سيدنا إسماعيل عليه السلام ونسله في الحجاز
كان العرب في الشمال يُعرفون بالإسماعيلية والعدنانية؛ نسبةً إلى جدهم الأعلى إسماعيل بن إبراهيم، وإلى عدنان أحد أجدادهم الأقربين من ولد إسماعيل، وهؤلاء كانوا يسكنون الحجاز من يوم نزوح إبراهيم وهاجر وولدهما. والحجاز إقليم فقير مجدب عديم النبات قليل الماء؛ فنشئوا بدوًا يغلب عليهم الظعن والارتحال والتحارب على أسباب البقاء ووسائل الحياة، وإن كان إسماعيل قد صاهر جرهم وبنى منهم بسيدة بنت مضاض ثم برعلة بنت عمرو الجرهمي، إلا أن تاريخ جرهم مِن أدخل تواريخ العرب في الغموض.
فالتاريخ يحدثنا بأنه شعب يمني قديم عاصر المعينيين في اليمن والحامورابية في العراق، وهم خلفاء عاد والعمالقة.
وأول ما دوَّنه التاريخ عنهم مقترن بنزوح إبراهيم إلى الحجاز؛ فقد اختار الله لتلك الأسرة بطحاء مكة، وكان إبراهيم ذا شخصيةٍ بابليةٍ متميزة، له تاريخ عريق وصِيت بعيد؛ فقد اقترن اسمه بحوادث خطيرة، وهو خليل الله ورسوله بالحنيفية السمحاء، وهو الذي ثار في وجه أُمته الوثنية فحطم أصنامها وحقر ديانتها، وعصى أباه في عقيدته وفنه ورزقه، وجادل علماء وطنه وكهنته، فلما عجز باطلهم لدى حقه ألقَوْا به في النار، فأيده الله بنجاته وخذلانهم، ففر من بابل بجلده سالمًا. فحلول إبراهيم أرض الحجاز وتخليفه ولده وزوجه بأرضه، ثم تردده على بطحاء مكة لزيارة نجله، وبناؤهما البيت الحرام في مكة، وجعْلهما إياه حرمًا آمنًا محجوبًا، ومعبدًا لدين التوحيد الجديد الذي جاهر به إبراهيم بعد أن أُوذي في سبيله ببابل؛ قد أيقظ عقول بني جرهم إلى الأسرة الجديدة والدين الجديد فتقربوا إليهم وصاهروهم.
وقد تعلم إسماعيل العربية من أصهاره فأحب أن يقيد اللغة الجديدة، فقيل «إن أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل، وضعه على لفظه ومنطقه.» بعد أن التقف اللغة من الأفواه.
أما أشخاص جرهم التاريخيون فنعلم منهم جرهم وعبد ياليل وخشرم وعبد المدان ونفيلة.
وقبل النبي بألفٍ وأربعمائة سنة غزا بختنصر بلاد العرب، فحاربه عدنان في «ذات عرق» وتعادلت القوتان وانسحب الفاتح الأجنبي لما عاناه من جدب الأرض ووعورة المسالك، وبعد أن أيقن أن ثمرات المغازي في بلاد العرب لا توازي ما يُبذل في سبيلها، فارتد على عقبيه راضيًا من الغنيمة بالإياب، ومؤْثرًا العافية على الأسلاب، ومنقذًا جنوده من الهلاك المحقق (ليون كايتاني، آثار الإسلام، ج١).
وعدنان بطل حجازي لا شك في تاريخه، ويظهر أنه كان النسل كله، وطنية وفروسية وبطولة وزعامة؛ فلم يشاركه أحد في المجد.
قال القلقشندي: «واعلم أن الموجودين من العرب من ولد إسماعيل كلهم من بني عدنان بن أدد» (ج١، ص١٧).
وقال ابن خلدون: «ومن عدا عدنان من ولد إسماعيل قد انقرضوا ولم يبقَ لهم عقب؛ ولذلك عُرفت بالعدنانية.»
فإذنْ كان إسماعيل جدًّا عاليًا لعرب الحجاز، وكان ذبيحًا، وفي حكم اليتيم، وكان مؤسس أمة ومنشئ لغة قومية ووطنية جديدة. وكان ابن نبي بنص التوراة والقرآن، ونبيًّا ورسولًا وبارًّا بوالديه؛ ولذا قال الله — تعالى — في حقه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (سورة مريم).
وكانت رسالته إلى جرهم، وهم العرب الذين صاهرهم وعاش بينهم طول حياته؛ فهو نبي محلي لا تعميم لرسالته، وقد بعث الله مثله هودًا إلى عاد، وصالحًا إلى ثمود، وعيسى إلى يهود فلسطين (إلى هؤلاء الخراف من بني إسرائيل) كنص العهد القديم.
وكل هذه الطوائف والقبائل كانت غارقة في أوحال الجهالة. ولا يُعترض بضياع أخبارهم؛ فقد حفظوا أخبار عادٍ وثمودَ وصالحٍ وهودٍ، فلو نبغ منهم في القرون الأخيرة عالم أو أديب أو شاعر أو خطيب لما ضاع ذكره ضياعًا تامًّا؛ فإن الأمثال وجوامع الكلم قد رُويت بحذافيرها منسوبةً إلى ذويها. ولو كان عند العرب أي علمٍ أو فنٍّ أدبي أو غيره لنقله عنهم رواة اللغة الذين اختلطوا بهم وبغيرهم من القبائل، ولبثوا بين ظهرانيهم سنين، فهل كان هؤلاء الرواة يحرصون على الألفاظ والأساطير هذا الحرص كله ولا ينوهون بكلمةٍ عن أدب العرب وعلومهم — وهم رواة الأدب العربي — فلم يجدوا غير ألفاظ اللغة فحفظوها عنهم ونقلوها إلينا، وقد شغلهم تطلُّب الأرباح والكدح للمعاش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الإغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة؟!
ليس المقصود من كل ما تقدم أن بعثة محمد كانت مقصورة على الأميين، وإن كانوا أول من تلقَّى الرسالة وعاندها وقاومها. فلو كانوا على علمٍ وأدبٍ وفن لعرفوا قدرها، وإن كانوا عجبوا منها وأُعجبوا بأسلوب القرآن وإعجاز آياته لأنهم لم يكونوا كلهم خُشُبًا مسندة ولم تقد قلوبهم جميعها من صخرٍ بلا استثناء؛ فقد وجد الباحثون آثارَ مدرسةٍ لتعليم الأطفال فيها حجارة عليها دروس للأطفال من حسابٍ ولغةٍ وخط. وكان بعض الصحابة وغيرهم مُلمِّين بالكتابة؛ والدليل على ذلك كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمز والمد والقصر. وفي الأغاني أن حماد بن زيد جد عدي بن زيد الشاعر المشهور علَّمته أمه الكتابة في دار أبيه فخرج من أكتب الناس وصار كاتبًا للنعمان الأكبر.
ولكن النبي هو الذي بدأ برفع وصمة الأمية عن الأمة العربية بعملٍ لم يسجَّل مثله لمُصلحٍ في الأرض؛ وذلك أنه جعل فداء الأسير الذي كان يعرف القراءة والكتابة في وقعة بدر — وهي أول الوقائع الإسلامية — أن يعلمهما نفرًا من المسلمين، ففعلوا.