حلف الفضول، ودار الندوة١
وهما المؤسستان المدنيتان اللتان حاول بهما بعض أهل مكة تنظيم شئونهم في دائرتهما
الضيقة. عن عائشة — رضي الله عنها — أنها سمعت النبي
ﷺ يقول: «لقد شهدت في دار
عبد الله بن جدعان حلف الفضول، أما لو دُعيت إليه اليوم (أي بعد البعثة) لأجبت! وما أحب
أن لي به حمر النعم وإني نقضته.» فقد أدرك بعض العقلاء (وهم من لا يخلو منهم بلد ولا
قرية) أن ما كان يقع من المظالم في الحرم، لو لم يقف الحق في سبيلها وتُرد الحقوق
لأصحابها لسقطت هيبة الحرم في نفوس العرب واعتُدي على سكان أم القرى، فتكلموا في ذلك
ثم
تحالفوا على نصرة المظلوم على الظالم، وسمَّوْه «حلف الفضول»؛ فكان في الحقيقة حلفًا
شرطيًّا اجتماعيًّا عادت فائدته على قريش خاصةً وعلى عملائهم وأضيافهم عامةً، فتحالفوا
في شهر حرام قيامًا يتماسحون بأكفهم، وتعاهدوا بالله ليكونُن يدًا واحدة على ما يأتي:
- أولًا: أن لا يُظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد حتى يأخذوا له بحقه،
ويكونوا جميعًا مع المظلوم على الظالم حتى يؤدُّوا له مظلمته ممن ظلمه
شريفًا أو وضيعًا أو من غيرهم أو يبلغوا في ذلك عذرًا.
- ثانيًا: على أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلًا إلا أخذوه.
- ثالثًا: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما بل بحر صوفة وما رسى حراء
وثبير مكانهما.
- رابعًا: على التآسي في المعاش والتساهم بالمال.
وقد أراد الله أن لا يكون لعبد شمس — رأس بني أمية — نصيب في هذا الحلف الذي أثنى
عليه النبي
ﷺ حتى قال عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما انتبه إلى ما فات جده من
الخير من فضل الاتصال بهذا الحلف: «لو أن رجلًا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى
أدخل في حلف الفضول.» وهكذا ثبت في التاريخ عدم توفيق هذه العشيرة إلى الخير.
وكان النبي
ﷺ يومئذ يافعًا، وقد حضر المأدبة التي أقامها عبد الله بن جدعان في
داره حيث عقد الحلف. أما سبب تسميته بحلف الفضول فحديث رسول الله
ﷺ: لقد شهدت في
دار عبد الله بن جدعان حلفًا لو دُعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن ترد الفضول على
أهلها وألا يعز ظالم مظلومًا.
وهو نص البند الثاني من الحلف، وإذنْ كان النبي
ﷺ في سن التمييز حتى ذكر ما
جرت عليه المعاهدة بعد ثلاثين عامًا. وقالوا في التسمية إنها تشبُّه بحلف سابق لجرهم
أعضاؤه الفضل بن فضالة والفضل بن وداعة والفضل بن قضاعة (ابن قتيبة). وقيل أُريدَ به
أن
يكون حلفًا محايدًا ليتقوا غضب المطيبين
٢ والأحلاف، ولكن السبب الوارد في الحديث أصح وأقرب إلى المعقول.
٣
وسبب احترام الرسول هذا الحلف أنه لو قال مظلوم ذلك لأجبت؛ وذلك لأن الإسلام إنما
جاء
بإقامة الحق ونصرة المظلوم، فلم يزدد به هذا الحلف إلا قوةً، وليس المراد بقوله — عليه
السلام — وما كان من حلف في الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدةً، أن يقول الحليف يا
لفلان! لحلفائه فيجيبوه،
٤ بل الشدة في الحديث ترجع لمعنى التعاطف والتواصل.
