عقلية الجاهلية بين الوثنية والتوحيد
كان هُبل زعيم آلهة قريش وأوثانها. زعم بعض المستشرقين مثل ويلهاوزن أن هُبل ترقى حتى صار الإله الأكبر أو الله، سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا عن هذا الظن الأثيم. وزعم بعضهم أن الله كان ذكرًا وكانت أنثاه اللات! وهذا وهْم رده علماء المشرقيات أنفسهم، ولكن قريشًا كانت كلما عظمت قوتها ضمت آلهتها إلى آلهة القبائل الأخرى السابقة لها في القدم، فتشركها معًا كما أشركت اللات والعُزى ومناة الثالثة الأخرى.
وهذا أصل استعمال كلمة «الشرك» في الإسلام.
قلنا إنهم خصصوا لكل إله وظيفة معينة، وقد صح هذا بعد أن رحل العرب إلى مصر واليونان، ورأَوْا في عبادات هذين الشعبين تخصص الأرباب! ولكن مآل المذهب السابق لهذا الشرك الشرقي كان أن تحصر كل قبيلة سائر الفضائل والقوى في وثنها المعبود، فإذا حالفت قبيلة أخرى ضمت المعبودين فتآخيا تآخي القبيلتين، وحتى آلهة أعدائهم كانوا يقدسونها ويضمونها إلى حظيرة أربابهم استرضاءً لها وإن كانوا لا يعبدونها! ولعلهم شعروا شعورًا غامضًا بالرغبة في توحيد العبادات.
وكانت هذه المعبودات حجارةً وأصنامًا وأشجارًا، ولم يكن مصدرها رسالة أو نبوة أو كتابًا منزَّلًا، إنما كان مصدرها الوراثة، فقالوا في مواطن شتى إنهم يعبدون ما وجدوا على عبادته آباءهم.
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (سورة الزخرف).
وهُبل هو بل والهاء أداة التعريف باللغة الكنعانية.
كان للمصريين كتب مقدسة وأساطير وإلهام واختلاط بين الأرض والسماء، وكان اليونان يعبدون زيفس وجوبيتر وبعض الكواكب، وموضعها السماء أو العلى في قمة جبل أولمب، ولكن قريشًا كانت تعبد أربابًا سفلية منشؤها الأرض؛ فهي حجارة وأشجار وتهاويل؛ وإذنْ لم تكن لهم قبل الإسلام علاقة بالسماء، ولكن الإسلام مرتبط بملة إبراهيم، وقد جدد الصلات بالأنبياء المبعوثين إلى عادٍ وثمود كصالح وهود — وشعيب وإبراهيم وإسماعيل وأسعد بن معدي كرب وصاحب الأخدود — أنبياء بعثوا لبعض القبائل قبل الإسلام، بالدو والدهناء وعالج ويبرين ووبار والحجر ومدين.
ولكن العرب أساءوا إلى بعضهم وحاربوا البعض وعصَوْهم ونسُوا تعاليمهم فمُحيت من ذاكرتهم؛ وإذنْ كانت الديانة السماوية سابقة للأوثان، والوثنية طارئة؛ فهي نوع من الانحطاط الأدبي يصيب الأمم في عاطفتها الدينية. ويرى بعض المستشرقين غير ذلك محتجين بأن الصلة بين الحنيفية والإسلام مصطنعة غايتها تمجيد الإسلام ورفعة شأنه بنسبته إلى دين سماوي سابق، ويدعمون زعمهم بأن الرسالة السماوية أرقى من الوثنية؛ فلا يمكن أن تزول أمامها، ولكنهم نسُوا أن اليهود أنفسهم بعد أن خرجوا من مصر متبعين موسى صاحب التوحيد ضلوا في عقيدتهم كما ضلوا في الصحراء، وعبدوا عجلًا صنعوه تقليدًا للعجل آبيس معبود مضطهديهم! فمن الممكن أن يطرأ على العرب من الضلال ما يطرأ على غيرهم، فعبدوا الأوثان بعد أن نسُوا ملة إبراهيم والأنبياء ذوي الرسالة السماوية. بَيْدَ أن العرب لم يُحرموا الإرشاد الآدمي؛ فكان لهم غير الأنبياء الذين ذكرهم القرآن ومن لم يذكرهم لقمان الحكيم، وقد ورد في القرآن ذكر نصائحه لولده، وإذا حق هذا القول على العرب البائدة كعادٍ وثمود فلا يحق على قريش، فلم يجئهم قبل محمد ﷺ، ولم ينزل عليهم قبل القرآن كتاب، والذي ثبت لدينا أن قريشًا عبدت الأوثان عن أجدادها واستمرت على تلك العبادات قرونًا، ثم بُعث إليها بمحمد ﷺ؛ فمن الوثنية الصريحة الواضحة إلى التوحيد المطلق والتشريع الاجتماعي، شقة بعيدة ومرحلة طويلة وصدمة شديدة لم يقوَوْا على تلقِّيها؛ فقد كانت عبادة قريش وثنية منحطة ومختلطة، فإذا ضربنا صفحًا عن شاعر يسب صنمًا أو يرجمه؛ لأنه لم يُفتِه بما أراد، رأينا بعضهم يعبد أجداده ويقدم الضحايا للموتى كما ذكر العلامة جولد زيهر في كتابيه «الإسلام» و«السنة المحمدية» (ص٢٣٠، ج١) أو يضحون بأبنائهم كالإغريق (إلياذة).
