تأسيس مكة وعبادتها وقيمة الأوثان فيها
وما كان أهل مكة يزرعون قمحًا ولا عدسًا ولا فولًا فكانوا في حاجة لخبزهم يحضرونه من اليمامة في الشمال الشرقي (اشتُهرت بزرقائها التي كانت بعيدة النظر)، فمن أراد إذلال مكة فليهاجم قوافلها وليُعق تجارتها وليتعرض لإبلها الرائحة الغادية بين الشمال والجنوب والشرق والغرب (أصل وقعة بدر مهاجمة التجارة المكية).
نقول: كان أهل مكة قبل الإسلام بقليل يعيشون تحت نظام الأبوة؛ فكان لهؤلاء القوم زعيم كبير مسموع الكلمة يحكم القبيلة بإرادته وكلمته، وهذا النظام باقٍ من عهد إبراهيم الذي هو «الأب الأعظم» أو البطريرك. فكان قصي قبل عبد المطلب زعيم قريش غير منازع، ثم رأينا حفيده يحفر بئر زمزم، ويزين الكعبة بالذهب والسلاح، ويقابل القائد الحبشي في عام الفيل ويفاوضه في أمر الجلاء عن الأرض المقدسة، ونراه مسموع الكلمة في المسجد وفي المدينة لآخر حياته، ولما تُوفِّي وترك أبناءه حل أبو طالب محله في رياسة معنوية للقبيلة أو المدينة، وإن كان قليل المال كثير العيال ضعيف الحول والطول حيال فحول قريش، إلا أنه تمكَّن بكلمةٍ واحدة من حماية محمد ابن أخيه عبد الله من شر الأقوياء وحقدهم وضغنهم وانتقامهم، وأبى على قريش أن يسلمهم ابن أخيه الذي صار بعد ذلك ببضع سنين سيد العالم وخاتم النبيين ومصلح الإنسانية.
وفي الحق أن الترجيَ أو النصيحة والوعد أو الوعيد لم تكن كافية لحماية هذا الشاب ضد إجماع قريش إن لم تكن كلمة أبي طالب مسموعة في قومه، فإذنْ كان هو «بطريركهم» على فقره وضعف حوله وطوله، فلم يخرجوا عن طاعته، ولم يفضلوا مصلحة الجماعة التي كانت تقضي بتسليم محمد ﷺ لقريش على مصلحة أبي طالب وابن أخيه.
وكان لأهل مكة ميزانية ودخل وخرج؛ فدخلهم من رسوم الحج وضرائب شبه جمركية، أو مكوس تفرض على الواردات. وكانت تلك الدولة البدائية تجمع بعض المال من السكان لتنفقه في ضيافة الحجيج أو في شراء كسوة الكعبة من الحرير والخز والديباج من صنع اليمن والشام والعراق ومصر، وكانت زعامة البلد تقتضي شيئًا من المال، وكثيرًا من الشجاعة في الحرب والفصاحة في الخطب.
وإلى جانب الزعيم والرئيس توجد وظيفة سادن أو خادم الكعبة وحامل مفتاحها، وهي وظيفة وراثية بلغ احترامها في النفوس مكانة عظمى، وكانت ضيافة الحجيج وظيفة كبرى، وهي التي قام بها عبد المطلب، وفيها إطعامهم وسقايتهم.
وكانوا في الحروب يخضعون لقائد، وفي السلم يخضعون للشورى وينظرون في أمورهم في دار الندوة؛ وهي جمعية شبه تشريعية مؤلفة من زعماء القبائل وأكابر البلد، والرأي فيها للكثرة من الشرفاء والأغنياء، وهي التي أسسها قصي، ولعلها أقرب إلى المجالس البلدية.
وقد سجل لنا التاريخ بعض مشاهد هذه الحياة النيابية في مناقشة قريش قبل وقعتَي أحد والخندق. وكانت هذه الجمعية التشريعية المكية تجتمع أحيانًا بصفة سرية؛ للتداول في أمر يقتضي الكتمان؛ كما اجتمعوا للتآمر على حياة محمد ﷺ بعد أن استفحل أمره.