وتبعًا لهذه السنة المحمدية في احترام حلف الفضول وحسن الظن به هَمَّ الحسين بن علي
بن أبي طالب بأن يهتف به في نزاع بينه وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان أمير
المدينة من قِبل عمه معاوية، فتحامل الوليد على الحسين في حقه لسلطانه (على عادة بني
عبد شمس أعداء آل البيت)، فقال له الحسين: «احلف بالله لتنصفنني من حقي أو لآخذن سيفي
ثم لأقومن في مسجد رسول الله ثم لأدعون بحلف الفضول.» وناصره عبد الله بن الزبير
والمسور بن مخرمة بن نوفل الزهري وعبد الرحمن بن عثمان التيمي. وهذا الحديث رواه صاحب
الأغاني بتعديل طفيف؛ وهو أن الظالم للحسين كان معاوية نفسه! وقد هددوه بالصيلم وحلف
الفضول! فقال معاوية بدهائه الشهير: «لا حاجة لنا بالصيلم
٥ ولا بحلف الفضول.» وأنصف الحسين مرغمًا!
ومجمل القول في هذا الحلف أنه كان نوعًا من الشرطة المتطوعة في صالح الجماعة، وقد
تم
والنبي
ﷺ في العشرين من عمره في شهر ذي القعدة عام ٣٣ق.ﻫ، عقيب حرب الفجار
بثلاثة أشهر. وكان أول ما نُفذ حلف الفضول في العاص بن وائل السلمي عندما ظلم رجلًا من
بني زبيد فانطلق الأحلاف إلى العاص بن وائل فقالوا: «والله لا نفارقك حتى تؤديَ للزبيدي
حقه!» فأعطاه حقه.
ولكنه لم يتم إلا قُبيل البعثة المحمدية. وعلى
الرغم من تحالف القبائل — وهم بنو هاشم وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تيم — فإن
بطونًا وأفخاذًا من قريش لم تخضع له في كف الأذى عن المسلمين، بل إن بني عبد شمس خالفوه
مخالفةً صريحة ففتكوا بمن دخل في دين الله وتآمروا عليهم وأسروهم وأذلوهم وضربوهم
وأخرجوهم من ديارهم وتعقبوهم في منفاهم ومهجرهم (في الحبشة والمدينة)، ولعل هذا هو السر
في أنه لم يكن لعبد شمس في حلف الفضول نصيب. وإننا نميل إلى الطعن فيما نُقل عن عتبة
بن
ربيعة من التحسر على عدم دخوله، وقد يكون واضع رواية الندم مؤرخ موالٍ لبني
أمية.
أما دار الندوة فقد بناها قصي بن كلاب، وهي أول دار بُنيت بمكة وجعل بابها جهة البيت،
وأمر قريشًا أن يبنوا بيوتهم في الحرم حول الكعبة لتهابهم العرب، ولا تستحل قتالهم
فبنَوْا حول البيت وجعلوا أبواب بيوتهم جهته، لكل بطنٍ منهم باب يُنسب إليه كباب بني
شيبة وباب بني سهم وباب بني مخزوم وبني جمح، وتركوا قدر الطواف.
قال المبرد في الكامل (ص٧١، ج١): «ثم عزَّت قريش بعد ذلك بهذا الجوار حتى كان يقال
يكفيك من قريش أنها أقرب الناس من بيت الله بيتًا.»
وفي دار الندوة كان يكون أمر قريش كله وما
أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما ينوبهم، حتى أن كانت الجارية تبلغ أن تدرع فما يشق
درعها إلا فيها ثم ينطلق بها إلى أهلها، ولا يعقدون لواء حرب لهم ولا من قوم غيرهم إلا
في دار الندوة، يعقده لهم قصي، ولا يعذر لهم غلام إلا في دار الندوة، ولا تخرج عير من
قريش فيرحلون إلا منها، ولا يقدمون إلا نزلوا فيها، تشريفًا لقصي وتيمنًا برأيه ومعرفةً
بفضله، ويتبعون أمره كالدين المتبع لا يعمل بغيره في حياته وبعد موته، وفي هذا معنى
تقديس الأبطال وعبادتهم.
