مكة والكعبة والإسلام بعد الجاهلية والوثنية
وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
ومحصل ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من كراهة المجاورة مبني على ضعف عن مراعاة حرمة الحرم الشريف والبُعد عن السمر والتفكُّه باللغو، وذكر أحوال الدنيا والاغتياب والخوض فيما لا ينبغي لهم من اللهو والعبث، فمن أمكنه الاحتراز عن ذلك وبقيت حرمة البيت في عينه وقلبه فالإقامة هي أفضل، وحينئذٍ لا تُكره، ونحن لا نحب أن نتعرض هنا إلى ما اشتُهر عن الحياة الاجتماعية في بعض المدن المقدسة في الهند ومصر وبابل وآشور؛ فهناك أوصاف مسهبة وأدلة ماثلة تجدها في تواريخ هيردوت والأزرقي والنهروالي والفاكهي وفلندرزبتري. وفي مجموعة ويستفلد الألماني نص المنشور الذي بعث به الخليفة الهادي العباسي إلى أهل مكة وفيه الكفاية، ومن بركة العلم نسبته إلى قائله. ولكن ما كانت عليه مكة قبل مولد النبي ﷺ ومبعثه لم يمنعها أن تكون مصدرًا لهذا النور الإلهي الذي انبثق من أحد بيوتها، ومن أصعب الأمور أن يوفِّق الباحث الاجتماعي بين طبيعة الإنسان الغارقة في الأخطاء والأوزار وبين القداسة التي يريدها الله — سبحانه وتعالى — لبعض الأماكن؛ فمكة مشرفة في نظر العالم الإسلامي، وستبقى كذلك إلى الأبد بإذن الله.
وأقدم مؤرخي مكة من العرب أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي، ثم خلفه أبو عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي المكي، ثم تقي الدين الفاسي محمد بن فهد الشافعي، ثم النهروالي من علماء نهروالة صاحب الأقوال المأثورة والكتب المشهورة، وقد جاء وصف مكة على لسان هؤلاء الأعلام — غير ما ذكرناه — أنها مدينة كبيرة مستطيلة ذات شعابٍ واسعة، لها مبدأ ونهايتان، مبدؤها المعلاة — وهي المقبرة الشريفة — ومنتهاها من ناحية جدة «الشبيكة»، ومن ناحية اليمن «بازان»، وشكلها كالسلحفاة الرابضة، وبها جبلان اسمهما الأخشبان، وهما جبل أبي قبيس (وهو المشرف على الصفا)، والجبل الأحمر أو الأعرف (وهو المشرف على قعيقعان وعلى ديار عبد الله بن الزبير)، وقعيقعان جبل يُعرف الآن باسم جزل.
والمسجد الحرام بوسط مكة بين هذين الجبلين، والكعبة بوسط المسجد الحرام، وإذا أشرف الناظر على مكة من أعلى جبل أبي قبيس لا يرى جميع مكة، بل يرى أكثرها.
روى النهروالي أنه كان يشاهد في سن الصِّبا خلو الحرم الشريف وخلو المطاف من الطائفين، حتى إنه أدرك الطواف وحده من غير أن يكون معه أحدٌ مراتٍ كثيرة؛ كان يترصده خليًّا لكثرة الثواب بأن يكون الشخص الواحد يقوم بتلك العبادة وحده في جميع الدنيا؛ لأنه لا توجد عبادة يمكن أن ينفرد بها رجلٌ واحد في جميع الدنيا، ولا يشاركه غيره في تلك العبادة بعينها إلا الطواف؛ فإنه يمكن أن ينفرد به شخصٌ واحد.
وروى له والده أن أحد الصالحين رصد الطواف الشريف أربعين عامًا ليلًا ونهارًا ليفوز بالطواف وحده، ولم يذكر لنا إن كان فاز به أم لم يَفُزْ.
يعني أن بئر جبير كانت من الأماكن الخالية التي يلجأ إليها العشاق خارج البلد — كغاب بولون في باريس — وابن أبي ربيعة خير من يعرف. والمكان الذي صلى به رسول الله ﷺ صار مسجدًا هو مسجد الراية الذي وضع النبي ﷺ رايته فيه يوم فتح مكة، والبئر لا تزال موجودة إلى الآن خلف المسجد، وقد تجاوز العمران عن حد هذه البئر كثيرًا إلى صوب المعلاة.
