مجافاة عرب الجاهلية للمساواة الديمقراطية
لم يعرف عرب الجاهلية شيئًا من الديمقراطية بالمعنى الذي نعرفه اليوم أو عرفه العالم قبل اليوم في اليونان. قال الأستاذ محمد جميل بيهم في المناهل (ص٤٥): «كان أمامي أن أعجب بديمقراطية العرب قبل الإسلام وبعده، وأن أتطرق إلى المقابلة بينها وبين أرستقراطية الأمم العظمى المعاصرة للجاهلية، وعلى رأسها الفرس والرومان فتحملني هذه المقابلة على الفخر والمباهاة.»
واتخذ من عيبه سببًا للفخر نكايةً في خصومه:
وقال يائسًا من انتسابه إلى والد:
فهذا كله يدل على تعصب الجاهلية على الألوان، كما هي الحال في جمهورية الولايات المتحدة، حتى إن اللون كان يدعو إلى تجهيل النسب وإذلال الولد الأسود، وكانت العبودية والاسترقاق مقرونَين بالسواد، حتى إن العرب كانت تعني بالعبدِ الإنسانَ الأسودَ وإن كان حرًّا، ولا تعني به أنه رقيق مستعبَد، وجُعل العبد الحبشي (لأنه أسود) في آخر درجات السلم الاجتماعي؛ ففي حديث قدسي: «من عصاني أدخلته النار ولو كان شريفًا قرشيًّا، ومن أطاعني أدخلته الجنة ولو كان عبدًا حبشيًّا!» أي ولو كان ذا لون أسود، وكان عنترة من أشهر أبطال العرب وأعظم شعرائهم ومن أصحاب المعلقات، ومعلقته هي التي يقول في مطلعها:
وهي من أعفِّ المعلقات لفظًا ومعنًى وأحسنها تقسيمًا، وإن كانت قسوة الشاعر في الحرب مجتمعة فيها إلى رقة إحساسه في الحب.
وهي التي يقول فيها:
وقيل إن رسول الله ﷺ قال: «ما وُصف لي أعرابي فأحببت أن أراه إلا عنترة.» وقد تُوفِّي قبل الهجرة بثماني سنين. وقال الحطيئة لعمر بن الخطاب: «كان فارسنا عنترة، فكنا نحمل إذا حمل، ونحجم إذا أحجم.» قال عمر: صدقت.
وقد بلغ الذل من نفس عنترة أنه لم يُروَ عنه في حال رقه من الشعر رديء ولا جيد؛ لأن العبودية ترين على القلب وتطفئ ضرام العواطف، فلما استلحقه أبوه وحالفه الفوز في حربه واستولى حب عبلة على قلبه جاش الشعر في صدره، ولكن هذا الاستلحاق لم يكن إلا مصطنعًا في حالة الحاجة إليه — كما فعل معاوية بزياد ابن أبيه — فاستلحقه متلمسًا حجة واهية! على أن عنترة لم يُنسب إلى أبيه بل إلى جده. قال الكلبي: شداد جد عنترة غلب على نسبه، وهو عنترة بن عمرو بن شداد. وما أضحك ما زعموا من أن عنترة قال لأبيه: «العبد لا يحسن الكر، ولكنه يحسن الحلب والصر.» فقال له: «كر وأنت حر!» خرافات وخزعبلات وأخبار ملفقة وأسجاع منمقة وتعليلات باطلة تدور حول ما قاساه هذا البطل الأسود من جور قومه ما لا يحيط به الكلام، وكل ذنبه عندهم أنه أسود! فأين الديمقراطية والمساواة وأين دعاة الجاهلية الذين ينسبون إليها كل الفضائل من علمٍ وأدبٍ وخُلق ورحمة وإخاء وحرية.
وهكذا جعلت قسوة الجاهلية وغشومتها ومظالمها من سيف عنترة لسانًا من لهيب فنثر أشلاء قتلاه في ساحات القتال، وخلط دماء صرعاه بأنداء آلامه، وكان يشطر بضربة سيفه عدوه إلى شطرين كأنَّ لكلٍّ من حدَّيْ سيفه شطرًا، وفي ملحمته المعلقة من لحوم الضحايا وفي عظمتها من عظامهم، كأن السيف يمر ويبرق في كل قافية من قوافيها، فهو قطعة من الصحراء خلقت جبالًا من الأشلاء.
وتعد قصة عنترة مصدرًا جيدًا لحياة الجاهلية وما كان بين قبائلها من المنازعات والمناحرات التي قضى عليها الإسلام؛ فقد كان الجاهليون فريسة التنازع والتناحر والتنافر، فقعدت بهم عن الطموح الذي حمل لواءه الإسلام، وانحصرت جهودهم في التغلب بعضهم على بعض غير آبهين لغيرهم من الأمم المجاورة، دستورهم الفرد للقبيلة والقبيلة للفرد، لا يهتمون إلا بشئون القبائل من معادية ومحالفة، كأن العرب هم العالم والعالم هو العرب! وكان أدبهم محليًّا محدودَ التخومِ؛ لبُعده عن الخيال والفلسفة، يدور على محور مادي واحد كوصف جمال جسم المرأة والوقوف على الطلل ووصف الناقة والفرس والخمر والسيف والرمح والثأر. ولكثرة ما انتهكت المعاني المادية وطرقها جميع الشعراء؛ لم يهتدِ عنترة إلى شيءٍ جديد فاستهل معلقته بقوله المشهور: هل غادر الشعراء من متردم؟