وأقرب أخبارهم إلينا شروع عبد المطلب في ذبح ولده عبد الله والد النبي قبل أن يولد محمد، وفاءً لنذرٍ سابق. بل إن أكل لحوم البشر لم يكن مبغوضًا لديهم بعد أن تذوقوا لحم الضواري غير ناضجة، فزعموا أن من يأكل قلب الأسد يكسب شجاعته، ولكن هندًا زوجة أبي سفيان من أرقى نساء قريش في الجاهلية، وهي أم معاوية مؤسس الدولة الأموية، شرعت في أكل كبد حمزة بن عبد المطلب عم الرسول ﷺ جهارًا بعد اغتياله في موقعة أحد، ودفعت لهذا التشفي ثمنًا غاليًا. وأغرب من هذه الفعلة الوحشية ما يُروى من أن رسول الله ﷺ ملك زمام نفسه وكظم غيظه وبشر هندًا بالجنة ما دام جزء من دم عمه الشهيد وجد سبيلًا إلى جوفها! وكان بعضهم يشرب الماء والخمر ممزوجين بالدم في جماجم أعدائه مبالغةً في الانتقام! فمن أين لهذه الجماعة الهمجية بالحضارة والثقافة والديانة والنثر الفني والحكمة التي اصطنعها المؤرخون الكاذبون والملحدون المقلدون.
قد يعود بعض العرب ممن سافروا إلى مصر والشام وبلاد الفرس والروم ورأَوْا عبادتهم بعد أن سمعوا في اليمن والشام الهزوء بالأوثان فشعروا بشيءٍ من السخرية في دليجة أنفسهم يخلعونها على آلهتهم في مكة، ولكنهم كانوا قلة ضعيفة لا أثر لها، ولم يأتِهم الشك من شعورٍ بالحاجة إلى آلهةٍ جديدة أو عبادة مستحدثة ذلك الشعور الباطني وهو مقدمة للإيمان، ولكنه شعور الغني الذي يخجل لقريبه الفقير، أو العالم الذي يغفل ذكر والده إن كان جاهلًا؛ وإذنْ كانت الوثنية المكية عند ظهور الإسلام قوية مزدهرة محترمة عند ذويها، ولم تكن موضع احتقار أو ازدراء أو ضجر، بل كانت في أعلى مكانة من الاحترام والتقديس.
فلا يمكن القول بأن قريشًا قلَّت في قلوبهم كرامة أربابهم أو محبتها وهم يضحون لها بالأنعام والبشر، ويغدقون عليها هدايا الدر والجوهر والذهب والفضة، ويكسونها بأفخر الحرير والخز، ويعلقون على كعبتهم أغلى وأثمن ما لديهم من التحف والحلي، ويعلقون على جدرانها أبلغ ما نظموا من القصائد — وهي خلاصة مواهبهم وغاية ما وصلت إليه عقولهم وأدبهم — ثم حاربوا في سبيل الأوثان بشجاعةٍ وثبات ودفعوا أعمار شبابهم وشيبهم في الحروب الطاحنة التي قامت بينهم وبين النبي ﷺ، وأنفقوا القناطير المقنطرة من الذهب في تجنيد الجند وحشد الجيوش لتجهيز حملتين من أعظم الحملات في تاريخهم، وهما: حملة أحد، وحملة الخندق، وأعدوا حملة ثالثة وهي حملة الحديبية، ولكن تعبئتهم انتهت بمعاهدة مشهورة، وأقاموا مناحة دهرية على قتلاهم في موقعة بدر التي حصدت فيها سيوف المسلمين فريقًا كبيرًا من عظماء قريش وزعمائها حتى فقدت إحدى نسائهم (هند بنت عتبة وزوجة أبي سفيان) ثلاثة من أقاربها، فقالت: «اقرنوا جملي بجمل الخنساء.» التي اشتُهرت في العرب برثاء أخيها صخر. وإذنْ تكون تلك الخسائر والتضحيات في المال والرجال عند قوم مقتصدي المتجر، ماديي المبادئ والنزعات، تدل على شدة إيمانهم بأصنامهم وتعلقهم بأهدابها، ولم يكونوا على استعدادٍ لتلقي ما جاء به محمد حتى روى القرآن على ألسنتهم: وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (سورة الأنفال).