عهد العماليق ونزوح القبائل إلى مكة
كانت العماليق ولاة الحكم بمكة فضيعوا حرمة البيت، واستحلوا فيه أمورًا عظامًا، ونالوا ما لم يكونوا ينالون، فقام أحدهم — وهو عموق — فيهم خطيبًا فقال: يا قوم، أبقوا على أنفسكم؛ فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر الأمم قبلكم — قوم هود وصالح وشعيب — فلا تغفلوا، وتواصلوا فلا تستخفوا بحرم الله وموضع بيته، وإياكم والظلم والإلحاد؛ فإنه ما سكنه أحد فظلم فيه وألحد إلا قطع الله دابرهم واستأصل شأفتهم!
فلم يقبلوا منه هذه النصيحة وتمادَوْا في هلكة أنفسهم حتى سلبهم الله النعم بحبس المطر عنهم، وتسليط الجدب عليهم، فكانوا يكرون الظل بمكة ويبيعون الماء، فأخرجهم الله من مكة، ثم ساقهم الله بالجدب حتى ألحقهم بمساقط رءوس آبائهم — وكانوا من حِمير — فلما دخلوا بلاد اليمن تفرَّقوا وهلكوا، ومن مثل هذه حذَّر سيدنا عمر قومه.
فهذه إذنْ قصة قبيلة هاجرت من الجنوب إلى الشمال فلم تستقِمْ أمورها فعادت إلى مواطنها وتبددت بأسبابٍ اقتصادية، ولكن المهم أنها لم تكن صالحة لاستعمار الحجاز. ثم إن جرهمًا وقطورا خرجوا سيارة من اليمن وأجدبت بلادهم عليهم فساروا بذراريهم ونَعمهم وأموالهم وقالوا: «نطلب مكانًا فيه مرعًى تسمن فيه ماشيتنا وإن أعجبنا أقمنا فيه؛ فإن كل بلادٍ ينزلها أحد ومعه ذريته وماله فهي وطنه، وإلا رجعنا إلى بلدنا.» فلما قدموا مكة وجدوا فيها ماءً طيبًا، وعضاهًا ملتفة من سلم وسمر، ونباتًا يُسمن ماشيتهم، وسعةً من البلاد، ودفئًا من البرد في الشتاء. يعني أن كل مكان ينبت العز طيب وإن لم يكن وطنًا.
فقالوا: «إن هذا الموضع يجمع لنا ما نريد.» فأقاموا مع العماليق، وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم، وكان ذلك سُنَّة فيهم ولو كانوا نفرًا يسيرًا. فكان مضاض بن عمرو ملك جرهم والمطاع فيهم، وكان السميدع ملك قطورا. والمقصود بالملك في لغتهم زعيم القبيلة ورئيسها.
ونزل السميدع أسفل مكة وأجيادين والتثنية إلى الرمضة، فبنيا البيوت واتسعا في المنازل وكثروا على العماليق، فنازلتهم العماليق فمنعتهم جرهم وأخرجوهم من الحرم كله؛ فكانوا في أطرافه لا يدخلونه فقال لهم صاحبهم عموق: «ألم أقل لكم لا تستخفوا حرمة الحرم فغلبتموني؟!»
فجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما، وكثروا وربلوا وأعجبتهم البلاد، وكانوا قومًا عربًا وكان اللسان عربيًّا، فكان إبراهيم يزور إسماعيل فلما سمع لسانهم أمر إسماعيل أن ينكح فيهم، فخطب إلى مضاض بن عمرو ابنته رعلة، فولدت له عشرة ذكور وهي أم البيت، وهي التي أحسنت لقاء إبراهيم.
وتُوفِّي إسماعيل فقام مضاض بأمر ولد إسماعيل وكفلهم لأنهم بنو ابنته، ولم يزل أمر جرهم يعظم بمكة ويستفحل حتى ولوا البيت كله فكانوا ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة، فجاء سيل فدخل البيت فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم.
وكان مهندسهم في بناء البيت أبو الجدرة فسمي عمر الجادر.
ثم إن جرهمًا استخفوا بأمر البيت والحرم وارتكبوا أمورًا عظامًا وأحدثوا فيه أحداثًا لم تكن؛ فقام مضاض بن عمرو بن الحارث فيهم خطيبًا وخطب خطبة عموق، وضرب لهم مثلًا بالعماليق، فاعترض عليه قائل منهم اسمه مجدع وقال: «من ذا الذي يخرجنا منه؟! ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالًا وسلاحًا؟!»