وإذا قام نزاع بين القبائل أو الأفراد يُطرح للتحكيم أولًا ثم على الكاهن أو الكاهنة ثم يُطرح على الأوثان لتفصل فيه، فكان هُبل هو الذي يحكم بقوله: «نعم»، أو «لا»، وكان المتخاصمان إذا وقع اختيارهما على رجل حكَّماه في الطريق كما يحدث الآن في بلاد الحبشة، فيعقد جلسة علنية وينظر في النزاع فورًا ويسعى لحله. وكان يُختار للتحكيم كلَّ من اشتُهر بالعدل والعلم والرحمة، وقد قضى بعضهم في الجاهلية بأحكام اجتهادية، وكان أهل مكة يرحلون أحيانًا إلى اليمن — ليفضوا نزاعهم — إذا اشتُهر في اليمن رجلٌ بالعدل. وكان اختصاص هؤلاء القضاة المتطوعين يشمل المدني والجنائي، وكانت أحكامهم الجنائية نافذة إذا حكموا بالإعدام، أو بقطع اليد؛ يُنفذ الحكم إذا كان المحكوم عليه صعلوكًا أو فقيرًا أو قليل الأنصار والعزوة! وإذا كان من قومٍ أقوياء يذودون عنه فقد يعطلون التنفيذ! إلا إذا كانت جريمته تتناول الأعراض وترى قبيلة المحكوم عليه أن بقاءه على قيد الحياة يسيء إلى مركزها بين القبائل ويورث الأحقاد والسخائم.
انفردت مكة بأن كانت بملتقى الطرق إلى الشام والعراق وإيران شمالًا، واليمن والحبشة ومصر جنوبًا. ومن يرد الرجوع إلى مصادر مطولة في تاريخ مكة وشأنها قبل الإسلام ومكانتها التاريخية، يجد غايته في مؤلفات كوسان دي برسيفال وموير والآلوسي والأزرقي.
وقد أفادت قبيلة قريش — التي أقامت في مكة — من أسفارها فاتصل رجالٌ منها بالحضارة اليونانية والرومانية في المدن الشامية وغيرها، وقد ارتفعوا بثقافتهم النسبية على مستوى الحياة البدوية قليلًا، وعلى أهل يثرب الذين ما زالوا في الطور الزراعي محتفظين بفضائلَ وغرائزَ تجرد عنها أهل مكة الذين ينتسبون إلى القبائل البدوية، إلا أنهم استقروا في بلدهم وعاشوا في بيئة شبه صناعية-تجارية، وتعودوا الأسفار ذات الشمال وذات الجنوب شرقًا وغربًا، واستخدموا إبلهم وهي سفائن الصحراء في نقل البضائع والمتاجر إلى سائر الجهات.
وكانت قلة منهم يقرءون ويكتبون وإن لم يخرجوا عن طور الأمية إلى طور التعليم الأوَّلي؛ ولذا وصفهم معاصروهم وجيرانهم من اليهود بأنهم أميون حكمًا على الكثرة الغالبية.
أما اليهود والنصارى فكانوا يقرءون التوراة والإنجيل وينقلون عنهما ما شاءوا كورقة بن نوفل أحد أصهار النبي، وكان راهبًا أو شبه راهب، يتعيش من نَسخ النصوص الدينية للكتابيين.
وفي استقراء أخبار أمية في الجاهلية ما يدل على قلة عفته؛ فقد عرض لامرأة من بني زهرة فضربه رجل منهم بالسيف، وصنع في الجاهلية ما لم يصنعه أحدٌ من العرب؛ وهو أنه زوج ابنه أبا عمرو من امرأته في حياةٍ منه! أي إنه مارس نكاح المقت لولده من زوجته. والمقتيون في الإسلام هم الذين أولدوا نساء آبائهم واستنكحوهن بعد موتهم. وأما أن يتزوجها الولد في حياة أبيه ويبني عليها وهو يراه، فإن هذا لم يكن قط! وأمية قد جاوز هذا المعنى ولم يرضَ بهذا المقدار حتى نزل عن زوجته وزوَّجها من ولده. وكان بنو أمية يوصفون ببني الزرقاء ويُشتمون بأنهم «ملوك ومن شر الملوك» (رواية سفينة عن أم سلمة في النزاع والتخاصم، للمقريزي، ص٢٢).
وفي تاريخ الأمويين ما يؤيد نظرية سيادة الأمومة؛ فإن الزرقاء هي أم بني أمية بن عبد شمس، واسمها أرنب، وكانت في الجاهلية من صواحب الرايات. ولا نحب أن نزيد في هذه العبارة شرحًا.
ومن بنات أمية غير أرنب «صاحبة الرايات» هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس التي استأجرت وحشيًّا وتآمرت معه على اغتيال حمزة بن عبد المطلب عم النبي ﷺ في موقعة أحد، ثم لاكت كبد حمزة ثم لفظتها انتقامًا لمصرع أبيها عتبة الذي قتله حمزة في موقعة بدر، وهند هذه هي التي أمر رسول الله يوم فتح مكة بقتلها فأسلمت والسكين على رقبتها رهبةً لا رغبةً، ورعبًا لا إيمانًا.