وسميت دار الندوة لأن قريشًا كانوا ينتدون
فيها؛ أي يجتمعون للخير والشر (انظر طبقات ابن سعد، ص٥٠، ج١، طبع ليدن ومصر). ومن الشر
الذي اجتمعوا لأجله في دار الندوة أنه لما رأى المشركون المكيون أن أصحاب رسول الله
ﷺ قد حملوا الذراري والأطفال إلى الأوس والخزرج، خافوا خروج الرسول فاجتمعوا في
دار الندوة ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجى منهم ليتشاوروا في أمره؛ فتذاكروا أمر
النبي
ﷺ فأشار كل رجل منهم برأي ما عدا شيخًا كبيرًا من أهل نجد مشتمل الصماء
٦ في بت؛ كل ذلك يرده الشيخ عليهم ولا يرضاه لهم إلى أن قال أبو جهل: أرى أن
نأخذ من كل قبيلة غلامًا نهدًا جليدًا ثم نعطيه سيفًا صارمًا فيضربونه ضربة رجل واحد
فيتفرق دمه في القبائل
٧ فلا يدري بنو عبد مناف (العشيرة الأقربون للنبي
ﷺ) بعد ذلك ما تصنع.
فقال الفتى النجدي:
٨ «لله در الفتى هذا! والله الرأي وإلا فلا!» فتفرقوا على ذلك وأجمعوا عليه.
وسيرد تفصيل هذه المؤامرة — إن شاء الله تعالى — على حقيقتها التاريخية (انظر بعد سيرة
المبعوث بالحق بطل الأنبياء وسيد العالم أبي القاسم محمد بن عبد الله
ﷺ في
الكتاب الثالث).
أما ما يتصل من تاريخ دار الندوة بالحروب فقد ظهر جليًّا في وقعتَي أحد والخندق؛ فإنه
لما رجع مَن نجا مِن بدر من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن
حرب موقوفة في دار الندوة، فمشت أشراف قريش إلى أبي سفيان فقالوا: «نحن طيبو أنفس أن
يجهزوا بربح هذه العير جيشًا إلى محمد.» فقال أبو سفيان: «وأنا أول من أجاب إلى ذلك،
وبنو عبد مناف معي.» فباعوها فصارت ذهبًا، فكانت ألف بعير والمال ٥٠٠٠٠ دينار، فسلم إلى
أهل العير رءوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارًا
(مائة في المائة) وفيهم نزلت آية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ (سورة
الأنفال).
وفي ذي القعدة سنة ٥ﻫ أجلى رسول الله
ﷺ بني النضير — وهم يهود — فساروا إلى
خيبر، فخرج نفر من أشرافهم ووجوههم إلى مكة فألَّبوا قريشًا ودعَوْهم إلى الخروج إلى
رسول الله وعاهدوهم وجامعوهم على قتاله، وتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من
العرب، فكانوا ٤٠٠٠ وعقدوا اللواء في دار الندوة وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة. وفي
سنة ٦ﻫ خرج الرسول إلى العمرة فبلغ المشركين خروجُه فاجتمعوا بدار الندوة وأجمع رأيهم
على صده عن المسجد الحرام، وأعدوا جيشًا وعسكروا ببلدح، ولم يجردوا سيفًا لأن هذه
التعبية انتهت بصلح الحديبية؛ وإذنْ تكون دار الندوة التي أسسها قصي ولم ينخرط محمد في
سلك أعضائها لأنه عندما وافى على الأربعين — وهي سن الانتخاب لعضويتها — بُعث للعالمين
رسولًا، ولم يلج بابها نائبًا عن عشيرته بني عبد مناف ولا عن سواهم؛ إذنْ تكون تلك
الدار المكية قد مثلت أدوارًا مهمة في مناهضة النبي
ﷺ أثناء إقامته بمكة وبعد
هجرة أصحابه وهجرته، ولكن النبي
ﷺ لم يجعل لها شأنًا عندما دخل مكة فاتحًا سنة
٨ﻫ، ولم يُصدر أمرًا لأحد من قواده باحتلالها أو هدمها، بل أهملها
٩ وتركها يعفي عليها النسيان وتنعي من بناها ومن دخلها وتآمر فيها، ولم يكترث
الرسول بعد الفتح إلا لتقرير حرمة البلدة؛ فخطب في ١٠ رمضان سنة ٨ﻫ فقال
ﷺ: «إن
الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض؛ فهي حرام إلى يوم القيامة، ولم تحل لي إلا
ساعة من نهار، ثم رجعت كحرمتها بالأمس، فلْيبلِّغ شاهدُكم غائبَكم، ولا يحل لنا من
غنائمها شيء.»
وأقام بها خمس عشرة ليلة يصلي ركعتين، ثم غادرها إلى حُنَيْنٍ لمواصلة الجهاد في سبيل
دين الله.