ظهور قصي وأعماله وتبدُّد ظلمات التاريخ الجاهلي
إذنْ كان قصي بن كلاب من كنانة، وأمه سليلة سعد بن سيل الذي كان أشجع أهل زمانه، ونشأ في قضاعة في بيت زوج أمه، وخرج إلى وطنه عائدًا ككل ولد يبلغ أشده ورشده بعد أن يتم عهد الحضانة في كنف أمه؛ سواء أكانت متزوجة أو مترملة، وهي على كل حال السيدة الآمرة الناهية تكفل ابنها وتبقيه في بيتها أو ترسله، والولد لا يعرف الغيرة على أمه إذا رآها تتزوج من غير أبيه، بل يرى إخوته من أمه أقرب إليه من إخوته لأبيه؛ لأن الوالد أو الزوج عرض زائل، أما الأم فهي العنصر الباقي الذي يلم شمل الأولاد من كل الأزواج. وقد تجلت هذه الظاهرة الاجتماعية في تراجم الكثيرين من رجال العرب الذين ورد ذكرهم في العصر الجاهلي (عمرو بن العاص).
إذنْ خرج قصي أو عاد قصي من قضاعة وهي بلاد قصية بالنسبة إلى مكة؛ لأن أمه فاطمة اختارت أن تعيش مع زوجها في أرض عذرة من أشراف الشام.
وكان قصي جليدًا حازمًا بارعًا واسع الحيلة قوي الإرادة أشبه الرجال بالأبطال الذين أسسوا المدن العظمى في التاريخ كأثينا ورومة ومنفيس وطيبة؛ وهي المدن التي صدرت عنها الحضارات القديمة، ولم تكن مكة بأقل شأنًا من هذه العواصم بالنسبة لعرب الجاهلية.
ولا بد أن كانت لقصي كرامة ومكانة بلغهما بمواهبه وأخلاقه، وكانت نفسه ترمي إلى المجد والتسامي والصعود بهمته القعساء إلى ذروة العظمة المدنية. وما زال يدأب حتى تقرب من بيت الملك وتقدم إلى حليل، آخر ملوك خزاعة وسليل بيت عمرو بن لحي، فخطب إليه ابنته حبى. وقد رُزقت حبى بنت حليل من قصي عددًا من الأولاد، هم: عبد الدار، عبد مناف، عبد العزى، عبد بن قصي.
ولما مات حليل تُركت حجابة الكعبة لقصي زوج ابنته، وكان قصي في آخر عمر حليل يعمل على حيازة البيت ووضع يده على مفتاحه؛ وهو الرمز المادي للسيادة والسدانة، ويعمل على قطع ذِكر خزاعة عنه، فلما مات حليل نازعت خزاعة قصيًّا وأخذوا المفتاح من حبى بنت حليل، وشعر قصي بأن النزاع قد يؤدي إلى الحرب فاستغاث أهل أبيه من قريش وكنانة واستنجد رزاحَ بين ربيعة أخاه لأمه فأنجده ومعه إخوته من أبيه (ربيعة)؛ وهم: حسن، ومحمود، وجلهمة.
وكان فريق قصي مكونًا من رجالٍ من قريش وبني كنانة وأنصار من قضاعة، وكانوا في مجموعهم أقوى من خزاعة، وانتهى أمرهم بتحكيم يعمر بن عوف الكناني، فعقدت جلسة في فناء الكعبة غداة التحكيم فوقف الحَكم يعمر بن عوف وقال: «ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدميَّ هاتين، فلا تباعة لأحدٍ على أحدٍ في دم، وإني قد حكمت لقصي بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة دون خزاعة لما جعل له حليل، وأن يُخلَّى بينه وبين ذلك، وأن لا تخرج خزاعة عن مساكنها من مكة.»
وقد نفَّذ الفريقان هذا الحكم لاحترامهم رأي قاضيهم.
ويندر وجود وثيقة بليغة كهذه تفصل في جميع نقاط النزاع بحكمٍ مستعجل؛ فإنه حكم بالمقاصة في الدماء، فليس لفريقٍ عند فريقٍ دية ولا غرامة، وحكم لقصي بالحجابة والولاية؛ لأن حليلًا كان أوصى بهما وأظهر رغبته قبل موته في ذلك فائتمنه وابنته حبى على مفتاح الكعبة، ولو أراد أن يجعل عليها رجلًا من خزاعة لفعل، ثم أقر خزاعة في بيوتها، فإن نزع السلطة من أيديهم لا يستلزم أن يخرجوا من ديارهم!
فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكًا وأطاع له به قومه؛ فكانت إليه السيادة وسمي مجمعًا؛ لأنه جمع شمل قبيلة قريش وظهر فيهم وأظهرهم.
وقالوا إن التقرش معناه الاجتماع، وإن هذا الاسم لم يطلق على القبيلة قبل ظهور قصي.
وقيل إن قريشًا سُميت قريشًا لأنها كانت تجارًا تكتسب وتتجر وتحترش، فشُبهت بحوت البحر الذي يأكل كلَّ شيء في قول الشاعر: