خلال البدوي التي تجلَّت في الجاهلية
وأن العربي عاجز عن تأسيس شيء له استقرار وثبات، ولكنه قنوع قليل المطالب محب لأهله ووطنه، سريع التأثر بهداية الرسل والأنبياء، قريب الطاعة إلى الله، يبادر إلى أوامره وينفر من نواهيه، وهو في الحالتين خاضع بذل إلى خالقه.
لكن تجد الناقد الأوروبي وإن اطمئن إلى قناعة العربي العظيم، فهو يزعم أن معنى تلك القناعة أن الدنيا لا قيمة لها، وليس فيها ما يكترث له؛ أما قناعة الأوروبي العظيم مثل عمانويل كانط فَعِلَّتُها أن عقله القادر على الإحاطة بكل شيء يملك بجوهره كل شيء، ولأنه يشعر أنه قد انطوى فيه العالم الأكبر، وهذا هو الفرق بينهما.»
ولكن غاب عن ذهن هؤلاء الناقدين حدة ذكاء العربي وسمو روحه وقوة مزاجه وشدة إرادته وثقته بنفسه واقتداره على تبرير أعماله التي يقنع بصحتها وأثرته التي هي من مميزات الفردية الناضجة، وبالجملة جماع الصفات التي تشق له الطريق في سبيل الأعمال العظيمة التي تحتاج إلى الجرأة.
وما يقال عن أدب العرب في شعرهم ونثرهم يقال عن الفلسفة؛ فقد انتحلوا فلسفة الهنود الأوروبيين (الآريين)، ويفسَّر عجز العقل الجاهلي عن الفلسفة بأن عقولهم مشغولة بآرائهم وأفكارهم؛ كالناظر في مرآة لا يُحوِّل بصره عنها، فليس لديهم من الفراغ الذهني ما يمكِّنهم من الخلاص من أنفسهم ليقبضوا على الفكر الخالص أو يفرقوا — ولو مؤقتًا — بين الأمور العامة والأمور الضرورية، وبين فرديتهم وما يحيق بهم من الحوادث، ومن هذه الناحية عجزوا عن فهم الطبيعة على حقيقتها، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة الدرس لتفهُّم قوانينها الخالدة، وإن كانت معروفة في القرآن بأنها سُنة الله التي لن يجد لها الإنسان تبديلًا.
فهذا الخلود وهذا الاستقرار لم يدخلا إلى العقل العربي إلا عن طريق القرآن، ولكن العربي ما زال بعيدًا عن التسامح شديد التمسك بعقيدته، وإن كان القرآن عاتبهم في مواطن شتى وقال لهم: قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (سورة الحجرات)، لأن جمودهم الفكري الموروث عن الجاهلية والوثنية ما زال لاصقًا بهم حتى بعد أن أسلموا في الظاهر.
وقال فردريك فون شاك: «إن جهود العرب التي خلقوا بها الأدب تحمل طابعًا باطنيًّا؛ فهم يفضلون حياة التعبير عن روحهم ويدمجون فيها شئون الحياة الخارجية، ويأبَوْن أن يواجهوا الحقائق أو يمثلوا الطبيعة في رسوم واضحة أو يدرسوا شخصيات الآخرين؛ ليتهيَّأ لهم أن يمثلوا الناس والأشياء وأوضاع الحياة بطريقة محسوسة؛ ولذا كانت صور الشعر التي تتطلب طلاق الذات والتفريق بين الشخص وأدبه وفنه أبعد ما يميلون إليه وأبغض الأشياء إلى قلوبهم» (شعر العرب ونثرهم، ج١، ص٩٩، تأليف المستشرق سايس).
ويعد سايس من أعلم العلماء في العصر الحديث ومن أكبر حماة الجنس السامي، وهو يقول: «إذا اختار البدوي ابن الصحراء حياة الثبات والسكون فإنه يجمع بين معايب الأقوام الرحل والفلاح، فينقلب كسولًا مخادعًا قاسيًا شرهًا جبانًا فتعتبره أمم الأرض كأنه حثالة الجنس البشري وإذنْ يكون النزوح والارتحال نعمة يمنُّ الله عليهم بها، وهذا الحكم يسري على قبائل بني إسرائيل قبل غيرها.»