تداعي الوثنية وعقم أديان العرب قبل الإسلام
قد كان دين العرب قبل الإسلام عقيمًا ومتداعيًا إلى السقوط بعد أن دب إليه الفساد وسرى الضعف والانهيار إلى عناصره، ويقول الواقدي: «لقد عراه البلى، وأخنى عليه الدهر.» ولكن أُسد قريش لم يسأموا عبادة أربابهم إلا قليلًا، ولم تحدثهم أنفسهم باستبدال سواها بها؛ لأن خيالهم مهما كان واسعًا، فلم يكن ليدخل في أذهانهم أنه من اليسير عليهم أن يخلقوا نظامًا دينيًّا كاملًا يحل محل هذا النظام العتيق، ولم يكونوا يستطيعون إدراك «الإمكان» في هذه المسألة؛ لأن تكوين الآلهة ليس من صنع البشر، ولا وضع القواعد والشعائر والرسوم في طاعة جنس الإنسان؛ فإذنْ لا سبيل إلى الاستغناء عن هذه الأرباب وإن ملُّوها وضجروا منها وزهدوا فيها، فلا بد لهم من الصبر عليها لأنها قديمة، ولأنها معبودة آبائهم من قبل؛ فقد ازدادت بالتقدم شأنًا، وأفادت بمضي المدة جلالًا ووقارًا، وكسبت من كر الأجيال ومر القرون عظمةً واحترامًا، وإذنْ فهم يصبرون عليها ولو على مضض، وقد يهفو أحدهم في حقها، أو قد يعتدي عليها فيكون كافرًا بها أو حاقدًا عليها، ولكن جحود الفرد وإلحاده لا يمس عقيدة القبيلة ولا يزعزع إيمانها، ولا يصرف عنها الخير الذي قد تجلبه الآلهة، ولا يجلب الشر الذي قد تصرفه الآلهة.
ولكنَّ هناك أفرادًا يُعدُّون على الأصابع، كانوا يشعرون في أعماق أنفسهم أن القبيلة على باطل، ولكنهم لا يستطيعون المجاهرة ولا يقدرون على حياة سلبية في العبادة، لا يملكون أن يعيشوا بدون الاعتقاد في شيء وهم يرون الباطل في دين القوم ويشعرون بالحق في أنفسهم.
فكانوا يتلمسون عقيدة فضلى، ويلتمسونها في ماضيهم الروحي، في حنايا ضلوعهم وفي قلوبهم المنطوية على ذراتٍ من الإيمان القديم وأشعة من نور ملة إبراهيم الحنيفية والتوحيد.
هذه الفئة تحنفت؛ أي رجعت إلى الحنيفية التي أتى بها إبراهيم؛ ومنهم أمية بن أبي الصلت في الطائف، وزيد بن عمرو في مكة، وأبو قيس بن أبي أنس وأبو عامر في المدينة؛ هؤلاء الأربعة كانوا البقية الباقية من دين إبراهيم وأطلقوا على أنفسهم اسم المتحنفين.
والحنيف إذنْ هو المتعبِّد المتطهِّر الذي يحاول الخلاص من أدران الحياة لتكون له في الحياة خطة عليا؛ حياة الروح قبل حياة الجسم. وربما كانت هناك علاقة لفظية بين التحنف والتحنث؛ والتحنث هو الذي كان يفعله رسول الله ﷺ في غار حراء، ولعل التحنث أُدخل في باب العبادة من التحنف؛ فالمتحنث هو المتحنف عندما ينقطع عن أهله وذويه لتطهير نفسه أو تكميلها، وليتصل بالقوة العظمى السائدة على الكون حتى يسعفه الله بالوحي والرسالة.
لا شك في أن أهل مكة كانوا وثنيين، بالفطرة وبالتقليد يقدسون ما كان عليه آباؤهم من العبادة، ولا شك أن أهل مكة والمدينة والطائف — وهي عواصم الحجاز الثلاث — اتصلوا باليهود والنصارى، ووقفوا على كثيرٍ من معتقداتهم المنزَّلة، ولعل بعضهم قلب أنظاره في صحف إبراهيم وموسى وعيسى وزبور داود ومزاميره ومواعظ سليمان وأناشيده، ولعل بعضهم قرأ سفر أيوب وحكمة لقمان.