وقيل إن أول من بنى بيتًا بمكة سعد بن عمرٍو السهمي، وكان فيها نظام يحد حقوق الملك كالنظم الحديثة التي تفرضها الحكومات أو المجالس البلدية في بعض الخطط والناحيات من المدن، وهي قيود وُضعت للمصلحة العامة. ومن تلك القيود في مكة أنه لا ينبغي لمن يبني بمكة بيتًا أن يرفع بناءه على بناء الكعبة، وهذا القيد ديني لأنه لا يجوز أن يرتفع بناء على بيت الله. وكانت هذه القاعدة متبعة في زمن الصحابة؛ فإن بعضهم كان يأمر بهدم البيت الذي يعلوها. وقال الأزرقي: «سُميت الكعبة كعبة لأنه لا يُبتنى بمكة بناء مرتفع عليها.» وهذا تعليل خاطئ؛ لأن الكعبة بُنيت قبل عمران القرية، ولكن مؤرخي العرب لا يحققون!
أما الصحابي الذي كان يهدم البيوت العالية فهو شيبة بن عثمان، كان يشرف فلا يرى بيتًا مشرفًا على الكعبة إلا أمر بهدمه. وقد سُميت الكعبة لأن شكلها مكعب، ولسبب شعري، وهو دق إسماعيل بكعبه عند زمزم.
وقد عُرفت قريش بمكة لأن تلك القبيلة هي التي احتلت نواحيَها وعمَّرتها؛ ففي كتاب المنتقى في أخبار أم القرى للفاكهي أن قريشًا ثلاثة أصناف: (١) قريش الأباطح أو قريش البطاح. و(٢) قريش الظواهر. و(٣) آخرون ليسوا من هؤلاء ولا أولئك.
- (١)
شعب: خزيمة؛ أو يقال شعب خزيمة، وهي الأعم.
- (٢)
قبائل: كنانة؛ فإذا ذُكرت كنانة عُرف أنها قبيلة.
- (٣)
عمارة: قريش؛ فقريش إذنْ ليست قبيلة بل عمارة.
- (٤)
بطون: قصي؛ والعمارة تنشق أو تنقسم بطونًا.
- (٥)
أفخاذ: هاشم؛ وأصغر من البطون الأفخاذ.
- (٦) فصائل: العباس؛ والفصيلة هي الوحدة أو الخلية الأولى.٣
قال شاعرهم وقد جمع هذا التقسيم السداسي:
ويُفهم تسلسُل السلطة على مكة للقبائل من كلمة منسوبة إلى عمر بن الخطاب بسندٍ حسن، أنه قال لقريش في بعض خطبه: إنه كان ولاة هذا البيت قبلكم طسم، فاستخفوا بحقه، واستحلوا حرمته، فأهلكهم الله، فلا تهاونوا به وعظِّموا حرمته.
ولكن لا يُفهم من كلمة الولاة التي ذكرها سيدنا عمر — رضي الله عنه — أنه كان هناك نظام وقضاء وعدل ودولة؛ فإن تاريخ تلك القبائل كان غارقًا في الغموض، وحياتهم الخاصة والعامة نهبًا بين الخرافات والأساطير، وحاجتهم إلى الكهانة والسحر ملحة حتى فيما له علاقة بالمواريث. ومن ذلك ما يُروى أنه لما حضرت نزارَ بن معد بن عدنان الوفاةُ آثر إيادًا بولاية الكعبة وقال لأولاده: «إن أشكل عليكم كيف تقتسمون التركة، فأتوا الأفعى الجرهمي ومنزله بنجران.» ثم مات فتشاجروا في ميراثه فتوجهوا إلى الأفعى في نجران، وهو كاهن كسطيح، ولكن ظهر للأفعى من ذكاء أولاد نزار وفطنتهم ما أدهشه؛ فقد كشفوا له عن أمورٍ لها علاقة بنسبه وأصله ولون طعامه! ولا يهمنا في هذه الأسطورة إلا شيئان؛ أولهما: التجاء المتنازعين إلى الكاهن ليفصل لهم في المواريث كأنه محكمة تُرضى حكومته ولا يُطعن في الرأي الذي يراه، والثاني: سيادة نظام الأمومة بدليل أن إيادًا — أحد أولاد نزار — قال لإخوته: «لم أرَ كاليوم رجلًا أسرى لولا أنه ليس لأبيه الذي يدعى إليه!» فسمعهم الأفعى فذهب لأمه وقال لها: اصدقيني من أبي؟
فقالت إنها كانت لملكٍ كثير المال لا يولد له ولد فخافت أن يموت ولا يولد له، فمر بها رجل وكان نازلًا عليه (أي ضيف الملك) فطلبت إليه أن يقع عليها (علاقة جنسية غير مشروعة) فولدت منه الأفعى.