فقال مضاض بن عمرو: «إذا جاء الأمر بطل ما تقولون.» فلم يمتنعوا عن شيء مما كانوا يصنعون، وتواعد خمسة نفر من جرهم أن يسرقوا ما في كنز الكعبة، وهو الحلي والمتاع الذي كان يُهدى إلى بيت الله؛ فحرسه الله بمعجزةٍ ذكروها.
ثم حولهما قصي بن كلاب بعد ذلك فوضعهما يذبح عندهما وجاه الكعبة عند موضع زمزم. ولم يزالا يُعبدان حتى كان يوم الفتح فكُسرا فيما كُسر من الأصنام، ولا يزال بعضهما عتبات المساجد.
وفكر مضاض بن الحارث في حماية التجارة والدفاع عن الأجانب جلبًا للغرباء والتجار، فقال في إحدى تلك الخطب:
وقِّروا حرم الله، ولا تظلموا من دخله وجاء معظمًا لحرماته، وآخر جاء بائعًا لسلعته أو مرتغبًا في جواركم.
وكان أساس الحياة في ذلك الوادي قبول الهجرة من القبائل القادمة من الجنوب، وتنبَّأت طريفة كاهنة اليمن لعمرو بن حارثة بخراب سد مأرب، فباع عمرو بن عامر أموالهم وسار هو وقومه من بلدٍ إلى بلد يغلبون البلاد ويقهرونها إلى أن بلغوا مكة وأصحابها جرهم، وقد قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل وقد حدث قبل القهر والاحتلال نوع من المفاوضة السياسية بين القبيلتين؛ فقد أرسل ثعلبة بن عمرو بن عامر إلى جرهم يقول (وكان أبوه قد مات أثناء الرحلة فحل محله في قيادة الهجرة): «يا قوم، إنَّا قد خرجنا من بلادنا فلم ننزل بلدًا إلا فسح أهلها لنا وتزحزحوا عنا فنقيم معهم حتى نرسل روادنا فيرتادون لنا بلدًا يحملنا، فأفسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قدر ما نستريح ونرسل روادنا إلى الشام وإلى الشرق فحينما، بلغنا أنه أمثل لحقنا به، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرًا!»
فأبت جرهم ذلك إباءً شديدًا وقالوا: «لا والله ما نحب أن تنزلوا معنا فتضيِّقون علينا مراتعنا ومواردنا؛ فارحلوا؛ فلا حاجة بنا إلى جواركم.»
فقال لهم ثعلبة: «لا بد لي من المقام بهذا البلد حَولًا حتى يرجع إليَّ رسلي التي أرسلت، فإن تركتموني طوعًا نزلت وحمدتكم وواسيتكم، وإن أبيتم أقمت على كرهكم ثم لم ترتعوا معي إلا فضلًا ولن تشربوا إلا رنقًا (وهو الكدر من الماء)، وإن قاتلتموني قاتلتكم، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء وقتلت الرجال ولم أترك أحدًا منكم ينزل الحرم أبدًا!»
فانشق عرب الجنوب فسارت منهم جماعة إلى عمان، وهم أزد عمان.
وسارت جماعة إلى وادي الأراك من بطن مر — وهي خزاعة — فالفرع الأول قصد الساحل الشرقي من جزيرة العرب والفرع الثاني أقام في الجنوب من الرصيفة، خلف جبال بحرة.
وخرج الفرع الثالث إلى يثرب — وهم الأوس والخزرج — وخرج الفرع الرابع إلى بصرى وعوير، وبصرى من أعمال جبال حوران بالشام، وعوير هي اليوم بادية الشام، والذين سكنوها هم آل جفنة من غسان، وسكن بلاد العراق آل جذيمة الأبرش وآل محرق.
وانخزعت خزاعة بمكة فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحي، فولي أمر مكة وحجابة الكعبة.
ولهذه الهجرة وما جرى فيها من اشتقاق القبائل دليل تاريخي، وهو شعر حسان بن ثابت يذكر خزاعة والخزرج وغسان وأماكن رحلتها واستقرارها؛ حيث يقول:
وماء السماء هو جد عمرو بن عامر رئيس هذه الهجرة وشيخها، فهو عمرو بن عامر، ويقال له مزيقياء بن ماء السماء.
وهذه المقطوعة الشعرية تحمل الدليل التاريخي على أصل هذه القبائل، واتجاه هجرتها، والأماكن التي استقرت بها. وحسان بن ثابت شاعر مخضرم لا شك فيه.