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
وإذنْ لا بد من حدوث حركة فكرية — ولو ضئيلة — ترمي إلى البحث في الأديان، وتعليل العبادات والتأمل فيها؛ لأن طبيعة بلاد العرب تدفع أهلها إلى التأمل في جمال الطبيعة، ولا شك في أن مئات من السائحين عادوا من مصر أو من الهند أو الفرس أو كنعان يحملون أخبار آلهة أخرى غير أوثان الكعبة، تُعبد وتُقدس ويُتقرب إليها في هياكل ثيبة ومزد وفشنو … إلخ. ولِمَ نذهب بعيدًا وقد رأينا عمرو بن لحي ينقل الصنم هُبل من هيت ببلاد العراق إلى الكعبة بمكة؟
ولكن تلك الوثنية العربية كانت عبادة تقليدية أو سُنة ورثها الأبناء عن الآباء، كانت آلهة عدة، ولم تكن لها قيمة في ذاتها بقدر قيمتها في نظر عُبَّادها؛ فكانت الأصنام حماة الأسباط، وفي كل بيت صنم تقام له فرائض العبادة من رب الدار في الغداة وفي العشي. وكان المثَّال أبو بجرات يصنعها ويبيعها للبدو كما كان يصنع أبو إبراهيم في بابل، وصُنع الأرباب لبيعها تجارة رابحة حتى في روسيا القيصرية، ولكن مكانة الأوثان في القبائل كانت أرفع من مكانتها في الدور وفي الخيام؛ لأنها تمثل الوحدة المقدسة التي تجمع بين أفراد الأسرة وتربط بين الماضي والحاضر برباط العقيدة؛ فهي في نظرهم عروة لا تنفصم.
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ (سورة الزُّمَر).
وكان بمثابة الوالد لجميع الآلهة، حتى إن أهل مكة دعَوُا الإناث من آلهتهم «بنات الله».
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ (سورة النجم).
وكان للعرب ثالوث وأنثى، فحسبوا اللات اسمًا للإلهة التي كانت في عقيدتهم ونظرهم زوجة للإله الأعظم. وجاء وحي القرآن بإنكار ألوهية هذه الكائنات واعتبارها من الجن، وقد جردها القرآن الكريم من صفات الربوبية. وما ورد في الأخبار من خروج جنية من نائلة وغيرها عند كسر صنمها على يد خالد بن الوليد يدل على تأييد هذه الفكرة التي جعلت من هذه الإلهات جنيات؛ أي أرواح شريرة لا خير فيها ولا ربوبية لها، ولكن الوثنيين غضبوا لذلك، كما غضبوا لسب آبائهم وتسفيه أحلامهم واحتقار عقولهم، وقالوا في احتجاجهم إنهم إذا عبدوا الجن فقد عبدوا الشيطان، وهم لم يعبدوا الشيطان أبدًا. ولكن احتجاجهم هذا لم يمنع النبي ﷺ أن يقول في حجة الوداع: «إن الشيطان يئس أن يُعبد هنا.» لأن دينهم كان حافلًا بالأوهام والخرافات وسخافات المعتقد. غير أن دينهم كان لا يقل شأنًا عن غيره من أديان الوثنية — المعاصرة والمجاورة — ولعله يفوق بعضها برسومه ومناسكه وكعبته التي جمعت فأوعت أربابًا من كل عقيدةٍ ولون! وكانت ذات كهنة وسدنة ورهبان وقرابين ونذور وعهود ونبوءات ومشاركة دائمة في حياة المجتمع في الحرب والسلم والحلال والحرام والزواج والطلاق والنعيم والبؤس، ولكن هؤلاء الوثنيين ما فتئوا يعتقدون بالله؛ وهو الإله الأكبر، زعيم الآلهة، ويُقسمون أحرج الأيمان به، وباسمه (باسمك اللهم) تُفتتح المعاهدات والمحالفات وتُختم العقود والتعهدات، ولكنه اعتقاد شرك؛ لأنه لم يكن وحيدًا ولا منفردًا في تدبير العالم، فهو صورة مصغرة أو مشوهة من زفس إله الإغريق الأكبر، بَيْدَ أنها وثنية سامية وشرك شرقي، وإذا أقسم أحد به فلا يخطر بباله أن يحنث في يمينه، ولا يخطر ببال أحدهم أن يستغنيَ بإلهٍ صغير عن هذا الإله الأكبر؛ لأن الإله الصغير كان معبودًا لفريق دون فريق ومقدسًا في سبطٍ دون الآخر، ولكن «الله» كان مقدسًا عند الجميع، وكان الرجل إذا حدثتْه نفسه باقتراف إثمٍ أو قسوة وحشية ذُكِّر بالله ليخشاه أو يصده عن الإسراف في الأذى، وأكبر سبة تلحق المرء أن يقال عنه «عدو الله».
