العرب حول الكعبة
الكعبة بيت الله الحرام، بناء مربع وهو مقدس منذ بناه إبراهيم وإسماعيل، تؤمه الأعراب
من كل فجٍّ عميق، وتحج إليه من كل ناحية وتدعو الله بالخير لأنفسهم ويدعون بالشر على
أعدائهم معتقدين أن دعاءهم مستجاب في الحالتين.
١ وقد شاده نبيان من أنبياء الله، وفي صلبه حجر هبط من السماء وحوله طافت
ملايين من البشر، ثم دار الزمن دورته على الكعبة فصارت حظيرتها موطنًا للأصنام، ولكل
صنم أسماء ومواسم وأعياد وألوان من الضحايا، ولا ريب في أن بناء الكعبة سابق لحياة تلك
القبائل التي استوطنت مكة، فجاءت — وأعظمها قريش — وانتفعت بالمعبد وفرضت على أفراد
القبائل ضريبة يفيدها سدنة الكعبة وأحراسها لينفقوها في شئون الحجيج والغرباء، وما
هؤلاء السدنة والأحراس سوى زعماء القبيلة وسادتها من قديم؛ لأن من يخدم الأرباب يسود
عابديها وهم المدينون في التزلف من الأرباب إليه، كما كان كهنة المصريين
واليونان.
ولأن قليلًا أو كثيرًا من قوة هذه الأرباب ينتقل حتمًا بحكم القرب إلى الكاهن والسادن
والراهب. وكانت قريش من أقوى القبائل فملكت مكة والكعبة وأربابها، وهم من نسل إبراهيم
وإسماعيل وعدنان ولكنهم نسُوا نسبهم ودينهم القديم.
قال الإمام علي: «إنهم نبطيون من بلدة كوثا في العراق.» وصدق علي؛ لأن زعيم أوثان
قريش كان معبودًا في هيت على الفرات، وكوثا بلدة على ضفته، فأطلقتها قريش على بعض أحياء
مكة؛ حفظًا لذكراها.
٢ وإلى جانب مهارة قريش في التجارة وحنكتهم في تدبير الأمور كانت خيبتهم
مطلقة في الحرب مع الحرص على المال، وفي رأي بعض المؤرخين أن خزاعة سبقت قريشًا إلى مكة
في خبرٍ طويل، ولكن قريشًا كانت أقدر وأحذق في الشئون القومية والأثرة وحب المال فتغلبت
على خزاعة. وما زالتا تتنازعان، إلى أن رضيت خزاعة بمكانتها الثانوية وخضعت لقريش
فانتصرت واستعمرت، ولكن نعرة السلطان القديم كانت تعاود خزاعة فتستثيرها لتنتهز الفرص
فتناصر خصوم قريش حتى ولو خالفوها مذهبًا. وهذا لون من أحقاد القبائل، وقد ينمو في قلوب
الأمم فيبيتوا على الانتقام كما يشاهَد في الحضارة الحديثة.
٣ وكان لمكة سيد واحد هو هشام بن المغيرة المخزومي، فلما نُعي إلى أهل مكة
شيعوه عن بكرة أبيهم وإن لم يكن سيدهم؛ لأن مكة كانت قرية يحكمها شيوخها وأعيانها في
دار الندوة مركز السلطة البلدية، ومقر الحكومة القبلية، وغرفة التجارة المكية، ومحور
السياسة الحجازية، ومقر «أركان الحرب»، ومنبر الخطباء، ومستودع الأموال، ومناخ القوافل
ومعقل حلف الفضول وغيره من النظم البدائية.
وفي الكتب العربية القديمة بعض النصوص التي وُجدت منقوشة في الكعبة؛ منها في مقام
إبراهيم — عليه السلام:
هذا بيت الله الحرام بمكة، توكل الله برزق أهله من ثلاث سبل، مبارك لأهله في اللحم
والماء واللبن، لا يحله أول من أهله.
ووُجد منقوشًا على حجر بخط لم تحقق نسبته، ولعله أقرب إلى المسند وخطوط ثمود الصفوية:
أنا الله ذو بكة الحرام، وضعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا
تزول حتى تزول أخشباها
٤ مبارك لأهلها في اللحم والماء.
