور الإبل وغشيان الأسواق والارتحال. أما الحكومة وأما الجيش والتعليم والقضاء — وهي من مقومات الحضارة — فلم يسمعوا بها، ولم يمارسوها في غير دار الندوة وحلف الفضول.
-
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (سورة الجمعة).
-
وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ.
-
قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ؛ حكاية على لسان اليهود.
-
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ (سورة التوبة).
-
وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (سورة العنكبوت).
أما القصص والأمثال فتدل كلها على حال البداوة والأمية. وأما الشعر الجاهلي — وهو لون من الأدب الشعبي — فلا ريب فيه، ولكنه لا يُستطاع الاحتجاج به، ولا يدل على وجود الفن الأدبي كما لا يدل كل شعر لأمةٍ أمية على وجود هذا الفن لديها.
فشعر هوميروس في الإلياذة كان مرويًّا ومحفوظًا لأنه كان كفيفًا ينظم ويستظهر ولا يكتب. شعر جنوب فرنسا «بروفنس» كان مرويًّا ينشده الشعراء في المحافل، وقد سجله وخلده شاعرهم القومي ميسترال الذي أقاموا له تمثالًا في حياته. وفي صعيد مصر وريفها شعراء أميون يقولون الشعر موزونًا مقفًّى ويتناولون شئون الحياة المفرح منها والمحزن، ولكن لم يقل أحد بأنهم على شيءٍ من الأدب أو الفن، وعلى الرغم من انتشار التعليم في مصر، لم يُعْنَ أحد من الأدباء بتسجيل أشعارهم؛ لأن هؤلاء الناظمين الأميين يضنون ببضاعتهم على من لم يكن من بيئتهم، وكان الله بالسر عليمًا، فهو يتحدى العرب المعاصرين للنبي ﷺ بقوله المبين: ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (سورة الأحقاف).
وقال: قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (سورة الأنعام).
فلم يأتوا بكتابٍ، ولم يُخرجوا علمًا، ولم يردوا أو ينقلوا شيئًا من هذا بعد تحدي القرآن مراتٍ عدة، وهم الذين نقلوا كل شيء وجدوه حتى أخبار الخيل والكلاب والغول والعنقاء والأفاعي، وكانوا بسبب جاهليتهم ووثنيتهم وأميتهم ضعفاء مفككين، فلم يستطيعوا أن يحتفظوا باستقلالهم أمام معاصريهم، فاستولى الفرس والرومان على بلادهم المجاورة للدولتين، واستولت الحبشة على اليمن فاستغاث أهله بالفرس فأغاثوهم، وانتهزوا ضعفهم فاحتلوا بلادهم إلى أن أجلاهم الإسلام عنها وحررها كما حرر العراق وغسان.
فثورة الإسلام وحدها هي التي وحَّدت قبائل العرب، وأسقطت ما بينهم من فروق القبائل ومن ضغائن، وهي التي رفعت عنهم طابع الأمية ودفعتهم لطلب العلم دفعًا لا هوادة فيه؛ فكانت ثورة وطنية استقلالية ودينية، قال محمد ﷺ: «لقد أذهب الله عنكم رجس الجاهلية وتفاخُر آبائها.»
نعم، قد جاء في القرآن الكريم بضع آياتٍ تدل على شبه حضارة بائدة تجمع بين العبث والبطش وتوهُّم الخلود؛ لقوله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (سورة الشعراء).
-
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (سورة الشعراء).
-
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ (سورة الأعراف).
-
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (سورة سبأ).
وتدل هذه الآيات كلها على ما كان لبعض العرب البائدة من حياةٍ اجتماعية، ولكن لا علاقة البتة بين هؤلاء وبين العرب عند بعثة النبي ﷺ؛ إلا إذا كانت هناك علاقة بين الحضارة الأوروبية الحالية وبين حالة البداوة والتوحش التي كانت عليها أوروبا قبل الحضارة اليونانية وأثناء القرون المظلمة. وقد وردت تلك الآيات في القرآن الكريم على سبيل الموعظة والإنذار للعرب المعاصرين للنبي ﷺ، وليس المقصود منها إلى التاريخ والتسجيل كما ظن بعضهم.
فالعرب العاربة هم عاد وثمود والعمالقة ومن أشبههم، والعرب المتعربة هم القحطانيون، ومنهم حِمير وسبأ والتبابعة وجرهم.
والعرب المستعربة هم الإسماعيلية والعدنانية ودولة حامورابي والدولة المعينية، والأولى في بابل، والأخرى في اليمن.
فالعرب العاربة والمتعربة قطنوا الجنوب، والمستعربة قطنوا الشمال.
فأهل الجنوب بسبب خصوبة أرضهم أحدثوا نوعًا من الحضارة الزراعية، وانتهَوْا ببناء سد مأرب، ولكنهم لم يتمكَّنوا من تعميره بعد تخريبه.
وقد حدثت أحداث طبيعية ضربت أسباب الحياة المعاشية ضربةً قضت عليها، فلم يبقَ للسكان مناص من النزوح والهجرة؛ فارتحلوا شمالًا وشرقًا وغربًا. وتلك الهجرات شبَّهها العلماء بالأمواج البحرية لم تنجُ منها أُمةً قديمة أو حديثة منذ تاريخ الإنسانية إلى عصرنا هذا (ص٣٥٨، تاريخ سومر وأكاد، تأليف ل. كنج).
فتاريخ هذه الطبقات البائدة من العرب يجب أن يُغفل في بحث حالة العرب قبل الإسلام، لغموضه وتغلغله في القدم، ولما حدث من الانقلاب الذريع في كيان الأمة العربية بعده.
ومع كل ما تقدم فإن العرب — على اختلاف القبائل والبطون — قلما نبغ فيهم حكيم أو خطيب أو كاهن أو شاعر إلا بعد دخولهم في القرن الأول قبل الهجرة، ولم يكن للذين ظهروا شأنٌ يذكر.