محاولة شعوبية للتقليل من شأن البعثة المحمدية
ولسنا في حاجة إلى مرجع للتدليل على صحة الرأي بعد الذي وقفنا عليه من تاريخ الجاهلية وأدبها. وقد يخالفنا بعض الباحثين في هذا وينسبون إلى الجاهلية ما لم يكن لهم من علم وفضل وأخلاق وحضارة وشريعة وحكومة وقانون؛ وهؤلاء العرب أبرياء من ذلك. وقد تناولنا نقض هذا الرأي بالإسهاب، وإن كنا لا نجرد العرب من بعض مظاهر المدنية الفطرية، ولكننا ننكر عليهم مؤسسات الحضارة ومظاهر الثقافة، لا رجمًا بالغيب ولا امتهانًا لأقدارهم قبل الإسلام، ولا تعصبًا لهذا الدين الحنيف، ولكن لأن علماء أعلامًا — أمثال بوكوك وبرسيفال وسبرنجر ووبلهاوزن ونولدكه وستانسلاس جويار — أجمعوا في كتبهم على هذا الرأي بعد البحث والاستقراء، وهو ما وصلنا إليه بدراستنا في مراجع أخرى. وكان هؤلاء المستشرقون أحق بأن يزعموا الفضائل للجاهلية تقليلًا من شأن البعثة المحمدية فلم يفعلوا؛ فكانوا أعدل وأعلم ممن أخذوا يدافعون عن الجاهلية؛ فقد قامت في الآخرين نعرة جنسية تتعصب للعرب، وتقلل من شأن الوحي المحمدي في غير وعي. وينسى الكاتبون أو يتناسَوْن أنه بفضل الإسلام استقامت الأمة العربية على نهج الأمم التي كُتب لها بلوغ أقصى الغايات من النظام والتوسع واحتمال التبعات العالمية، مما لا يوجد له نظير في الأرض. وبفضل الإسلام يسجل التاريخ للأمة العربية أنها كانت مُحْيية العلوم الدارسة، والفنون الطامسة، وأنها كانت سببًا لإيقاظ البشرية من عميق سُباتها، ودفعها في سبيل الحياة والمدنية، وفوق هذا كله فالمسلمون أبناء الإسلام، لا أبناء المصريين ولا الفرس ولا الترك ولا الهنود ولا المغاربة، وقد وحَّد الإسلام بينهم، وإن لم يهدر في سبيل هذا التوحيد قوميتهم وجنسيتهم؛ تذرعًا لتكوين أمة عالمية كانت مثلًا أعلى للاجتماع الإنساني الصحيح. وإليك مثالًا مما كتبه كاتب مقنع في إحدى الصحف، يقول في يقظة العرب الروحية والمدنية: «لا نكير أن العرب لمع شأنهم وتألق مجدهم وذاع ذِكرهم بعد الإسلام، ولكن الإسلام لم يكن بدْء عهدهم في اليقظة العظمى التي انفتحت فيها عيون الروح العربية في الجزيرة؛ فنحن نعلم ما كان في الجاهلية من مظاهر أدبية وفنية، وما كان فيها من أدبٍ عالٍ بمعانيه وسامٍ بمبانيه، وما أنجبته من الممتازين الأعلام في الشئون الاجتماعية والمدنية، لا سيما في الشعر. ومعلوم أن كل ذلك كان أساسًا للنهضة النادرة التي بلغتها العرب بوثباتٍ عظيمة، والتي كان الإسلام عاملًا قويًّا على تحقيقها وإبراز ما فيها من قوة؛ فالإسلام ذو فضلٍ على العرب باستسراع عوامل اليقظة العربية، ولكنه لم يخلقها فيه، وليس من ينكر هذه الحقيقة.
ويذكر مؤرخو الغرب — ونحن نرجع إليهم لأنهم أعمق درسًا في تحليل العقلية العربية — أن العرب قبل الإسلام بعدة قرون كانوا على كثير من التحفز للظهور بروحٍ عالية، وكانت عقليتهم على كثير من التنبه، وقد ظهر فيهم ممتازون عديدون أحرزوا شأوًا عاليًا في حلبات عديدة، لا سيما في الشعر العالي. وإن ظهور أمثال أولئك لَدليل مجسم على أن البيئات العربية كانت غنية بالأسباب المولدة التي تسيِّر الأمة في طريق الرقي والعمران بأقدامٍ ثابتة.