ولما حضرت مع النساء لتبايع النبي بيعة الإسلام كان مما قال لهن الرسول: «ولا تقتلن أولادكن.» فقالت: «ربيناهم يا محمد صغارًا وقتلتهم كبارًا!»
ومن بنات أمية أم جميل بنت حرب بن أمية وزوجة أبي لهب، كانت تحمل أغصان العضاة والشوك فتطرحها على طريق النبي ﷺ، وقد أسماها القرآن حمالة الحطب، وفيها وفي زوجها أبي لهب نزلت سورة «المسد».
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ.
لا شك كانت طقوس العبادة في الكعبة أقدم من النصرانية والعبرانية؛ لأنها كانت عبادة الأوثان، ولا شك في أن تأسيس الكعبة يرجع إلى فترة متغلغلة في ظلام العصور السابقة للتاريخ، ونجد من المؤرخين من يحدد هذه الفترة بألفَيْ سنة قبل النبي ﷺ، ومنهم من يزيد على ذلك، ولكننا نحسب الفترة ألف عام. وكان الإقبال على الكعبة والطواف بها عامًّا من سائر الجهات، وبالغًا أقصى حد.
ومن المعلوم أن الفرق بين وثنية عبَّاد الكعبة وحجيجها وتعدُّد آلهتهم، وبين التوحيد الذي جاء به الدين الإسلامي عظيم جدًّا، ولكن الفكرة الإسلامية تقتضي أن نعلم يقينًا أن الوثنية المكية لم تكن إلا طارئًا عرضيًّا بين حنيفية إبراهيم وتوحيد محمد، وأن عبادة أصنام الكعبة كانت أشبه بعبادة العجل التي اتبعها اليهود في وادي التيه بسينا لغيبة موسى؛ فهي فترة جهالة وتردٍّ في حضيض الوثنية لم يلبثا أن زالا بعودة موسى بشريعته، وكذلك كان ظهورُ محمدٍ مُخْمِدًا لأنفاس الوثنية التي رفعت رأسها كالأفعى على يد حاويها عمرو بن لحي بعد أن انطمست معالم الحنيفية التي جاء بها إبراهيم وإسماعيل، ولكن متى تعطلت تلك الحنيفية، ومتى ظهرت الوثنية، وتعددت الآلهة، ونُصبت الأوثان في أركان الكعبة؟ هذه أسئلة نجيب عليها في مواضعها.
نعم، لقد عُني مؤرخو العرب بتاريخ الكعبة من أقدم الأزمنة ودوَّنوا عنها أخبارًا كثيرة غير معقولة، كقولهم: «ذِكر ما كانت الكعبة الشريفة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض، وما جاء في ذلك.» وأن الكعبة كانت عثاء على الماء قبل أن تُخلق السماء والأرض بأربعين عامًا، ومنها دحيت الأرض، وفيه تشبيه الكعبة بعرش الله.
ثم ذِكر بناء الملائكةِ الكعبةَ قبل خلق آدم ومبتدأ الطواف كيف كان وزيارة الملائكة للكعبة … إلخ.
وكل هذه الأخبار المخالفة للمعقول وللتاريخ الصحيح لم يروِها إلا رواةٌ ضعاف الحجة مثل كعب الأحبار ومجاهد وأبي الوليد وابن عباس، وكلهم مطعون في روايتهم التي روَوْها بغير تبصر؛ لأنها ملفقة وموضوعة لتعظيم الشأن والإرهاص والمبالغة.
وفي ابن إسحاق والأزرقي إن عمرو بن لحي هو أول من أدخل الأصنام، وأنه أحضر «هُبل» من مدينة حت أو هت من العراق. ويشك ويلهاوزن في هذه الرواية ونسبتها لابن إسحاق؛ لأن ابن هشام لم ينقلها عنه، ويرد عليه بأن الطبري نقل كثيرًا عن ابن إسحاق مما لم ينقله ابن هشام؛ لأنه انشغل من أخبار العرب بالسيرة النبوية، ولم يُعْنَ بما عداها مما ورد في ابن إسحاق من أخبار مكة والكعبة قبل الإسلام.
إن الذي بنى الكعبة وفقًا لنص القرآن هو إبراهيم وابنه إسماعيل، فقد قال: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ.