وهي نفس دعوة إبراهيم لولده إسماعيل.
قال الأزرقي (ص٣٧): «ولكن لا نعرف أين هذا الحجر المنقوش، ولم يصل إلينا خبر إلا
بالرواية عن ابن عباس، وفي روايةٍ مثل هذه عن مجاهد، وأخرى عن يحيى بن عباد بن عبد الله
بن الزبير عن أبيه عباد أنه حدثه أنهم وجدوا في بئر الكعبة أثناء نقضها كتابين من صفر
مثل بيض النعام أحدهما نصه:
هذا بيت الله الحرام رزق الله أهله العبادة، لا يحله أول من أهله.
والآخر:
براءة لبني فلان حي من العرب من حجة حجوها.
وقيل إن بعض هذه الكتابة وُجدت بالسريانية. ولا دليل لنا عليها إلا الرواية، ومعظم
الرواة فيها غير ثقات، ولا سيما مجاهد.»
وروى جد الأزرقي عن عثمان بن إسحاق أنه قال: زعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرًا
في
الكعبة قبل مبعث النبي
ﷺ بأربعين حجة (عام الفيل) — إن كان ما ذُكر لي حقًّا —
(كذا بهذا التحفظ) منقوش فيه: «من يزرع خيرًا يحصد غبطة، ومن يزرع شرًّا يحصد ندامة،
تعملون السيئات فلا تجزون الحسنات، أجل كما لا يُجتنى من الشوك العنب.» ا.ﻫ.
أقول: وهذا أسلوب إنجيلي محض، ولا يبعد وجوده، أتى به صالح مسيحي وألقى به في الكعبة؛
لأن صورة العذراء والمسيح كانتا بها.
قد وصفنا الكعبة بعد تأسيسها، أما الحجر الأسود أو الأسعد (تفاؤلًا) فنوع من النيازك
أو الأحجار التي أدركتها الحرارة في جوف الأرض فاحترقت، وقيل (تبركًا): إنه هدية جبريل
إلى إبراهيم ليكون أدعى لتكريمه وتبجيله، فزعم بعض المتهجمين من علماء المشرقيات إلى
القول بأنه «فتيش» أو بقية من بقايا السحر
٥ الوثني، ولكن النبي
ﷺ لما حطم الأصنام أبقى على هذا الحجر وتناوله
وقلده الصحابة وجهر عمر برأيه، وكان يأبى استلامه لولا أن استلمه الرسول
ﷺ،
وكانت الأصنام دخيلة على بيت الله؛ ولذا أمر الرسول
ﷺ بتحطيمها جميعًا يوم
الفتح، أما الحجر فقد وضعه إبراهيم في صلب البناء بيده، وأعاد النبي
ﷺ بناءه وهو
شاب.
أما موضعه فهو بحيث يتمكن الرجل الوسط من استلامه لدى الطواف، وليس تقبيله فرضًا
ولا
سنة. وكانت الكعبة قبل الإسلام تستمد قوتها من داخلها لأنه مباءة الأصنام، أما بعد
الإسلام فقد أصبح خارجها أهم لأن فريضة الحج تقتضي الطواف حولها، أما فؤادها الذي كان
منصب الأوثان فقد صار فارغًا. وحول الكعبة أماكن قدَّسها الإسلام إحياءً لذكرى إبراهيم،
وهي الملتزم والمعجن والحجر والميزاب، والصلاة في كلٍّ منها واجبة أو مستحبة، والدعوة
فيها مستجابة؛ ففي الحجر قبر هاجر وإسماعيل، والمعجن الموضع الذي اتخذه الخليل لصنع
«المونة» للبناء، والملتزم مكان ركوع إبراهيم أثناء العمارة، وبعدُ ترى في المسجد
الحرام مقام إبراهيم وزمزم، و«المقام» وهو الحجر الذي كان قائمًا بجوار المعجن، وقد
أثرت أقدام خليل الرحمن فيه فبدت ظاهرة كأن الحجر قد استلان لقدمه، وقد نرى مثل هذا
الحجر في بعض الأماكن المقدسة في مصر وغيرها، ولكن هذا الحجر يشبه فرن الخزف كما وصفه
ابن جبير، وقد رآه وعليه نقوش بلغة لم يحل ألغازها، والمرجح أنها سريانية،
٦ وقد أشرنا إليها، ويدَّعي دوزي أن النقوش بالخط الصفوي الذي كان معروفًا في
نجد والحجاز؛ وهو أقرب إلى الحقيقة.