في تلك القرون القديمة لمَّا كانت المدنية الإغريقية قد بلغت ما بلغت إليه من العلياء وما آلت إليه في نفوس عواهلها وعظمائها من الميل إلى الرخاء، كان العرب في شبه جزيرتهم كأنهم مواليد أرسلتهم الحياة ليرثوا بعدما يبلغون رشدهم كأمة تحل محل سلفائهم اليونان في العلوم والانتشار في البلدان، وتخطيط مدنية جديدة على أنقاض تلك الإغريقية. يرى العادلون بنظرهم والمنصفون بحكمهم أنه إذا كان اليونان آباء العلم بالتربية، فقد مات أبوه اليوناني، ولكن العرب لم يتركوا العلم يتيمًا؛ فكانوا له أبًا وخيرًا من أب، وأحبوه وأحبهم، وادعَوْه وأحسن الالتصاق بهم، وكان له الشرف الأكبر أن يكنَّى بهم وأن لا يخرج عن كونه عربيًّا بالرغم من أصله الغريب.
وجاء الإسلام للعرب فكان لهم فيه عهد يقظة عظيم، عهد وجدت فيه الأمة العربية نفسها تائقة إلى النهوض، إلى العمل، إلى الوثوب، في نفسها أسرار جمة تريد أن تعلنها إلى العالم كله، وفي روحها عوامل حية ترغب في أن تشرك فيها أمم الأرض في ذلك الحين.
ولقد كانت العوامل للنهوض ولكنها قبل أن يجيء محمد كانت الأمة العربية مترددة ومتفككة، فلما ظهر صاحب الرسالة ﷺ وجدت به الروح العربية المترجم لها عما ترغب روحها النازعة إلى التأليف قوةً وميلًا إلى التوسع — وفي التوسع عظمة — وإلى السير والعمل.
وفيهما العمران ومن نتائجهما مدنية ممتازة، وقد جاءتهم المدنية، بل جاءت العالم حينئذٍ عن يدهم فأعظمها التاريخ، ولا يزال رسل التاريخ يمجدون تلك المدنية العربية ويغوصون في بحارها، مستخرجين في كل مرة درة من درر تلك العهود الكثيرة العوامل الحية والوفيرة الأسباب الروحية، التي جعلت العرب أمة محسنة أعطت مقابل عزتها التي وهبتها إياها الحياةُ وزنًا؛ فاحتلَّت بذلك أحسن مقامٍ في التاريخ، ولا يزال المنصفون من أدباء الغرب يشيرون إليها بالبَنان والإعجاب.
ولقد أجمع مؤرخو الغرب على أن المدنية الحاضرة قامت على الوراثة السنية التي صاغتها النهضة العربية، وأن هذه المدنية — خلافًا لما ذهب إليه نفرٌ كبير — امتدت أفنانها على أرومة الهدية العربية للعالم لا على تلك الأرومة اللاتينية؛ فإن هذه أدخلت إلى المدنية الحاضرة بعد أن كانت العربية قد ازدهرت بعلومها وفنونها، وصح لأهل الغرب الارتواء من مَعينها، والتغذي من دسمها.»
انتهى كلام الشعوبية.
فهذا الكلام الطويل العريض لا أثر فيه للحقيقة التاريخية، ولكنه تعصُّب ظاهر للجاهلية، وقد فندناه سلفًا في مواضعَ عدةٍ من هذا الكتاب، وأقمنا الأدلة على بطلانه وصحة نقيضه. وهو إما مقصود به إلى التقليل من شأن الرسالة المحمدية، وإما نتيجة لاطلاعٍ قاصر، وتسرُّع في الوصول إلى نتائج كاذبة مفتعلة. وكلتا العلتين لا تستحق الالتفات، خصوصًا وأنه عندما وُلد النبي ﷺ لم يكن في حياة عرب الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها ما يدل على نهضة مقبلة أو مستقبل باهر، ولم يكن أحد من المعاصرين داخل الجزيرة أو خارجها تحدثه نفسه بأن تلك الأمة ستفتح عمَّا قليل عهدًا جديدًا في تاريخ العالم، أو تقلب صفحة قشيبة في كتاب الوجود؛ فتُظهر دينًا عامًّا، وتظفر بدولتَي الفرس والرومان تحت أعلام دينٍ شعارُه التوحيد وغايته إعلاء كلمة الحق ورفعة الإنسانية، ولم يكن في الجزيرة كلها دولة مستقلة ذات شأن يُعتد بها أو حكومة قوية يُعتمد عليها، وإن يكن أمراء كندة حاولوا في أوائل القرن السادس المسيحي تأسيس مملكة وطنية مستقلة تلم شمل القبائل النازلة بأواسط الجزيرة، أما أرض اليمن أو بلاد العرب السعيدة فكانت على عراقتها وخصوبتها خاضعة للفرس.