ولما ترعرع إسماعيل في كنف أمه تزوَّج من جرهم، وملك أولاده الكعبة من بعده، وما زالوا يعبدون الله على طريقة إبراهيم وإسماعيل حتى هلك، ومن بعده حل فيها الفساد وصارت موضعًا لمساوئَ خلقيةٍ نعف عن ذكرها (قصة إساف ونائلة وما يحيط بهما من الأساطير)، وتغلبت جرهم على بني إسماعيل وطردوهم. واستمرت حالة مكة على ما كانت عليه إلى أن تمكنت قبيلة خزاعة من التغلب على جرهم، وحاربتها حربًا شعواء سالت فيها الدماء على جدران الهيكل، وسلب عمرو بن ربيعة بن حارثة سيد جرهم غزالتين من ذهب وحليًّا أخرى وصفائح كانت زينة الكعبة، وألقى بها جميعها في بئر زمزم التي قيل إنها تفجرت إكرامًا لظمأ إسماعيل طفلًا، وهي الأعلاق التي عثر عليها عبد المطلب أثناء حفر زمزم.
وكان عمرو بن ربيعة آخر من حكم مكة من جرهم، ولم يحكم مكة لبني خزاعة كما توهم الطبري، وأصدق من الطبري في هذه النقطة رواية الأزرقي، وابن هشام أصدق؛ إذنْ خرج بنو إسماعيل طرداء مظالم جرهم التي اغتصبت الهيكل وأصنامه ووضعت يدها على خيراته. ولم يكن هذا الاستيلاء لغاية دينية، وإنما كان جلبًا لمنافع اقتصادية. وقد أفاض في هذه الروايات النصف تاريخية الأزرقي والطبري وياقوت وابن خلدون وغيرهم، على أنها وقعت بتفصيلها وعلى الصورة التي دُونت بها، ونحن تقبلنا هذه الرواية بصدرٍ رحب على ما فيها من المبالغة لنخرج منها لحقيقة تاريخية واحدة، وهي أن قبيلة قريش التي تغلبت على خزاعة لم تكن أصيلة في مكة؛ أي إنها لم تكن أولى القبائل التي قطنتها، بل إنها أقبلت عليها من مكانٍ بعيد وانتزعتها من أيدي قبائل كانت سائدة على مكة والكعبة. وبعبارةٍ أخرى: إن قريشًا احتلت مكة واستعمرتها، وهذا لا يمنع قوتها وشرفها ولا يطعن في شأنها لبداوتها، وهذا الفتح أو التغلب القرشي على القبائل التي كانت بجوار الحرم لم يكن سوى صورة مصغرة للنزوح والهجوم والغزوات السلمية والحربية التي كانت مستمرة في قلب الجزيرة، ومنها إلى الخارج، ومن الخارج إليها، وحينئذٍ لا بد أن تكون قبيلة قريش عربية قادمة من وديان العراق وضفاف دجلة والفرات التي كانت خزانة الأمم الفتية ومهد الحضارات، أو عائدة منها إلى وطنها كما عاد اليمنيون من بابل إلى الجنوب بقيادة الزعيم قصي — أي القادم من مكان بعيد — كما يدل اسم قضاعة على الانقطاع؛ أي التخلف.
وهذا الأمر نفسه يفسر لنا كثيرًا مما دونه المؤرخون من مناقب قريش الخاصة بها والتي لم تكن في عرب الجزيرة، كالتجارة والتشريع والتنظيم المدني وحماية الغريب وتأسيس دار الندوة وخلق الوظائف المدنية والدينية؛ فإن كافة هذه الأعمال والآراء لم تكن في ذهن القبائل المتوحشة المحاربة التي وصفنا حياتها في كثيرٍ من صفحاتنا. ويؤيد هذه الفكرة اسم «قصي» نفسه الذي معناه القادم من مكانٍ بعيد — كما ذكرنا — فقد كان بجسمه وفكره وتكوينه وعقله وخلقه قصيًّا عن كثيرٍ من أمورهم.
وقد بقيت في المناسك ألفاظ وأسماء تدل على أصول هذه العلاقات واقتسام الحقوق بين جرهم وخزاعة وتغلُّب إحدى القبيلتين على الأخرى، ومنها «الإجازة»، وكانت في بيت الغوث بن مر بن عدوان (ابن خلدون، ج٢، ص٣٣٣)، والنسي، وكانت في بيت القلماس (الطبري، ج١، ص١٣٤، والبيروني، ص١٣-١٤).