ذكرنا المتحنفين في هذا الكتاب بأسمائهم وأوطانهم، ولكن هؤلاء المتحنفين لم يكونوا
عشيرة واحدة، بل كانوا أفرادًا، ولعل أحدهم لم يشهد الآخر ولم يعرفه، وإن عرفه فلا
رابطة بينهما غير الفكرة التي يسعى كلٌّ منهم لتحقيقها في نفسه بحيث لا يتعدى سواه. وقد
غضوا الطرف عن تعدد الآلهة وضربوا بعبادة الأوثان عرض الحائط وعرفوا الله واعترفوا به
ربًّا ومعبودًا واحدًا؛ ولو تقليدًا لليهود على الأقل الذين كانوا موحدين من عهد موسى،
ولكن هذه المعرفة كانت معرفة وجدانية لا معرفة عقلية، فالاعتقاد بالله كان تسليمًا
بإرادته واستسلامًا له، وقد كانوا يحسبون للموت حسابًا وللآخرة حسابًا ويعتقدون في
الثواب والعقاب واليوم الآخر؛ فكرهوا الدنيا وزهدوا فيها وعاشوا عيشة المتجردين من
خيرات هذه الدنيا لينجوا بأنفسهم التي ملأتها فكرة الناموس والرسالة، وإذنْ كانت هذه
العقيدة هي عقيدة إبراهيم أو دين إبراهيم الذي نزل عليه قبل بناء الكعبة وبعده.
كان المكيون قبل الإسلام يصنعون الأصنام ويبيعونها للأعراب الراغبين في شراء إله
ليعبدوه في خيامهم! كما كانوا يعملون في مختلِف الصناعات التي تقتضيها حياة المدن في
الحرب والسلم، فكان منهم النجار والحداد والجلاد والحباك والحائك والوراق والصائغ
والصيقل، ومن المتاجر الزيات والخمار والبزاز والمقرض، وقد عرفوا الضرائب الجمركية
فقدروا العشور على واردات بيزنطة، ولكن عمدتهم في التمويل كله كانت على الصادرات أكثر
منها على الواردات، وكانت حياتهم في تجارتهم وقوامها المواصلات والقوافل، ومكة في يد
من
يسيطر على وسائل النقل البري بينها وبين الشام واليمن والعراق والحبشة ومصر والأناضول
والفرس.
فصارت جزيرة العرب بسبب المدينة المقدسة مركز الحركة التجارية في محيطها الشرقي؛
ولذا
أَثْرَتْ وأثرى أهلها وادَّخروا الأموال والمعادن النفيسة، وعرفوا أنواع الترف
وتقلَّبوا في ألوان النعمة والرفاهية. روى الواقدي أن العرب استخرجوا الذهب من مناجم
سليم وأحضروه إلى مكة فجعلوه حليًّا وادَّخروه سبائك. روت عائشة أن ثروة أبيها سيدنا
أبي بكر بلغت أربعين ألف أوقية من الذهب، أو ألف ألف درهم؛ أي كان من أرباب الملايين،
٧ وقد أنفقها في سبيل الدعوة، وكانت المنازل في مكة تقدر بالذهب، وكذلك
الثياب الغالية والجياد، فمن يملك مائة وخمسين جنيهًا أو أربعمائة دينار يستطيع أن
يشتريَ دارًا، ومن يملك ثلاثمائة درهم يقتني فرسًا من كرام الخيل؛ فهذه جماعة جاهلية
قوام حياتها الذهب، تعطينا صورة صحراوية للجمهوريات الإيطالية في القرون الوسطى.