فانحاسوا انحياس حُمُر الوحش، ثم قالوا: «صدقت واللاتِ العُزى ما كان بتهامة ملك قط!» وانتقضت قريش عما كانت قالت لعثمان، فحنق عليهم ولحق بقيصر ليعلمه، وأصدر قيصر أمره إلى عمرو بن جفنة الغساني أن يحبس لعثمان كلَّ من أراد حبسه من تجار قريش بالشام، فنفذ عمرو هذا الأمر.
ولم يلبث أن دُبرت مؤامرة لاغتيال عثمان؛ فدسوا له السم في الطعام فمات؛ وهكذا ذهب أبو عفان ضحية أطماعه وفريسة تعلقه بعرشٍ لم ينصب في قومٍ ألفوا حكم الجماعة المشوب بالفوضى، ولا تخلو القصة على تفاهتها من طرافة تنبئ بمطامع الاستعمار الغربي في الشرق من قديم، وتكشف القناع عن سياسي جاهلي يغري ملكًا قويًّا بقومه ثم يعقد معه محالفة في غفلةٍ منهم. كان ذلك حوالي سنة ٥٢٠ب.م. وبعد ذلك بخمسين عامًا وُلد النبي ﷺ (٥٧٠ب.م) وفي ٦١٠ بُعث، وفي ٦٢٢ هاجر من مكة إلى المدينة. وقد تدل مقارنة هذه التواريخ المتقاربة على أن فكرة أمراء كندة التي رمت إلى توحيد كلمة عرب الوسط كانت مقدمة حرية أقرب إلى الأماني التي تجول في صدور الشعوب المتطلعة إلى الحياة منها إلى الحقائق التاريخية، ولكن تلك المقدمة لم تعد الأفكار لظهور دولة يبدأ بها التاريخ الصحيح للأمة العربية؛ فقد سقطت أسرة بني كندة، وسارت الفوضى من جديد في قبائل نجد والحجاز الرحالة التي لا تستقر، وتتبع المرعى والماء أينما كانا.
وفيما عدا ذلك سادت الجزيرة إحدى السلطتين الأجنبيتين اللتين كانتا تتزاحمان على الشرق تزاحُم دول أوروبا في هذا الزمان، تلكما دولة الفرس ودولة الرومان، فتغلغلتا في قلب الجزيرة العربية، ولكلٍّ منهما دويلة تؤيدها وتنشر نفوذها، فهؤلاء الغسانيون في حوران يناصرون الرومان ويؤيدون سلطة عاهل الروم ويحكمون باسمه ويتهددون بني جلدتهم بقوته وجبروته.
ومما يؤيد قول القائلين بأن هذه الدعوة المحمدية كانت عامة للعالم أجمع أن أهل هذا النبي ﷺ وقومه وعشيرته وقبيلته لم يكونوا بحاجة إلى هذا الإصلاح بقدر ما كان جيرانهم وأبناء وطنهم الأقربون والأبعدون. لم يكن أعراب مكة — وطن النبي ﷺ — يئنون من ظلمٍ ولا يشكون من فقر ولا يتأففون من جهل، بل كانوا في مدينتهم التجارية الغنية بأعيادها وكعبتها وأسواقها ومواسمها وسمرها وأفراحها في بحبوحةٍ من العيش تكاد تكون رومانية النزعة، إباحية الصبغة والمقاصد؛ فجاء صوت النبي ﷺ صرخة غير منتظرة ودعوة غير مرغوب فيها، وقد ألِف القوم راحة ولذة الأسفار، وذاقوا طعم القوة التي يجلبها الغنى، وركنوا إلى النعمة التي يسبغ المال أذيالها على ذويه؛ فكل ما يقال عن يقظة العرب الروحية قبل البعثة المحمدية وظهور الإسلام باطل ولا مكان له من الحقيقة.