ولكن الله هذا كان حاكمًا ومسيطرًا أعلى على الجميع، فلا يحق لفرد أن يتصل به لحساب نفسه، ويحتل في العبادة المكان الأعلى والذروة الرفيعة، والقمة التي لا تنال والمحل الأقصى كما كان زفس رب أرباب اليونان يعتلي صهوة أولمب؛ فكان على كل فردٍ أن يلجأ في شئونه الخاصة إلى إلهه الخاص، ويطلب إليه — في ذلٍّ وانكسار — قضاء حاجته التي لا تبلغ درجة المطالب الكبرى التي تلتمسها الجماعات في أوقات الاضطرار، كالنصر في الحرب أو النجاة من خطرٍ محقق، فكان كل إله من هذه الآلهة قادرًا على نفوذ أغراض عابديه في دائرة اختصاصه؛ فلا يتعدى الحدود المعينة له؛ فهو استقلال داخلي في العقيدة!
وقد تناول مؤرخو الأديان العربية البحث فيما إذا كان العرب يقيمون مواسم الحج إكرامًا «لله» ذلك المعبود الأكبر، أو للآلهة الصغرى. ولكن الثابت أن هُبل كان يُعبد في الكعبة، وقزح في مزدلفة (الواقدي، ص٢٤٨)، ويمكن أن نتصور أن هُبل كان لله بمثابة «إيل» بالنسبة إلى «ياهوفا» عند العبريين، وكانت القرابين تقدَّم لكل إلهٍ باسمه، وباسم الله، أو «باسمك اللهم» …
وهكذا تخيل العرب الجاهليون أربابهم على صورة البشر، وجعلوا لها طبقات ودرجات بعضها فوق بعض، وقسموا الاختصاص والنفوذ بينها. ولكن هذا الدين — وقوامه عبادة الأوثان، وعلى رأسها الله — لم يظهر أن هذه الأوثان عُبدت لذاتها، أم على أنها بمثابة الوسطاء والشفعاء بين العابدين والمعبود الأكبر، وهذا الغموض لم يكن له أثر معنوي في أخلاق هذه الأمة المغرقة في الجهالة والقصور الذهني.
كان العربي الجاهلي الوثني يعتمد على نفسه ويثق بها ويعول في كل أموره عليها. وقد تجلت هذه الثقة العمياء في حياتهم، يمتطي أحدهم صهوة جواده أو يعلو ظهر ناقته ويتمنطق بسيفه أو يتقلد رمحه ويتوغل في الصحراء القفرة بمفرده، لا أنيس له إلا الاعتماد على شخصه وشجاعته واعتقاده في قوة بدنه وثبات جنانه، فإذا وقع في محظور فسيفه ورمحه منقذه، فلا إله يقف بجانبه، ولا ولي يحميه من الشر؛ لأنه لا يعرف التوكل على إله ولا تسليم أمره لكائن خفي عن عينه أو ظاهر لحواسه، ولا يخضع لأحكام القضاء والقدر، بل لا يدرك عقله تلك الأحكام ولا يسلم بوجودها فيثور عليها؛ وتلك نفسية جبارة هوجاء قوامها الأثرة والمجازفة، وغريزة البقاء التي توحي إليه الاحتفاظ بالذات، والخوف من الأخطار، وقد تتغلب عليها روح المجازفة والمغامرة فيضحي بنفسه في سبيل الأسرة أو القبيلة أو القوت الضروري أو سبي امرأة يهواها أو يسترقها، أو ناقة تُعقر (حرب البسوس).
وفي اعتقادنا كان الفرق بين البدو والحضر في هذه المسألة يسيرًا؛ فكلاهما قليل الدين غير مكترث للأرباب. ولا يُخدعن أحد الباحثين المحدثين فيحسب سراب العبادة المكية ماءً؛ فقد كانوا يقيمون الحج ويحشدون الأصنام ويزينون الكعبة بتهاويل الآلهة وتصاوير الأنبياء، ويقدمون القرابين، ويطعمون الحجيج ويسقونهم ويرفدونهم ويحمونهم لا حبًّا في دعج أعين الأرباب والأصنام، ولا إيمانًا بقوتها، ولا ثقةً باستجابتها للدعاء، ولكن فعلوا ذلك وغيره بقصد التجارة بالدين، وجلبًا للمنافع المادية؛ لأن تجارتهم تدور حول موسم الحج، والأعياد التي تسبقه وتلحقه، والأسواق التي تصحبه أو تتلوه؛ فقد كان في مكة الجاهلية أربعون سوقًا، عظماها عكاظ، وكانت من أعظم الأسواق التي شهدها العالم القديم، وهي أشبه شيء بالمعارض الدولية التي تقام في العواصم الحديثة؛ لترويج المتاجر والصناعات القومية، واجتذاب السائحين والمستهلكين من كل فجٍّ عميق.
ولولا الأشهر الحُرم التي لا تقع فيها حرب، والمكان الحرام الذي يكون كلُّ من يدخله آمنًا فلا يُسفك فيه دم؛ ما تمكنت تلك القبيلة من الحياة المطمئنة والتجارة النافعة.