٨
ورُوي أن بعض أعيان مكة اشترَوْا أنفسهم بعد موقعة بدر بأربعة آلاف درهم، وأعتقت
هند
بنت عبد المطلب من حر مالها أربعين رقيقًا في يوم واحد. وبلغ تكريم قريش للكعبة أنهم
كسَوْها بالحرير المذهب والمخمل الثمين والطنافس الغالية المعرقة بخيوط العسجد واللجين،
وجلبوا لها الكسوة الرفيعة من اليمن ومصر
٩ والشام والعراق. وملك سراتهم القصور الفخمة والحدائق الغنَّاء في الطائف،
ولا تزال حتى وقتنا هذا ذات حدائق وأعناب، وتعد فاكهتها من أجمل الثمار وأحلاها، ولما
بلغت ثروتهم قمتها في الجاهلية مارسوا أعمال المصارف المالية، ومنها ما تشبه «البورصة»،
وكانوا يفضلون أن يستثمروا أموالهم في تجارة الإبل والأغنام والأقمشة والمعادن والجلود
والعطور والأفاويه والأصباغ والجواهر والأصواف والحرائر والحلي والحلل والأثواب
المنسوجة في مدينة تنيس (الآن جزيرة خربة ببحيرة المنزلة) والبصرة ودمشق، والمصوغ
المجلوب من منف وهرموبوليس، والعاج وريش النعام من الحبشة والسودان، والأخشاب الثمينة
من صور وصيدا ولبنان، والقراطيس من الشام
١٠ ونابوليس، وقال شاعرهم الجاهلي يصف قوافلهم:
يمرون بالدهنا خفافًا عبابهم
ويرجعن من دارين بُجْرَ الحقائب
وكنت ترى زعماء قريش أنفسهم وفيهم الخطيب والقائد ورئيس الندوة وسادن الكعبة ولهم
صناعات ومتاجر تدر عليهم الثراء، فكان عبد الله بن جدعان صاحب الجفان الشهير «تاجر رقيق»،
١١ وكان أبو سفيان زعيم قريش في الجاهلية زياتًا وتاجر جلود، وكان عثمان بن
طلحة صاحب مفتاح الكعبة خياطًا. وإنك لتكاد تسمع أخبار أرباب الملايين في أمريكا أو
أوروبا؛ فهذا فليكس فور رئيس الجمهورية الفرنسية كان دباغًا، وفليكس بوتان كان بدالًا
ومسيو مارتل كان خمارًا، وكارنجي كان ملك الزيت، وروكفلر ملك الحديد؛ وهكذا في إنجلترا
معظم اللوردات والزعماء ورجال السياسة أثروا من صناعة أو تجارة، فهؤلاء المكيون في تلك
الجزيرة القحلاء على جمود قرائحهم وضيق آفاقهم سبقوا الغربيين في حب المال وممارسة
التجارة فلم يفدهم مالهم، ولم يغنِ عنهم كسبهم. بَيْدَ أن الحياة الاجتماعية للآدميين
واحدة في كل زمانٍ ومكان لا تختلف إلا ضآلة وفخامة
مَا أَغْنَىٰ
عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (سورة المسد)، واتخذت القبائل أحكامًا وعاداتٍ
خاصةً بها كعادات أوروبا في القرون المظلمة، فعرفوا حقوق اللاجئين وأقروها بحلف الفضول،
فللقبيلة أن تحميَ من ينتسب إليها أو يستجيرها،
١٢ وكانت عادة الأحلاف معروفة؛ فمن اتخذ له حليفًا أو أخًا فقد أمن غائلة
الاعتداء، ومن لبس شارة معينة أمن شر الهجوم من عدوٍّ قوي، ولهذه القواعد استثناء
وشذوذ؛ فبنو عامر بن لؤي لا يملكون أن يحموا غريبًا إذا طلبته بنو كلب، وبنو عدي بن كعب
كانوا يعدون أقل من بني عبد مناف شأنًا وكان هناك نظام أشبه بنظام الطبقات يقف عقبة في
طريق الزواج أو احتراف بعض الصناعات الشريفة، ومنشأ هذا النظام كفاية المصاهرة؛ ولذا
كان بعضهم ينتسب إلى أمه إذا كانت أرفع أصلًا من أبيه،
١٣ ومن مفاخرهم حماية العرض بمعنى الشرف الحديث، لا بمعنى العفة، وهو الذي قصد
إليه الشاعر:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداءٍ يرتديه جميل